|
||||||
| أرشيف المنتدى هنا نقل الموضوعات المكررة والروابط التى لا تعمل |
|
|
أدوات الموضوع | ابحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
|
وبدأ يوم اليمامة مكهرّا شاحبا. وجمع خالد بن الوليد جيش الاسلام، ووزعه على مواقعه ودفع لواء الجيش الى من..؟؟ الى زيد بن الخطّاب. وقاتل بنو حنيفة أتباع مسيلمة قتالا مستميتا ضاريا.. ومالت المعركة في بدايتها على المسلمين، وسقط منهم شهداء كثيرون. ورأى زيد مشاعر الفزع تراود بعض أفئدة المسلمين، فعلا ربوة هناك، وصاح في اخوانه: " أيها الناس.. عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوّكم، وامضوا قدما.. والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله، أو ألقاه سبحانه فأكلمه بحجتي"..!! ونزل من فوق الربوة، عاضّا على أضراسه، زامّا شفتيه لا يحرّك لسانه بهمس. وتركّز مصير المعركة لديه في مصير الرّجّال، فراح يخترق الخضمّ المقتتل كالسهم، باحثا عن الرّجّال حتى أبصره.. وهناك راح يأتيه من يمين، ومن شمال، وكلما ابتلع طوفان المعركة غريمه وأخفاه، غاص زيد وراءه حتى يدفع الموج الى السطح من جديد، فيقترب منه زيد ويبسط اليه سيفه، ولكن الموج البشري المحتدم يبتلع الرّجّال مرّة أخرى، فيتبعه زيد ويغوص وراءه كي لا يفلت.. وأخيرا يمسك بخناقه، ويطوح بسيفه رأسه المملوء غرورا، وكذبا، وخسّة.. وبسقوط الأكذوبة، أخذ عالمها كله يتساقط، فدبّ الرعب في نفس مسيلمة في روع المحكم بن الطفيل ثم في جيش مسيلمة الذي طار مقتل الرّجّال فيه كالنار في يوم عاصف.. لقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر المحتوم، وبأنه هو والرّجّال بن عنفوة، والمحكم بن طفيل سيقومون غداة النصر بنشر دينهم وبناء دولتهم..!! وها هو ذا الرّجّال قد سقط صريعا.. اذن فنبوّة مسيلمة كلها كاذبة.. وغدا سيقط المحكم، وبعد غد مسيلمة..!! هكذا احدثت ضربة زيد بن الخطاب كل هذا المدار في صفوف مسيلمة.. أما المسلمون، فما كاد الخبر يذيع بينهم حتى تشامخت عزماتهم كالجبال، ونهض جريحهم من جديد، حاملا سيفه، وغير عابئ بجراحه.. حتى الذين كانوا على شفا الموت، لا يصلهم بالحياة سوى بقية وهنانة من رمق غارب، مسّ النبأ أسماعهم كالحلم الجميل، فودّوا لو أنّ بهم قوّة يعودون بها الى الحياة ليقاتلو، وليشهدوا النصر في روعة ختامه.. ولكن أنّى لهم هذا، وقد تفتحل أبواب الجنّة لاستقبالهم وانهم الآن ليسمعون أسماءهم وهم ينادون للمثول..؟؟!! ** رفع زيد بن الخطاب ذراعيه الى السماء مبتهلا لربّه، شاكرا نعمته.. ثم عاد الى سيفه والى صمته، فلقد أقسم بالله من لحظات ألا يتكلم حتى يتم النصر أو ينال الشهادة.. ولقد أخذت المعركة تمضي لالح المسلمين.. وراح نصرهم المحتوم يقترب ويسرع.. هنالك وقد رأى زيد رياح النر مقبلة، لم يعرف لحياته ختاما أروع من هذا الختام، فتمنّى لو يرزقه الله الشهادة في يوم اليمامة هذا.. وهبّت رياح الجنة فملأت نفسه شوقا، ومآقيه دموعا،وعزمه اصرارا.. وراح يضرب ضرب الباحث عن مصيره العظيم.. وسقط البطل شهيدا.. بل قولوا: صعد شهيدا.. صعد عظيما، ممجّدا، سعيدا.. وعاد جيش الاسلام الى المدينة ظافرا.. وبينما كان عمر، يستقبل مع الخليفة أبي بكرو أولئك العائدين الظافرين، راح يرمق بعينين مشتاقين أخاه العائد.. وكان زيد طويل بائن الطول، ومن ثمّ كان تعرّف العين عليه أمرا ميسورا.. ولكن قبل أن يجهد بصره، اقترب اليه من المسلمين العائدين من عزّاه في زيد.. وقال عمر: " رحم الله زيدا.. سبقني الى الحسنيين.. أسلم قبلي.. واستشهد قبلي". ** وعلى كثرة الانتصارات التي راح الاسلام يظفر بها وينعم، فان زيدا لم يغب عن خاطر أخيه الفاروق لحظة.. ودائما كان يقول: " ما هبّت الصبا، الا وجدت منها ريح زيد". أجل.. ان الصبا لتحمل ريح زيد، وعبير شمائله المتفوقة.. ولكن، اذا اذن أمير المؤمنين، أضفت لعبارته الجليلة هذه، كلمات تكتمل معها جوانب الاطار. تلك هي: " .. وما هبّت رياح النصر على الاسلام منذ يوم اليمامة الا وجد الاسلام فيها ريح زيد.. وبلاء زيد.. وبطولة زيد.. وعظمة زيد..!!" ** بورك آل الخطّاب تحت راية رسول الله صلى الله عليهوسلم.. بوركوا يوم أسلموا.. وبوركوا أيام جاهدوا، واستشهدوا.. وبوركوا يوم يبعثون..!! |
