|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#2
|
||||
|
||||
![]() العقيدة بعد أبي الحسن الأشعري المحاضرة الثانية فإن كثيرا ممن نشأ في الأوساط التي يسودها مذهب الخلف من الأشعرية ، بعد موت أبى الحسن الأشعري ، أنكروا تأويلهم المتعسف للنصوص ، فدعواهم أن النصوص القرآنية في الصفات الإلهية ، موهمة للتشبيه والجسمية ، يثير الحساسية في قلوب المسلمين ، نظرا لاحترامهم الفطري لكتاب الله ، وتعظيمهم التلقائي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وجدوا على ساحة الفكر ما طرحه الخلف من الأشعرية ، ظلما وزورا على العقيدة السلفية أنهم يفوضون معاني نصوص الصفات لا الكيفية ، وأنهم يؤمنون بألفاظ القرآن دون فقه معناها ، كالأعجمي الأجنبي عندما يدخل في الإسلام ، فيعظم القرآن ويقلبه ويقبله ، دون أن يفهم أي معنى من معانيه ، أو يدرك أي مدلول من مبانيه ، فلما شاعت واستقرت واستمرت هذه الإشاعة الباطلة ، وانتشر الزعم بأن السلف مفوضة لا يعلمون معاني النصوص أو مراد قائله ، ادعى كثير ممن أنكر على الخلف أن السكوت وتفويض الأمر إلى الله هو المسلك المفضل ، ظنا منهم أنهم على عقيدة السلف الصالح ، فظهرت قضية التفويض التي وسم بها السلف متأثرة بعقيدة الخلف في فهم المحكم والمتشابه وعدم التمييز بين كون معاني نصوص الصفات محكمات وأن الكيفيات الغيبية هي فقط المتشابهات ، وقد سرى هذا الاعتقاد في نفوس كثيرة منذ ظهور المذهب الأشعري حتى عصرنا هذا . يقول أبو سعيد النيسابوري (ت:478هـ) في كتابه الغنية في أصول الدين : ( لأصحابنا في ذلك طريقان ، أحدهما الإعراض عن التأويل والإيمان بها كما جاءت والإيمان بها صحيح وإن لم يعرف معناها ، وهذا الطريق أقرب إلى السلامة ، ومن أصحابنا من صار إلى التأويل والاختلاف صادر عن اختلاف القراءتين في قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلم ) (آل عمران:7) . فمن صار إلى الوقف على قوله وما يعلم تأويله إلا الله أعرض عن التأويل وجعل قوله والراسخون في العلم كلاما مبتدأ ، ومعناه أن العلماء يقولون آمنا به ومن صار إلى الوقف على قوله والراسخون في العلم ، فيكون معناه أن الله تعالى يعلم تأويله والراسخون في العلم أيضا يعلمون تأويله صار إلى التأويل ) . فعلى الرغم من كونه يذكر موقف السلف من المحكم والمتشابه إلا أنه نسب إليهم الإيمان بنصوص الصفات وإن لم يعرفوا معناها ، وجعلهم بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ) (البقرة:78هـ) . ويقول أحدهم ويدعى مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي (ت:1033هـ) في كتاب أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات ، يقول : ( ومن المتشابه الاستواء في قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) ، وهو مذكور في سبع آيات من القرآن ، فأما السلف فإنهم لم يتكلموا في ذلك بشيء جريا على عادتهم في المتشابه من عدم الخوض فيه مع تفويض علمه إلى الله تعالى والإيمان به ) ثم يستدل على ذلك بقول الإمام مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، ومن الأمثلة المعاصرة على اعتقاد الخلف أن مذهب السلف هو التفويض ، قول صاحب جوهرة التوحيد : وكل نص أوهم التشبيه : أوله أو فوِّض ورم تنزيها ويذكر شارح الجوهرة تحت هذا البيت في قوله تعالى : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (الفجر:22) وحديث الصحيحين : ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليْلِ الآخِرُ ، يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ) ، يقول : فالسلف يقولون : مجيء ونزول لا نعلمه ) . فادعى الناظم والشارح معا أن مذهب السلف الصالح هو تفويض المعنى ، وهذا باطل لأنه جعل كلام الله بلا معنى ، وجعل السلف بمنزلة الجهلة الذين خاطبهم الله بالألغاز والأحاجي وما لا يفهم معناه ، ولا يعقل أن نسمع رجلا أجنبيا يتحدث بلغة لا نفهمها ولا نعلم لسان أهلها