#1
|
||||
|
||||
![]() قيام الدولة العثمانية وحملات التحالف الصليبي ضدها (1/4)
(699- 805 هـ / 1299 - 1402م) د. عبدالرحمن بن علي العريني الحمدُ لله ربِّ العالَمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعدُ: فيتناول هذا البحث تجدُّد الفكرة الصليبية ضد المسلمين في العهْد العُثماني الأول؛ إذ إنَّ استيلاء العثمانيين على أملاك البيزنطيين في آسيا، وتوغُّلهم في أوروبا وغزوهم لبعض البلدان البلقانيَّة - كانت أسبابًا مهمَّة من أسباب تجدُّد هذه الفِكْرة التي أدت في عصر القوة الأول إلى قيام أربع حملات صليبية، فشِلت الأولى في الصدام مع العثمانيين، وانتهَت الجولات الأخِيرة للثلاث الباقية بهزيمة الصليبيين. وقدمْتُ لهذا البحث بمقدِّمة تاريخية تشْمل جذور الوجود التركي في الأناضول، وأساليب السلاجقة لزيادة هذا الوُجُود، وأصل العثمانيين وعوامل قيام دولتهم، ثم بدايات التفكير الأوربي في الحرب الصليبية ضد العثمانيين، ثم التفْصيل التاريخي لهذه الحملات الأربع؛ حيث بيَّنتُ مقدمات كل حملة، وأسبابها، وأحداثها، ونتائجها. إن من معاد القول التأكيد على أن الدولة العثمانية لها سلبياتها وإيجابياتها في حكم العالَم الإسلامي، وفي توسُّعها في أوربا، ونشرها الإسلام في منطقة ذات أهمية تفُوق فيها شبه جزيرة الأندلس؛ لكن من الأحداث البارزة في تاريخ هذه الدولة: تعرُّضها لتلك الحملات الصليبية التي تشْبه في الدعوة إليها والهدف منها، وفي طريقة تشكيلها - الحملاتِ الصليبيةَ التي شنت على المسلمين في العهدَيْن الأيوبي والمملوكي. ولعل ما دفعني إلى إطلاق اسم الحملات الصليبية على هذه الحروب الأوربية العثمانية، بروز الأسباب التالية: 1- وجود اتجاه قوي بين قِسم مهم من المؤرِّخين المسلمين والمستشرقين، يُضفي على مثل هذه الحروب في فترات مختلفة الصبغة الدينية البحْتة، وقد تدْخل فيها بعض الأهداف السياسية والاقتصادية بدرجة ثانية، والتأكيد على الطابع الديني واضحٌ من أن أهداف بعض الحملات - كما سيأتي - استرداد بيت المقدس من المسلمين إضافة إلى وقف المدِّ العثماني في أوربا[1]. 2- أن هذه الحملات قد توافَرت فيها صفة الصليبيَّة؛ حيث كان الداعون إليها البابوات؛ سواء كان ذلك بمبادرة منهم، أم كان ذلك برغبة من بعض ملوك أوربا، كما أنها تكتُّلات تَحْوي عددًا منَ البلدان الأوربية؛ سواء كانت من شرق أوربا، أم من غربها، أم منهما معًا. 3- لقد ذكر بعض المؤرخين المسلمين والمستشرقين هذه الحروب العثمانية الأوروبية باسم الحروب الصليبيَّة، فبعضهم أطلق عليها الصليبية الجديدة، وبعضهم أطلق عليها صراحة اسم "الحمَلات الصليبية"[2]. جذور الوجود التركي في الأناضول: لقد كان الوُجُود التركي في الأناضول قديمًا، فقد كان الخلفاءُ العباسيون الأوائل يُوَطِّنون أقسامًا من جيشهم من أهل خراسان في الأناضول، وما زالت أعداد التُّرْك تتكثَّف في الأناضول في عهدَي المهدي والمأمون، حتى إذا جاء عصرُ سيادة الجيش الترْكي على الجيش الإسلامي في عهد المعتصم، اخْتِير قادة الحملات على الأناضول من التُّرْك[3]. ولقد ساعدتْ دولة سلاجِقة الروم على تكثِيف الوجود الترْكي في آسيا الصغرى (الأناضول)، في حقبة متقدِّمة من قيامها؛ بل إنَّه منذ تأسيسها قام سلاطينُها الأوائل بإسكان قبائل تركية في وسط الأناضول؛ بل تزامنَتْ مع ذلك أو أعقبَتْه بحقبة يسيرة تحرُّكات قبليَّة تركيَّة إلى المناطق الساحلية في الشمال الغربي للأناضول، الموقع الأول للدولة العثمانية في حقبة تكوينها. ومن هنا يُمكن القول بأن الوُجُود التركي في الأناضول ليس نتيجة غزوات خاطفة؛ لكنه نوع من الإسكان التخْطيطي للقبائل التركية في هجرة كثيفة من آسيا الوسطى إلى آسيا الصغرى في أزمنة مختلفة، حتى إذا كان أواخرُ القرْن السادِس الهِجْري، الثاني عشر الميلادي، ازدادت الهجرات التركية إلى الأناضول، لدرجة أن هذا الإقليم قد تَتَرَّكَ (أصبح تركيًّا) فعلاً على المستوى الحكومي والشعبي[4]. وكان الاستقرار التركي في الأناضول على شكل جماعات وأُسَر مدة العهد السلجوقي، واستمر في عهد الإمارات التي قامت على أنقاض دولة سلاجقة الرُّوم، وزادَ نَشَاطُ هذه الإمارات السياسي والحربي، ضد الإِمارات البيزنطيَّة في تتريك هذه المنطقة[5]. أساليب السلاَجقة لزيادة الوجود التركي في الأناضول: ولقد اتبعت الدولة السلجوقية عدَّة أساليب أدَّت إلى هذا الوجود التركي الكبير في الأناضول؛ منها: 1- اتِّباع سياسة التفْتيت ثم التوطين، وتَمَثَّلَت هذه السياسة في أنَّ الدَّولة السلجوقيَّة كانت تعمد إلى أكبر العشائر التركية، فتُقسمها أقسامًا كثيرة، وتسكنها في أماكن متنائِية عن بعضها؛ حتى لا تكون هناك رابطة فيما بينها، أو تكتُّل عرقيٌّ ضد الدولة؛ وبذلك اتَّقَت الدولة السلجوقية خطر العصيان الذي يمكن أن يحدثَ لو أن هذه المجموعات التركية أسكنتْ في أماكن متقارِبة[6]، وإذا كانتْ هذه السياسة قد نفعت الدولة السلجوقية في هذه السبيل؛ فإنها بلا ريب قد زادتْ من الوجود التركي في الأناضول، بما تفرَّعت عنه هذه العشائر التركية إلى كيانات عديدة، انساحت في بلاد الأناضول، وجعلت منها منطقة تركية لا تقل كثافة في العنصر التركي عن منطقة آسيا الوسطى. 2- اتِّباع سياسة إدارية تُغري زعماء القبائل التركية، بإيجاد مناطق نُفُوذ لهم، وتجعلهم تحت الهيمنة السلجوقية في الوقت ذاته، وتمَثَّلَت هذه السياسة في تعيين بعض زعماء القبائل على وظائف محافظي حدود أو محافظي مناطق (أوج بكي)، وتعيين قادة من كبار العسكريين السلاجقة في وظائف أمراء حدود، أو أمراء مناطق (أوج أميري)، ويَتْبع المحافظ لأمير الحدود أو أمير المنطقة، وبذلك تضمن الدولة إرضاء زعماء القبائل التركية، وإبعادهم عن قلب الدولة، وإشغالهم بالحروب في منطقة الحدود، وجعلهم تحت الهيمنة لكبار قادتها، ولا شك أن هذا كله قد زاد من توسيع سلطان هؤلاء الزعماء، باسم الدولة السلجوقية، وزاد بالتالي في وجود العناصر التركية، وبمرور الوقت تحولت هذه الهيمنة إلى خضوع شكلي نتيجة الضعف الذي منيت به الدولة السلجوقية، لكنه في الوقت ذاته كثَّفَ الوجود التركي، وخصوصًا من تلك العناصر ذات الصلة النسبية بالقبائل السابقة[7]. 