وقد ظهر ابتلاء جديد في ساحة المواجهة بين السنة والبدعة ، بين أهل العلم الضعفاء الأقوياء بالحق وبين الخليفة الظالم وأعوانه ، الأقوياء بالسلطان الضعفاء بالمبدعة والشك ، هذا الابتلاء أصبح موجا لكل فرد من أفراد الأمة ، سواء كان من العامة أو الخاصة ، فواجب على كل فرد أن يقر بالبدعة الكبري ، بقول الخليفة وبمذهب الاعتزال ، وينكر الأخبار والآثار تحقيقا لسلامته إن شاء البقاء على قيد الحياة ، وإلا سيواجه قوة الدولة بمفرده ، وقد نصر الله سنته وأعز دينه بالإمام أحمد بن حنبل ، هذا الحبر العالم الجليل ، الذي وقف لله وقفة يضرب بها المثل في الثبات على الحق والتمسك بالسنة حتى قيل : أبو بكر ليوم الردة وعمر ليوم السقيفة وأحمد ليوم البدعة .
وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما عزم أبو بكر على قتال مانعي الزكاة قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : الزكاة حق المال ، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ) ففهم عمر وجماعة من الصحابة أن من أتي بالشهادتين امتنع من عقوبة الدنيا بمجرد ذلك فأرادوا أن يتوقفوا في قتال مانع الزكاة ، وفهم أبو بكر الصديق أن لها حقوقا لا تمنع القتال إلا بأدائها لقوله صلي الله عليه وسلم : ( فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) فلما قرر أبو بكر رضي الله عنه هذا الأمر للصحابة رجعوا إلي قوله ورأوه صوابا قال عمر رضي الله عنه : ( فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله تعالى قد شرح صدر أبي بكر لقتالهم فعرفت أنه الحق ) فوقف الجميع مع أبي بكر في قتال المرتدين ومانعي الزكاة حتى نصرهم الله وأعز دينه ، فكانت وقفة أبي بكر عاصمة من قاسمة كادت تحل بالأمة الإسلامية .
وروي البخاري 6328 من حديث عمر بن الخطاب أنه قال : ( كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفي اللهُ نَبِيَّهُ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنَّ الأَنْصَارَ خَالفُونَا وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَخَالفَ عَنَّا على وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا وَاجْتَمَعَ المُهَاجِرُونَ إلي أَبِي بَكْرٍ فَقُلتُ لأَبِي بَكْرٍ يَا أَبَا بَكْرٍ انْطَلقْ بِنَا إلي إِخْوَانِنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْطَلقْنَا نُرِيدُهُمْ فَلمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلانِ صَالحَانِ فَذَكَرَا مَا تَمَالأَ عَليْهِ القَوْمُ – اتفقوا وتواصوا - فَقَالا أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ فَقُلنَا نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالا لا عَليْكُمْ أَنْ لا تَقْرَبُوهُمُ اقْضُوا أَمْرَكُمْ فَقُلتُ وَاللهِ لنَأْتِيَنَّهُمْ فَانْطَلقْنَا حتى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ – يعنى ملتف في ثيابه - بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلتُ مَنْ هَذَا ؟
فَقَالُوا هَذَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقُلتُ مَا لهُ قَالُوا يُوعَكُ فَلمَّا جَلسْنَا قَليلا تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَي على اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَال أَمَّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ وَكَتِيبَةُ الإِسْلامِ وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ رَهْطٌ وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ –جاء إلينا نفر منكم - فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلنَا وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنَ الأَمْرِ – يعني ينفردون بأمر الحكم دوننا ويقطعونا منه – يقول عمر فَلمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلمَ وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ مَقَالةً أَعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ ، فَلمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلمَ قَال أَبُو بَكْرٍ على رِسْلكَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ فَتَكَلمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ هُوَ أَحْلمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ وَاللهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلمَةٍ أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي إِلا قَال فِي بَدِيهَتِهِ مِثْلهَا أَوْ أَفْضَل مِنْهَا حتى سَكَتَ فَقَال مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لهُ أَهْلٌ وَلنْ يُعْرَفَ هَذَا الأَمْرُ إِلا لهَذَا الحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ هُمْ أَوْسَطُ العَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا وَقَدْ رَضِيتُ لكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُليْنِ فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شئتمْ فَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ وَهُوَ جَالسٌ بَيْنَنَا فَلمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَال غَيْرَهَا كَانَ وَاللهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي لا يُقَرِّبُنِي ذَلكَ مِنْ إِثْمٍ أَحَبَّ إلي مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ على قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ اللهُمَّ إِلا أَنْ تُسَوِّل إلي نَفْسِي عِنْدَ المَوْتِ شَيْئًا لا أَجِدُهُ الآنَ فَقَال قَائِلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَنَا جُذَيْلُهَا المُحَكَّكُ – يعني أنا ممن يعتد برأيه ويعتمد عليه - وَعُذَيْقُهَا المُرَجَّبُ – ثمار النخل يقصد أنه السيد المعظم الذي يشبه أجود النخل مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَكَثُرَ اللغَطُ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ حتى فَرِقْتُ مِنَ الاخْتِلافِ فَقُلتُ ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ المُهَاجِرُونَ ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأَنْصَارُ ، فكانت وقفة عمر بن الخطاب عاصمة من قاسمة كادت أن تحل بالأمة الإسلامية وَلكِنَّ اللهَ وَقَاهم شَرَّهَا على يد عمر .
أما أحمد بن حنبل فقال الميمون : قال لي على بن المديني بعدما امتحن أحمد بن حنبل ، يا ميمون : ما قام أحد في الإسلام أحد مثل ما قام أحمد بن حنبل ، قال مييمون : فعجبت من هذا عجبا شديدا ، وذهبت إلي أبي عبيد القاسم بن سلام فحكيت له مقالة على بن المديني ، فقال : صدق ، إن أبا بكر وجد له يوم الردة أنصارا وأعوانا ، وإن أحمد لم يكن له أنصار ولا أعوان .
وقد بدأت المحنة الحقيقية سنة 218 هـ عندما أرسل المأمون كتابه الشهير الذي طلب فيه من الولاة أن يختبروا أهل العلم في القول بخلق القرآن ، أرسل كتابه الشهير إلي اسحاق بن إبراهيم وإلي الخليفة على بغداد يلزم الناس فيه بأن يقروا بخلق القرآن تأييدا لرأي المعتزلة فجاء فيه :