|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#16
|
||||
|
||||
![]() المطلب الرابع الكمال البشري لا شكّ أن البشر يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً كبيراً في الخَلْق والخُلُق ، والمواهب ، فمن البشر القبيح والجميل وبين ذلك ، ومنهم الأعمى والأعور والمبصر بعينه ، والمبصرون يتفاوتون في جمال عيونهم وفي قوة أبصارهم ، ومنهم الأصم والسميع وبين ذلك ، ومنهم ساقط المروءة ، ومنهم ذو المروءة والهمة العالية .ولا شكّ أن الأنبياء والرسل يمثلون الكمال الإنساني في أرقى صوره ، ذلك أنّ الله اختارهم واصطفاهم لنفسه ، فلا بدّ أن يختار أطهر البشر قلوباً ، وأزكاهم أخلاقاً ، وأجودهم قريحة ، ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] . والكمال البشري يتحقق فيما يأتي : 1- الكمال في الخلقة الظاهرة : لقد حذرنا الله تعلى من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى ، ( يا أيَّها الَّذين آمنوا لا تكونوا كالَّذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا وكان عند الله وجيهاً ) [ الأحزاب : 69 ] . وقد بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن إيذاء بني إسرائيل لموسى كان باتهامهم إياه بعيب خلقي في جسده ، ففي صحيح البخاري (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ موسى كان رجلاً حيياً ستَّيراً لا يرى من جلده شيء استحياءً منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يستتر هذا التستر إلاّ من عيب بجلده (2) : إما برص ، وإمّا أُدْرة (3) ، وإمّا آفة ، وإنّ الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى ، فخلا يوماً وحده ، فوضع ثيابه على الحجر ، ثمّ اغتسل ، فلمّا فرغ ، أقبل إلى ثيابه ليأخذها ، وإنّ الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملا من بني إسرائيل فرأوه عرياناً ، أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر ، فأخذ بثوبه فلبسه ، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه ، فوالله إنّ بالحجر لندباً من أثر ضربه ، ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً ، فذلك قوله : ( يا أيَّها الَّذين آمنوا لا تكونوا كالَّذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا وكان عند الله وجيهاً ) [ الأحزاب : 69 ] . قال ابن حجر العسقلاني معقباً على الحديث : " وفيه أن الأنبياء في خَلقهم وخُلُقهم، على غاية الكمال ، وأن من نسب نبيّاً إلى نقص في خلقته فقد آذاه ، ويخشى على فاعله الكفر " (4) . الصور الظاهرة مختلفة : ليس معنى كون الرسل أكمل الناس أجساماً أنهم على صفة واحدة صورة واحدة ، فالكمال الذي يدهش ويعجـب متنوع وذلك من بديع صنع الواحد الأحد وكمال قدرته . وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأنبياء والرسل ، يقول صلى الله عليه وسلم : (( ليلة أسري بي رأيت موسى ، وإذا هو رجل ضَرْبٌ من الرجال ، كأنه من رجال شَنوءة )) (5) . وقال في عيسى : " ورأيت عيسى ، فإذا هو رجل ربعة أحمر ، كأنما خرج من ديماس " (6) . وقال فيه أيضاً : " ليس بيني وبينه نبيٌّ ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، رجل مربوع ، إلى الحمرة والبياض ، ينزل بين ممصرتين ، كأن رأسه يقطر ، وإن لم يصبه بلل " (7) . وقد وصف لنا الصحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قولهم : " كان ربعة من القوم ، ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير ، أزهر اللون ، ليس بالأبيض الأمهق ، ولا بالآدم ، ليس بجعد قَطِطٍ ، ولا سَبْطٍ رَجِلٍ " (8) ، وقالوا فيه : " كان أحسن الناس .. ربعة ، إلى الطول ما هو ، بعيد ما بين المنكبين ، أسيل الخدين ، شديد سواد الشعر ، أكحل العينين ، أهدب الأشفار ، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها ، ليس له أخمص ، إذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة " (9) . وكان الرسول أشبه الناس بنبي الله إبراهيم كما أخبرنا عليه السلام بذلك (10) . 