3- إقامة حامِيات على الحدود البيزنطية والسواحل المحيطة بآسيا الصغرى، وخصوصًا من جِهتي الجنوب والغرب، وكانت هذه الحاميات تضمُّ تشْكيلات من العشائر التركية؛ بهدف التصدِّي للبيزنطيين، ومنَ الملاحَظ أن أقوى هذه الحاميات وأهمها تلك التي أُوكِل إليها الدفاع عن غرب الأناضول، ومحارَبة البيزنطيين في هذه المنطقة، وهذا بلا رَيْبٍ ساعَدَ على تكثِيف الوُجُود التركي في هذه المنطقة بالذات، وبروز الطابع العسْكري لهذه الحاميات الغربيَّة، وشَكَّل هذا أحد العوامل التي ساعدتْ على قيام الإمارات السلجوقية في هذه المنطقة، وأهمها الإمارة العثمانية[8]. إن من أهم التغييرات العرقيَّة التي حدثتْ في الأناضول إبان حكم السلاجقة: تتريكَ هذه المنطقة، فقد نقل السلاجقة الثقافة التركيَّة إلى هذه المنطقة، وزاد الإقبال على التأليف باللغة التركية في دولة سلاجقة الروم، ثم ما لبثت هذه الثقافة واللغة أن أسهمتا في زيادة تتريك المنطقة، وعلى أهمية هذا العامل في العهد السلجوقي، فإن أهميته برزت بعد سقوط دولة سلاجقة الروم، فقد حمى خلفاء السلاجقة من الإمارات السلجوقية التي قامت على أنقاض دولة سلاجقة الروم، ومنها: الإمارات العثمانية - حمى هؤلاء الخلفاء الوجودَ الإسلامي في هذه المنطقة، وقبل هذا وذاك أبقوا على العنصر التركي الغزي - "نسبة إلى قبائل الغز التركية" - الذي كان يزداد تدريجيًّا في كل منطقة من مناطق الأناضول وخصوصًا غربها[9]. أصل العثمانيين: ينتمي العثمانيون إلى الأتراك الغز، ويجمعهم هذا الانتماء بالسلاجقة، وعلى الرغم من أن الأصل التركي يجمع أقوامًا وشعوبًا عديدة؛ فإن عددًا من المؤرخين الروس والغربيين أطلق هذا الأصل على السلاجقة والعثمانيين، ولعل السبب في هذا يعود إلى بروز هذين الشعبين في زعامة مناطق مهمة وكبيرة من العالَم الإسلامي في فترات تاريخية متعاقِبة[10]. على أنَّ العرب المسلمين قد أطلقوا لقب الترك على أقوام كثيرة، احتك بهم المسلمون سلمًا أو حربًا، وبعضهم لا ينتمي للأصل التركي - كالمغول مثلاً - فكان بعض من العرب المسلمين يعتقد أن كل شعب قدم من شرق آسيا أو وسطها فهو تركي، ويبدو أن لعامل التشابُه في اللغة والعادات أثرًا في هذا الاعتقاد، والواقع أن هذين الرأيين خاطئان، فالأصل التركي لا يقتصر على السلاجقة والعثمانيين، ولكنه لا يشمل كل أقوام شرق آسيا ووسطها[11]. وتُجمع المصادر على أن العثمانيين ينتمون إلى قبيلة من قبائل الغز هي قبيلة "قايي"، التي كانت - هي وغيرها من القبائل التركية - تنزح على أزمنة متباعدة حينًا من مناطق شرق آسيا ووسطها؛ بحثًا عن المراعي الجيدة إلى غرب آسيا، نحو بلاد الأناضول، في هجرة جماعية على شكل أُسَر أو أفخاذ، وربما