|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() أهمية العلم وقيمته في الإسلام قيمة العلم باتت الحقيقة الأولى التي ظهرت في الأرض عند نزول جبريل لأوَّل مرَّة على رسول الله أن هذا الدين الجديد (الإسلام) دينٌ يقوم على العلم ويرفض الضلالات والأوهام جملةً وتفصيلاً؛ حيث نزل الوحي أوَّل ما نزل بخمس آيات تتحدَّث حول قضية واحدة تقريبًا، وهي قضية العلم، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]. ![]() ن هذا النزول الأوَّل بهذه الكيفيَّة ليُعَدُّ عجيبًا؛ وذلك من عِدَّة وجوه: فهو عجيب لأن الله قد اختار موضوعًا معيَّنًا من آلاف المواضيع التي يتضمَّنها القرآن الكريم وبدأ به، مع أن الرسول الذي يتنزل عليه القرآن أُمِّيٌ لا يقرأ ولا يكتب، فكان واضحًا أن هذا الموضوع الأوَّل هو مِفتاح فَهْمِ هذا الدِّين، ومفتاح فهم هذه الدنيا، بل وفهم الآخرة التي سيئول إليها الناس كلهم. ثم هو عجيب كذلك لأنه نزل يتحدَّث عن قضية ما اهتم بها العرب كثيرًا في تلك الآونة، بل كانت الخرافات والأباطيل هي التي تحكم حياتهم من أوَّلها إلى آخرها، فكانوا يفتقرون إلى العلم في كل المجالات، اللهم إلا في مجال البلاغة والشعر، فكان هذا هو الميدان الذي تفوَّق فيه العرب وبرعوا، ولذلك نزل القرآن -وهو الأعجب- يتحدَّاهم في هذا الذي برعوا فيه، معلنًا لهم أنه ينادي بالعلم والتفوُّق فيه في كل الجوانب، بما فيها تلك التي يجيدونها. الإسلام والعلم يعد ظهور الإسلام بمنزلة ثورة علميَّة حقيقيَّة في بيئة ما أَلِفَتْ رُوح العلم وما تعوَّدت عليه، لدرجة أن المرحلة السابقة لنزول أولى كلمات القرآن صارت تُعْرَف باسم (الجاهلية)! فصفة الجهل ترتبط بما هو قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام ليبدأ العلم، ولِتُنَار الدنيا بنور الهداية الربانيَّة، فقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْـجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [ المائدة: 50]. فليس هناك مكانٌ في هذا الدين للجهل أو الظنِّ أو الشكِّ أو الرِّيبَة. القرآن والعلم ![]() لم تكن البداية فقط في هذا الكتاب المعجز (القرآن) هي التي تتحدَّث عن العلم وقيمته وأهميته في قوله سبحانه: {اقرأ}، بل كان هذا منهجًا ثابتًا في هذا الدستور الخالد، فلا تكاد تخلو سورة من سوره من الحديث عن العلم، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. و المفاجأة الكبرى عند بإحصاء عدد المرات التي جاءت فيها كلمة (العلم) بمشتقاتها المختلفة في كتاب الله ؛ تجد-بلا مبالغة- قد بلغت 779 مرَّة، أي بمعدَّل سبع مرَّاتٍ -تقريبًا- في كل سورة! وهذا عن كلمة (العلم) بمادَّتها الثلاثية (ع ل م)، إلا أن هناك كلمات أخرى كثيرة تشير إلى معنى العلم ولكن لم تُذكر بلفظه؛ وذلك مثل: اليقين، والهدى، والعقل، والفكر، والنظر، والحكمة، والفقه، والبرهان، والدليل، والحجة، والآية، والبينة، وغير ذلك من معانٍ تندرج تحت معنى العلم وتحثُّ عليه. أمّا السُّنَّة النبويَّة فإحصاء هذه الكلمة فيها يكاد يكون مستحيلاً. بل إن الملاحظ أن اهتمام القرآن بقضيَّة العلم لم يتبدَّ في أولى لحظات نزوله فقط، وإنما كان ذلك منذ بداية خلق الإنسان نفسه، كما حكى ذلك القرآن الكريم في آياته؛ فالله خلق آدم وجعله خليفة في الأرض، وأمر الملائكة أن تسجد له، وكرَّمه وعظَّمه ورفعه، ثم ذكر لنا وللملائكة سبب هذا التكريم والتعظيم والرِّفعة، فعيَّن أنه (العلم)؛ يقول تعالى في تقرير ذلك: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْـمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْـمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْـمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْـحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَـمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْـمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 30-34]. ومن هنا لم يكن الأمر من باب المبالغة حين أشار الرسول في حديثه إلى أن الدنيا بكاملها لا قيمة لها -بل هي ملعونة- إلا إذا ازدانت بالعلم وذِكْر الله ، فقد قال رسول الله : "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ: ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالاَهُ، أَوْ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا"[1]. وقد كان لذلك كله أثر بعيد المدى في الدولة الإسلاميَّة بعد ذلك، حيث ولَّد نشاطًا علميًّا واسعًا في مختلَف ميادين العلم والمعرفة، نشاطًا لم يعهد له التاريخ مثيلاً، ممَّا جعله يحقِّق ازدهارًا حضاريًّا عظيمًا على أيدي علماء المسلمين، ويمدُّ التراث الإنساني بذخيرة علميَّة رائعة، يظلّ العالم بأسره مدينًا لها. |
#2
|
||||
|
||||
![]() تشجيع الإسلام على العلم مظاهر حرص الإسلام على طلب العلم لقد كان العلماء قبل الإسلام منعزلين عن العامَّة، وكانت الفجوة بينهما كبيرة، فالعلماء في فارس أو في روما أو عند اليونان كانوا يعيشون في عزلة تامَّة، تقوم بينهم المناظرات والنقاشات، ويتوارثون العلم فيما بينهم، بينما تعيش العامَّة في جهل مُطبِق، وبُعدٍ تامٍّ عن أي صورة من صور العلم، لكن الإسلام كان شيئًا آخر. فقد جاء رسول الله ليقول بالحرف الواحد: "طَلَبُ الْعِلْـمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"[1]. لتصبح القضية واجبًا دينيًّا، وقضيَّة شعبيَّة مفروضة على الجميع؛ إذ يجب أن يطلب الجميعُ العلمَ، ليصبحوا جميعًا متعلِّمين، لم يُستثنَ من ذلك رجل أو امرأة. ![]() وقام رسول الله بالتطبيق العملي لهذا المنهج عندما وافق أن يُطلِق سراح أسرى غزوة بَدْر في نظير أن يقوم كل منهم بتعليم عشرة من أهل المدينة المنورة القراءة والكتابة، فكان هذا فكرًا حضاريًّا لم يكن معروفًا البتَّة في العالم في ذلك