ثم نقول بعد سماعنا له : كلامك جيد ووصفك سليم وكلامك ليس فيه باطل ونحن نصدق كل ما تقول ، وإذا كان هذا مستقبحا بين البشر فكيف نقبله في كلام الله عز وجل ؟! فالسلف لم يقولوا : مجيء ونزول لا نعلمه كما ادعى شارح الجوهرة ، وإنما قالوا : مجيء ونزول لا نعلم كيفيته وفرق بينهما عظيم . ويقول الشيخ أمين محمود خطاب عن نصوص الصفات في كتاب الفتاوى الأمينية : ( إن السلف فوضوا علم المراد منها إلى الله تعالى ، فقوله : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) يقول فيه السلف هو مصروف عن ظاهره ويفوضون علم المراد منه إلى الله ) ، والسلف الصالح ما قالوا هذا ، وإنما قالوا في الآية : هي على ظاهرها والمعنى معلوم واضح ، والمجهول هو الكيف فقط ، ولكن الأشعرية ظنوا أن الظاهر منها يتحتم أن يكون هو الظاهر من استواء بلقيس على عرشها ، ولو سألت أحدهم : هل رأيت استواء بلقيس ؟ فيقول : لا ، يقال له : وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول : نعم ، فيقال عند ذلك : معنى استواء بلقيس معلوم وكيفية استوائها معلومة أيضا من رؤيتك للمثيل ، لكن إذا سألناه : هل رأيت استواء الله ؟ فيقول : لا ، فيقال : وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (الشورى:11) ، فيقال له : كيف حكمت أن الظاهر في استواء الله يماثل الظاهر في استواء بلقيس ؟ أليس هذا قول على الله بلا علم ؟ إنما يكفي أن القول إن معنى استواء الله معلوم وهو العلو والارتفاع وكيفية استوائه معلومة لله مجهولة لنا . ويذكر الشيخ إبراهيم الدسوقى في مقالته التي نشرت في مجلة الأزهر عدد محرم سنة 1414هـ عن قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) يقول عن آراء العلماء في المتشابه كما يتصور : ( فذهب السلف إلى التفويض في المعنى الذي أراده الله تعالى بعد الإيمان به والتنزيه عن الظاهر المستحيل ) ثم ينسب ذلك إلى الأئمة الأربعة وأنهم يدينون لله بهذه العقيدة . ويقول الشيخ حسن البنا في مجموعة الرسائل : ( ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم المعاني إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى ) ، فهؤلاء جميعا ظنوا أن اعتقاد السلف الصالح هو التفويض ، تفويض معنى الاستواء ، وهم في الحقيقة يعانون من مشكلة ، أو أصول معضلة عندما تأتى على أسماعهم صفة الاستواء ، هل يؤمنون بوجود استواء حقيقي له كيفية ، أم أنهم لا يؤمنون بهذه الحقيقة الغيبية ؟ لا خلاف بين السلف في وجود كيفية حقيقية للاستواء ، وإنما الخلاف بين السلف ومخالفيهم من الأشعرية وغيرهم في ادعائهم جهل السلف بمعنى الاستواء وتفويض العلم به إلى الله ، فالكيفية لها وجود حقيقي معلوم لله ومجهول لنا . ومن ثم فالقول بأن الاستواء غير معلوم أو لا نعلمه أو نجهله قول باطل ، وكذلك القول بأن معنى الاستواء غير معلوم قول باطل أيضا ، أما القول بأن كيفية الاستواء فقط غير معلومة أو مجهولة لنا ، فهو الحق الذي دلت عليه الأدلة . وهنا مسألة تتطلب الشرح والتفصيل ، وهى مسألة الظاهر هل هو مراد أو غير مراد ؟ فإذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد ، فإنه يقال لفظ الظاهر فيه إجمال وإشتراك ، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال ، والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين : تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك ، وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأعلم أن من المتأخرين من يقول مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد ، وهذا اللفظ مجمل ، فان قوله ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ، مثل أن يراد بكون الله تعالى معنا ، ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك ، فلا شك أن هذا غير مراد ، ومن قال من السلف إن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى ، لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث ، فان هذا المحال ليس هو الظاهر ) . ونظرا لأن بعض المنتسبين لمذهب الخلف قد يواجهون بقوة عند قولهم بتأويل نصوص الصفات لاسيما إذا كان التأويل أقرب إلى التحريف ، فإنهم يتملصون من مواجهة الحق بدعوى السكوت وعدم الخوض في المتشابه كما هو حال السلف أو زعمهم أن مسائل الصفات لا يترتب عليها عمل ولا سلوك ، فيكفينا المحكم من القرآن والسنة وما يدعوا إلى تأليف القلوب . وهذه دعوة قديمة منذ ظهور عقيدة التفويض وعدم إدراك ما عليه السلف ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى أن قول القائل : لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها ، إما أن يريد بذلك أنه لا تتلى هذه الآيات وهذه الأحاديث عند عوام المؤمنين ، فهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار من دين المسلمين ، بل هذا القول إن أخذ على إطلاقه فهو كفر صريح ، فإن الأمة مجمعة على ما علموه بالاضطرار من تلاوة هذه الآيات في الصلوات فرضها ونفلها واستماع جميع المؤمنين لذلك ، وكذلك تلاوتها وإقرائها واستماعها خارج الصلاة ، هو من الدين الذي لا نزاع فيه بين المسلمين ، وكذلك تبليغ الأحاديث في الجملة ، هو مما اتفق عليه المسلمون ، وهو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين ، إذ ما من طائفة من السلف والخلف إلا ولا بد أن تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من صفات الإثبات أو النفي ، فإن الله يوصف بالإثبات وهو إثبات محامده بالثناء عليه وتمجيده ، ويوصف بالنفي وهو نفي العيوب والنقائص عنه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا . وأما أن يريد أنه لا يقال حكمها كذا وكذا ، ولا يشرح معناها ولا يرد على الخلف في تأويلهم ولا في ادعائهم على السلف عقيدة التفويض ، فإن أراد هذا فينبغي لقائل ذلك أن يلتزم ما ألزم به غيره ، فلا ينطق في حكم هذه الآيات والأحاديث بشيء ، ولا يقول الظاهر مراد أو غير مراد ولا التأويل سائغ ولا هذه النصوص لها معان أخر ونحو ذلك ، لأنه بهذا يتعرض لآيات الصفات وأحاديثها على هذا التقدير ، وإذا التزم هو ذلك ، وقال لغيره التزم ما التزمته ، ولا تزد عليها ولا تنقص منها ، فإن هذا عدل ، بخلاف ما إذا نهى غيره عن الكلام عليها ، مع تكلمه هو عليها كما هو الواقع . وكذلك قول القائل ولا يكتب بأحاديث الصفات إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها ، إن أراد أنها أنفسها لا تكتب ولا يفتى بها ، فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام ، وإن أراد لا يكتب بحكمها ولا يفتي المستفتي عن حكمها ، فيقال له فعليك أيضا أن تلتزم ذلك ، ولا تفتي أحدا فيها بشيء من الأمور النافية ، وحينئذ يكون أمرك لغيرك بمثل ما فعلته عدلا ، أما أن يجيء الرجل إلى هذه النصوص فيتصرف فيها بأنواع التحريفات والتأويلات جملة أو تفصيلا ويقول لأهل العلم والإيمان أنتم لا تعارضوا ولا تتكلموا فيها ، فهذا من أعظم الجهل والظلم والإلحاد في أسماء الله وآياته . كما أن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات ، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلا الله ، وقد قيل : إن مالكا لما صنف الموطأ قال : جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل . والآن دعونا نتحدث عن لوازم القول بالتفويض ، وخطورة القول بالتفويض أو سلب كلام الله عن معناه ، أو محاولة تقبيح إثبات الصفات في نفس السامع تحت مسمى التجسيم وإثبات الأعضاء والجوارح لله ، لأن القول بالتفويض يؤدى إلى الزامات قبيحة يتمثل أبرزها فيما يلي : (1) - أن القرآن ملئ بالحشو الذي لا فائدة منه ، مما يحتم حذفه ليوصف بالكمال وهذا باطل لقوله تعالى : ( لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (فصلت:42) . (2) – يلزم من قولهم إن كلام الله بلا معنى وأنه يجب على المسلمين الإيمان به دون فهم معناه ، أن الله خاطب عباده