قبائل، فإذا أمحلت مناطق الترك الأصلية في شرق آسيا ووسطها، اندفع قسم منهم إلى المناطق الخصبة غربًا، تمامًا كما كانت هجرة القبائل العربية بحثًا عن المراعي الجيدة من جنوبي شبه الجزيرة العربية إلى وسطها، ثم إلى شمالها إلى بلاد الرافدين وغيرها من البلاد البارزة. ومن الملاحَظ في هجرة القبائل التركية: أن زيادة نسبة الترك في بعض الأقوام المجاورة للترك في شرق آسيا ووسطها تسير جنبًا إلى جنب مع تحضر التُّرك في اتجاه طبيعي من الشرق إلى الغرب[12]. وإذا كان بعض المؤرخين يقول: إن قبيلة "قايي" تنتمي إلى المغول، فإن هذا الرأي - كما يقول بارتولد[13] - قد جرح بالدِّراسات التركية الحديثة، وبالمعلومات التي أوردها المؤرخ اللغوي محمود الكشغري، صاحب "ديوان لغات الترك"، الذي فرق بين قبيلة قايي التي ليست تركية خالصة، وبين قبيلة قايي أو قيخ الغزية، التي ينتمي إليها العثمانيون؛ بدليل أن الغز لم يحفظ في تاريخهم أنهم كوَّنوا حكومة في منغوليا الموطن الأصلي للمغول، ثم إن الملامح الجسمية المغولية تختلف اختلافًا بينًا عن الملامح الجسمية التركية[14]. كانت قبيلة قايي من أهم القبائل الغزية التركية، وقد هاجرت من الشرق إلى الغرب، وأرطغرل وابنه عثمان ينتميان إلى عشيرة صغيرة من هذه القبيلة، التي توزعت بُطُونها وعشائرها في مناطق مهمة من وسط آسيا وغربها، وامتزجت بقبائل تركية أخرى؛ بل إن الأقسام التي وصلت إلى الأناضول توزعت في مناطق مختلفة منه، ومن هنا يمكن القول بأن قبيلة قايي وفدت إلى الأناضول في فترات مختلفة من العهد السلجوقي[15]. ولقد أصبح أرطغرل ثم ابنه عثمان رئيسين لتلك العشيرة التي تنتمي إلى قبيلة قايي، وكان ذلك في أواخر القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وكان موطن هذه العشيرة هو منطقة إسكي شهر، الواقعة شمال غرب الأناضول وكانت هذه العشيرة تخضع نظريًّا للسلاجقة الروم، وكان على الحدود السلجوقية البيزنطية على طول الساحل الغربي للأناضول إمارات سلجوقية أخرى كان مِن أبرز أعمالِها: الإغارة بين الحقبة والأخرى على حدود بيزنطة، ومن هنا يمكن القول بأن وجود هذه العشيرة في هذه المنطقة نتيجة إيجاد السلاجقة تشكيلات تركية على الحدود البيزنطية؛ تمامًا كما كان الأمويون والعباسيون يفعلون ذلك، ولقد أصبحت هذه التشكيلات الحدودية نواة للإمارات السلجوقية على الحدود البيزنطية، وأهمها الإمارة العثمانية التي كانت تغير على تلك الحدود باسم السلطان السلجوقي في فترة قوة الدولة السلجوقية، ولحسابها الخاص بعد ضعف تلك الدولة وسقوطها[16]. إن نشوء تلك الإمارة السلجوقية كان نتيجة الوجود التركي المتزايد المندفع إلى غرب الأناضول؛ ونتيجة توسيع أراضيها بالتدرج نحو الساحل الغربي للأناضول على حساب الإمارات البيزنطية، وهذا مما ساعد على تكوين تشكيلات سياسية جديدة على الحدود البيزنطية السلجوقية زادت قوة مع ضعف السلاجقة، نتيجة الفتن الداخلية والغزو المغولي، وبرزت