الوقت، ولا حتى بعد ذلك الوقت بقرونٍ. وقد أمر الإسلام أتباعه في ذلك بأن يجعلوا قضية العلم قضية أساسيَّة في حياتهم، وأمرهم أن يرفعوا من قدر العلماء، إلى الدرجة التي قال فيها رسول الله : "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْـمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْـجَنَّةِ، وَإِنَّ الْـمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْـمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالْـحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْـمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْـمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" مظاهر الحركة العلمية في الإسلام ولقد استمرَّت هذه الحركة العلميَّة الشعبيَّة بعد وفاة الرسول ، فظهرت آثارها ومظاهرها الرائعة، والتي كانت تُعَدُّ أحلامًا بالنسبة للأوربيين. ونكتفي هنا بذكر ثلاثة مظاهر لهذه الحركة العلميَّة الشعبيَّة التي أَسَّس لها الإسلام: 1- المكتبات العامة: فانطلاقًا من هذا الحثِّ وذاك التشجيع الذي بات من صميم الدين، أسَّس المسلمون المكتبات العامَّة المفتوحة لعموم الناس، فكانوا يقرءون فيها بالمجَّان، وينسخون ما يريدون من صفحات العلم المختلفة، بل وكان كبار الخلفاء والأمراء يستضيفون في هذه المكتبات طلاَّب العلم من البلاد المختلفة، ويُنْفِقون عليهم من أموالهم الخاصَّة. وقد وُجِدَتْ هذه المكتبات بكثرة في كل مدن العالم الإسلامي[3]، ولعلَّ من أشهرها مكتبات: بغداد، وقرطبة، وإشبيلية، والقاهرة، والقدس، ودمشق، وطرابلس، والمدينة، وصنعاء، وفاس، والقيروان. 2- ظهور مجالس العلم الضخمة: فقَبْلَ الإسلام لم يكن هناك من يتكلَّم من العلماء مع عامَّة الناس، أمَّا بعد ظهور هذا الدين العظيم فقد انتشرت حلقات العلم في كل ربوع العالم الإسلامي، وكانت تصل في بعض الأحيان إلى أرقام غير متخيَّلة؛ فمجلس ابن الجوزي[4] مثلاً كان يحضره أكثر من مائة ألف إنسان! كلهم من عامَّة الشعب، وكذلك مجالس الحسن البصري، وأَحمد بن حنبل، والشافعي، وأبي حنيفة، والإمام مالك، بل وكان هناك أحيانًا في داخل كل مسجد أكثر من حلقة علم في وقت واحد؛ فهذه في تفسير القرآن، وهذه للفقه، وأخرى للحديث النبوي، ورابعة للعقيدة، وخامسة لدراسة الطبِّ، وهكذا. 3- اعتبار أن الإنفاق على العلم صدقة وقربة إلى الله : وهذا جعل الموسرين من أبناء الأُمَّة يُنْفِقون أموالهم على بناء المدارس ودور العلم، بل ويُوقفون الأوقاف الكثيرة لرعاية طلاَّب العلم، وبناء المكتبات، وتطوير المدارس، فصار هذا الإنفاق على العلم بابًا من أبواب الخير لرجال الاقتصاد كذلك، وليس لرجال العلم فقط. وهكذا كانت قضية العلم عامَّة، تهم وتخص الجميع؛ حيث طلب العلم واجب وفريضة على كل مسلم، ومِن ثَمَّ انتشرت المكتبات وكثرت مجالس وحلق العلم، وانمحت الأمية أو كادت. |
#3
|
|||
|
|||
![]()
جزاكم الله خيرا وجعله في ميزان حسناتكم
|
#4
|
|||
|
|||
![]()
بارك الله فيك استاذنا الكريم
__________________
|
#5
|
|||
|
|||
![]()
الهم اسالك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا
![]() |
#6
|
||||
|
||||
![]() شرفت بمروركم أساتذتى الأفاضل
جزاكم الله خيرا و بارك الله فيك |
#7
|
||||
|
||||
![]() الإسلام وعلوم الحياة ![]() الانفصام بين علوم شرع وعلوم الحياة لا يخفى على أحد ذلك الخلل الكبير في المستوى العلمي لكثير من المسلمين، وأحيانًا يكون الخلل عند الملتزمين بتعاليم الدين، علمًا بأن مستوى هؤلاء الملتزمين في العلوم الشرعية غالبًا ما يكون على درجة طيبة جدًّا. مما يعكس اهتمامًا بالجانب الشرعي، وتغليبه -إلى حدٍ كبيرٍ- على الجانب الحياتي في قضايا العلوم والتعليم. وهذا الفصل في الاهتمام بين علوم الشرع وعلوم الحياة أمرٌ غريبٌ على الشريعة الإسلامية، ودخيل على أمتنا، وهو أمر جد خطير؛ لأنه كما لا يصلح بناء الأمة الإسلامية بغير العلوم الشرعية، فكذلك لا يصلح بناء الأمة الإسلامية بدون العلوم الحياتية، والفصل بينهما - لا شك - يؤخر المسيرة، بل يكاد يوقفها، وما عرِفَتِ الأمة الإسلامية السيادة والقوة والمجد والصدارة إلا وكانت علومها الحياتية قوية وسابقة، وما عرفت الأمة الإسلامية الضعف والتأخر والتخلف إلا وكانت علومها الحياتية ضعيفة ومهملة. والتاريخ خير شاهد على ذلك، وفي أكثر من موضع. إذن.. لماذا حدث هذا الفصام غير المفهوم؟!! على ما يبدو فإن القضية في الأساس هي قضية فَهْم. وإن كان للأعداء تخطيطهم وتدبيرهم، إلا أن العيب ينبع أساسًا من داخلنا. فعلى مدار السنوات الماضية اختل فهم المسلمين -سواء بفعل فاعلٍ خارجي أو داخلي- لمعنى كلمـة "العلم النافع"، فصاروا يقصرونها على العلوم الشرعية فقط، مع أن الأدلة متواترة على عكس ذلك. والأمر هذا كان مترتبًا على فهم أن ساحة التقرب إلى الله تعالى محصورة فقط في الشعائر التعبدية المحضة، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، أما ساحة الدنيا وعمرانها وإصلاحها وتسخير إمكانياتها، فقد ابتعدت عن تلك التي أُريد بها وجه الله سبحانه. ففي العقود الأخيرة التي مرت بأمتنا نظر كثير من المسلمين إلى العلوم الحياتية نظرة إهمال، بل نظرة ازدراء وتنقيص، وساعد على هذا الفهم الخاطئ بعض العلماء الذين قسَّموا العلوم إلى علوم دينية وعلوم دنيوية، فغدت علوم الطب والهندسة والكيمياء، وما على شاكلتها علومًا دنيوية، بينما علوم الشريعة من فقه وتفسير وعقيدة وغيرها هي العلوم الدينية أو الأخروية!! وهكذا فإن المسلم الملتزم سرعان ما يشعر بحرجٍ شديد وهو يدرس هذا العلم الدنيوي؛ إذ أنه ينصرف بذلك -فيما يعتقد- عن علوم الآخرة، وهذا يعني عنده أنه سيترك شيئًا من أمور "الدين" إلى شيء من أمور الدنيا!! لماذا علوم الحياة؟! والدنيا بصفة عامة مذمومة في الكتاب والسنة، وما