بالألغاز والأحاجي وهو قادر على عكس ذلك ، وهذا باطل لأنه يؤدى إلى القول بأن كلام الله بلا معنى ، فقال تعالى : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الذِي يُلحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (النحل:103) ، وقال سبحانه : ( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِل اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد ) (الزمر:23) فوصف كلامه بأنه أحسن الحديث . (3) - يلزم من قولهم إن كلام الله بلا معنى وأنه يجب على المسلمين الإيمان به دون فهم معناه ، أن الرسول بلغ ما لا يعلم ولم يفهم ما جاء في التنزيل وهذا باطل لقوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (إبراهيم:4) . (4) - يلزم من قولهم إن كلام الله بلا معنى وأنه يجب على المسلمين الإيمان به دون فهم معناه ، أن الصحابة خدعوا أنفسهم بادعائهم الفهم وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم في إيمان لا يعلمون حقيقته ، وهذا باطل لقوله تعالى عنهم : ( أُوْلَئِكَ هُمْ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) (الأنفال:74) ولقوله : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (الأنفال:2) فكيف يزدادون إيمانا بتلاوة ما ليس له معنى له . (5) - أن القول بالتفويض يلزم منه أن ظاهر النصوص يحمل معنى مستهجن يخاف المفوض من مواجهته وهذا باطل لأن الله عز وجل أمرنا بتدبر آياته وفهمها في حدود مدركاتنا ، فقال جل ذكره : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) (النساء:82) ، وفي الحقيقة إن القول بالتفويض ما هو إلا محاولة للهروب من مواجهة الأدلة لقوة ما ورد فيها من إثبات الصفات ، ويذكر ابن القيم رحمه الله ، أننا لو قلنا كما قال الخلف إن قوله تعالى : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا الله ) يتناول المعنى يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، بل يقرأون كلاما لا يعقلون معناه ، وقول هؤلاء باطل فإن الله سبحانه أمر بتدبر كتابه وتفهمه وتعقله ، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء لما في الصدور ، وأمر الناس أن يرجعوا إليه فيما اختلفوا فيه ، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات والقدر والأفعال ، واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكم ولا هدى ولا شفاء ولا بيان . فالقول بالتفويض سببه الجهل بمذهب السلف من ناحية والرفض الداخلي للمذهب الأشعري من ناحية أخرى ، إذ أن الخلف من الأشعرية وغيرهم قاموا بلىّ أعناق النصوص وذبحها بصورة لا تخفي على عاقل ، فأغلبهم لا يقر في نفسه تفسير الاستواء بالاستيلاء والقهر والغلبة ، وإذا أقر به على مضض أقر به ليتملص من إثبات صفة الاستواء الذي ظاهرها عنده باطل قبيح ، فإذا خلا بنفسه تردد على ذهنه سؤال لا يفارقه ومن الذي نازع الله على العرش حتى قهره واستولى عليه ؟! فلا يجد جوابا شافيا ، فيُرضى نفسه بالسكوت والتفويض وترك الأمر برمته مدعيا أن هذا مذهب السلف . كما أنه من أعظم أسباب انتشار القول بالتفويض تقليد بعض المشاهير الذين تبنوا القول بالتفويض عن حسن نية ، وتبنى بعض المؤسسات العلمية لهذا الأمر كما قال صاحب جوهرة التوحيد : وكل نص أوهم التشبيه : أوّله أو فوِّض ورم تنزيها ، فيدعى أن مذهب السلف الصالح هو التفويض ، ومن ثم يشب طالب العلم من مهده على ذلك ، وهو لا يعرف غير هذا الاعتقاد ، حتى يصبح أستاذا كبيرا في الجامعة ، أو مدرسا مخضرما في المادة يدافع عما درسه بقوة ظنا منه أنه على شيء ، وإذا ظهر لهم الحق في هذا الموضوع فقل من لا تأخذه عزة المكانة فيتراجع أمام مذهب السلف . ونحن إذا نظرنا إلى كتاب الله واستقرأنا جميع الأدلة النقلية التي تتعلق بالأمور الغيبية على وجه العموم وبذات الله وصفاته على وجه الخصوص ، لا نجد آية واحدة أو حديثا يتحدث عن كيفية الذات وصفاتها أو كيفية الموجودات التي