بوصفها إمارات تركية إسلامية على هذه الحدود، وكان أهمها الإمارة العثمانية، وهذا ما جعل مرحلة مهمة من التتريك لأطراف الأناضول الغربية والشمالية الغربية بدأت تظهر أقوى من ذي قبل[17]. العوامل التي ساعدتْ على قيام الدولة العثمانية: يمكن إرجاعُ قيام الدولة العثمانية، وبروزها على أنها أقوى إمارة بين الإمارات السلجوقية، إلى عدد من العوامل التي تهيأت لهذه الإمارة، فسهلت للعثمانيين تشكيلَ دولتهم وتأسيسها والاستقلال بها. وقد بدأ العثمانيون الاستفادة من هذه الظروف المتاحة لهم في عهد أرطغرل وابنه عثمان، ومن أبرز هذه العوامل والظروف ما يلي: 1- الوجود التركي القديم في الأناضول؛ هذا الوجود الذي مضى عليه إبان قيام الدولة العثمانية خمسةُ قرون، سواء كان هذا الوجود اجتماعيًّا فقط، أم مدعومًا بقوى سياسية؛ إذ البداية في الوجود التركي رحيلُ أسر تركية إلى الأناضول بفعل عوامل متعددة، من أبرزها: البحث عن المراعي الجيدة في غرب آسيا، ثم توج هذا الوجود الاجتماعي ببروز القوى السياسية في الأناضول، الذي أدى إلى قيام دولة سلاجقة الروم سنة 466هـ/1074م، وهذا الوجود التركي القديم المتزايد أوجد للعثمانيين تجانسًا معه، ثم تحققت فوائدُه للعثمانيين على حساب السلاجقة والبيزنطيين، ثم على حساب الإمارات التي خلفت الدولة السلجوقية[18]. 2- إن العناصر التركية المتزايدة في الأناضول، وبخاصة تلك التي تزامن إتيانُها مع قيام الدولة العثمانية، كانت عناصرَ شديدةَ البأسِ، عريقة في البداوة، والبدوُ بطبعهم قوم محاربون، والقبيلة منظمة كأنها جيش مستعد لأي أمر يطلبه منه شيخ القبيلة، وأسلوب الحياة البدوية يدفع إلى الروح القتالية، والطاعة المطلقة، والاستعداد للحرب، وهذا ما نلمسه بوضوح في قيام الدولة العثمانية؛ حيث نظر الأتراك إلى الدولة بوصفها قبيلةً كبيرة، وبخاصة في عهد أرطغرل وابنه عثمان، ودعم ذلك في عهود السلاطين الآخرين ما قام به هؤلاء السلاطين من توسيع في البلاد الأوربية باسم الإسلام، وصراع مع القوى النصرانية باسم الإسلام كذلك. 3- بروز الطابع الديني المتَّقد حماسة لدى العثمانيين منذ عهد الأمير عثمان؛ إذ على الرغم من أن الأتراك قد بدؤوا الدخول في الإسلام في وقت مبكر، إلا أنه في عهد هذا الأمير زاد انتشار الإسلام فيهم، ويبدو أنهم قبل ذلك كانوا يعيشون حالة من الانتقال من الوثنية إلى الإسلام. ولقد ارتبط العثمانيون مثلهم في ذلك مثل الأتراك عمومًا، وسلاجقة الروم خاصة، ارتبطوا بمشايخ الطرق الصوفية، ولكن هذا الارتباط مع الطاعة المطلقة لأميرهم كان من أقوى عوامل قيام دولتهم؛ إذ من المعروف تاريخيًّا أن الدولة إذا التزمتْ مذهبًا دينيًّا واجتمعت مع ذلك عصبية قبلية، كان ذلك أدعى لاستمرارها وقوتها، فأصبح العثمانيون - والعسكريون منهم بخاصة - لا يعرفون إلا شيخ الطريقة موجِّهًا لهم، والأمير ثم السلطان قائدًا يدينون له بالطاعة والولاء. وكان لتمسك العثمانيين بالإسلام أثر كبير