2- الكمال في الأخلاق : لقد بلغ الأنبياء في هذا مبلغاً عظيماً ، وقد استحقوا أن يثني عليهم ربّ الكائنات فقد أثنى الله على خليله إبراهيم عليه السلام فقال : ( إنَّ إبراهيم لحليم أوَّاه مُّنيبٌ ) [هود : 75] . وقالت ابنة العبد الصالح تصف موسى : ( يا أبت استأجره إنَّ خير من استأجرت القويُّ الأمين ) [ القصص : 26 ] . وأثنى الله على إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد ، ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنَّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نَّبيَّاً ) [ مريم : 54 ] . وأثنى الله – جلّ جلاله ، وتقدست أسماؤه – على خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثناءً عطراً ، فقال : ( وإنَّك لعلى خلقٍ عظيمٍ ) [ القلم : 4 ] . فقد وصف الله – سبحانه – خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنّه عظيم ، وأكّد ذلك بثلاثة مؤكدات : أكّد ذلك بالإقسام عليه بنون والقلم وما يسطرون ، وتصديره بإنّ، وادخال اللام على الخبر . ومن خلقه الكريم صلى الله عليه وسلم الذي نوَّه الله به ما جبله عليه من الرحمة والرأفة ( لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رَّحيمٌ ) [ التوبة : 128 ] . وقد كان لهذه الأخلاق أثر كبير في هداية الناس وتربيتهم ، هذا صفوان ابن أميّة يقول : " والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض خلق الله إليّ ، فما زال يعطيني حتى إنّه من أحبِّ الناس إليّ " (11) . وفي صحيح مسلم عن أنس أنّ رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين فأعطاه إياه ، فأتى قومه فقال : أي قوم ، أسلموا ، فوالله إن محمداً ليعطي عطاءً ، ما يخاف الفقر " (12) . ولو لم يتصف الرسل بهذا الكمال الذي حباهم الله به لما انقاد الناس إليهم ، ذلك أن الناس لا ينقادون عن رضاً وطواعية لمن كثرت نقائصه ، وقلت فضائله . 3- خير الناس نسباً : الرسل ذوو أنساب كريمة ، فجميع الرسل بعد نوح من ذريته ، وجميع الرسل بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم ، قال تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريَّتهما النُّبوَّة والكتاب .. ) [ الحديد : 26 ] . ولذلك فإنّ الله – سبحانه – يصطفي لرسالته من كان خيار قومه في النسب ، وفي الحديث الذي يرويه البخاري ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً ، حتى كنت من القرن الذي كنت منه " (13) . وفي مسند أحمد وسنن الترمذي عن الرسول ، صلى الله عليه وسلم قال : (( أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إنّ الله – تعالى – خلق الخلق فجعلني في خيرهم ، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ، ثمّ جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ، ثمّ جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً ، وخيركم نفساً )) (14) . وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم )) (15) . 4- أحرار بعيدون عن الرق : ومن صفات الكمال أنّ الأنبياء لا يكونون أرقاء . يقول السفاريني في هذا : " الرق وصف نقص لا يليق بمقام النبوة ، والني يكون داعياً للناس آناء الليل وأطراف النهار ، والرقيق لا يتيسر له ذلك ، وأيضاً الرقّيَّة وصف نقص يأنف الناس ويستنكفون من اتباع من اتصف بها ، وأن يكون إماماً لهم وقدوة ، وهي أثر الكفـر ، والأنبياء منزهون عن ذلك " (16) (17) . 5- التفرد في المواهب والقدرات : الأنبياء أُعطوا العقول الراجحة ، والذكاء الفذ ، واللسان المبين ، والبديهة الحاضرة ، وغير ذلك من المواهب والقدرات التي لا بدّ منها لتحمل الرسالة ثم إبلاغها ومتابعة الذين تقبلوها بالتوجيه والتربية . لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ ما يُلقى إليه ولا ينسى منه كلمة ( سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] . وقد كانوا يعرضون دين الله للمعارضين ويفحمونهم في معرض الحجاج ، وفي هذا المجال أسكت إبراهيم خصمه ( فبهت الَّذي كفر والله لا يهدي القوم الظَّالمين ) [ البقرة : 258 ] ، وقال الله معقباً على محاججة إبراهيم لقومه : ( وتلك حجَّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ مَّن نَّشاء ) [ الأنعام : 83 ] . وموسى كان يجيب فرعون على البديهة حتى انقطع ، فانتقل إلى التهديد بالقوة ( قال فرعون وما ربُّ العالمين – قال ربُّ السَّماوات والأرض وما بينهما إن كنتم مُّوقنين – قال لمن حوله ألا تستمعون – قال ربُّكم وربُّ آبائكم الأوَّلين – قال إنَّ رسولكم الَّذي أرسل إليكم لمجنون – قال ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون – قال لئن اتَّخذت إلهاً غيري لأجعلنَّك من المسجونين ) [ الشعراء : 23-29 ] . 