أكثر الآيات والأحاديث التي جاءت تحث المسلمين على الزهد فيها، وعدم الاكتراث بها ولا بحجمها. والأمر في ذلك أكثر من أن يُحصى، ويكفي للدلالة عليه أن نورد قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]. ويقول سبحانه أيضًا منقصًا من شأنها وقدرها: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]. وروى المستورد الفهري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما مَثَلُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَثَلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي اليمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ" [1]. كذلك روى سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ" [2]. ونتيجة لربط هذه العلوم الطبيعية والحياتية بالدنيا، نظر الملتزمون إليها على أنها مما يُبعد عن الدين الإسلامي، وأن الاشتغال بها أمرٌ مذموم، وأن الدارس للهندسة -مثلاً- والكيمياء وعلوم الذرة، هو رجلٌ نسي دينه واهتم بدنياه!! والحق أن هذه كلها أباطيل ما أنزل الله بها من سلطان؛ فعلوم الطب والهندسة وغيرها هي طرقٌ واضحة من طرق الجنة إذا صلحت النوايا وأخلصت لله تعالى، وهي علوم "أخروية" إذا ابتغى بها العبد ثواب الآخرة، وهي علوم "دينية" إذا أردا بها المسلم نصرة دينه ورفعة أمته. والواقع كذلك أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تُجَّارًا وزُرَّاعًا وصُنَّاعًا، وقبلهم أنبياء الله عليهم السلام، كلٌ كان له حرفة وصناعة بجانب مهمته الأساسية، فكان آدم حراثًا، وكان داود حدادًا، وكان نوح نجارًا، وكان إدريس خياطًا، وكان موسى راعيًا، وكان زكريا نجارًا. فلم يقعد بهم انشغالهم بالآخرة والعمل لها وتعليم علومها عن العمل للدنيا وتعميرها وتسخيرها وتعليم علومها.. بل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نظر إلى رجلٍ ذي سيما (هيئة حسنة) قال: أله حرفة؟ فإن قيل لا سقط من عينه [3]!! ثم ماذا يعني قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ" [4]؟! لماذا يغرسها وهي من نفع الدنيا، فضلاً عن أنه لن يستفيد منها دنيويًّا أصلاً؟! والذي يُفهم من ذلك كله هو -كما يُعبر الدكتور عبد الباقي عبد الكبير [5]- أنه في سعْينا لقضاء حوائجنا والقيام بمسؤولية عمران الأرض ووظيفة الاستخلاف فيها بنية خالصة، سعْيٌ لإرضاء لله عز وجل. بل إن في سعْينا لعمران الأرض، وتعليم علومها، والوقوف على ثغراتها التنموية، وإخراج المجتمع من عوْز الحاجة، كلٌ في مجاله وحسب إمكانياته وقدراته الوظيفية. هو في الأساس سعيٌ لإعلاء كلمة الله تعالى ورفع راية الإسلام [6]. وعليه، وإذا كانت القضية في الأساس -كما رأينا- قضية فَهم وسوء فقه. فإننا نود القيام من ركائز ومنطلقات صلبة وقويمة، هي من أساس ديننا ومن صلب معتقداتنا. وفي بداية هذا الطريق فلا أحبذ أبدًا إطلاق لفظ علوم "دنيوية" على هذه العلوم، وإنما يمكن أن نطلق عليها "علوم الحياة". فهي علوم أراد الله تعالى لنا أن نتعلمها لنصلح بها حياتنا على الأرض. والحياة بصفة عامة ليست مذمومة كالدنيا، بل هي نعمة من الله تعالى. وانظر إلى قوله سبحانه وهو يربط بين مراعاة أحكام الشرع وبين الحياة الطيبة حين يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. وهكذا، فتكون علوم "الحياة" من هذا المنظور، والتي تعني شيئًا عظيمًا علويًّا، أرقى وأعظم من علوم "الدنيا"، والتي تعني الدونية والسفلية. ويوضح هذا المعنى وذاك المراد قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. وعلى هذا النهج تسير كثير من الآيات والأحاديث.. مما يعطي ثراءً ملحوظًا لكلمة الحياة. هل يعقل أن يُهمل المسلمون علوم الحياة؟! ثم لنقف وقفة نحاور فيها ونناقش أولئك الذين صرفوا جل وقتهم واهتماماتهم لعلوم الشريعة، ولم يشاءوا أن يصرفوا قدرًا من جهدهم وفكرهم ومالهم ووقتهم لعلوم الحياة. ونجيب معهم على سؤال مهم مفاده: هل يعقل أن يُهمل المسلمون علوم الحياة؟؟ وفي معرض الجواب بالنفي الصريح على هذا السؤال، نقدم هذه الأدلة وتلك البراهين القطعية على نُبل هذه العلوم إذا ما وجهت لخير الأرض، ونفع البشرية، ورفعة هذا الدين، وعزة هذه الأمة. الدليل الأول: هل نسي الإنسان أن الله تعالى قد جعله "خليفة" في الأرض؟! وحين تكون الإجابة قطعًا بالنفي، فلنتفكر معًا: كيف يمكن أن يُستخلف الإنسان في الأرض وهو لا يعلم شيئًا عن علومها؟! فالحقيقة التي لا مراء فيها أن الذي يُستخلف في الأرض يجب أن يعرف ربه، وأن يعرف كيف يعبده، ثم لابد له أن يعلم طبيعة المكان الذي استخلف فيه، وكيف يمكن استغلاله لعبادة الله رب العالمين، قال تعالى:{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[هود:61]. فمن شروط الاستخلاف، ومن واجباته الأساسية، أن يعرف الإنسان كيف "يَعْمُر" الأرض، وكيف يكشف كنوزها ويستفيد من ثرواتها. وكيف يُسخِّر كل ما يمكن أن تصلح به "الحياة" على وجه هذه الأرض. ولما خلق الله آدم عليه السلام، وعظمه ورفع قدره، وأسجد الملائكة له. لم يكن ذلك إلا بالعلم الذي أتاه إياه، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]. والسؤال إذن: ما هذا العلم الذي علمه الله آدم عليه السلام، وبه تفوق على الملائكة؟ لقد علَّمه الله تعالى فيما يروي ابن عباس رضي الله عنهما أسماء كل شيء: الجبل، والشجر، والبحر، والنخلة، وأسماء الناس والدواب [7]. أي أن الله تعالى علمه العلوم "الطبيعية" التي سيحتاج إليها للحياة فوق الأرض وعمارتها، أما الملائكة فهي لا تعلم هذه الأسماء وتلك العلوم؛ لأنها لن تستخلف على الأرض، ومن ثم فهي ليست في حاجة إليها. والواضح أنه لو علَّم الله تعالى آدم عليه السلام العبادة بمفهومها المقتصر على الصلاة والصيام والذكر والدعاء، لتفوقت الملائكة على آدم عليه السلام في هذا المجال، وما كان هناك داعٍ أن يُستخلف الإنسان في الأرض، بل يعيش في السماء كما تعيش الملائكة، يفعل أفعالهم، ويكتفي بعلومهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]. فلم يكن علْمُ آدم عليه السلام علمًا شرعيًّا فقط، وإنما كان علمًا حياتيًّا كذلك، وعليه فإن الإنسان إذا أهمل العلوم الطبيعية أو علوم "الحياة"، فإنه بذلك يُهمل أهم مقومات استخلافه على الأرض، وهذا لا يجوز في حق مسلم واع، يفهم دينه، ويدرك طبيعة استخلافه على الأرض. الدليل الثاني: هل اكتملت علوم الحياة؟ أكمل الله تعالى العلوم الشرعية قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وليس هناك وحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فستبقى العلوم الشرعية كأصول كما هي. نعم قد يجتهد علماء الشرع في بعض الأمور بحسب المتغيرات والمستجدات في البيئة والزمان والمكان، ولكن تبقى الأصول ثابتة موجودة في القرآن والسنة. هذا بالنسبة للعلوم الشرعية. أما بالنسبة لعلوم الحياة، فإن الأمر يختلف؛ إذ أنها علوم لم تكتمل بعد، ولن تكتمل أبدًا، ففي كل يوم يمر علينا يُكشف لنا كشفٌ جديد في هذه العلوم، وعلم اليوم في الطب -مثلاً- يختلف عما سيكون عليه غدًا، وهما غير ما كانا عليه بالأمس وهكذا. فعلوم الحياة في تطور وتغير مستمر، وما يُعَدُّ اليوم حقيقة علمية، قد يُكتَشف غدًا أنه وهم لا أصل له، أو أن هناك ما يتخطاه ويتعداه، وما أكثر المعتقدات العلمية التي ظلت موروثة لمئات السنين، ولم تتغير إلا منذ سنوات قلائل بعد اكتشاف خطئها. يقول تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]. فالآية نزلت بصيغة المستقبل، وستظل تُقرأ إلى يوم القيامة بصيغة المستقبل، وسيظل المستقبل إلى يوم القيامة يحمل جديدًا في علوم الحياة، سواء كان في الكون (في الآفاق)، أو في الإنسان (وفي أنفسهم). والعمل الدءوب في هذا المجال مطلوب ومهم، وإلا سبق الركب، وتعذَّر اللحاق! الدليل الثالث: حاجة علوم الشرع لعلوم الحياة هناك الكثير من القضايا الشرعية والفقهية لا يستطيع فقهاء المسلمين أن يقطعوا فيها برأيٍ صائبٍ، يبين الحل أو الحرمة فيها إلا بالاستعانة بعلماء مسلمين في مجال العلوم الحياتية، يكونون مهرة في مهنتهم، أكفاء في تخصصهم. فإذا أخذنا علم الاقتصاد والتجارة -على سبيل المثال- كنموذج للدراسة، فهل يستطيع فقيهٌ مسلم غير متخصص أن يستنبط آراء فقهية صائبة في كل المعاملات الاقتصادية والتجارية؟! هل يستطيع أن يقطع بحل أو حرمة في قضية من قضايا التجارة وعلم الاقتصاد دون أن يكون على إحاطة تامة بأوجه المعاملات والمضاربات التي تتم في البنوك والبورصة والشركات والأسواق وغيرها؟! بالقطع الإجابة هي النفي، خاصة وأن العلوم قد تشعبت كثيرًا، حتى أصبح داخل كل علم علومٌ أخرى كثيرة تتفرع منه وتنبثق عنه، ولكل فرعٍ من هذه العلوم متخصصون وباحثون ودارسون. ثم وعلى فرض إمكانية أن يُدلي الفقيه بدلوه في مثل هذه القضايا ودون الرجوع إلى متخصصين فيه -وهو مستحيل وغير جائز- فما الحال إذا وجدنا مخالفة شرعية في مثل هذه العلوم؟ كيف يمكن إصلاحها وأسلمتها وفق المنهج الإسلامي؟! وكيف يمكننا أن نتعامل مع الأنظمة الاقتصادية العالمية المحيطة على ما بها من مخالفات، دون الوقوع في مخالفة شرعية؟! ألا نحتاج في ذلك كله إلى اقتصادي متخصص؟! ألا نحتاج إلى من يدرس الاقتصاد بكل تفريعاته وعلومه، ويُلمُّ بكل تفصيلاته ودقائقه، ثم هو يدرس الفقه الإسلامي الخاص بالاقتصاد والتجارة، ثم يبدأ في صياغة الاقتصاد الإسلامي بالصورة التي تتناسب والعصر الذي نعيش فيه، ودون الوقوع في أدنى مخالفة شرعية؟! ونستطيع أن نستشهد في ذلك بمثال واقعي في مجال الحقوق والقوانين، فقد كان الشهيد القاضي عبد القادر عودة من خريجي كلية الحقوق، وقد ألَّف كتابه "التشريع الجنائي الإسلامي"، والذي استطاع أن يُقدِّم فيه دراسة فقهية حول التشريع الجنائي في الإسلام وفلسفته ومقارنته مع القانون الوضعي، كما استطاع أن يُثبت بالأدلة والبراهين والحجج الدامغة محاسن الشريعة الإسلامية وتفوقها على القوانين الوضعية، مع سبقها إلى تقرير كل المبادئ الإنسانية والنظريات العلمية والاجتماعية التي لم يعرفها العالم، والتي لم يهتد إليها العلماء إلا مؤخرًا. ألا تحتاج الأمة في حياتها إلى مثل ذلك؟!! أليست هذه ثغرةً إسلامية تحتاج إلى من يسدها ويقف عليها؟! ثم أليس من يقوم بذلك يكون مأجورًا من الله تعالى على علمه وعمله هذا؟! وهل يعتقد المسلمون المعظمون لدينهم أنهم لن يأثموا بترك هذا المجال وليس فيه متخصصون؟! ألا يعتقد المسلمون أن دراسة الاقتصاد من هذا المنظور هو طريق مباشر من طرق الجنة؟! والحقيقة أن الإجابة في ذلك لا تخفى على ذي عقل وصاحب لُبّ، وليكن في خلد الجميع أنه لن يقوم هذا الدين حقًا إلا بمبدعين في شتى مجالات وعلوم الحياة!! وفي علم الطب -كنموذج ثانٍ للدراسة- نستطيع أن نقف أيضًا على نفس ما وقفنا عليه في علم الاقتصاد، من حاجة فقيه اليوم الماسة إلى طبيب مسلم متخصص، يساعده في تقرير فتواه فيما له علاقة ببعض جوانب الطب. إذ كيف سيدلي عالمٌ شرعيٌ في قضايا دقيقة لها علاقة قوية بالطب، دون الاستعانة بطبيب مسلمٍ ماهر، يستطيع أن يشرح بدقة طبيعة الأمر في النقطة التي يحتاجها الفقيه؟!! وكيف لنا أن نعرف حُكم الشرع في القضايا المستجدة وثيقة الصلة بالطب؟ كيف لنا أن نعرف حكم الشرع -مثلاً- في قضايا مثل "الاستنساخ" أو "زرع الأعضاء" أو "عمليات التجميل"، أو "أطفال الأنابيب" أو التداوي بما قد يتخلله مُحرَّم، وغيرها؟! كل هذه الأمور وغيرها مما يستجد في حياتنا اليومية، نحتاج فيها -ولا شك- إلى أطباء مهرة في تخصصهم، ثم هم يدرسون في الشرع ما يختص بالفرع الذي يتقنونه، وبذلك يمتلكون القدرة على الإدلاء برأي صائب، يوافق بين رأي الطب ورأي الشرع. أفلا يكون الطب من هذا المنظور طريقًا إلى الجنة؟! وهل يعذر المسلمون إذا لم يخرجوا لأمتهم أطباء يوضحون لهم هذه الأمور، ويبينوه للفقهاء، فيتمكنوا من الإفتاء بالحلال أو الحرام فيما يتعلق بهذه المسائل؟! فهذا -ولا ريب- بابٌ لابد من أن يتفوق فيه المسلمون، ليقيموا بذلك دينهم، وليطبِّقوه كما أراد الله تعالى. ومن هذا المنطلق فهذه العلوم جميعًا، سواء أكانت علوم اقتصاد أو علوم سياسة أو علوم طب أو هندسـة، أو غيرها ممن هي على شاكلتها، وتنفع الأمة وتصلح الحياة للإنسان على الأرض. هي كلها علوم أُخروية، بشرط توفر النية الصالحة، والإخلاص لله عز وجل. الدليل الرابع: حاجة الإسلام إلى التفوق في علوم الحياة هل من مصلحة الدعوة أن يكون حاملوها في ذيل أهل التخصص؟! سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، أو حتى على مستوى الأمة ككل؟! وبصورة أوضح، إذا كان الطالب المسلم الملتزم بدينه غير متفوق في دراسته، ولم يكن سابقًا في علومه بين أقرانه، هل سيكون قدوة بين الطلاب، ومن ثم يقلدونه في منهج حياته، ويتبعونه في دعوته؟! وهل سيطمئن الآباء على أبنائهم في صحبتهم له؟! إن من أخطر الأمور أن يتميز طالبٌ أو متخصصٌ بسمتٍ إسلامي ودعوي ظاهرٍ، ثم تخاله في مجال دراسته أو في تخصصه، أو حتى في مهنته -تخاله قليل العلم، أو ضعيف المستوي، أو بطيء الأداء، فهذه -ولا شك- دعوة سلبية، وهي دعوة إلى ترك هذا الدين الذي يلتزمه هذا المتأخر وذاك الضعيف، وذلك إما من أجل الخوف من أن يماثله في تأخره وضعفه، أو خوفًا من أن تتعطل أو تتعثر مسيرة العلوم.. وقد قال العلماء في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85]، قالوا: إن معنى الدعاء في هذه الآية: أن لا تجعل الكافرين أعلى من المؤمنين وأعظم؛ فيفتن الكافرون بذلك، ويقولوا: لو كان هؤلاء على الحق ما نُصِرنا عليهم، ولو كانوا على الحق ما كانوا أضعف منا وأهون [8]. ولقد سمعت واحدًا من الأميركيين أسلم حديثًا يحمد الله أنه قرأ عن الإسلام واقتنع به قبل أن يرى حال المسلمين، وإلا لكانت فرصة إسلامه ضعيفة، والسبب أنه ربما لم تكن ستواتيه فرصة الاقتناع بهذا الدين الذي لا يدفع أصحابه -كما يعبر حالهم- إلى العلم والتقدم والعمل. لكنه -بفضل الله- كان قد قرأ عن الإسلام قبل أن يرى المسلمين، وعلم أنه يدعو إلى العمل ويحث على العلم ويحض على الفضيلة والمعاني الجميلة، وإعمار الأرض. وعلم أيضًا أن هؤلاء المسلمين الذين يراهم لا يمثلون حقيقة الدين الإسلامي، بل هم مخالفون لمبادئه، بعيدون عن تطبيق قوانينه. والأمر في النهاية لا يخرج عن أن يكون فتنة؛ فكم من البشر صُدُّوا عن سبيل الله برؤية تأخر المسلمين هذا وبمعاينة تخلفهم وضعفهم؟!! أفلا يدعو كل ذلك المسلمين إلى النبوغ في مجالات العلوم الحياتية، تمامًا كما ينبغون في العلوم الشرعية؟! إن هذا -والله- لهو الحق الذي لا ريب فيه. الدليل الخامس: الإسلام يدعو على التفكير والإبداع الإسلام بصفة عامة يحث على تكوين العقلية العلمية الموضوعية، التي تبني أفكارها على الاستدلال والاستنباط، وينكر تمامًا ذلك التقليد الأعمى، الذي لا يُنظر فيه إلى حجة، ولا يُهتم فيه بمنطق ولا برهان. فتراه سبحانه ينكر على الكفار تبعيتهم العمياء لآبائهم فيقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. وترى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر على المسلم أن يكون هملا إمعة لا رأي له ولا قرار، فيقول في الحديث الذي رواه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه: "لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً؛ تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ؛ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا" [9]. بل إن الله تعالى قد طلب البرهان من الكفار على كفرهم هذا وعنادهم فقال: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]. وقال أيضًا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]. وقد عرض ربنا سبحانه وتعالى كل القضايا بمنطق الحجة والبرهان والدليل، فقال في إثبات وحدانيته سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]. وقال في موضع آخر: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]. وقال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[لقمان:11]. وفي قضية البعث يقول سبحانه معدِّدًا الأدلة والبراهين والحجج العقلية: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 78 - 81]. وهكذا، فالإسلام يحث على استخدام العقل، وعلى التفكير الناضج، والفقه الواعي، بل إنه يعد الإنسان الذي عطَّل عقله أشبه بالحيوان، أو أحط قيمة منه!! قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. فالإسلام إذن دينٌ يدعو إلى إعمال العقل، وتحريره من قيود التقليد والجمود والمحاكاة، وأن يطلق له العنان لأداء وظيفته وفق ضوابط معينة وأطر خاصة. وعليه فإن الذي يُعطِّل عقله عن العمل والتفكير والإبداع، يكون قد خالف المنهج الإسلامي مخالفة جسيمة، وأضرّ بنفسه، ثم بأمته من بعده. آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 20-01-2016 الساعة 12:24 AM |
#8
|
||||
|
||||
