|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (1) د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلَّم، قال: ((تُنكح المرأةُ لأربعٍ: لمالِها، ولحَسَبِها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدِّين تربَت يداك))؛ رواه البخاري ومسلم[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: ((المرأة)): "أل" هي أل ال***، فالمراد بها أيَّة امرأة كانت؛ لأن مدخول: "أل" التي لل*** في معنى النكرة. ((تنكح المرأةُ لأربعٍ)): يأتي في الرجل أيضًا أن تختاره المرأةُ زوجًا لها هذه الأمورُ الأربعة، وكما يُطلب من الرجل إيثار ذات الدين؛ يُطلب من المرأة إيثار ذي الدين، وإنما لم يُنص علي هذا في الحديث؛ لأنه يُعلم منه بطريقِ القياس. ((لمالِها، ولحَسَبها، ولجمالها، ولدينها)): أخَّر الدِّين عمَّا قبله مع أنه أفضل منه؛ لأنَّ أكثر الناس لا يرغَب فيه، ويؤثِر عليه ما قبله. والحديث يخبر عمَّا يقع في هذا منهم، فرتَّبه على وَفْقِ رغباتهم فيه، وإن كان لا يقرُّهم عليه. ((فاظفربذاï»؟ت الدِّين)ï»؟):دلالة علي أنَّ ذات الدين كَنْز؛ فبادِر به قبل أن يتخاطفه منك الخاطفون. ((ترِبَت ï»؟يداك)): هي جملةٌ دعائية؛ لأنه يدعو عليه أن تلتَصق يدُه بالتراب، فهي خبريَّةٌ لفظًا، إنشائيةٌ معنًى. وقد يقال: كيف يدعو عليه بذلك، وهو يأمره أن يظفرَ بصاحبة الدين؟! فنقول: هذا الدعاء إمَّا أن يكون مما جرَت به العادة أن يجري علي اللسان ولا يُقصد معناه، وإمَّا أن يكون التقدير فيه: تَرِبت يداك إن لم تَظفر بذات الدين. ولهذا نجده صلوات الله وسلامه عليه فَصَل: ((تربت يï»؟داك)) عمَّا قبلها، مع اتفاقهما في الإنشاء؛ لعدم وجود الجامعِ بينهما، والوصل للاتِّفاق في الخبرية أو الإنشائية لا بدَّ فيه من وجود الجامع بين الجملتين. ويتبادر إلي الذهن سؤالٌ آخر: هل أمرُه صلي الله عليه وسلم بذلك يمنع من طلَب المرأة لمالها، ولحسبها، ولجمالها، مع طلبها لدينها؟ والجواب: الحديث لا يمنع إلا إيثار ذات المال وذات الحسب وذات الجمال علي ذاتِ الدِّين، فلا يَمنع طلب المرأة للدِّين والمال والحسب والجمال معًا، ولكن يجب أن يَلتزم في هذا جانبَ الاعتدال، فلا يغالِي في طلب المالِ والحَسَب والجمال؛ لأن هذا قد يجرُّه إلي إهمال جانب الدِّين في المرأة. [1] رواه البخاري (4802ï»؟)، ومسلم (1466)، وغيرهما. |
#2
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (2) د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث الثاني عَنْ عبداللهِ بن مسعود رضي الله عنهما قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ))؛ رواه البخاري ومسلم[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ)) قال أهلُ اللغة: المعشر: هم الطائفةُ الذين يشملهم وصفٌ، وخصَّ الشبابَ بالنداء؛ لأنهم في سنِّ الإقدام علي الزواج، وإنما يَقصد من الحديث ترغيبهم فيه، وهم الذين يوجَّه إليهم هذا الترغيب، أمَّا الشيوخ فقد تزوجوا فعلاً، فلا يتوجه إليهم النداء بالترغيب في الزواج؛ لأنه يندُر فيهم غير المتزوج، ومن يكون منهم لا زوجة له فله شأنٌ آخر؛ لأن الغالب أن ينشأ هذا عن مانعٍ من الموانع، فيخالِف أمرُه في الزواج أمرَ الشباب. ((فَلْيَتَزَوَّجْ)) الأمر فيه للندب؛ لأنَّ الزَّواج سنَّةٌ لا فرض، وقد يجب إذا تعيَّن وسيلةً للمنع من نحو الزنا. ((فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ)) الفاء للتعليل، والضمير يعود إلي الزواج المفهوم من قوله: ((فَلْيَتَزَوَّجْ))، وأفعل التفضيل في قوله: ((أَغَضُّ)) يجوز أن يكون على بابِه أو يكون علي غير بابه. وقد يُقال: كيف لا يُستطاع الزواجُ مع أنه يكفي مهرَه خاتمٌ من حديد؟! أنَّ الاستطاعة في الزواج لا تقتصر علي المهر، بل يدخل فيها ما يَلزم من النفقة علي الزوجة، وغير ذلك، فضلاً عن القدرة الجسديَّة والاستطاعة النفسية. ((فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ)) عليه: اسم فعلِ أمر بمعني: الزم، والباء زائدة، والصوم مفعولٌ به منصوب بفتحة مقدَّرة لأجل حركة حرف الجر الزائد، ويجوز أن يكون (عليه) جارًّا ومجرورًّا خبرًا مقدَّمًا، والباء زائدة، والصوم مبتدأٌ مؤخر. ((فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)) الفاء: للتعليل، و(إنَّ): حرف توكيد ونصب، والضميرُ: اسمها، و(له): جارٌّ ومجرور متعلِّق بـ(وِجاء)، و(وِجاء): خبرها. ((فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)) ويدلُّ على هذا - أيضًا - قوله تعالى: ï´؟ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ï´¾ [النور: 33]، وفي هذا أيضًا عدمُ التكليف بغير المستطاع. [1] أخرجه البخارى (3 /412) ومسلم (4 /128)، وغيرهما . |
#3
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (3)
د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث الثالث عن ابن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُمَا، كَانَ يَقُولُ: "نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَن يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيعِ أَخِيهِ، وَأَن يَخْطبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتى يَترُكَ الخَاطِبُ قَبْلَهُ أَو يَأذَنَ لَهُ الخَاطِبُ"[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: ((الرجل)) "أل": هي أل ال***، فالمراد بالرجل أيُّ رجلٍ كان؛ لأن مدخول: "أل" التي لل*** في معنى النكرة. ((بيعِ أخيه))، ((خطبة أخيه)): الأخوَّة هنا، قيل: هي أخوَّة الإسلام، وقيل هي أخوَّة الإنسانية، فيشمل النهيُ المسلمَ وغيرَ المسلم، وهذا هو الأصحُّ؛ لأن الذمِّيَّ والمعاهَد لهما من الحقوق مثلُ ما للمسلم وعليهِما ما عليه. ((حتى يترك الخاطبُ)): قوله صلي الله عليه وسله: ((حتى)) يجوزُ أن تكون بمعنى "إلى"، ويجوز أن تكون بمعنى "إلاَّ". ((أو يأذن له الخاطبُ قبله)): ذكرها النبي صلوات الله وسلامه عليه دون الاكتفاء بما قبلها؛ لأنه قد يعلن تركَه للخطبة كما في المعطوفِ عليه، فلا يحتاج الخاطبُ الثاني في هذه الحالة إلى إذنه، وقد يسكتُ فلا يعلن تركَه للخطبة مع انصرافِ نفسه عنها كما في المعطوف، وفي هذه الحالة يحتاج إلى إذنِه، فهما حالتان لا يمكن الاستغناء بإحداهما عن الأخرى. وقد يُقال: فهل يحتاج إلى إذْن الخاطب إذا رفضَت المخطوبةُ أو وليُّها خطبتَه ولم يتركها ولم يأذن؟! والجواب: في هذه الحالة لا يحتاج إلى إذنه؛ لأنَّ إصراره على الخطبة بعد رفضها من المخطوبة أو وليِّها لا حقَّ له فيه، وفي منع الخطبة عنها لإصراره عليها ضررٌ لها وتحكُّم في أمرها، وهو لا يملك أن يتحكَّم فيه. لم يقل النبي صلي الله عليه وسلم في البيع ((حتى يتركَ أو يأذن)) كما قال في الخطبة؛ وذلك لأنَّ البيع عقدٌ قد تمَّ، فلا يأتي فيه مثلُ ذلك، فإذا كان لم يتم؛ بأنْ كان في حال المساومة في البيع؛ فإنه يأتِي فيه مثلُ ذلك. [1] رواه البخاري (5142)، ومسلم (1412)، وغيرهما. |
#4
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (4)