في مستقبلهم الديني والعسكري والسياسي، لا يقل أثرًا عما تركه هذا الدين في عرب شبه الجزيرة؛ فقد هيأ الإسلام للعثمانيين وحدة في العقيدة، وحماسًا ظاهرًا في الدفاع عنها، واجتمع هذا مع طبيعة عسكرية صارمة، مرتبطة بنزعة قبلية قوية، وبخاصة إبان قيامها، ثم عمل السلاطين العثمانيون على زيادتها واستمرارها حتى غدت سمةً بارزة في التاريخ العثماني، وبشكل خاص في علاقة العثمانيين بأوربا النصرانية[19]. 4- لقد سعى الأمير عثمان لوضع نظم إدارية لإمارته، تضمن لقبيلته الاستقرار والتوطن، والانتقال من نظام القبيلة المتجولة إلى نظام الإدارة المستقر؛ وبذلك انتقلتْ هذه القبيلة من البداوة إلى التحضر، مما ساعد على توطيد مركزها، وتطورها تطورًا سريعًا إلى دولة كبرى، هذا مع احتفاظ هذه القبيلة - حتى بعد أن أصبحت دولةً - بمظهر من مظاهر الطابع البدوي في الطاعة المطلقة لشيخ القبيلة الذي أصبح سلطانًا، مع الرغبة في الحرب والاستعداد للقتال كما مر في العامل الثاني[20]. 5- إن أهم دولتين في آسيا الصغرى هما الدولة البيزنطية، ممثلة في إماراتها في آسيا، ودولةُ سلاجقة الروم، وكانتا قد وصلتا إلى حالة شديدة من الضعف والانهيار؛ نتيجة الصراع الطويل بين هاتين الدولتين، ونتيجة تعرض البيزنطيين الأرثوذكس للغزو الكاثوليكي، وتعرُّض دولة السلاجقة لغزو المغول؛ مما جعل منطقة الأناضول تعيش فراغًا سياسيًّا، ساعد الدولةَ العثمانية في بداية تكوينها على ملئه على أنقاض هاتين الدولتين المتداعيتين[21]. 6- إن نشأة الإمارة العثمانية في الشمال الغربي للأناضول على حافة العالم النصراني، المتمثل في الإمارات البيزنطية في آسيا، وهو ما يعرف بدار الحرب، وعلى حافة دار الإسلام؛ أي: نهاية الإمارات السلجوقية، هذه النشأة فرضتْ على العثمانيين سياسةً حربية نشطة؛ لأنهم بمحاذاة عالم نصراني يمكنهم أن يتوسَّعوا في مناطقه باسم الجهاد، وقد يلقَون تعاطفًا من أتباعهم والمسلمين كافة، هذا زيادة على أن الحرب مع بيزنطة، والاستيلاء على عاصمتها العريقة "القسطنطينية"، كان أملَ المسلمين في مختلف حقب تاريخهم؛ ومن هنا فإن الثابت تاريخيًّا أن إمارات الحدود أوفر حظًّا في التوسع من إمارات الداخل؛ ذلك لأن الجهاد ونشر الإسلام والتوسع باسمه، يتوافر لإمارات الحدود، ولا يتوافر لإمارات الداخل؛ لأنها بمحاذاة إمارات أو بلدان إسلامية[22]. بداية التوسع العثماني ضد البيزنطيين: لقد اتبع العثمانيون منذ عهد أرطغرل سياسةً حربية نشطة في أن يتم اتساع إمارتهم في الممتلكات البيزنطية في آسيا، بحيث تكون غزواتهم ضد النصارى في غرب الأناضول، وليس ضد المسلمين في الشرق والجنوب؛ كل ذلك تحقيقًا للعوامل التي ساعدتْ على قيام دولتهم، وكانت سياستهم الحربية هذه غاية في الذكاء؛ فقد كسبوا دعم السلاجقة وأمرائهم من بعدهم؛ لأنهم يحاربون البيزنطيين، زيادة على أن توسعهم الأول كان لحساب السلطان السلجوقي. ومن هنا فقد نجحوا في المراحل الأولى لقيام