في عالم الغيب ، وكل ما ورد كان الهدف منه إثبات وجود ذات الله وصفاته وأفعاله على التفصيل الوارد في الكتاب والسنة وبكيفية تليق بالله يعلمها هو ولا نعلمها نحن ، وهذا يتطلبا كلاما يحمل معنى مفهوما ، وعلى هذا المفهوم جاءت أقوال السلف الصالح في نصوص الصفات وسائر الغيبيات : ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) . قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله معقبا : ( قولهم أمروها كما جاءت يقتضى إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال : أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم غير مراد أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ : بلا كيف ، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول ) . وعلى ذلك أيضا جاء قول مالك رحمه الله : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ) ، وربما زعم بعضهم أن قول السلف في الاستواء معلوم يعنى أن آية الاستواء موجودة في القرآن وقد رد شيخ الإسلام مجيبا عن هذه الشبهة فقال : ( فإن قيل معنى قوله : الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه !! قيل : هذا ضعيف ، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية ، وأيضا لم يقل يعنى الإمام مالك ذكر الاستواء في القرآن يعنى معلوم ولا إخبار الله بالاستواء يعنى معلوم وإنما قال الاستواء معلوم .. وأيضا فإنه قال : والكيف مجهول ولو أراد ذلك لقال : معنى الاستواء مجهول ، أو تفسير الاستواء مجهول أو بيان الاستواء غير معلوم ، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء لا العلم بنفس الاستواء ، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه ) ، وفي ختام موضوعنا أدعو إخواننا الذين يظنون أن مذهب السلف هو تفويض معاني النصوص التي خاطبنا الله بها إلى إعادة النظر في الأمر حتى لا يظلم المذهب السلفي من ناحية ولا يدعون إلى غير الحق من ناحية أخرى ، وقد قال العلامة ابن القيم : ( فلا سعادة للعباد ولا صلاح لهم ولا نعيم إلا بأن يعرفوا ربهم ويكون هو وحده غاية مطلوبهم والتقرب إليه قرة عيونهم ) ، فكيف تتم هذه السعادة في ظل عقيدة التفويض ؟ وإذا كان قبول العمل عند الله يعود إلى صدق النية وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) ، فالنية وحدها لا تكفي إذ لا بد من شرط المتابعة لمن سلف واجتناب بدعة من خلف . فالأشعرية بعد موت أبى الحسن الأشعري كانوا يعتقدون أن مذهب السلف هو التفويض وظل الأمر على ذلك حتى عصرنا لكن الواقع الفكري الذي أحاط بعقيدة السلف بعد موت أبى الحسن الأشعري ، اختلطت فيه الأمور وتشابكت ، وانتشرت فيه البدع وتعددت ، وكثرت فيه الفرق وتناحرت ، فرق كلامية تسير على نهج الجهمية ، من الماتريدة والأشعرية ، وفرق متعددة للشيعة والقدرية ، وأخرى للخوارج والإرجاء والصوفية ، وفرق تتبارى في القضايا الفلسفية ، حتى خيم الزبد على الماء الذي نزل من السماء ، وأصبح القابض على الحق كالقابض على جمرة من نار ، يعيش في مستنقع فكرى ، واختلاف مذهبي ، وتمزق سياسي ، فأصبحت الأمة غثاء كغثاء السيل ، فتداعت عليها الأمم ، هجم عليها الصليبيون في حملاتهم الصليبية ، وهجم عليهم التتار في حملاتهم المغولية ومزقوا المسلمين كل ممزق ، ولولا أن الله عز وجل تكفل بحفظ دينه ، لكانت أمة الإسلام مطوية في صفحات التاريخ ، وقد روى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ قَالَ : ( إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ) ، فنصر الله دينه وأعز أمته برجل حباه من العلم والفقه ما تعجز عنه تحصيله أمة من الناس وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، سوف نذكر لكم ترجمته وقصته في المحاضرة القادمة بإذن الله ، فإلى لقاء آخر إن شاء الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . |
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|