![]() الحضارة الإسلامية وتقدير العلماء بمراجعة التاريخ الإسلامي نجد أن عهود القوة فيه كانت مرهونة دائمًا ومرتبطة تمام الارتباط بالتفوق في العلوم الشرعية والعلوم الحياتية معًا. كما أنه لم يكن في هذا التاريخ أيٌّ من مظاهر اضطهاد العلماء، كما كان الحال عند الأوربيين. لكن .. لماذا يقال هذا الكلام ولماذا يراد تطبيقه على الدين الإسلامي؟ هل كان ثمة صراعٌ قد حدث بين علماء الدين والشريعة وبين علماء الحياة؟! هل حُورب علماء الطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء والسلاح والجغرافيا؟ أم كُرِّموا وقُدِّموا على غيرهم؟! لقد كان اتصاف المسلم بفضيلة العلم بشتى أنواعه كافيًا لتقديمه على غيره، ورفعه إلى مصافّ رجال الأمة وصُنَّاعها المبجلين، والمقربين إلى الخاصة وإلى العامة على حد سواء. عباس بن فرناس لقد كان عباس بن فرناس [1] من علماء المسلمين الأفاضل في الأندلس، وهو صاحب سبقٍ في اختراعات كثيرة، لعل أشهرها أنه أول من قام بمحاولة للطيران في التاريخ. ولهذا التفوق العلمي قرَّبه الخلفاء وعظموا قدره. ولحاله هذا، ولِما وصل إليه من شهرة وحظوة لدى الأمراء، فقد كان له حسَّاد يتربصون به، وقد راحوا يتهمونه بالسحر والشعوذة، وأنه يقوم بأشياء غريبة وعجيبة في منزله، أو في معمله الاختباري إن صح التعبير، وذلك لأنه كان يشتغل بالكيمياء، وكان ينتج عن ذلك انبعاث أدخنة وتطاير أبخرة من منزله. وقد استُدعي للمحاكمة في قرطبة -وكان الخليفة في ذلك الوقت هو عبد الرحمن بن هشام الأموي- وقيل له في ذلك أنك تفعل كذا وكذا، وتخلط أشياء بأشياء، وتقوم بغرائب وعجائب لم نعهدها، فقال في رده عليهم: أترون أني لو عجنت الدقيق بالماء فصيرته عجينًا، ثم أنضجت العجين خبزًا على النار، أأكون قد صنعت سحرًا؟ قالوا: لا؛ بل هذا مما علم الله الإنسان. فقال: وهذا ما أشتغل به في داري، أمزج الشيء بالشيء، وأستعين بالنار على ما أمزج، فيأتي مما أمزج شيء فيه منفعة للمسلمين وأحوالهم [2]. وكانوا قد أرادوا شاهدًا على صحة الدعوى، فكان الشاهد هو عبد الرحمن بن هشام، الخليفة الأموي نفسه. وفي المحكمة وحين سمع الأقوال راح يُدلي بشهادته فقال: أشهد أنه قال لي أنه يفعل كذا وكذا (يريد أن كل هذه الأشياء يعملها ولها أصول عنده)، وقد صنع ما أنبأني به، فلم أجد فيه إلا منفعة للمسلمين، ولو علمت أنه سحر لكنت أول من حدّه!! لقد أتوا بقائد الدولة وخليفة المسلمين إلى المحكمة ليشهد، ثم هو يشهد بالحق ولصالح العالِم، فكان أن حكم القاضي والفقهاء ببراءة ابن فرناس، وأثنوا عليه وحثوه على أن يستزيد من عمله وتجاربه، وحُفظت له بذلك مكانته [3]. الحسن بن الهيثم والأمثلة على توقير العلماء، وإنزالهم منزلتهم، وحفظ مكانتهم وقدرهم هي أكثر من أن تُحصى، ولعل ما يمكن أن نذكره هنا ما كان من حال عالم البصريات الأبرز في تاريخ الحضارة الإسلامية، الحسن بن الهيثم [4]، فقد كان أمراء عصره في كل أقطار العالم الإسلامي شغوفين بالعلم ورعاية العلماء والاهتمام بهم، الأمر الذي جعله يتنقل بحرية تامة في ربوع العالم الإسلامي بين مراكز الحضارة الإسلامية فيه، ينهل منها جميعها. وكان للحاكم بأمر الله (الأمير العبيدي الفاطمي، ت411هـ) دوره المهم في تنمية علم المهندس البصري الحسن بن الهيثم، وذلك بعد أن سمع عنه وذاع صيته في البصرة، وخاصة لما علم قوله: "لو كنت بمصر لعملت فِي نيلها عملاً يحصل بِهِ النفع فِي كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عالٍ، وهو فِي طرف الإقليم المصري". كان من أمر الحاكم بأمر الله أن دعا الحسن بن الهيثم للمجيء إلى مصر، على أن يُساعده ويقدم العون له والمال، للقيام بمشروع السد الذي يتحكم في مياه النيل كما قال. وما أن جاء ابن الهيثم إلى مصر، حتى استقبله الحاكم بأمر الله في قصر الضيافة الملكي، وأمر بإنزاله وإكرامه، ثم سرعان ما تناقشا في أمر السد، وكان أن اقترح عليه الأمير أن يبدأ فيه. ولما وصل ابن الهيثم إلى أرض الواقع، والموضع المعروف بالجنادل، قبلي مدينة أسوان، وهو موضع مرتفع ينحدر منه ماء النيل، عاينه وباشره واختبره من جانبيه، وجد أن ما يبغيه هو فوق جهد الناس في أيامه، فتراجع معتذرًا عن فكرته. فابن الهيثم حين وصل إلى منطقة الجنادل جنوبي مصر (وهو نفس مكان السد العالي المقام حاليًّا) وعاين المكان، اكتشف استحالة تنفيذ فكرته في زمانه بوسائل وإمكانات عصره، فرجع إلى القاهرة معترفًا بفشله في تنفيذ فكرته بإقامة سد علي النيل يختزن المياه من أيام الفيضان لتروى أرض مصر في أيام التحاريق. والشاهد في ذلك مدى اهتمام الأمير العبيدي الفاطمي بالعلماء، ومدى توقيره لهم، والذي ظهر من خلال دعوته لابن الهيثم للمجيء إلى مصر، ثم حسن استقباله له وإكرامه، ولم يكن ذلك إلا لعلم ابن الهيثم رحمه الله. الخوارزمي ويذكر التاريخ أيضًا أن الخوارزمي [5] انتقل من بلدته خوارزم (وكانت مركزًا من مراكز الثقافة الإسلامية) إلى بغداد عاصمة الخلافة، حيث "بيت الحكمة" ذلك المجمع العلمي الكبير الذي أقامه الخليفة هارون الرشيد، والذي بنى المأمون بجواره مرصدًا فلكيًّا. ولأن الخوارزمي كان بارزًا في علوم الفلك والجغرافيا، فقد اتصل بالخليفة المأمون، لما عرف عنه من حبٍ للعلم والعلماء، وخاصة وأن المأمون كان بارعًا في هذين المجالين من العلوم. وسرعان ما أحاطه المأمون بعناية خاصة وتكريم كبير، فولاه منصبًا كبيرًا في بيت الحكمة، ثم أوفده في بعض البعثات العلمية إلى البلاد المجاورة، للاتصال بعلماء هذه المناطق، والاستزادة من علوم الآخرين، ونشر العلم في أرجاء الدولة الإسلامية. اهتمام المأمون بالعلم وفي سياق الحديث عن مرصد المأمون، فقد كان اهتمام المأمون بعلم الفلك غالبًا على اهتمامه بمجالات العلوم الأخرى، ولذلك أمر العلماء أن يقيموا مرصدًا فلكيًّا لقياس الكواكب ومعرفة أحوالها. وقد تحدث صاعد الأندلسي عن اهتمام المأمون بعلم الفلك وجهوده في ذلك، فقال: "ولما أفضت الخلافة إلى عبد الله المأمون، وطمحت نفسه الفاضلة إلى إدراك الحكمة، وسمت به همته الشريفة إلى الإشراف على علوم الفلسفة، ووقف علماء وقته على كتاب المجسطي (لبطليموس)، وفهموا صورة آلات الرصد الموصوفة فيه ..