6- الكمال في تحقيق العبودية : بيّنا الكمال الذي حبا الله به رسله في صورهم الظاهرة ، وأخلاقهم الباطنة ، والمواهب والسجايا التي أعطاهم إياها في ذوات أنفسهم ، وهناك نوع آخر من الكمال وفق الله رسله وأنبياءه لتحصيله ، وهو تحقيق العبودية لله في أنفسهم . فكلّما كان الإنسان أكثر تحقيقاً للعبودية لله تعالى ، كلَّما كان أكثر رقيّاً في سلّم الكمال الإنساني ، وكلما ابتعد عن تحقيق العبودية لله كلما هبط وانحدر . والرسل حازوا السبق في هذا الميدان ، فقد كانت حياتهم انطلاقة جادة في تحقيق هذه العبودية ، وهذا خاتم الرسل وسيد المرسلين يثني عليه ربّه في أشرف المقامات بالعبودية ، فيصفه بها في مقام الوحي ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] ، وفي مقام إنزال الكتاب ( تبارك الَّذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ) [ الفرقان : 1 ] ، وفي مقام الدعوة ( وأنَّه لمَّا قام عبد الله يدعوه ) [ الجن : 19 ] ، وفي مقام الإسراء ( سبحان الَّذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الَّذي باركنا حوله .. ) [ الإسراء : 1 ] وبهذه العبودية التامة استحق صلوات الله وسلامه عليه التقديم على الناس في الدنيا والآخرة ، ولذلك فإن المسيح عليه السلام يقول للناس إذا طلبوا منه الشفاعة بعد طلبها من الرسل من قبله : " ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " (18) . وإليك صورة من صور هذه العبودية ترويها لنا أمّنا عائشة – رضي الله عنها – قالت رضي الله عنها وعن أبيها : " قلت : يا رسول الله ، كُلْ – جعلني الله فداك – متكئاً ، فإنّه أهون عليك ، فأحنى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض ، وقال : بل آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد " رواه البغوي في شرح السنة ، وابن سعد ، والإمام أحمد في الزهد (19) . 7- الذكورة : ومن الكمال الذي حباهم به أنه اختار جميع الرسل الذين أرسلهم من الرجال ، ولم يبعث الله رسولاً من النساء يدلُّ على ذلك صيغة الحصر التي وردت في قوله تعالى : ( وما أرسلنا قبلك إلاَّ رجالاً نُّوحي إليهم ) [ الأنبياء : 7 ] . الحكمة من كون الرسل رجالاً : كان الرسل من الرجال دون النساء لحكم يقتضيها المقام فمن ذلك : 1- أنّ الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة ، ومخاطبة الرجال والنساء ، ومقابلة الناس في السرّ والعلانية ، والتنقل في فجاج الأرض ، ومواجهة المكذبين ومحاججتهم ومخاصمتهم، وإعداد الجيوش وقيادتها ، والاصطلاء بنارها ، وكل هذا يناسب الرجال دون النساء . 2- الرسالة تقتضي قوامة الرسول على من يتابعه ، فهو في أتباعه الآمر الناهي ، وهو فيهم الحاكم والقاضي ، ولو كانت الموكلة بذلك امرأة لَمْ يتم ذلك لها على الوجه الأكمل ، ولا ستنكف أقوام من الاتباع والطاعة . 3- الذكورة أكمل كما بينا آنفاً ، ولذلك جعل الله القوامة للرجال على النساء ( الرجال قوَّامون على النساء ) [ النساء : 34 ] وأخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنّ النساء ناقصات عقل ودين . 4- المرأة يطرأ عليها ما يعطلها عن كثير من الوظائف والمهمات ، كالحيض والحمل والولادة والنفاس ، وتصاحب ذلك اضطرابات نفسية وآلام وأوجاع ، عدا ما يتطلبه الوليد من عناية ، وكل ذلك مانع من القيام بأعباء الرسالة وتكاليفها . -------------------------------- (1)رواه البخاري : 3404 ، ومسلم : 339 . (2) هذا يوحى بأن اغتسال بني إسرائيل عراة كان جائزاً في شريعتهم . (3) الأدرة بضم الهمزة وسكون الدال : انتفاخ الخصية . (4) فتح الباري : 6/438 . (5) أخرجه أحمد في ((المسند)) : 16/484 (10830) ، والبخاري : (3394) ، ومسلم بنحوه : (172) (178) ، وشنوءة حي من اليمن . وضَرْبٌ من الرجال : هو الخفيف اللحم الممشوق المستدق . (6) البخاري : 3394 ، والديماس : الحمام . (7) رواه أبو داود وأحمد ( انظر صحيح الجامع : 5/90 ) وقوله ( ممصرتين ) الممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة . راجع لسان العرب : (3/493) مادة مصر . (8) رواه البخاري : 3547 ، 3548 ، ومسلم : 2347 . (9) رواه البيهقي ، انظر صحيح الجامع : (4-199) . (10) صحيح البخاري : 3394 . (11) صحيح مسلم : 2313 . (12) صحيح مسلم : 2312 . (13) رواه البخاري : 3557 . (14) رواه أحمد والترمذي : ( صحيح الجامع : 2/22 ) . وقد حسنه الترمذي : 3607 . (15) صحيح مسلم : 2276 . (16) لوامع الأنوار البهية : ص2/265 . (17) قد يعترض على هذا بأن رسول الله يوسف باعه الذين استنقذوه من البئر وبذلك أصبح عبداً ، والإجابة على ذلك أن العبودية هنا كانت نوعاً من الابتلاء ، وإلاّ فهو حر وقع عليه الظلم ، ولم تستمر هذه العبودية طويلاً ، وأبدله الله بها ملكاً . (18) صحيح البخاري : 6565 . (19) انظر صحيح جامع الصغير : (1/122) . |
العلامات المرجعية |
|
|