د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبِي صلى اللهُ عليه وسلم قال: ((لا تُنكحُ الأيِّمُ حتى تُستأمرَ، ولا تُنكحُ البِكرُ حتى تُستأذنَ)) قالُوا: يا رسُولَ الله، وكيف إذنُها؟ قال: ((أن تسكُت))[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: ((الأيِّم)) تأيَّمَت المرأةُ وتأيَّم الرجل: طلب العزوبةَ كل منهما، وورد أنه صلي الله عليه وسلم كان يتعوّذ من الأيمة، وتقول: هي أيِّم، ما لها من قيِّم. قوله صلي الله عليه وسلم: ((تُستأمر))؛ أي: يُطلب أمرُها، وتَأمُر هي بذلك وترضى. ((البِكر)) والبِكْر لغة: العذراء التي لم يمسَّها رجلٌ. قال ابن منظور: البِكْر: الجاريةُ التي لم تفتضَّ، وجمعُها أبكار، والبِكْر من النساء: التي لم يَقربها رجلٌ، ومن الرجال: الذي لم يقرب امرأةً، والجمعُ أبكار، وامرأة بِكْر: حملَت بطنًا واحدًا، والبِكْر: العذراء، والمصدر البَكارة - بالفتح - والبِكْر: المرأة التي ولَدت بطنًا واحدًا، وبِكْرُها وَلَدُها، والذَّكر والأنثى في هذا سواء[2]. اهـ وأمَّا البِكْر في اصطلاح الفقهاء: فالمراد بها المرأةُ التي لم يمسَّها رجل، حتى لو زالت بكارتُها بغير وَطْء، فهي بِكْر إجماعًا عندهم، فإن وَطئها رجلٌ في نكاحٍ صحيحٍ أو فاسدٍ أو شُبهة نكاح، فهي ثيِّب إجماعًا، وفيمن زالَت بكارتها بوطء حرامٍ – أي: زِنًا - خلافٌ. وعلى هذا فالبِكرُ عند الفقهاء أخصُّ ممَّا نصَّت عليه معاجمُ اللغة، كما هو الشأن في كثير من دلالات الألفاظ على معناها اللغوي من جِهةٍ، ثم معناها الشرعي أو الاصطلاحي من جهة أخرى. وعلى هذا فلا يدخلُ في مسمَّى البكر هنا: الرجلُ الذي لم يَطأ امرأةً بعدُ، وإن سمِّي بكرًا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((البِكر بالبِكر، جَلْدُ مائة، ونفيُ سَنَة))[3]. وكذلك لا تدخلُ المرأة بعد وطئها، فضلاً عن أن تسمَّى بكرًا بعد حملها أو وضعها أوَّل أولادها، إلاَّ ما قيل في الموطوءة بزِنًا، وإن كانت ثيِّبًا لغة. ولعل تسمية أهل اللغة للمرأة في أوَّل حملٍ لها، أو ولد تضعه بكرًا، إنَّما هو استصحابٌ للاسم الأول؛ لقربِ عهدها به، أو باعتبار عموم التسمية في الأصل: وهو أنَّ أوَّل كلِّ شيء يسمَّى بكرًا، وهذا أوَّل حملٍ لها، وأوَّل ولد تضعه، فسُميَت بكرًا لذلك، والله أعلم[4]. ((تُستأذن)): يُطلب إذنُها، وتأذنُ هي بذلك. وفي ((تُستأمر))، ((تُستأذن)) دلالةٌ على أنَّ للمرأة أن تختارَ شريكَ حياتها، وأن توافِق عليه؛ لأن مبدأ الاختيار هذا من خصوصياتها التي ينبغي أنْ تَفصِل فيه بالرأي السديد والعقلِ الراجح. وهذا يضربُ بتقاليد الجاهلية عُرْضَ الحائط، ولا يأبه لها؛ فقد كانت المرأة مهضومةً ليس لها حقٌّ ولا رأيٌ ولا اختيارٌ. ومعلوم أنَّ المرأة إنسانٌ ينبغي أنْ تكون ذات رأيٍ في أخصِّ ما يخصُّها؛ وهو اختيارُ الزوج، ما دامت ذات عقل راجح، ورأيٍ سديد، وتفكير صحيح، وتقديرٍ للعواقب. ((لا تُنكَحُ الأيِّم حتى تُسْتأمر)): إنْ كانت المرأةُ بالغةً عاقلة ثيِّبًا، لا يصحَّ لوليِّها أن يُزوِّجها دون استشارتها ودون أن تُستأمر؛ أي: يُطلب منها معرفة رأيها في هذا الأمرِ صراحةً، وتجيب بلسانها عن رضاها. ((ولا تُنكحُ البِكرُ حتى تُستأذنَ)): أمَّا إذا كانت بكرًا فعلى وليِّها أن يستأذنَها، ولا بُدَّ من معرفة رضاها، ولو عن طريقِ السكوت وعدمِ الاعتراض. قالُوا: يا رسُولَ الله، وكيف إذنُها؟ قال: ((أن تسكُت)). وفيه أنه لا بُدَّ من طلب الأمر من الثيِّب، فلا يُعقدُ عليها حتى يَطلُب الوليُّ الأمرَ منها بالإذن بالعقد، والمرادُ من ذلك اعتبارُ رضاها، وهُو معنى أحقيَّتها بنفسها مِن وليِّها في الأحاديث[5]. وجاء عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الثيِّبُ أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكرُ تُستأمرُ، وإذنُها سُكُوتُها))[6]. وفي رواية: ((الثيِّبُ أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكرُ يَستأذنُها أبُوها في نفسها، وإذنُها صُماتُها))، ورُبما قال: ((وصمتُها إقرارُها))[7]. وفي رواية: ((الأيِّمُ أحقُّ بنفسها من وليِّها، واليتيمةُ تُستأمرُ، وإذنُها صُماتُها))[8]. وفي رواية: ((ليس للوليِّ مع الثيب أمرٌ، واليتيمةُ تُستأمرُ، وصمتُها إقرارُها))[9]. وعند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البِكْر تُسْتأَمر، والثيِّب تُشاوَر))، قيل: يا رسول الله، إن البكر تَسْتحي؟ قال: ((سُكوتُها رِضاها))[10]. قوله صلي الله عليه وسلم: ((أن تسكتَ)) مصدرٌ مؤوَّل؛ أي: سكوتها، وهو خبر لمبتدأ مقدَّر؛ أي: "إذنُها سكوتُها"، ويجوز أن تكون مبتدأ، والتقدير: "سكوتُها إذنها"، والأول أولى؛ لأنَّ الإذن هو المتحدَّث عنه، فيكون مبتدأ. [1] رواه البخاري (5136)، ومسلم (1419). [2] انظر لسان العرب (4/78). [3] رواه مسلم (11/ 188-191). [4] بتصرف من كتاب الولاية في النكاح (1/ 273) - رسالة (ماجستير) تأليف: عوض بن رجاء بن فريج العوفي، نشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، الطبعة: الأولى، 1423هـ/2002م، [مع المصادر التي أحال عليها]. [5] سبل السلام للصنعاني (2/ 174) نشر دار الحديث. [6] رواه مسلم 67 - (1421). [7] رواه مسلم 68 - (1421). [8] رواه النسائي (3261). [9] رواه أبو داود (2100)، النسائي (3263)، أحمد (3087). [10] حديث صحيح رواه أحمد (7131). |
#5
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (5)
د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث الخامس عن أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه، أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتَوا على حيٍّ من أحياء العرَب فلم يقرُوهم[1]، فبينما هم كذلك؛ إذ لُدغ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم من دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنكُم لم تقرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعلُوا لنا جُعلاً، فجعلُوا لهم قطيعًا من الشَّاء، فجعل يقرأُ بأمِّ القرآن، ويجمعُ بُزاقَه ويتفِلُ، فبرأ فأتَوا بالشَّاء، فقالوا: لا نأخُذُه حتى نسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه فضحكَ، وقال: ((وما أدراك أنها رُقيةٌ؟ خُذُوها واضربُوا لي بسهمٍ))[2]. توجيهات وتحقيقات الحديث: "أتَوا على حيٍّ من أحياء العرَب" كانوا من المشركين؛ ولهذا لم يقرُوهم، ولو كانوا من المسلمين لقَرَوهم؛ لأنهم يكونون إخوانًا لهم[3]. "فبينما هم كذلك؛ إِذ لُدغ سيِّدُ أولئك"، اختُلف في "إذ" الواقعة بعد بينا أو بينما، فقيل: هي ظرفُ مكانٍ أو زمان، أو حرفٌ بمعنى المفاجأة، أو حرف توكيدٍ؛ أي زائد. وعامل "بينا وبينما" محذوفٌ يفسِّره الفعلُ المذكور، وقيل: "إذ" مضافة إلى الجملة، فلا يَعمل فيها الفعلُ ولا في بينا وبينما؛ لأنَّ المضاف إليه لا يعمل في المضافِ ولا فيما قبله، فيكون عاملها محذوفًا يدلُّ عليه الكلام، و"إذ" بدلٌ منهما، وقيل في إعرابها غير ذلك. "سيِّد أولئك": ولم يقل "هؤلاء" تحقيرًا لهم باسم الإشارة الذي هو للبعيد؛ لأنَّهم لم يقروهم. "هل معكم من دواءٍ أو راقٍ؟": "هل" حرف استفهام، و"معكم" ظرف ومضاف إليه متعلِّق بمحذوف خبر مقدَّم، و"مِن" زائدة، و"دواء" مبتدأ مجرور لفظًا بـ"من" الزائدة مرفوع محلًّا،و"راقٍ" معطوف على "دواء"، مرفوعٌ بضمَّة مقدَّرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، و"راقٍ" اسم فاعل مِن رقى بمعنى الرُّقية، [وهو] اسم فاعل على بابه؛ فهو يسأل عن راق حقيقة]. وقُدِّمَ "دواءً" على "راقٍ"؛ لأنَّ الدواء هو العلاج الأصليُّ للأمراض، أمَّا الرقية فتأتي بعد الدواء. "فجعل يقرأُ بأمِّ القرآن": هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه؛ كما يُؤخذ من روايةٍ أخرى جاء فيها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث سريَّة عددها ثلاثون رجلاً وأمَّرَ عليهم أبا سعيد رضي الله عنه. "فأتوا بالشَّاء": الفعل "أتى" متعدٍّ، ومفعولُه محذوف تقديره فأتوهم، و"أل" في الشَّاء للعهد الذِّكري، والمعهود: القطيع من الشَّاء الذي اتَّفقوا عليه؛ وهو ثلاثون من الغنم. "فأتَوا بالشَّاء، فقالوا: لا نأخُذُه حتى نسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم": ليس المراد أنهم أبَوا أن يأخذوها منهم؛ وإنَّما الذي حصل أنهم أعطوهم الشَّاءَ وقدَّموا لهم طعامًا، فأكلوا الطعامَ وأرادوا قسمةَ الغنم، فقال لهم أبو سعيد رضي الله عنه: لا تفعلوا حتى نأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم وننظر ما يأمرنا، ولا نأخذ على كتابِ الله أجرًا. وقد يُقال: كيف أنكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن يأخذ هذا الأجرَ بعد أنْ طلبَه وأخذه؟ والجواب: لأنه ظنَّ أولاً أنَّه يجوز له ذلك، ثُمَّ شَكَّ في جوازِه له؛ لأنَّه أخذه باجتهادٍ منه، والمجتهِد قد يُخطئ في اجتهاده كما يُصيب فيه. "فسألوه فضحكَ": إنما ضحك النبيُّ صلى الله عليه وسلم إقرارًا لفعلهم؛ لأن هذا علامة إقرار الفعل، كما أنَّ الغضب علامة عدم إقرارِه. وقيل: إن في ضحكِه صلوات الله وسلامه عليه بلاغَةً، والصحيح أن البلاغةَ من صفات الكلام، والضحك ليس بكلامٍ؛ فلا يُوصف بالبلاغة. ((وما أدراك أنها رُقيةٌ؟)) الاستفهام تقريريٌّ، يُراد منه تقرير أنَّها رقية، ويجوز أنْ يكون تعجبيًّا. ((خُذُوها واضربُوا لي بسهمٍ))، قد يُقال: فكيف اقتسموا الشاءَ مع أنها أَجْر الراقي - وهو أبو سعيد رضي الله عنه؟ وكيف أخذ النبيُّ صلوات الله وسلامه عليه سهمًا، مع أنه لم يكن معهم؟ والجواب: أنهم اقتسموها برِضا أبي سعيد رضي الله عنه، ويجوز أنْ يكونوا عدُّوها فيئًا؛ لأنها حصلَت لهم وهم في سبيلهم إلى الجِهاد؛ فتكون من الفَيْء الذي يحصل قبل القتال. وإنما أخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سهمًا منها؛ إظهارًا لِحِلِّها، أو لأنَّ له حقًّا في الفَيْء أيضًا. وقد يُقال: وهل حصل البرءُ بتأثير الفاتحة، أو بتأثير الراقي فيمن رقاه؟ والجواب: أنه قِيل: بتأثير الفاتحة؛ قال الله تعالي: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82][4]. وقيل: إنَّ الفاتحة وغيرها من القرآن لم تنزل ليُرقى بها، وإنما القرآن كتاب هداية للناس؛ قال تعالي: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16]، ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 52]، ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ [لقمان: 2، 3]، وعلى هذا يكون البُرْء بتأثير الرَّاقي فيمن رقاه عندها لا بها، وهذا أمرٌ قد يُوجد في بعض الناس، فلا يصحُّ لكلِّ واحدٍ أنْ يتعاطاه، ولا يصحُّ أن يكون هو المعوَّل عليه في علاج المرضى، وإنما يجب أن يكون المعوَّل عليه في علاجهم الدواء؛ كما ورد في حديث: ((عبادَ اللهِ، تداووا ولا تداووا بحرام))[5]، وعن أسامة بن زيد وابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله بثَّ الداءَ وبثَّ الدواء، وجعل لكلِّ داءٍ دواءً من الشجر والعسل؛ فتداووا))[6]. وعن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم: أنَّ رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جُرح فاحتقن الجرجُ بالدم، وأن الرجل دعا برجلين من بني أنمار فنظرا إليهِ، فقال لهما رسول الله: ((أيُّكما أطب؟)) فقالا: أفي الطبِّ خيرٌ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل الدواءَ الذي أنزل الداءَ))[7]. عن أُسامة بن شريكٍ قال: قالت الأعرابُ: يا رسُول الله، ألا نتداوى؟ قال: ((نعم يا عباد الله، تداووا؛ فإن الله لم يضع داءً إلاَّ وضع له شفاءً))، أو قال: ((دواءً، إلا داءً واحدًا))، قالوا: يا رسُول الله وما هو؟! قال: ((الهرَمُ)). وفي لفظٍ: ((تداووا عبادَ الله، فإنَّ الله لم ينزل داءً إلاَّ قد أنزل له شفاءً؛ إلا السام والهرَم))[8]. وقد يُقال: وكيف داوَوا سيِّدَ أولئك المشركين، مع أنهم كانوا يجاهدونَهم؟! والجواب: إنما داووه لأنهم لم يكونوا في جهادٍ معهم؛ وإنَّما كانوا في طريقِهم إلى الجهاد مع غيرهم، ولأن الإسلامَ دينٌ سَمْح؛ فهو يدفع السيئةَ بالحسنة، ويداوي من يطلب الدواءَ منه، وإن كان من أعدائه الذين يناوئونَه، ولا خلاف بين الفقهاء في جواز رقيةِ المسلم للكافر[9]. تنبيه: ورد في بعض طُرُق الحديث أنه قرأ الفاتحةَ سبعَ مرَّات؛ والأظهر أنَّها رواية شاذَّة. تتمة: في ذكر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في بيان رقية النبي صلى الله عليه وسلم: عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعوِّذُ بعضَ أهله؛ يمسحُ بيده اليُمنى، ويقُولُ: ((اللهمَّ ربَّ الناس، أَذْهِب الباس، اشفِه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤُك، شفاءً لا يُغادِرُ سقمًا))[10]. "يمسحُ بيده اليُمنى" فُصل عما قبله؛ لما بينهما من كمالِ الاتصال؛ لأن الثاني بيانٌ للأول، ويجوز أن يكون الفصل لشبهِ كمال الاتِّصال؛ لأن الثاني جواب عن سؤال مقدَّر، وتقديره: كيف كان يعوِّذهم؟ وقولها: "يمسحُ بيده اليُمنى" فيه إيجازٌ بالحذف؛ والتقدير: يمسح بيده اليمنَى على مَن يعوِّذه. ((وأنت الشافي)): الواو للحال، ((أنت الشافي)) في موضع نصبٍ على الحاليَّة. ((لا شفاء إلا شفاؤُك)): فُصل عمَّا قبله لكمالِ الانقطاع؛ لاختلافهما خبرًا وإنشاءً. ((شفاءً لا يُغادرُ سقمًا)) فُصل عمَّا قبله لما بينهما من كمالِ الاتصال، أو لشِبه كمال الاتصال؛ لأنه يجوز أن يكون جوابًا لسؤالٍ مقدَّرٍ، وتقديره: لماذا كان لا شفاءَ إلا شفاؤه؟ [1] أي: فلم يضيِّفوهم. [2] رواه الإمام البخاري في صحيحه (5736)، (2156) [3] ودليلُ ذلك ما ورد في روايةٍ أخري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريَّةً عليها أبو سعيدٍ، فمرَّ بقريةٍ؛ فإذا ملكُ القرية لديغٌ، فسألناهم طعامًا فلم يُطعمُونا ولم يُنزلونا، فمرَّ بنا رجُلٌ من أهل القرية، فقال: يا معشر العرب هل منكُم أحدٌ يُحسنُ أن يرقي؟ إن الملك يمُوتُ، قال أبُو سعيدٍ: فأتيتُه فقرأتُ عليه فاتحةَ الكتاب فأفاقَ وبرأ، فبعث إلينا بالنزُل، وبعث إلينا بالشاء، فأكلنا الطعامَ أنا وأصحابي، وأبوا أن يأكُلوا من الغنم حتى أتينا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه الخبر، فقال: ((وما يُدريك أنها رُقيةٌ؟)) قُلتُ: يا رسُول الله شيءٌ أُلقِي في روعي، قال: ((فكُلوا وأطعمُونا من الغنم))؛ رواه الدارقطني (3037). [4] و﴿ مِن ﴾ في الآية: لبيان ال***؛ فجميع القرآن شفاء. وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال:- • أحدها: شفاءٌ من الضلال؛ لما فيه من الهدى. • والثاني: شفاء من السقم؛ لما فيه من البركة. • والثالث: شفاء من البيان؛ للفرائض والأحكام. [5] رواه الترمذي (3874). [6] رواه أبو داود في السنن برقم (3874)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 5). [7] رواه مالك في الموطأ (944)، وابن عبدالبر في التمهيد (110). [8] أخرجه أبو داود (4/ 192)، والترمذي (4/ 383)، وابن ماجه (2/ 1137)، وأحمد (4/ 27)، والحاكم (4/ 399)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 343). [9] انظر الموسوعة الفقهية 13/ 34. [10] رواه الإمام البخاري (5734). |
#6
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (6)
د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث السادس عن سالم بن عبدالله، عن أبيه، أنه أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشَّمس، أوتي أهل التَّوراة التَّوراةَ، فعملوا، حتى إذا انتصف النَّهار عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثمَّ أوتي أهل الإنجيلِ الإنجيلَ، فعملوا إلى صلاة العصر، ثمَّ عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثمَّ أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربَّنا، أعطيتَ هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن كنَّا أكثر عملاً؟ قال: قال الله عز وجل: هل ظلمتكم مِن أجركم من شيءٍ؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء))[1]. تحقيقات وتوجيهات الحديث: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم)) حرف الجرِّ "في" في قوله صلى الله عليه وسلم ((فِيمَا)) قيل: إنَّه بمعنى "إلى"، والتقدير: إنما نسبة زمن بقائكم إلى زمن ما سلَف قلبكم من الأمم، كنسبةِ الزمن الذي بين صلاةِ العصر وغروب الشمس إلى بقيَّة النهار، ولا يخفى ما في هذا التقدير من التكلُّف، والأولى أن تكون "في" للمقايسة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]، ولا يحتاج مع هذا إلى تقديرِ تلك المضافات. وقد استغرب البعض استعمال النبي صلوات الله وسلامه عليه "ما" في قوله: ((فيما سَلَف قبلَكم)) مع وقوعها على مَن يَعْقِل؟! والجواب على ذلك: أن "ما" قد ترد في حق مَنْ يعقل؛ كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 3]، وكما في هذا الحديث. الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بقاؤكم)) قصرٌ حقيقي ادعائي؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه قصر فيه بقاءهم على مشابهةِ ما بين صلاة العصر وغروب الشمس. ((كما بين صلاة العصر إلى غروب الشَّمس)) تقدير الكلام: كما بين أوقاتِ صلاة العصر ممتدًّا إلى غروب الشمس؛ لأنَّ "بين" لا تضاف إلاَّ إلى متعدِّد؛ أي: كالبقاء الذي بين هذه الأوقات؛ فـ "ما" واقعة على بقاء؛ ليكون فيه تشبيه بقاءٍ ببقاء. ((مِنَ الأمَمِ)) "ال" عهدية؛ لأنَّ المراد من الأمم اليهود والنصارى، بدليل باقي الحديث؛ فهي للعهد العلميِّ؛ وإنما خصَّ اليهود والنصارى من الأمم السابقة؛ لبقائهم إلى زمن المسلمين. ((أوتي أهل التَّوراةِ)) فصَله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمَّا قبله؛ لشبه كمال الاتصال؛ لأنه واقعٌ في جواب سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: كيف كان بقاؤنا كذلك؟ فأجيبوا بذلك. وقد يقال: كيف نسبَ إليهم العجز مع أنهم عملوا ما أمروا به ولم يكَلَّفوا بما بعده حتى يعجزوا عنه؟! والجواب: أن المراد عجزهم عن إدراكِ الأجر الثاني دون الأول، أو: أنَّ الله تعالى علمَ عجزَهم عنه إذا كلِّفوا به؛ لعدم استعدادهم له. قوله صلى الله عليه وسلم: ((قِيراطًا)) الثاني؛ إمَّا أنْ يكون معطوفًا على الأول بتقدير حرف العطف، والتقدير: فأعطوا قيراطًا وقيراطًا، وإمَّا أن يكون التقدير: فأعطوا قيراطًا بعد قيراطٍ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. غيَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم الأسلوبَ في قوله: ((ثمَّ أوتينا)) - إلى التكلم - بعد قوله: ((إنما بقاؤكم)) - على الخطاب، وهذا من الالتفات من الخطاب إلى التكلم، وفيه فائدة الالتفات؛ من تجديد نشاط السامع ونحوه، مع إظهار الاهتمام بما أوتوه. آثروا في ندائهم: ((أي ربَّنا)) "أي" التي لنداءِ القريب على "يا" التي لنداء البعيد؛ لأنهم قصدوا أن يكونوا في منزلةِ القرب منه استجلابًا لعطفه عليهم حتى يسوِّيهم في الأجر بغيرهم. قوله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيتَ هؤلاء قيراطين)) هو إنشاء؛ لأنه على حذف أداة الاستفهام، والتقدير: أأعطيتَ هؤلاء قيراطين؟ والاستفهام في هذا تعجبيٌّ؛ لأنهم يتعجَّبون من إعطائهم قيراطين دونهم. وقد يقال: هل تخصيصهم بمشقَّة العمل دون المسلمين لقوَّتهم وضعف المسلمين؟ والجواب: لا؛ لأنَّ المسلمين كانوا أقوى من اليهودِ والنصارى، كما يدلُّ عليه القرآن في اليهود حينما أمرهم موسى عيله السلام بقتال أعدائِهم فجَبنوا عنه، والنصارى الذين ابتدعوا في دينهم الرهبانية ونحوها، ممَّا صعَّبوا به على أنفسهم، أمَّا المسلمون فقاتلوا أعداءَهم حتى انتصروا عليهم، ولم يصعَّب عليهم برهبانيَّة ونحوها. وقيل: لماذا أجابهم الله بهذا الجواب الذي يسكتهم من غير أن يكون فيه بيان حكمة تفضيلِ المسلمين عليهم كما أرادوا من سؤالهم؟! والجواب: أن الله تبارك وتعالى أجابهم بهذا؛ لِما في سؤالِهم من شائبة الاعتراض على فِعله، فلم يكونوا أهلاً لبيان الحكمة، وكان المناسب لهم هذا الجواب الذي فيه شيءٌ من التوبيخ لهم على خفاءِ حكمته عليهم. أمَّا الحكمة في ذلك: فهي أنَّ الأجر لا يلزم أن يكونَ بقدر المشقَّة في العمل؛ لأنَّ من الأعمال الشاقَّة ما يكون أجرها أقلَّ من غيرها؛ لأنَّه أرقى منها، وإن كان دونها مشقَّة، وشريعة المسلمين أرقى من غيرها من الشرائع؛ ولهذا ضوعِف لهم الأجر عليها، ولأنهم أيضًا يؤمنون بنبيهم ومَن قبله من الأنبياء؛ فأعطوا أجرًا على إيمانهم به صلى الله عليه وسلم، وأجرًا على إيمانهم بمن قبله من الأنبياء عليهم السلام. [1] رواه البخاري في صحيحه (557)، (7467). |
#7
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (7)
د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث السابع عن عبدالله بن مسعُودٍ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلاَّ في اثنتين: رجُلٍ آتاه الله مالاً فسُلِّط على هَلَكته في الحقِّ، ورجُلٍ آتاه الله الحكمةَ فهو يقضي بها ويُعلِّمُها))[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: الحسد في الحديث بمعنى الغبطة؛ لأن الحسد معناه: إمَّا تمنِّي زوال نعمةِ الغير مطلقًا، وإمَّا تمنِّي زوالها لنفسه، وهو مذمومٌ في الحالين، أمَّا الغِبطة فهي تمنِّي مثل ما للغير، وهي ممدوحةٌ بخلاف الحسد؛ فهو مذمومٌ حتى فيما استثناه الحديثُ. وإطلاق "الحسد" على "الغِبطة" فيما قيل مجازٌ مُرسل علاقته الإطلاقُ والتقييد، أو استعارة بجامع الاشتراك في مطلق التمنِّي. وقد آثر الرسولُ الكريم صلوات الله وسلامه عليه لفظَ "الحسد" مع أنه مذمومٌ على لفظ "الغِبطة" مع أنه ممدوح؛ للإشارة إلى أنَّ في الغِبطة شائبةً من الحسَد وهو التطلُّع إلى ما عند الغير، وبهذا يكون الحامل عليها حب المنافسة، ولا شكَّ أنَّ المنافسة في الخير ممدوحةٌ، ولكن هناك درجة أرقى منها، وهو إرادة الخير لذات الخير، لا لمنافسة الغيرِ فيه؛ لأن المنافسةَ قد تحمل على الحسد عند الإخفاق فيها، بخلاف إرادةِ الخير لذات الخير، ولهذا يكون الأوجه إطلاق "الحسد" على "الغِبطة" من قبيل الاستعارة لا من قَبيل المجاز المُرسل؛ لأن المجاز المرسل الذي علاقتُه الإطلاق والتقييد من المجاز غير المفيد، وعلى هذا الإطلاق استعارة تُشبِّه الغِبطةَ بالحسد بجامعِ ما فيهما من التطلُّع إلى ما عند الغير، لا بجامع اشتراكهما في مطلَق التمنِّي؛ لأنه لا يكفي في إطلاقه عليها، ثم يُستعار لفظ المشبَّه به للمشبَّه على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية. ((لا حَسَدَ إلا في اثنتَيْن)): الحصرُ هنا تحقيقي ادِّعائي من قَصْر الموصوفِ على الصفة؛ لأنه قصر فيه الحسدَ - بمعنى الغِبطة - على الكونِ في اثنتين، فهو قصرُ موصوفٍ على صفة، ولكنه ادِّعائي؛ لأن الحسد بمعنى الغِبطة يكون في غير الاثنتين، فنزل غيرهما منزلةَ العدة على سبيل الادِّعاء. لطيفة: ما حكم تمنِّي زوال نعمة البخيل أو الفاسق أو الكافر ونحوهم؟ قيل إنه يُستثنى مِن ذمِّ تمنِّي زوال نعمة الغير مثل هؤلاء؛ لأنهم يَستعينون بها على معاصيهم، وإن كان الأفضل هنا تمنِّي هدايتهم لا زوال نعمتهم. ((فَهو يَقْضِي بها))؛ معناه: فهو يعملُ بها؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ [فصلت: 12]؛ أي: عملهنَّ. [1] رواه البخاري (73)، (1409)، (7141)، (7316)، ومسلم (268). |
#8
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (8) د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث الثامن عن جُندب بن عبدالله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قَبلكم رجُلٌ به جُرحٌ، فجزِع، فأخذ سِكِّينًا فحزَّ بها يدَه، فما رقأَ الدَّمُ حتَّى مات، قال الله تعالى: بادَرَني عبدي بنفسِه، حرَّمتُ عليه الجنَّة))[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: ((كان فيمن كان قَبلكم رجُلٌ به جُرحٌ)) تقدير الكلام: كان رجلٌ به جرحٌ فيمن كان قبلكم، فـ(رجلٌ) اسم كان، (به جُرْحٌ) صفته، (فيمن كان قَبلكم) خبرها، وإنما قُدِّمَ الخبرُ على الاسم؛ لإفادة أنها قصَّة قديمة من أول الأمر، وللسامع اهتمامٌ بهذا القصص. (كَانَ) - الثانية - يجوز أن تكون زائدةً بين الموصول وصلتِه، وأن تكون تامَّة فاعلُها ضميرٌ يعود إلى الموصول، وأن تكون ناقِصة اسمُها عائدٌ إلى الموصول، وخبرها (قَبلكم). ((فحزَّ بها يدَه)) المراد باليد هنا بعضها، وهو موضع الحزِّ فقط، على سبيلِ المجاز المرسل، من باب إطلاق الكلِّ وإرادة الجزء. ((فما رقأَ الدَّمُ حتَّى مات)) قوله صلوات الله وسلامه عليه (حتى) بمعنى إلى؛ أي: فما سكن الدمُ إلى أن مات، فيكون حرفَ جرٍّ، و"أنْ" مضمرة بعده، وهذا هو رأي ابن مالك، وقيل: إنها ابتدائية لا جارَّة؛ لدخولها على الجملة. ((قال الله تعالى)) فصَّل النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول عمَّا قبلَه لشِبه كمالِ الاتصال؛ لأنه واقعٌ في جواب سؤال مقدَّر، وتقديره: فماذا كان عقاب الله له؟! قوله: ((بادَرَني عبدي بنفسِه)) ليس استعارة، وإنما حقيقة؛ لأنه استعجل بنفسه حقيقةً في الظاهر، وهذا يكفي في كون الإسناد اللغوي حقيقةً لا مجازًا. وقد يقول قائل: كيف بادرَه بنفسِه مع أنه ميت في أجله الذي قدَّره الله له؟ والحق أن مبادرته بنفسِه لا يمنع أنه مات في أجله المقدَّر له؛ لأن الله عزَّ وجلَّ هو الذي قدَّرَ له أن يُبادِر بنفسه فبادَرَ بها، وكان موته مع هذا في أجله المقدَّر له، ويجوز أن يكون للإنسان في هذا أجلان بتقدير الله: أجلٌ معجَّلٌ بشرطِ حصول ذلك الفعل، وأجلٌ مؤجَّلٌ بشرطِ عدم حصوله. ((حرَّمتُ عليه الجنَّةَ)): معطوفة على ما قبلها بفاءٍ مقدَّرة، والتقدير: فحرمتُ عليه الجنةَ، أو أنها مفصولة لشِبه كمال الاتصال. وقد يقول قائل: وهل تحريم الجنة عليه مؤقَّت أو مؤبَّد؟ وفي ذلك تفصيل؛ ذلك أنه إن لم يعتقد حِلَّ ما فعل كان تحريمها عليه مؤقَّتًا، وإن كان يعتقد حلَّ ما فعل كان تحريمها عليه مؤبدًا؛ لأنَّه يكون كافرًا بشريعة تحريمه. وهل تحريم الانتحار في هذا الحديث على من كان قلبنا يقتضي تحريمه علينا؟ نعم، يقتضي تحريمه علينا؛ لأنَّ الحق أنَّ شرعَ من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يَرِد في شرعنا ما ينسخه، على أنه قد وردَت أحاديث أخرى في تحريم الانتحار في شرعنا. [1] رواه البخاري (3463)، ومسلم (180) بلفظ: ((إنَّ رجلاً ممَّن كان قبلكُم خرجت به قُرحةٌ، فلمَّا آذته انتزع سهمًا من كنانته فنكأَها، فلم يرقَأ الدَّمُ حتَّى مات، قال ربُّكم: قد حرَّمتُ عليه الجنَّة)). |
#9
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (9) د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث التاسع عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ هذا الدِّين مَتينٌ، فأوغِل فيه برفقٍ، ولا تُبغِّض إلى نفسِك عِبادة الله؛ فإن المُنبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى))[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: ((إنَّ هذا الدِّين مَتينٌ)): أكد النبي صلوات الله وسلامه عليه كلامَه لحال المخاطَب لأنه يُنكر أنَّ الدِّين متين أو يشكُّ في هذا، فيوغِل فيه حتى يحمِّل نفسَه ما لا يُطيق، وقد يكون غير منكرٍ لهذا ولا شاكٍّ فيه، ولكنه نزل منزلتهما، والله تعالى يقول: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286]، وقال أيضًا: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]، وقال جلَّ جلالُه: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال سبحانه: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]. ((الدِّينَ)): المراد به التكاليف الشرعيَّة، سواء في دين الإسلام أو غيره. وقد ورَد في حديثٍ أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((إنَّ خير دينكم أيسره، إنَّ خير دينكم أيسره))[2]. وقد ورد عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنه قال: جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بُيُوت أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يَسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبِرُوا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحنُ من النبي صلى الله عليه وسلم؛ قد غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال آخرُ: أنا أصومُ الدَّهرَ ولا أُفطِر، وقال آخرُ: أنا أعتزل النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: ((أنتُم الذين قُلتُم كذا وكذا، أَمَا والله إنِّي لأخشاكُم لله وأتقاكُم له؛ لكني أصومُ وأُفطِر، وأُصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّجُ النساء، فمَن رَغب عن سُنَّتي فليس منِّي))[3]. وقد ذمَّ الله أهلَ الكتاب بسبب غلوِّهم؛ فقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾ [المائدة: 77]. قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: الإسلام يُسْر بالنسبَةِ إلى الأديان قبلَه؛ لأن الله رفع عن هذه الأمَّة الإِصْرَ الذي كان على مَن قبلهم، ومِن أوضح الأمثلة: أنَّ توبة مَن كان قبلَنا كانت ب***ِهم أنفسهم، وتوبة هذه الأمَّة بالإقلاعِ، والعزم على عدم العودَة للذنب، والنَّدم[4]. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هَلَك المتنطِّعون))[5]. ويجوز أن يُراد بـ((الدِّين)) الإسلام؛ على أنَّ شدةَ تكاليفه بالنسبة إلى عدمها؛ لأن النَّفس تستثقلها مع يُسْرِها، وتميلُ إلى أنْ تسيرَ وفق هواها. ((فإنَّ)) الفاء للتعليل، وهي تعليلٌ لمحذوفٍ تقديرُه: فإنَّك لو أوغلتَ فيه بغير رفقٍ أهلكتَ نفسك وانقطعتَ. ((فإنَّ المنبَتَّ[6] لا أرضًا قطعَ، ولا ظهرًا أبقى))، أكَّده النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما أكَّد أول كلامِه؛ لأنه مثله في الردِّ على ما ينكره المخاطب أو يشكُّ فيه. ((فإنَّ المنبَتَّ)): تقدير الكلام في هذا: فإنك إن أَوغلتَ فيه بغير رفقٍ أهلكتَ نفسك وانقطعتَ، فتكون كالمنبتِّ؛ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، وبهذا يكون تشبيهًا بليغًا؛ لحذف أداه التشبيه فيه، وهو تشبيهٌ تمثيلي ضمني، شبهت فيه هيئةُ المتشدِّد الذي يُضعِف نفسَه بالعبادة حتى ينقطع عنها بهيئة المنبتِّ في إضعافه دابَّته، وعدم وصوله إلى مبتغاه، والجامع: عدم إدراكِ المقصود فيهما. ((لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى)): قدَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المفعولَ؛ للاهتمام بنفي الفعل عنه؛ لأنه هو المقصود مِن فعله، ولأنه لم يصِل إليه بسوءِ تدبيره. وقد يُقال: إذا كان التشدُّد في الدِّين مذمومًا، فهل يُمدح التساهل فيه؟! والجواب: أن الممدوح هو التوسُّط بين التشدُّد والتساهل؛ لأنَّ هذا هو السبيل الذي سلكه الإسلامُ في كلِّ تشريعاته، وبهذا جاء دينًا وسطًا؛ لا إفراط ولا تفريط، ولا تشديد ولا تساهل، إنه منهجٌ واقعي، وسَطِي، متوازن، هذا المنهج الواقعي الوسطي المتوازن، ينقلك إلى أعلى مراتب الإيمان. ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]. وحثَّ على التوازُن في حياة المسلِم فقال تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77]. وقال جلَّ جلاله: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]. [1] حديثٌ حسن لغيره؛ خرَّجه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 19)، والشهاب في مسنده 2/ 184 (1147). [2] حديثٌ حسنٌ، خرَّجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 479). [3] متفق عليه: أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (4/ 129) (1401). [4] انظر فتح الباري 1/ 118. [5] رواه مسلم (2670)، وعلَّق الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي بقوله: أي: المتعمِّقون الغالون المجاوزون الحدودَ في أقوالهم وأفعالهم. وقال الشيخ ابن تيمية في معنى (المتنطِّعون): المتشدِّدون في غير موضع التشديد؛ [الفتاوى الكبرى (2/ 87)]. [6] والمُنْبَتُّ: "هو المنقطع في سفره قبل وصوله، فلا سفرًا قطعَ، ولا ظهرَه الذي يسير عليه أبقى حتى يمكنه السيرُ عليه بعد ذلك؛ بل هو كالمنقطع في المفاوز، فهو إلى الهلاك أقرب، ولو أنَّه رفق براحلته واقتصد في سَيره عليها لقطعَت به سَفَرَه وبلغ إلى المنزل"؛ يُنظر فتح الباري لابن رجب (1/ 136 - 139). |
#10