، جمع المأمون علماء عصره من أقطار مملكته، وأمرهم أن يصنعوا مثل تلك الأدوات، وأن يقيسوا بها الكواكب ويتعرفوا بها أحوالها، كما صنع بطليموس ومن كان قبله، ففعلوا ذلك وتولوا الرصد بمدينة الشماسية من بلاد دمشق من أرض الشام، سنة أربع عشرة ومائتين، فوقفوا على زمن سنة الشمس الرصدية، ومقدار ميلها وخروج مركزها ووضع أوجهها، وعرفوا مع ذلك بعض أحوال باقي الكواكب من السيارة والثابتة، ثم قطع بهم عن استيفاء غرضهم موت الخليفة المأمون سنة ثماني عشرة ومائتين (833م)، فقيدوا ما انتهوا إليه، وسموه "المرصد المأموني" [6]. منح الجوائز للعلماء وفي طور اهتمام الخلفاء بالعلم والعلماء، فقد كانوا يمنحون من الجوائز العظيمة والهبات الجزيلة التي تشجع على تحصيل هذه العلوم بصورة هي أقرب إلى الخيال، وبصورة أكثر من غيرها في أي مجال آخر. فكان المأمون أيضًا إذا ترجم عالِمٌ من العلماء كتابًا من لغة غير العربية إلى اللغة العربية أعطاه وزن هذا الكتاب المترجَم ذهبًا، وبالطبع فليس في هذه العلوم المترجمة صلة بعلوم الشرع، إنما كانت من علوم اليونان أو الرومان أو الإغريق أو الهند، مما هي في الطب والرياضيات والهندسة وغيرها من علوم الحياة [7]. ولذلك فقد نشطت حركة الترجمة كثيرًا في ذلك الوقت، وعلى إثرها نُقل إلى المسلمين علوم هائلة، فاستطاعوا أن يقيموا أروع حضارة عرفتها البشرية في تاريخها. الترجمة في عصر المأمون وعصرنا وبهذه المناسبة والحديث عن الترجمة، فإننا نُعرّج قليلا على حركة الترجمة في البلاد الإسلامية في عصرنا هذا، لنقارنه بما كانت عليه الحياة العلمية والحضارة الإسلامية بصفة عامة في عصر الخليفة المأمون. فإن الإحصائيات الحديثة تشير إلى أن العالم العربي يُترجِم ثلاثة كتب سنويًّا لكل مائة ألف مواطن، بينما وعلى الجانب الآخر، فإن دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) وحدها -على سبيل المثال- تترجم مائة كتاب سنويًّا لكل مائة ألف مواطن!! وهذا يوقفنا بعض الشيء على حقيقة الوضع العلمي المتردي الذي نعيشه الآن!! وفي هذا الشأن أيضًا أرسل المنصور والمأمون والمتوكل الرُّسلَ إلى القسطنطينية وغيرها من المدن البيزنطية لاجتلاب الكتب اليونانية التي أهملها أصحابها -على حد تعبير علي بن عبد الله الدفاع في روائع الحضارة العربية والإسلامية- ولم يعرفوا قيمتها. فكان خلفاء المسلمين يرسلون أحيانا العلماء إلى أعدائهم أباطرة الروم ليشتروا منهم الكتب العلمية اليونانية، كما أن خلفاء الدولة الأموية والدولة العباسية كانوا يقبلون المخطوطات والكتب العلمية من أساقفة النصارى والصابئة والمجوس وغيرهم بدلا من دفع الجزية[8]!! أبلغ تكريمٌ للعلم والعلماء، وأبلغ رسالة في الحرص عليه، والتشجيع له .. ذلك الذي كان بقوم به الخلفاء المسلمون؟! والحديث في هذه الأمثلة لا ينقطع، ولم تكن هذه الأحداث عابرة في حياة الأمة الإسلامية، إنما كانت متكررة عبر قرون متتالية، مما يؤكد على أنها لم تكن من قبيل المصادفة، أو نتيجة وجود خليفة معين أو حاكم بذاته يهتم بالعلوم. فلقد كانت هذه العلوم سمة أصيلة من أهم سمات ومقومات الدولة الإسلامية في شتى مراحلها. وهو ما حدا بجامعات مثل قرطبة وإشبيلية وغرناطة وطليطلة في الأندلس، لأن تفتح أبوابها للراغبين في العلم من كل أنحاء أوربا، إذ لم يكن هناك جوٌ علمي، ولا بيئة علمية إلا في هذه البقاع المسلمة. ويقول سارتون: "حقق المسلمون -عباقرة الشرق- أعظم المآثر في القرون الوسطى، فكتبت معظم المؤلفات قيمة وأكثرها أصالة وأغزرها مادة باللغة العربية، وكانت من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأي كائن إذا أراد أن يلم بثقافة عصره وبأحدث صورها أن يتعلم اللغة العربية، ولقد فعل ذلك كثيرون من غير المتكلمين بها، وأعتقد أننا لسنا في حاجة أن نبين منجزات المسلمين العلمية في الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك والكيمياء والنبات والطب والجغرافيا" [9]. ولنا أن نتساءل بعد: لماذا يهرب كثيرٌ من المسلمين من القضايا العلمية الآن؟ ولماذا يُتَّهم الإسلام بالتخلف والجمود؟ ولماذا يُعلّق كثيرٌ من المتشائمين والعلمانيين الغربيين على أن هذه القواعد التي ذكرنا هي قواعد نظرية، لا مجال لها للتطبيق في مجال الحياة، وفي واقع الناس؟ ولماذا يرسخون في اعتقادنا أن الدين عكس العلم وأنه يضاده ويتنافى معه؟ وأن الإنسان إذا أراد أن يكون عالمًا حقًا، فعليه أولاً أن يتخلص من قيود الدين؟! ألا يثبت ذلك التشجيع المكثف على العلم، وذاك الحرص الشديد عليه الذي رأيناه من قِبل الخلفاء المسلمين على مدى عصورهم، وتلك المكانة السامقة والرفيعة للعلم والعلماء في الإسلام بصفة عامة، وعلى مدى تاريخهم الحضاري بصفة خاصة، ألا يثبت ذلك أنه تشجيعٌ عملي واقعي، قابلٌ للتطبيق والتكرار؟! {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53]. |
#9
|
|||
|
|||
![]()
جزاك الله خيرا
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() جزاك الله خيرا أساذنا أبو اسراء و بارك الله فيك
|
#11
|
||||
|
||||
![]() المنهج التجريبي في الحضارة الإسلامية ![]() دور علماء المسلمين في اكتشاف المنهج التجريبي يُعَدُّ التوصُّل إلى المنهج العلمي التجريبي الرصين في البحث، والقائم على القياس والاستقراء، والمستند إلى المشاهدة والتجربة - إضافةً إسلاميَّة مهمة لمسيرة العلم في العالم. وهو منهج مخالف تمامًا لما كان عليه اليونانيون أو الهنود أو غيرهم؛ فهذه الحضارات كانت تكتفي في كثير من الأحيان بافتراض النظريات دون محاولة إثباتها عمليًّا، فكانت في أغلبها فلسفات نظريَّة، لا تطبيق لها في الكثير من الأحايين، حتى وإن كانت صحيحة، وكان يؤدِّي هذا إلى الخلط الشديد بين النظريات الصحيحة والباطلة، إلا أن جاء المسلمون فابتكروا الأسلوب التجريبي في تناولهم للمعطيات العلمية والكونية من حولهم، وهو ما أدَّى إلى تأسيس قواعد المنهج العلمي التجريبي، الذي ما زال العلم المعاصر يسير على هَدْيِه. وقد أدَّى تطبيق المسلمين للمنهج التجريبي على النظريات السابقة، ودون اعتبار إلى اسم صاحب النظرية مهما كان مشهورًا، أدَّى إلى اكتشاف الكثير من الأخطاء التي توارثها العلماء على مدار قرون متتالية. فلم يكن العلماء المسلمون