دولتهم نجاحًا منقطع النظير، وحقق أرطغرل توسعًا إقليميًّا جيدًا في منطقة الشمال الغربي للأناضول، حيث ضم منطقة إسكي شهر[23]. وسلك عثمان مسلكَ أبيه في التوسع والفتوح، واستغل هذا الأمير ضعْفَ دولة السلاجقة، وإغارات المغول التي أجهزت على هذه الدولة سنة 707هـ/1307م، فأعلن استقلاله مقتديًا بغيره من أمراء المناطق السلجوقية، وبذلك عُدَّ المؤسِّسَ الأول للدولة العثمانية، ونسبت هذه الدولة إليه[24]. وكما كان توسع والده في ممتلكات الدولة البيزنطية، فقد فعل عثمان الشيء نفسه، وساعده خلوُّ أطراف هذه الممتلكات من وسائل الدفاع، فأخذ يشن الغاراتِ المتكررةَ على هذه الأطراف البيزنطية، واستولى على عدد من القلاع القريبة من دولته، مثل قلعة "آق حصار"، التي جعلت العثمانيين يطلون على مضيق البسفور، وتمكن السلطان عثمان من الاستيلاء على الطريق المائي الموصل بين القسطنطينية وبروسة[25]، ثم على قلعة "هودج حصار"، وكان الاستيلاء على هذه المراكز الإستراتيجية مقدمةً للاستيلاء على مدينة بروسة سنة 727هـ/1326م الذي تم في آخر عهد هذا الأمير، حيث سمح في هذه السنة وهو على فراش الموت بالاستيلاء عليها من قبل ابنه أورخان[26]. ـــــــــــــــــــــــ [1] عن اتِّجاهات المؤرِّخين حول طابع الحروب الصليبية، انظر: د/حامد غنيم أبو سعيد، "الجبهة الإسلامية في عصر الحروب الصليبية"، القاهرة: نشر مكتبة الشباب 1971م (1/113 - 118). [2] ممن أشار إلى جهود البابوية في هذه الحروب، وأنها سبب من أسباب تسْميتها بالحملات الصليبية محمد فريد بك، في كتابه: "تاريخ الدولة العلية العثمانية" ص131، 140، وممن سَمَّاها الصليبية الجديدة كارل بروكلمان في كتابه: "تاريخ الشعوب الإسلامية" ص416، 419، ومِمَّن أَطْلَق عليها اسْمَ الحملات الصليبية، وليم لانجر في كتابه: "موسوعة تاريخ العالَم" (3/755، 852، 865، 869، 872). [3] محمد فؤاد كوبريلي، "قيام الدولة العثمانية"؛ ترجمة د/ أحمد السعيد سليمان، دار الكاتب العربي للطباعة والنشْر 1967م (ص: و، ز) من مقدِّمة الترجمة. [4] المرجع السابق (ص69، 72) د/ عثمان توران، "الأناضول في عهد السلاجقة والإمارات التركية"، ترجمة د/ علي محمد الغامدي (ط1) - مكة: مطابع الصفا 1418هـ (ص2، 3). [5] "دائرة المعارف الإسلامية"؛ ترجمة: محمد ثابت الفندي وزملائه (5/97) مادة: "ترك". [6] كوبريلي: (ص70). [7] المصدر نفسه (ص128، 219، 133). [8] المصدر نفسه (ص127، 128)، لا ريب أن مما ساعد على بروز الطابع الحربي عند الفئات التركية المحاذية للإمارات البيزنطية في غرب الأناضول؛ كونها تحارِب باسم الجهاد، ضد دولة نصرانية، كان أمل المسلمين في مختلف حقب تاريخهم الانتصار عليها، وفتح عاصمتها العريقة "القسْطَنْطِينية"، مما أوجد حماسًا لدى هذه الفئات وتعاطُفًا من المسلمين نحوها. [9] د/عثمان توران: المرجع السابق (ص2)، "دائرة المعارف الإسلامية" (5/52، 68). [10] فاسيلي بارتولد: تاريخ الترك