#1
|
||||
|
||||
![]()
فضيلة الشيخ الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني - استاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة
الحمد لله رب العالمين ، إله الأولين والآخرين ، هو الصمد الواحد ، العزيز الماجد ، المتفرد بالتوحيد ، والمنفرد بالتمجيد ، الذي لا تبلغه صفات العبيد ، ليس له مثيل ولا نديد ، وهو سبحانه وتعالي المبدئ المعيد ، فعال لما يريد ، جل عن اتخاذ الصاحبة والولد ، خلق الكون ولم يكن معه أحد ، تقدس عن الشبيه والنظير ، ليست له عثرة تقال ، ولا تضرب له الأمثال ، لم يزل بصفاته أولا قديرا ، ولا يزال بخلقه عالما خبيرا ، ( وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (يونس:61) ( وَقَال الذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُل بَلي وَرَبِّي لتَأْتِيَنَّكُمْ عَالمِ الغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (سبأ:3) . ربنا تبار وتعالي خلق كل شيء دون كلل ولا تعب ، ولا مسه لُغُوبٌ ولا نصب ، خلق الأشياء بقدرته ، ودبرها بمشيئته ، وقهرها بجبروته ، وذللها بعزته ، فذل لعظمته المستكبرون ، وخضع لربوبيته الخلائق أجمعون ، وقال أهل الحق لما آذاهم المبتدعون ( وَمَا لنَا أَلا نَتَوَكَّل على اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلنَا وَلنَصْبِرَنَّ على مَا آذَيْتُمُونَا وَعلى اللهِ فَليَتَوَكَّل المُتَوَكِّلُونَ ) ، فنحمده كما حمد نفسه ، وكما حمده الحامدون ، ونستعينه به استعانة من فوض الأمر إليه ، وأقر أنه لا منجي ولا ملجأ منه إلا إليه ، ونستغفره استغفار من أقر له بذنبه ، واعترف لربه بخطئه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا بوحدانيته ، وإخلاصا لربوبيته ، وأنه العالم بما خبئ في الضمائر ، وما تنطوي عليه السرائر ( اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَي وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد:8) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ونبيه وأمينه ، وصفيه وخليله ، أرسله إلي خلقه بالنور الساطع ، والسراج اللامع ، والحجج الظاهرة ، والآيات الباهرة ، والأعاجيب القاهرة ، فبلّغ رسالة ربه ، ونصح لأمته ، وجاهد في الله حق جهاده ، حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين ، وعلى أصحابه المنتخبين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين ، عرَّفنا الله به شرائع الأحكام ، فبين لنا الحلال والحرام ، حتى أنار الله به الظلام وأشرقت الأرض بنور الإسلام ، جاءنا بكتاب عزيز ( لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ تنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) جمع فيه علم الأولين والآخرين ، وأكمل به الفرائض والدين ، فهو صراط الله المستقيم ، وحبل الله المتين ، فمن تمسك به نجا ، ومن خالفه ضل وغوي ، وحثنا الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، فقال الله عز وجل : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) (الحشر:7) ، وقال تعالى : ( فَليَحْذَرِ الذِينَ يُخَالفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَليم ٌ) (النور:63) أما بعد .. علمنا مما سبق أن الجهم بن صفوان أضل خلقا كثيرا من أتباعه الجهمية ، وقدم عقله على الأدلة القرآنية ، والأحاديث النبوية عندما أجاب السمنية بجهله إجابة خاطئة كاذبة ، وزعم أن الله بذاته في كل مكان ، وأنه لا صفة له حتى لا يشبه الإنسان ، ثم نظر هذا الجهم المفتون إلي القرآن ، فما تصور أنه يوافق مذهبه جعله دليلا وبرهان ، وما خالفه صرح برده ونفية من القرآن ، وظهرت بدعة أسستها للجهم وسوسة الشيطان . وقد تبع الجهم على قوله وفكره رجل يقال له واصل بن عطاء وآخر يقال له عمرو بن عبيد وإليهما ينسب مذهب الاعتزال ، فالمُعْتَزِلة أتباع واصل بن عطاء الغزال وعمرو بن عبيد ، واصل بن عطاء الغزال ( 80ه - 131هـ) كان تلميذ الحسن البصري ، وكان مفوها بليغا ، على الرغم من كونه كان عاجزا عن النطق ببعض الحروف ، فكان ينطق الراء غينا ، مثلا كلمة : شراب بارد ، شغاب باغد ، ومن عجيب ما كان من واصل ، أنه كان يخلص كلامه وينقيه من حرف الراء ، لقدرته العجيبة على الكلام ، حتى قال أحد الشعراء يمدحه ، بإطالة الحديث واجتنابه حرف الراء ، على الرغم من كثرة ورودها في الكلام ، كان واصل يتجنبها كأنها ليست فيه فقال هذا الشاعر وهو على عقيدته الاعتزالية : عليم بإبدال الحروف وقامع : لكل خطيب يقلب الحق باطله ، وقال آخر : ويجعل البر قمحا في تصرفه : وخالف الراء حتى احتال للشعر ولم يُطِقْ مطرا والقَولُ يَعْجُلُه : فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر . وكان هؤلاء المعتزلة يدعون الزهد والصلاح ، والنصح والإصلاح ، وكان لهم صلة بالحكام في الدولة العباسية ، دخل عمرو بن عبيد يوما على أبي جعفر المنصور أيام خلافته ، وكان أبو جعفر صاحبه وصديقه قبل الخلافة ، وله معه مجالس وأخبار ، فقربه المنصور وأجلسه ، ثم قال له عظني يا عمرو ، فقال له كلاما كثيرا جاء في بعضه : ( إن هذا الأمر الذي أصبح في يدك ، لو بقي في يد غيرك ممن كان قبلك ، لم يصل إليك ، فأحذرك ليلة تتمخض بيوم لا ليلة بعده ، فلما أراد عمرو النهوض والخروج من القصر ، قال أبو جعفر المنصور قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم ، قال عمرو بن عبيد لا حاجة لي فيها ، قال : والله لتأخذها ؟ قال : والله لا آخذها ، وكان المهدي ابن المنصور حاضرا ، فقال : يحلف عليك أمير المؤمنين ، وتحلف أنت بغير ما أراد ، فالتفت عمرو بن عبيد إلي المنصور ، وقال : من هذا الفتي ؟ قال : هذا المهدي ولدي وولي عهدي ، فقال عمرو : أما إنك ألبسته لباسا ما هو من لباس الأبرار ؟ وسميته باسم ما استحقه ، ومهدت له أمرا ، هو أشغل ما يكون عنه ، ثم التفت عمرو بن عبيد إلي المهدي ، وقال : نعم يا ابن أخي إذا حلف أبوك أحنثه عمك ، لأن أباك أقوي على الكفارات من عمك ؟ فقال له المنصور : هل من حاجة ، قال : لا تبعث إلي حتى آتيك ، قال : إذا لا تلقني ، قال : هي حاجتي ، ومضي عمرو بن عبيد ، فأتبعه المنصور بطرفه وقال : كلكم يمشي رويد ، كلكم يطلب صيد ، غير عمرو بن عبيد ، فهذه الصحبة والصداقة التي كانت بين قواد المعتزلة وبين الخلفاء والأمراء بني العباس ، أثارت حفيظة الخلفاء في الأخذ بمشورتهم والعمل بنصيحتهم . |
العلامات المرجعية |
|
|