يكتفون بنقد النظريات السابقة واختبارها، ولكن كانوا كثيرًا ما يفترضون الافتراضات الجديدة، ثم يختبرونها حتى يتحوَّل الافتراض إلى نظرية -إذا أُثبت قربه من الحقيقة- ثم يختبرون النظريَّة حتى يثبت لهم في النهاية أنها أصبحت حقيقة وليست نظريَّة، وفي سبيل هذا كانوا يُجْرُون الكثير من التجارِب دون ملل. نماذج لعلماء المسلمين اعتمدوا على المنهج التجريبي ومن العلماء المسلمين الذين كان لهم باع طويل في هذا المجال جابر بن حيان، والخوارزمي، والرازي والحسن بن الهيثم، وابن النفيس، وغيرهم كثير. جابر بن حيان فهذا جابر بن حيان شيخ الكيميائيين يقول: "ومِلاك كمال هذه الصنعة العمل والتجرِبة؛ فمَنْ لم يعمل ولم يجرِّب لم يظفر بشيء أبدًا". وفي كتاب (الخواصّ الكبير) المقالة الأولى يقول: "إننا نذكر في هذه الكتب خواصَّ ما رأيناه فقط دون ما سمعناه، أو قيل لنا وقرأناه، بعد أن امتحنَّاه وجرَّبناه، فما صحَّ أوردناه، وما بَطَل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضًا قايسناه على أحوال هؤلاء القوم". ولذلك يُعَد جابر أوَّل مَنْ أدخل التجربة العلميَّة المخبريَّة في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده، وكان أحيانًا ما يُسمِّي التجرِبة بالتدريب، فكان يقول: "فمَنْ كان دَرِبًا كان عالمًا حقًّا، ومن لم يكن دَرِبًا لم يكن عالمًا، وحسبُك بالدُّرْبَة في جميع الصنائع أن الصانع الدَّرِب يحذق، وغير الدَّرِب يعطل"!! وعليه يكون جابر قد قطع خطوة أبعد مما قطع علماء اليونان قبله في وضع التجرِبة أساس العمل لا اعتمادًا على التأمُّل الساكن. يقول قدري طوقان: يمتاز جابر على غيره من العلماء بكونه في مقدِّمة الذين عملوا التجارِب على أساس علمي، وهو الأساس الذي نسير عليه الآن في المعامل والمختبرات؛ إذ دعا إلى الاهتمام بالتجرِبة وحثَّ على إجرائها مع دقَّة الملاحظة، كما دعا إلى التأنِّي وترك العجلة، وقال: إن واجب المشتغل في الكيمياء هو العمل وإجراء التجربة، وإن المعرفة لا تحصل إلاَّ بها. الرازي ولعل الرازي يكون هو أول طبيب في العالم يستخدم هذا المنهج التجريبي، وذلك من خلال إجراء تجاربه على الحيوانات، وخاصةً القرود، لاختبار طرق العلاج الجديدة قبل أن يُجْرِيَها على الإنسان، وهو منهج علمي رائع لم يُقِرَّه العالَم إلاَّ منذ فترة وجيزة؛ ففي منهجه الذي سار عليه تراه يقول: "عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة مع النظريَّة السائدة يجب قبول الواقعة، حتى وإن أخذ الجميع بالنظريات السائدة تأييدًا لمشاهير العلماء"! فهو يقرِّر أن الجميع قد ينبهر بآراء العلماء المشهورين الكبار، ويتوقَّف عند نظرياتهم، إلاَّ أن التجرِبة أحيانًا ما تتعارض مع النظرية، فهنا يجب علينا رفض النظرية -وإن كانت لمشاهير العلماء- وقَبول التجرِبة والواقعة، والبدء في تحليلها والاستفادة منها. ابن الهيثم وبسبب المنهج التجريبي أيضًا حفلت كتب ابن الهيثم بانتقادات كثيرة لنظريات إقليدس وبطليموس، مع علوِّ قدرهما العلمي، ويتَّضح منهج ابن الهيثم العلمي إجمالاً من مقدِّمة كتابه (المناظر)، فقد بيَّن فيه بإيجاز الطريقة التي هداه تفكيره إلى أنها الطريقة المثلى في البحث، والتي اتَّبعها في بحوثه، يقول ابن الهيثم: "... ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفُّح أحوال المبصرات، وتمييز خواصِّ الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخصُّ البصر في حال الإبصار، وما هو مطَّرد لا يتغيَّر، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدِّمات والتحفُّظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفَّحه استعمال العدل لا اتِّباع الهوى، ونتحرَّى في سائر ما نميِّزه وننتقده طلب الحقِّ لا الميل مع الآراء". فابن الهيثم أخذ في بحوثه بالاستقراء والقياس، واعتنى في البعض منها بالتمثيل، وهي عناصر البحوث العلميَّة العصريَّة، وابن الهيثم -كواحد من علماء المسلمين الذين أسَّسوا للمنهج التجريبي- لم يسبق فرنسيس بيكون إلى طريقته الاستقرائيَّة فحسب، بل سما عليه سموًّا كبيرًا، وكان أوسع منه أفقًا وأعمق تفكيرًا، وإن لم يَعْنِ كما عَنِيَ بيكون بالتفلسف النظري. ويذهب الأستاذ مصطفى نظيف إلى أكثر من هذا فيقول: "بل وإن ابن الهيثم قد عمَّق تفكيره إلى ما هو أبعد غورًا بما يظن أول وهلة، فأدرك ما قال من بعد (ماك) و(كارل بيرسون) وغيرهما من فلاسفة العلم المحدَثِين في القرن العشرين، وأدرك الوضع الصحيح للنظريَّة العلميَّة، وأدرك وظيفتها الحقَّة بالمعنى الحديث". بل إن بعض علماء المسلمين اعتبر الكتابة غير دقيقة إن لم تسبقها تجارِب، فقال الجلدكي أحد أعلام الكيمياء من علماء القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) عن الطغرائي(ت 513هـ) الكيميائي المعروف: "كان الطغرائي رجلاً على جانب عظيم من الذكاء، ولكنه لم يعمل إلاَّ قليلاً من التجارِب، وهذا أمر يجعل كتاباته غير دقيقة". وهكذا يكون المسلمون قد توصَّلوا إلى المنهج العلمي التجريبي، والذي من خلاله تعلَّمت البشريَّة كيف تصل إلى الحقيقة العلميَّة بثقةٍ واقتدار، بعيدًا عن الظنون والأوهام والأهواء. |
#12
|
|||
|
|||
![]()
جزاكم الله خيرا
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
![]()
بارك الله فيك
|
#14
|
||||
|
||||
![]() جزانا الله و اياك أستاذنا الفاضل أبو اسراء
جزاك الله خيرا وبارك الله فيك |
#15
|
||||
|
||||
![]() بارك الله فيك أستاذنا الفاضل عبد الرازق العربى
شكرا لحضرتك على مرورك العطر جزاك الله خيرا وبارك الله فيك |
![]() |
العلامات المرجعية |
الكلمات الدلالية (Tags) |
المنهج التجريبى ، اسلام, الاسلام دين العلم, البحث العلمى، اسلام, الترجمة فى الاسلام, التعدين فى الاسلام, العلم فى الاسلام, د/ راغب السرجانى, قصة العلوم ، اسلام |
|
|