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (10) د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحدث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدين يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبَه، فسدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا، واستعينُوا بالغَدْوةِ والرَّوْحة وشيءٍ من الدُّلْجة))[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: ((يُسْر)): اليسر ضدُّ العسر؛ أي: سهلٌ لا شدَّةَ فيه. ((إنَّ الدِّين يُسر))؛ فهو دينٌ ميسور لكلِّ من اعتنقَه، وعرف شرائعَه وعباداتِه، والمناهجَ والسنن التي أبدعها اللهُ تعالى، وأنزلها لعبادِه الذين خلقَهم وعرف قدراتهم، قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]؛ ولذا كانت هناك معايِيرُ لمن أراد أن يستكمِلَ دينه ويَعمل بكلِّ ما أُمر به؛ وهو أن تكون لديه القُدرةُ والاستطاعة أولاً، ثمَّ يعمل بها ما يُريد من تكاليفَ وسُننٍ في نفسِه دون أن يُرغِم أحدًا على عمَلِها أو يَنسِب إليه التقصيرَ في أداء العبادات وعمل الصالحات. ففي الطهارة مثلاً يُستخدم الماء في غَسل الأعضاء؛ لكن إذا فُقد الماءُ أو تعذَّر استعماله يُستبدل به التيمُّم؛ ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]. ومِن هنا كان على المسلم ألاَّ يُشدِّد على نفسه ويَقْسوَ عليها في أداءِ الأعمال؛ حتى يظلَّ مقبلاً على الله دائمًا، ولا يصيبَه الملَل والسأمُ الذي يتحوَّل إلى كراهية وفتنةٍ في الدِّين. ولذلك قال النبي صلوات الله وسلامه عليه للصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه حين أطال القراءةَ في الصلاة: ((يا معاذ، أَفتَّانٌ أنت؟!)) - أو ((أفاتنٌ؟!)) - ثلاث مرارٍ: ((فلولا صلَّيت بسبِّح اسم ربِّك، والشَّمس وضُحاها، واللَّيل إذا يغشى؛ فإنه يُصلِّي وراءك الكبيرُ والضَّعيفُ وذُو الحاجة))[2]. فعلى المسلم إذًا أن يعمل ما عليه من الفرائض وأن يسدِّد ويَقْرب من الكمَال، ثُمَّ بعد ذلك يستبشر ويتفاءَل بما أعدَّه الله ربُّ العالمين له؛ ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 171، 172]. ((ولن يُشادَّ الدينَ)) المشادَّة: المغالبة، وتكون بالتعمُّق في الدِّين. ((فسدِّدوا)) المقصود: الزَموا الصوابَ والقصدَ في العمل من غير تفريطٍ ولا إفراطٍ. وتسديد العمل يكون بسلوكِ القصدِ فيه من غير مَيلٍ إلى الإفراطِ أو التفريط، وإنما هو قَوَامٌ بين ذلك. ((وقَارِبوا)): اعملوا الأقربَ مِن العمل الكامل؛ ومَن لم يبلغ التمامَ قارَبَه. فإن لم يستطع المكلَّف التسديدَ في العمل لعجزٍ - كمرضٍ أو عذرٍ طارئ قاهرٍ أو نحوِه - فعليه أن يُقارِب الكمالَ بقدرِ ما يستطيع، وهناك البشارة لهم إن كانوا مسدِّدين أو مقارِبين بالفوز العظيم. ((وأبْشِروا)): أمرٌ من البِشارة بالثواب على صالح العمل، والبشارةُ تكون فيما يُحَبُّ ويَسرُّ، وقد تكون للتوبيخِ؛ كقوله تعالى في شأن الكافرين: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آل عمران: 21]. ((واسْتَعينوا بالغَدْوَة))؛ البُكرة، فيُقال: بَكَّر المسافرُ وأبكَر وابتَكر وتبكَّر. وفي الحديث: ((بكِّروا بالإفطارِ، وأخِّروا السحورَ))[3]. ((والرَّوْحة))؛ السير بعد الزوال. ((وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)) - بضمِّ الدال وفتحها، وإسكان اللام، على وزن فُعْلَة -: سير الليلِ كلِّه، وأدلَجوا؛ أي: ساروا في آخر الليل. ((واستعينُوا بالغَدْوةِ والرَّوْحة وشيءٍ من الدُّلْجة))؛ أي: استعينوا على مداومةِ العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشِّطة؛ كأول النهارِ وبعد الزوالِ وآخر الليل. فيَطلب من المسلم تنظيمَ العمل وأداءَه بكيفيَّة مقبولة؛ وذلك في التسديد والمقارَبة، ثُمَّ إلى تنظيم الوقت، فيكون هناك وقت الرَّاحة للاستعانة به على أداء العمل؛ وذلك يكون بالليل الذي هو لباس للناشطِ العامل ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ [النبأ: 10]، أمَّا الأوقات التي ذكرَت في الغدوةِ والرَّوحة وشيءٍ من الدُّلجة فهي أوقات النشاطِ والحيويَّة، وتكون فيها العبادة والقرب إلى الله تعالى، ويؤدِّي فيها المسلمُ عبادته على أكملِ وجهٍ. وقد ورد في حديثٍ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يُنجِّي أحدًا منكم عملُه))، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: ((ولا أنا، إلاَّ أن يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ، سدِّدُوا وقارِبوا، واغدُوا ورُوحُوا، وشيءٌ من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلُغُوا))[4]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لن يُدخِل أحدًا عملُه الجنَّة))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((لا، ولا أنا، إلاَّ أن يتغمَّدني اللهُ بفضلٍ ورحمةٍ، فسدِّدُوا وقارِبوا، ولا يتمنَّينَّ أحدُكم الموتَ: إمَّا مُحسنًا فلعلَّه أن يزداد خيرًا، وإمَّا مُسيئًا فلعلَّه أن يَسْتَعْتب))[5]. فالعمل القليل الدائم الذي يَحوطه الإخلاص والإتقان جزاؤه عظيمٌ عند الله. فالرِّفق في أداء العبادات مطلوبٌ؛ حتى لا يملَّ المرءُ وتهبطَ عزيمته، فيصيبه الفتور، فعلى المسلمِ أن يَطلب الكمالَ إذا كان قويًّا قادرًا عليه، أمَّا إذا كان غير قادرٍ فليُقارِب العمل، ولعلَّه يصل إلى الكمال أو يقاربه، وعليه أن يستغلَّ الأوقات التي يكون فيها نشاطُه موفورًا، يهيِّئه للعمل الصالح فيها، فالإسلام لا يريد القسوةَ للمسلمين، وأحسن الأعمال أدومُها وإن قلَّ. [1] رواه البخاري (39). [2] رواه البخاري (705)، ونحوه مسلم (465). [3] حديث حسن لغيره، أخرجه ابن عدي (6/ 323). [4] رواه البخاري (6463)، ومسلم (2816). [5] رواه البخاري (5673). |
#11
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (11) د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث الحادي عشر عن حذيفة، قال: "حدثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيتُ أحدهما وأنا أنتظرُ الآخر؛ حدَّثنا: ((أن الأمانة نزلت في جذر قُلُوب الرجال، ثم نزل القُرآنُ، فعلِموا من القرآن، وعلمُوا من السنَّة))، ثمَّ حدثنا عن رفع الأمانة قال: ((ينامُ الرجلُ النومة فتُقبَض الأمانة من قلبه، فيظل أثرُها مثل الوَكْت، ثمَّ ينامُ النومة فتُقبض الأمانةُ من قلبه، فيظل أثرُها مثل المَجْل كجمرٍ دحرجتَه على رِجلك فنفط، فتراه مُنتبرًا وليس فيه شيءٌ - ثمَّ أخذ حصًى فدحرجه على رجله - فيُصبح الناسُ يتبايعون لا يكادُ أحد يؤدِّي الأمانة حتى يقال: إنَّ في بني فلان رجُلاً أمينًا، حتى يقال للرجل: ما أجلدَه! ما أظْرَفَه! ما أعقلَه! وما في قلبه مثقالُ حبَّةٍ من خردلٍ من إيمانٍ))، ولقد أتى عليَّ زمانٌ وما أُبالي أيَّكم بايعتُ؛ لئن كان مُسلمًا ليردَّنَّه عليَّ دينُه، ولئن كان نصرانيًّا أو يهوديًّا ليرُدَّنَّه عليَّ ساعيه، وأما اليوم فما كنتُ لأُبايع منكم إلاَّ فُلانًا وفُلانًا"[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: "وأنا أنتظرُ الآخَر": قدَّم الصحابيُّ الجليل حذيفةُ بن اليمان رضي الله عنه المسنَدَ إليه على الخبر الفعلي؛ لإفادته تقوية الحُكم، فيفيد أنَّه لا بُدَّ من حصول الآخَر أيضًا. ((حدَّثنا أنَّ الأمانة...)): فصلَها عمَّا قبلها؛ لأنَّه تفصيلٌ بعد إجمالٍ، فهو من باب الفصل لكمال الاتصال، ويجوز أن يكونَ لوقوعه جوابًا عن سؤالٍ مقدَّرٍ، كأن سائلاً قال له: فماذا حدَّثكم؟ فيكون من الفصل لشبه كمال الاتصال. خصَّ الرجال بالذِّكر مع أنَّها نزلَت في جذر قلوب النساء أيضًا؛ وهذا من باب الاكتفاء بأحد ال***ين عن الآخر، فهو على حدِّ قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾ [النحل: 81]؛ أي: والبردَ. ذكر قوله: ((ثمَّ نزل القرآن...)) بعد نزول الأمانة في جذر قلوبهم؛ ليفيد أنَّ الأمانة مع كونها فطريَّة في القلوب، لا بُدَّ لها من شريعةٍ تبيِّنها وتوضحها وتؤكِّدها، وتزيد فيها ما يخفى من تفاصيلها. "ثمَّ حدَّثنا عن رفع الأمانة": هذا هو الحديث الثَّاني الذي ينتظره حذيفة رضي الله عنه، وهو رفع الأمانة أصلاً حتى لا يبقى إلاَّ النادر، وهذا لم يدركه حذيفة؛ بل كان ينتظره، ولا يُنافي هذا ما ذكره في آخر الحديثِ ممَّا يدل على أنَّه أدرك شيئًا قليلاً مِن رَفْع الأمانة جعله يحتاط في المعاملة، ولا يبايِع إلاَّ من يُعرف بالأمانة، وكان جميعهم قبل هذا أُمناء، فلم يكن يحتاط في معاملتهم. ((ينام الرَّجل النومةَ)): يجوز أن يكون النَّوم على حقيقته، والحقُّ أنه من باب الاستعارة؛ لأنَّه لا معنى لتقيِيد رَفْع الأمانة بحالة النَّوم، وإنما شبهَت الغفلةُ عن الطاعة بالنوم؛ بجامعِ عدم