في آسيا الوسطى؛ ترجمة د/أحمد السعيد سليمان؛ مراجعة إبراهيم صبري مطبعة المعرفة نشر مكتبة الأنجلو المصرية (ص30). [11] المرجع السابق (ص30)، ومن الأمثلة على ذلك قول إسماعيل بن أبي اليسر في رثاء بغداد: وَكَمْ حَرِيمٍ سَبَتْهُ التُّرْكُ غَاصِبَةً وَكَانَ مِنْ دُونِ ذَاكَ السِّتْرِ أَسْتَارُ ويقصد بالترك هنا المغول، بعد استباحتهم بغداد أثر سقوطها على أيديهم، مأمون فريز جرار: "الغزو المغولي": أحداث وأشعار، ط1، دار البشير، عمان الأردن 1404هـ، (ص39). كما أن محمود الكشغري يطلق اسم الترك على شعوب غير تركية تسكن شرق آسيا، كما أسهم امتزاج الترك بالتتر في دولة الفقجاق في إطلاق بعض العلماء الروس والأوربيين اسم التتر على الترك غير العثمانيين، دائرة المعارف الإسلامية (5/46، 53). [12] المرجع السابق (ص36)، كوبريلي (ص118، 119). [13] هو فاسيلي فلاديمير بارتولد، ولد في بطرسبرج سنة (1286هـ/1869م) وهو من أبرز المستشرقين الروس المختصين بالتاريخ التركي والفارسي، وأكثر مؤلفاته في هذين التاريخين، وقد استقدمته حكومة أتاتورك فيما بعد لإلقاء محاضرات عن الأصول العراقية للأتراك في جامعة إستانبول؛ بهدف بحث أصول القومية التركية في تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية. له مؤلفات تزيد على الأربعمائة، مات سنة 1349هـ/1930م، بارتولد: "تاريخ الحاضرة الإسلامية"؛ ترجمة حمزة طاهر - ط2 - القاهرة، مطبعة دار المعارف، 1372هـ، (ص 9 - 13) "تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي"؛ ترجمة: صلاح الدين هاشم - ط1 - الكويت: نشر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1401هـ/1981م، (ص27، 34). نجيب العقيقي، "المستشرقين" - ط4 - القاهرة: دار المعارف (3/79 - 80). [14] بارتولد: ص106، كوبريلي (ص120، 122). [15] كوبريلي (ص120، 123). [16] كوبريلي (ص126، 127)، توران (ص30). [17] كوبريلي (ص132، 133)، توران، (ص30). [18] توران (6، 33). [19] المرجع السابق (37)، عبدالعزيز الشناوي، "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، مطبعة جامعة القاهرة، نشر الأنجلو المصرية، 1980م (1/36 - 38)، إسماعيل ياغي، "الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث"، ط1 - مطبعة العبيكان، 1416هـ (12، 13). [20] الشناوي (1/38)، ياغي (13). [21] الشناوي (1/38، 39)، ياغي (13). [22] الشناوي (1/39)، ياغي (13، 14). [23] إسكي شهر: منطقة بغرب الأناضول، وعاصمتها باسمها، وتعد الآن من المراكز التجارية في تركيا؛ "الموسوعة العربية الميسرة" (153). [24] الشناوي: المرجع السابق (1/39، 40). [25] بروسة أو بورسة بالسين والصاد: مدينة تقع غرب الأناضول، قرب بحر مرمرة، على سفوح جبال أولمب، أصبحت عاصمة للعثمانيين بعد الاستيلاء عليها، وتشتهر بصناعة الحرير والسجاد الذي ينسب لها؛ "الموسوعة الميسرة" (430). [26] الشناوي (1/42، 43). |
العلامات المرجعية |
|
|