#1
|
||||
|
||||
![]() في رحاب القرآن الكريم عامر بن عمران البرزنجي الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.. فهذه إطلالة سريعة على كتاب الله تعالى، وسياحة عاجلة في رحابه، تكشف عن بعض ما في هذا الكتاب ممَّا لا بد من معرفته؛ من كونه مشتملاً على صفة الله تعالى التي هي كلامه، ودلالة ذلك على سَعته وشموله، وعظيم مقاصده وأغراضه، ووَحدته الموضوعية والقصديَّة بألفاظه ومعانيه ومحتوياته، والإشارة فيها إلى بعض قواعد الفهم، وآلة التدبُّر، وما يترشَّح عنهما من العلوم والمعارف التي ضرورةُ العباد إليها فوق كل ضرورة، وممَّا بالخلق حاجةٌ إليه في كل عصر ومصر، وبعض ما في ذلك مما تدعو الحاجة إلى كشفه وبيانه. هذا، ولم نرُاعِ في موضوعنا هذا الترتيبَ والتنظيم على الطريقة الأكاديمية في البحوث والمطالب، ولكنه جاء هكذا أشْبَه ما يكون بخواطرَ وإشارات، ودلائلَ وعبارات، سِيقَتْ على شكل فقرات؛ كحَبَّات لؤلؤٍ تناثرَت من غير ترتيب ولا تنسيق، حَسْبُها أنها أُريدَ بها فقط التعريفُ بتلك المطالب أو الإشارةُ إليها على وجه السرعة والعُجالة، حتى تكون حاضرة في الأذهان والعقول، خاصة لمن يروم الوصول إلى بعض معارف الكتاب ومَقاصده، ويكون له حظٌّ في تدبُّرِه وفهمِه، وكشف حِكَمِه وسِرِّه. وأرجو أنها قد أَدَّتْ غرضها، وانتفع قارئُها، وأوصلَتْ له المقصود مِن ذلك. والله تعالى ولي التوفيق وهو حَسبُنا ونعم الوكيل. القرآن كلام الله تعالى وصفته: الكلام في القرآن ليس كالكلام في غيره؛ لأن القرآن كلام الله تعالى، وهو صفةٌ من صفاته سبحانه وتعالى، وصفاتُ الله تعالى تابعة لموصوفها، فصفاته - تبعًا لذاته - غيرُ مخلوقة، وعلى هذا فكلام الله تعالى غير مخلوق، وهو - كسائر صفاته - صفةُ كمال؛ لا نقصَ فيها ولا عيب مِنْ أيِّ وجه من الوجوه. وصفة الكلام من صفاته الذاتية اللازمة التي لا تَنْفَكُّ عنه بحال، وهي - فضلاً عن ذلك - صفة فعليَّة؛ فهو سبحانه يتكلم بكلام حقيقي - بحرفٍ وصوت - متى شاء كيفَما شاء،وهي صفة فعلية فهو سبحانه يتكلم متى شاء كيفما شاءل، وهي تابعة لصفة الموصوف بها المتكلم بها، وكلامه غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود فَيُحدِثُ - بكلامه - من أمره ما شاء، ويُنشئ من أحكامه الكونية والقدَريَّة والشرعية والجزائيَّة ما شاء؛ ï´؟ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ï´¾ [القصص: 68]، وهو سبحانه وتعالى إذا أراد شيئًا أو قضى أمرًا فلا يتعدَّى قوله فيه الكاف والنون؛ ï´؟ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ï´¾ [النحل: 40]، وقال تعالى: ï´؟ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ï´¾ [آل عمران: 47]، وقَولُه لا يتجاوز إرادته وقضاءه، كما قال سبحانه: ï´؟ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ï´¾ [غافر: 68]. وكلامه وكلماته سبحانه حقٌّ كلها، وصدقٌ كلها، وعدلٌ كلها، وعلمٌ كلها؛ ï´؟ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ï´¾ [ص: 84]، وقال تعالى: ï´؟ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ï´¾ [الإسراء: 105]، وقال سبحانه: ï´؟ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ï´¾ [الأنعام: 115]، وليس للباطل إليه من سبيل؛ ï´؟ ... وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ï´¾ [فصلت: 41، 42]. ولمَّا كان كذلك فقد أخبر الصادق المصدوق عن حال الملائكة في السماء حين يقضي اللهُ تعالى أمرَه فيها، وكيف تُقابل ذلك بالتصديق والخضوع والإذعان، قائلاً: ((إذا قَضى الله الأمرَ في السَّماءِ ضرَبَتِ الملائكةُ بِأجنِحَتِها خُضْعانًا لقولِه؛ كأنَّه سِلْسلةٌ عَلى صفوان، فإذا فُزِّع عن قُلوبِهم قالوا: ماذا قال رَبُّكم؟ قالوا: الحقَّ وهُو العَليُّ الكبير))[1]، فانظر كيف أنَّهم بمجرد أن سُئِلوا عمَّا قال ربهم، أجابوا دون تَردُّدٍ ولا تلَكُّؤٍ، ودون تدبُّر ولا تأمُّل، وقبل أن يَعرفوا ماذا قال ربهم، وأيَّ شيءٍ قال، أجابوا هكذا على الفور، وعلى السَّليقة واليقين: "الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ"؛ لأنهم يَعلمون علم اليقين أن الله تعالى العليَّ الكبيرَ حقٌّ، ولا يقول إلا حقًّا، فأجابوا بما هو مقتضى علمِهم الذي فُطِروا عليه؛ فهذا حال الملائكة الذين في السماء مع ما يَسمعونه من كلام ربهم عزَّ وجل. أمَّا على الأرض فإن العلماء تُقِرُّ بهذا، وتَشهَده، وتشهد به؛ قال تعالى: ï´؟ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ï´¾ [سبأ: 6]. وكما أنَّ كلام الله تعالى وكتابَه في نفسِه حقٌّ، فهو كذلك يَهدي إلى الحق؛ ï´؟ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ï´¾ [الأحقاف: 30]، فهو - على هذا - أحقُّ وأحرى أن يُتَّبعَ دون غيره ممَّن لا يملك حقًّا ولا هُدًى؛ ï´؟ ... أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ï´¾ [يونس: 35]. وإنما يظهر عظمُ الكلام بعِظم المتكلم به، فإذا كان الله تعالى هو المتكلم به؛ فذاك غاية ما يصل إليه الكلام من المقاصد الجليلة العالية، والمعاني الرفيعة السَّامية، وهو كتاب مفتوح على الحق ولا يَحتمل إلا الحق. إن الذي تكلَّم بالقرآن هو الله تعالى؛ والصفة إذا أُضيفت إلى موصوفها فُسِّرَت بحَسَبِها، وبحَسْب المعارف أن تُنسَبَ إلى أهلها حتى تُفَسَّرَ في ضَوئِها. وإنما أشرنا إلى ذلك لبيان سَعَة كلامه سبحانه وتعالى، وأنه لا يُقاس على كلامِ غيره كائنًا مَن يكون، وليس ثمة أيُّ تماثل أو تشابه أو نظيرٍ له من كلام غيره من المخلوقين، كما أنه لا نِسبَةَ بينَه سبحانه وبينهم في ذاته وسائِر صفاته. علاقة صفات الله تعالى بكلامه: ويُمكنك أن تنظر إلى تجلِّيات وآثار الكثير من أسماء الله تعالى وصفاته في كلامه سبحانه وتعالى، وقلَّما تجد اسمًا من أسمائه، أو صفةً من صفاته دون أن يَكون لها تعلُّق ما بكلامه وعلمه. فإنه لمـَّا كان من صِفة الله تعالى أنَّه واسعٌ بكل ما تَعنيه كلمةُ الواسع من معنًى؛ فقد تَجلَّتْ صفته هذه في كلامه، كما تَجَلَّتْ في سائر أسمائه وصفاته؛ ففي السمع مثلاً قد وَسِعَ سبحانه وتعالى سمعُه الأصواتَ على اختلاف اللغات واللهجات وعلى تفنُّن الحاجات والسؤالات لا يَشغَله منها شأنٌ عن شأن؛ يَسمعها كُلَّها في وقتٍ واحد، ويُجيبها في وقت واحد، وأَلحِقْ بذلك سائِرَ أسمائِه وصِفاتِه ومنها علمه وكلامه؛ فقد وَسِعَ كلَّ شيءٍ علمًا، أما كلامُه فوسِعَ معلوماته ومفعولاته، ووَسِعَ الحقَّ كلَّه! وهو - فضلاً عن ذلك - واسِعٌ في معانيه، وواسِعٌ في مقاصده، وواسِع في علومه ومعارفه سَعةَ المتكلِّم به سبحانه! والله تعالى غني بكل ما تعنيه كلمة الغِنى من معنى، وتجلَّتْ صِفتُهُ هذه في كلامه سبحانه وتعالى؛ فما من علم وحقٍّ عند الخلق إلا وقد احتوى عليها كلامه وكتابه، ودلَّ عليه بنحوٍ أو بآخر، بأوجزِ عبارة، وألطف إشارة، وأدلَّ على المقصود من ذلك، وزاد عليها بما تعجز الخلائق عن الإتيان به وبمثله، ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيرًا، وفوق ذلك فهو مهيمنٌ على كل ما سواه من العلوم والمعارف، فضلاً عن افتقار كلِّ عِلم وحقٍّ إليه، وهو غني عن كل ما سواه، بل إن الحق نفسَه إنما يَستمد أحقِّيتَه بدلالة الكتاب عليه؛ لأن العقول لا تَستقِلُّ بمعرفته تفصيلاً إلا عنه، وعليه فسائِرُ العلوم والمعارف محتاجة إليه وهو غني عنها. الاستيعاب والشمول ï´؟ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ï´¾ [النحل: 89]: وهو - أيضًا - قد استوعب الكلام في الخالق والمخلوق، والملأ الأعلى والملكوت، والعالَم العلوي والعالَم السفلي، وعالَم الغيب والشهادة، والدنيا والآخرة وما بينهما، وتكلَّم عن السموات والأرضين وما فيهما، وما بينهما من الذرَّة إلى الذروة، ومن الثَّرى إلى الثريا، وعن الشمس والقمر، والكواكب والنجوم، والليل والنهار، وما في البراري والبحار، وما في الصحاري والقِفار، وما في السهول والجبال، والتلول والوديان. وتكلم عن خلقه إنسًا وجِنًّا وملَكًا، وأبان عن أوصاف المكلَّفين منهم كفرًا وإيمانًا ونفاقًا، وبَيَّنَ مراتبَ كل واحد منهم، وأعطى كلاًّ منهم توصيفه وحكمه. وقد استوعب - بأحكامه - أحوال المكلفين وتقلباتِهم، وأحصى عليهم أقوالهم وأعمالَهم وما انطوت عليه جوانحهم ممَّا استقر في قلوبهم من عقائدهم! وبَيَّنَ أوصاف الممدوحين مِنْ عباده من المؤمنين والمتقين والمحسنين والصالحين والمصلحين والصادقين وسائر الأوصاف، وكذا أوصاف المذمومين من الكافرين والظالمين والمنافقين والكاذبين والمكذبين والمفسدين وسائر أوصافهم. واستوعَب الزمان كلَّه؛ ماضِيَه وحاضِره ومستقبله. وتكلم عن مقاصد الخلق، ومقاصد الرسالات، وأخبار الرسل وأحوال المصدقين بهم وعواقبهم في الدنيا وفي الآخرة، وأحوال المكذِّبين لهم وعواقبهم في الدنيا وفي الآخرة، وذكَر أخبار الأمم السابقة، والقرون الأولى، وما حَلَّ بها. ثم تكلم عن مصائر الخلق ونهاياتهم؛ إما إلى الجنة وقد عَرَّفهم بها وبنعيمها ومَلاذِّها وأهلها، وإما إلى النار وعذابها وشدائِدها وأهلها. وقد وضع القرآنُ خطة العباد في سَيرِهم إلى الله تعالى في طريق مستقيم، يَنتظم شؤون حياتهم مِن مبتدَئها إلى مُنتَهاها، ووضَعهم على سكة قويمة لا تَرى فيها عِوَجًا ولا أمتًا، حتى تُفضي بهم إلى سعادة الأبد، ومَن أعرض عنها فبالضدِّ مِن ذلك؛ إلى شقاوة الأبد! وهو قد دلَّ الخلقَ على الحق ودلائله وبيِّناته، وحُجَجه وبراهينه، والباطل وفساده واضْمِحلاله. إنه باختصار شديد بَيانٌ لكل شيء؛ كما قال الناطقبه سبحانه وتعالى: ï´؟ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ï´¾ [النحل: 89]. كل ذلك بهذه الأحرف والألفاظ التي يتعاطى بها بعضُ عباده مِن خلقه! فانظر كيف اتَّسعَت هذه الأحرف لكل هذه المعاني والمقاصد، واحتوَتها، واشتملَت عليها؟! وكيف اتَّسَع هذا المحدودُ المخلوقُ لكلام الخالقِ غير المخلوق؟! لكن هكذا أراد الله تعالى لكلامه؛ إذ ركَّبَ اللسان العربيَّ وأحرُفَه على هذا الحقِّ، كما ركَّبَ الحقَّ عليه، أليس هذا من أعجب العجب؟! وهذا يفسر لك بعض السرِّ في سبب الإتيان بالحروف المقطَّعة في أوائل بعض السور؛ للإشارة إلى أن هذه المعانيَ العظيمة، والمقاصد الإلهية الجليلة، ودلالاتها الواسعةَ جاءت بالأحرف التي تنطقون بها وتتكلمون بها، وتتَداولونها بينكم؛ فهل تُطيقون الإتيان بمثلها، أو ببعضٍ منها ممَّا قلَّ منه أو كَثُر؟! فإذا أعجزَتْكم حروفكم التي تتَعاطونها عن الإتيان ببعض ذلك، فقد - واللهِ - ظهَر الحقُّ وانجلى غباره عن حقيقة الربانيَّة في هذا الكتاب، وأنه لن يكون إلا من عند الله تعالى. لكن العجب سيَزول إذا علمنا أن الألسُنَ التي تنطق بهذا القرآن مخلوقةٌ لله تعالى، وأنها رُكِّبَت تركيبًا لتستوعب تلك المقاصدَ وتشتمل عليها، وتؤدِّي دورها في توصيل مرادات الله تعالى إلى عباده! وكأنَّ أوعية الأحرف والألفاظ والكلمات قد تفتَّقَت عن أعظم ما فيها، وغاية ما فيها من المعاني العظيمة، والمقاصد الشريفة. يتبع |
العلامات المرجعية |
|
|