الشعور في كلٍّ منهما، ثمَّ استُعير النومُ للغفلة عن الطاعة واشتُق منه (ينام) بمعنى يغفل عن الطاعة. أخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حصًى قد دحرجه على رجله؛ ليمثِّل المعقول بما يدرِكه الحسُّ، وهذا من وسائل الإيضاح التي قرَّرها علمُ التربية الحديث! ((حتى يُقال)): "حتى" ابتدائيَّة بمعنى الفاء، ورواية البخاري: "فيُقال". ((ما أظرفه ما أعقله)): رواية البخاري: ((ما أعقله وما أظرفه وما أجلده)) فكلٌّ من الجملة الثانية والثالثة معطوف على الأولى بحَذْف حرف العطف. وقد يُقال: فما يفيد بقاء الرجل الأمين في حال رفع الأمانة؟! والجواب: أنَّ هذا يجعل حديث رفع الأمانة موافقًا لحديث: ((لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذلهم، حتَّى يأتِيَ أمرُ الله وهم كذلك))[2]؛ ليكونوا شهداءَ على الناس، ولا ينقطع الأمل في عودة الأمانة إلى أصلِها، فيقوم من بَقِي محافظًا عليها بالدعوة إليها بينهم، ولا ييئس من إصلاحهم. "ما أبالي أيَّكم بايَعْتُ": "ما" نافية، "أبالي" فعل مضارع وفاعله أنا، "أيكم" اسم استفهام مفعول مقدَّم، "بايعتُ" فعل وفاعل، وقد علق الاستفهام أبالي عن العمل لفظًا فيما بعدها، والتقدير: وما أبالي جواب هذا الاستفهام. [1] رواه البخاري (6497)، ومسلم (143)، وهذا لفظ مسلم. [2] رواه الإمام مسلم 170 - (1920). |
#12
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (12) د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث الثاني عشر عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبُونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس: الصِّحَّةُ، والفراغُ)) [1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: قدَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسندَ ((نِعمتان)) على المسنَد إليه ((الصحَّة والفراغ))؛ للتشويق إلى ذِكر المسنَد إليه؛ حتى يتمكَّن في ذهن السامع أفضل تمكُّنٍ. قوله صلى الله عليه وسلم: ((مغبون)) استعارَة تبعيَّة إن كان من الغَبْن بمعنى الخداع في البيع، ويجوز أن يكون مجازًا مرسلاً عن الضَّرر اللازم للخداع لعلاقة اللزوم، ويجوز أن يكون حقيقة إن كان من الغَبَن بفتح الباء، وهو ضَعف الرأي. والاستعارة التبعيَّة فيه بتشبيه إِساءة التصرف في النعمتين بالغَبن في البيع، ثمَّ استعارة لفظ المشبَّه به للمشبَّه واشتقاق مغبون منه بمعنى مسيء التصرف. وقد يُقال: كيف يكون الفراغ نعمة مع أنَّه بمعنى الخلو عن العمل، وقد يكون نقمة؟! والجواب: أنَّ الفراغ في الحديث لا يُراد منه حقيقته فقط، وإنَّما هو كناية عن الاستغناء بالمال؛ ولهذا قال ابن بطَّال: معنى الحديث أنَّ المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكتفيًا صحيح البدن. اهـ[2]، وقد ورد في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر، أترى كثرةَ المال هو الغنى؟))، قلتُ: نعم يا رسول الله، قال: ((فترى قِلَّة المال هو الفقر؟))، قلتُ: نعم يا رسول الله، قال: ((إنَّما الغِنى غنى القلب، والفقر فَقْر القلب))[3]. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وإنما يحصل غِنى النَّفس بغنى القلب؛ بأن يفتقر إلى ربِّه في جميع أموره، فيتحقَّق أنَّه المعطِي المانع؛ فيرضى بقضائه، ويشكره على نعمائه، ويفزع إليه في كَشْف ضرَّائه، فينشأ عن افتقار القلب لربِّه غِنى نفسه عن غير ربِّه تعالى"[4] وقيل: عدَّ بعض الصوفية كلاًّ من الصحَّة والمال نِقمة مع عدِّهِ في الحديثِ نعمة، فما حقيقة هذا القول؟! والجواب: يرى الصوفية أنَّ الإنسان مركب من نَفس وجسم، وأنَّ النَّفس هبطت إلى الجسم من عالمها الأعلى فحجبَها عنه، ولا سبيل إلى وصولها إليه إلا بإضعاف الجسم ليمكنها التخلُّص منه، وبهذا عملوا على إضعافه بالرياضة الشاقَّة من الجوع ونحوه مما يُضعفه. وقد جرَّهم هذا إلى إيثار عيشة الفَقْر حتى سمَّوا أنفسَهم "فقراء"، وكان لهذا أسوأ أثرٍ في حياة المسلمين حينما نظروا إلى الصوفيَّة على أنَّهم المثل الأعلى في الإسلام. والحقُّ أنَّ الإسلامَ ينظرُ إلى الفقر بخلاف نظر الصوفيَّة إليه؛ بل إنَّ الفقر فيه يكاد يؤدي إلى الكفر، وقد قال فيه بعضُ كبار الصحابة: "لو تمثَّل لي الفقر رجلاً، ل***تُه". قال ابن الجوزي رحمه الله[5]: فمَن استعمل فراغَه وصحَّته في طاعة الله فهو المغبوطُ، ومَن اسْتعملهما فِي معصية الله فهو المغبونُ. لأنَّ الفراغ يعقبه الشُّغل، والصِّحة يعقبها السُّقم، ولو لم يكن إلاَّ الهرم، كما قيلَ: يَسُرُّ الفتى طولُ السَّلامَة وَالبَقا ![]() فكيف تَرى طُول السَّلامة يَفعَلُ ![]() يَرُدُّ الفَتى بَعْد اعتدَالٍ وصِحَّة ![]() يَنُوء إذا رامَ القِيام وَيُحمَل ![]() [1] رواه البخاري في صحيحه 8/ 88 حديث رقم (6412). [2] فتح الباري (11/ 273). [3] حديث صحيح؛ أخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 2/ 461 حديث رقم 685). [4] يُنظر: فتح الباري (11/ 273). [5] المصدر السابق. |
#13
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (13) د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((المُؤمِنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المُؤمنِ الضَّعيفِ، وفي كُلٍّ خيرٌ، احرِص على ما ينفعُك، واستعِن بالله ولا تَعجِز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقُل: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قُل: قَدَرُ الله وما شاء فعل؛ فإنَّ (لو) تفتحُ عمل الشَّيطان))[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: بمجرد قراءة الحديث لأول وهلة يتبادر إلى الذهنِ سؤالٌ، ألا وهو: هل المفاضلة في الحديث الشريف بين القوة في الإيمان والضعف فيه، أو بين القوة الجسمية والنفسية والضعف فيهما؟! والجواب: قيل إنَّ المفاضلة في الحديث بين قوة الإيمان وضعفه، ويُرَدُّ على هذا القول أنَّ المفاضلة بينهما من البداهة بحيث يكون الإخبار بها لا فائدة فيه، كما يُرَدُّ عليه أنه لا يصح معها قوله صلى الله عليه وسلم ((وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ))؛ لأنَّ ضعفَ الإيمان لا خير فيه، وكذلك سياقُ الحديثِ إلى آخرهِ. والحقُّ أنَّ المفاضلة في الحديث بين القوَّة الجسمية والنفسية والضعف فيهما؛ لأنَّ القوة الجسمية تدخل في القوَّة التي أمرَ الله تبارك وتعالى بالإعداد لها، كما في قوله جلَّ شأنه: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، فلا معنى للفرارِ من حَمْل الحديث عليها، ولا شكَّ أنَّ شأن القوة النفسية - وهي الشَّجاعة - أعلى من شأن القوَّة الجسمية؛ فيُحمل الحديثُ عليها أيضًا من باب أولى. ((المُؤْمِنُ القَوِيُّ))، ((المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)): (أل) في ((المؤمن)) هي (أل) ال***ية، فتكون القضية معها مهملة في قوَّة الجزئية، ولا يصحُّ جَعْل (أل) فيهما استغراقيَّة لتكون القضية كليَّة؛ لأن المؤمن الضعيف قد يكون خيرًا وأحبَّ إلى الله من المؤمِن القوي، وهذا إذا قام المؤمن الضَّعيف بما يجب عليه لدينه بقَدْر ما يمكنه؛ لأنَّ اللهَ لا يكلِّف نفسًا إلا وُسعها، وإذا لم يقم المؤمن القوِي بما يجب عليه لدينه، فيكون المؤمن الضَّعيف في هذه الحالة خيرًا وأحبَّ إلى الله تعالى منه. ((خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ)): لم يقتصِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ((خير)) فقط؛ لأنَّ معنى كونه خيرًا أنَّه أكثر خيرًا، ومعنى كونه أحب؛ أي: إنه أكثر حبًّا، والثاني ((أحب)) مترتِّبٌ على الأول ((خير))، ولا يُستغنى بأحدِهما عن الآخر. ((وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ)): ذكرَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد تفضيلِ المؤمن القوِي على الضَّعيف؛ لئلا نتغالَى في تفضيل الأقوياء حتى نعمل على مَحو الضعفاء، كما كان يفعل أهل أسبرطة قديمًا، وكما يُغالِي بعضُ الفلاسفة في التعصُّب للقوة حتى جعلوها فوق الحقِّ؛ لأنَّ كلاًّ منهما له أعمال تناسبه في الدُّنيا، فلا يُمكن أن يُستغنى بأحدهما عن الآخر، والإسلام مع تفضيله القويَّ على الضعيف يقِف بجانب الضَّعيف حتى يأخذ له حقَّه من القوِي، ولا ينكر ما له من حقٍّ في الحياة كما ترى بعضُ الفلسفات الخاطئة. ألم ترَ إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه وقت أن وَلِي الخلافةَ خطَب في الناس قائلاً: "يا أيها النَّاسُ، إني قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم؛ فإن ضعُفتُ فقوِّمُوني، وإن أحسنتُ فأعينُوني، الصِّدقُ أمانةٌ، والكذبُ خيانةٌ، الضَّعيفُ فيكم القويُّ عندي حتَّى أُزيح عليه حقَّه إن شاء الله، والقويُّ فيكُمُ الضعيفُ عندي حتى آخُذ منه الحقَّ إن شاء الله، لا يدعُ قومٌ الجهادَ في سبيل الله إلاَّ ضربهم الله بالفقر، ولا ظهرَت - أو قال: شاعَت - الفاحشةُ في قومٍ إلاَّ عمَّمهم البلاءُ، أطيعُوني ما أطعتُ اللهَ ورسولَه، فإذا عصيتُ الله ورسولَه، فلا طاعة لي عليكم، قُوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله"[2]. ((المُؤمِن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المُؤمن الضَّعيف)): قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيرٌ وأَحبُّ)) خبر المبتدأ، وقد تنازعا المجرورَين بعدهما، فأُعمل الثَّاني وأُضمر في الأول وحُذف، والتقدير: خير إلى الله منه، ولو أُعمِل الأول أُضمِر في الثاني، وكان التقدير: وأحب إليه منه. ((إِلى الله)): بمعنى عند الله، كقول الشاعر: أم لا سبيل إلى الشبابِ وذكرهِ = أشهى إليَّ من الرَّحِيق السَّلسلِ بمعني: أشهى عندي. ((احرِص على ما ينفعُك)): فصلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمَّا قبله؛ لِما بينهما من كمال الانقطاع؛ لاختلافهما خبرًا وإنشاءً، لفظًا ومعنًى. وهذه الجملة مرتبطةٌ بما قبلها، والمعنى: احرص بقوَّتك على ما ينفعك، وخُذ فيه ولا تتردَّد، وهذا يتضمَّن الحثَّ على استعمالِ القوَّة الجسمية والنفسية فيما ينفع، لا فيما يضر. ((واستعِن بالله ولا تَعجِز)): مرتبطةٌ بأوَّل الحديث أيضًا، ويُراد بها الحث على الاستعانةِ بالله عند الشعورِ بالعجز عن المضِيِّ فيما ينفع. فيجب تَرْك اليَأْس والركون إلى العَجْز في هذه الحالة، وعليه أن يُجاهد بما يمكنه من قوَّة، مستعينًا بالله تعالى ليمده بقوَّة على قوته، ومن ثابَر وصل إلى ما يُريد، ومن يَئس وقف في أول الطريق. ((واستعِن بالله ولا تعجز)): موصولة بِما قبلها للتوسُّط بين الكمالين؛ لأنهما اتَّفقا في الإنشائيَّة، ووُجد الجامِع بينهما، وهو الاتِّفاق في المسند إليه. ((وإن أصابك شيءٌ)): للنَّهي عن العَجز عند الوقوع في مصيبةٍ من مصائب الدنيا، فيجب أنْ يتمسَّك الإنسان بقوَّته في المصيبة، ويعمل على التخلُّص منها بقوةٍ، فلا ييئس ويعتقد أنَّه فرَّط فيما أوقعه فيها، وأنَّ ما فاته من ذلك لا يُمكن تداركه؛ لأنَّها وقعَت بقدَرِ الله تعالى، وإن كان هناك تفريط فيمكن التخلُّص منها بقدرِ الله أيضًا، ولا يصح اليَأْس من التخلُّص منها، ولا ترك العمل على إزالتها. ((لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا)): (لو) شرطيَّة، وشرطُها مَحذوف تقديره: لو ثبَت أنِّي فعلتُ كذا، "أن" وما بعدها في تأويل مصدر فاعل "ثبَت"، ((كان)) جواب الشرط تامَّة، ((كذا)) فاعلها مبنِي، ((كذا)) - الثانية - معطوف عليه. [1] رواه مسلم (2664)، وابن ماجه (79) وغيرهما. [2] مصنف عبدالرزاق (11/ 336)، معمر بن رشد في جامعه (1311)، وانظر البداية والنهاية 5/ 248، وقال ابن كثير: إسناده صحيح، والترغيب والترهيب؛ للمنذري 1/ 410 (716). |
#14
|
||||
|
||||
![]() توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (14) د. عمر بن محمد عمر عبدالرحمن الحديث الرابع عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يَأرِز بين المسجدين، كما تَأْرِزُ الحيَّة في جحرها))[1]. توجيهات وتحقيقات الحديث: قد يقال: كيف بدأ الإسلام غريبًا؟ وكيف سيعود غريبًا كما بدأ؟! الجواب: قيل: إن معناه أنه نشأ غريبًا في مكة؛ حيث عاداه جمهور أهلها؛ فنشأ ضعيفًا بينهم، وسيعود في النهاية إلى ضعفه كما بدأ، ويؤيِّده قول النبي صلى الله عليه وسلم بعده: ((وهو يَأرِز بين المسجدين، كما تَأْرِزُ الحيَّة في جحرها)). وذهب الشيخ العلامة/ محمد مصطفي المراغي - شيخ الجامع الأزهر، رحمه الله - في مقدمته لكتاب "حياة محمد" للأستاذ محمد حسين هيكل، إلى أن معنى الحديث: أن الإسلام ظهر بين قوم غرباء عنه - وهم أهل المدينة - بعد الهجرة إليهم، ونصرهم له، وأنه سيعود في النهاية إلى الظهور بين قوم غرباء عنه، يهديهم الله تعالى إليه. ا.هـ. ولا شكَّ أن هذا المعنى - الذي ذهب إليه العلامة المراغي - يبعث الآن الأمل في عودة الإسلام إلى قوته بعد ما أدركه من ضعف، ولا يُوقِعُ في اليأس من هذا كما يوقع فيه المعنى الأول، ولكنه يبعده قوله صلى الله عليه وسلم: ((وهو يَأرِز بين المسجدين، كما تَأْرِزُ الحيَّة في جحرها))، وفي رواية: ((إن الإيمانَ ليَأْرِزُ إلى المدينة، كما تَأْرِزُ الحيَّة إلى جُحرها))[2]. وقد يحمل الحديث على ما حدث عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من ارتداد العرب عن الإسلام، فقد ارتدَّ جمهورهم عنه، ولم يبقَ على الإسلام إلا أهل المدينة وأهل مكة، فعاد الإسلام غريبًا بهذا بين العرب كما بدأ، إلى أن حاربهم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه في خلافته، وأعادهم إلى الإسلام كما كانوا، ثم ما كان من فتحهم الممالك، وإظهارهم الإسلام في الخافقين، إلى أن أدركهم الضعف بتفرقهم وانحرافهم عن دينهم، ولا مانع من أن يعودوا إلى مثل ما كانوا عليه من القوة، ويعود الإسلام إلى ما كان عليه من الظهور. ((إن الإسلام بدأ غريبًا)): أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم الجملة للاهتمام بالخبر؛ لغرابته بعد ما كان من ظهور الإسلام حين الإخبار به، ومن الناس من يكونُ قد نسي هذا بعد طول الزمن عليه. ((وسيعود غريبًا كما بدأ)): "يعود" فعل مضارع يعمل عمل كان الناقصة، واسمه ضمير مُستتر يعود إلى الإسلام، "غريبًا" خبره، و"الكاف" جارة، و"ما" مصدرية، وهي وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، والجار والمجرور صفة لمحذوف والتقدير: عودًا كائنًا كالبدء. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((وسيعودُ)) آثر النبيُّ صلى الله عليه وسلم السينَ على "سوف"؛ للإشارة إلى قرب زمن عودته إلى غربته، وهذا يؤيِّدُ حَمْلَ الحديث على ما حدث عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من ارتدادِ العرب عن الإسلام. ((وهو يأرز)): وصَلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بما قبله؛ للتوسط بين الكمالين، لاتفاقهما في الخبرية لفظًا ومعنًى، ولوجود الجامع وهو الاتفاق في المسند إليه. ((بين المسجدين)): "أل" للعهد العلمي، والمرادُ بهما مسجد مكة ومسجد المدينة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. ((كما تأرز الحيةُ في جحرها)): تشبيه تمثيلي، شبه هيئةَ الإسلام في تجمعه في المدينة ومكة بعد انتشاره منهما بهيئة تجمع الحيَّة في جُحرها بعد انتشارها منه، بجامع الانتشار والتجمع فيهما. تتمة: جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء))[3]. قوله صلى الله عليه وسلم: ((فطوبى للغرباء)): "طوبى" مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به أنه صفة لموصوف محذوف؛ أي: حياة طيبة، وقيل: عَلَم على شجرة في الجنة، "للغرباء" خبرُه. "طوبى" وزنها فُعْلى - بضم الفاء، وأصلها طُيْبَى - بضم الطاء، فقلبت الياء واوًا لوقوعها بعد ضمة، وإنما كان أصلُها طِيبَى؛ لأنها مِن طاب يَطِيب. وجملة "فطوبى للغرباء": خبرية لفظًا إنشائية معنًى، لأنه يراد منها الدعاء. [1] رواه الإمام مسلم (146). [2] رواه الإمام مسلم (147). [3] رواه الإمام مسلم (145). |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|