|
#2
|
||||
|
||||
|
خبيب بن عدي - بطل .. فوق الصليب ..!! والآن.. افسحوا الطريق لهذا البطل يا رجال.. وتعالوا من كل صوب ومن كل مكان.. تعالوا، خفاقا وثقالا.. تعاولوا مسرعين، وخاشعين.. وأقبلوا، لتلقنوا في الفداء درسا ليس له نظير..!! تقولون: أوكل هذا الذي قصصت علينا من قبل لم تكن دروسا في الفداء ليس لها نظير..؟؟ أجل كانت دروسا.. وكانت في روعتها تجلّ عن المثيل وعن النظير.. ولكنكم الآن أمام أستاذ جديد في فن التضحية.. أستاذ لوفاتكم مشهده، فقد فاتكم خير كثير، جدّ كثير.. الينا يا أصحاب العقائد في كل أمة وبلد.. الينا يا عشاق السموّ من كل عصر وأمد.. وأنتم أيضا يا من أثقلكم الغرور، وظننتم بالأديان والايمان ظنّ السّوء.. تعالوا بغروركم..! تعالوا وانظروا أية عزة، وأية منعة، وأي ثبات، وأيّ مضاء.. وأي فداء، وأي ولاء.. وبكلمة واحدة، أية عظمة خارقة وباهرة يفيئها الايمان بالحق على ذويه المخلصين..!! أترون هذا الجثمان المصلوب..؟؟ انه موضوع درسنا اليوم، يا كلّ بني الانسان...! هذا الجثمان المصلوب أمامكم هو الموضوع، وهو الدرس، وهو الاستاذ.. اسمه خبيب بن عديّ. احفظوا هذا الاسم الجليل جيّدا. واحفظوه وانشدوه، فانه شرف لكل انسان.. من كل دين، ومن كل مذهب، ومن كل ***، وفي كل زمان..!! ** انه من أوس المدينة وأنصارها. تردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ هاجر اليههم، وآمن بالله رب العالمين. كان عذب الروح، شفاف النفس، وثيق الايمان، ريّان الضمير. كان كما وصفه حسّان بن ثابت: صقرا توسّط في الأنصار منصبه سمح الشجيّة محضا غير مؤتشب ولما رفعت غزوة بدر أعلامها، كان هناك جنديا باسلا، ومقاتلا مقداما. وكان من بين المشركين الذين وقعوا في طريقه ابّان المعركة فصرعهم بسيفه الحارث بن عمرو بن نوفل. وبعد انتهاء المعركة، وعودة البقايا المهزومة من قريش الى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم، وحفظوا جيدا اسم المسلم الذي صرعه في المعركة: خبيب بن عديّ..!! ** وعاد المسلمون من بدر الى المدينة، يثابرون على بناء مجتمعهم الجديد.. وكان خبيب عابدا، وناسكا، يحمل بين جبينه طبيعة الناسكين، وشوق العابدين.. هناك أقبل على العبادة بروح عاشق.. يقوم الليل، ويصوم الناهر، ويقدّس لله رب العالمين.. ** وذات يوم أراد الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يبلو سرائر قريش، ويتبيّن ما ترامى اليه من تحرّكاتها، واستعدادها لغزو جديد.. فاهتار من أصحابه عشرة رجال.. من بينهم خبيب وجعل أميرهم عاصم بن ثابت. وانطلق الركب الى غايته حتى اذا بلغوا مكانا بين عسفان ومكة، نمي خبرهم الى حيّ من هذيل يقال لهم بنو حيّان فسارعوا اليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم، وراحوا يتعقبونهم، ويقتفون آثارهم.. وكادوا يزيغون عنهم، لولا أن أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال.. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان للعرب من فراسة عجيبة، ثم صاح في الذين معه: " انه نوى يثرب، فلنتبعه حتى يدلنا عليهم".. وساروا مع النوى المبثوث على الأرض، حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون.. وأحس عاصم أمير العشرة أنهم يطاردون، فدعا أصحابه الى صعود قمة عالية على رأس جبل.. واقترب الرماة المائة، وأحاطوا بهم عند سفح الجبلو وأحكموا حولهم الحصار.. ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقا ألا ينالهم منهم سوء. والتفت العشرة الى أميرهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين. وانتظروا بما يأمر.. فاذا هو يقول:" أما أنا، فوالله لا أنزل في ذمّة مشرك.. اللهم أخبر عنا نبيك".. وشرع الرماة المائة يرمونهم بالنبال.. فأصيب أميرهم عاصم واستشهد، وأصيب معه سبعة واستشهدوا.. ونادوا الباقين، أنّ لهم العهد والميثاق اذا هم نزلوا. فنزل الثلاثة: خباب بن عديّ وصاحباه.. واقترب الرماة من خبيب وصاحبه زيد بن الدّثنّة فأطلقوا قسيّهم، وبرطوهما بها.. ورأى زميلهم الثالث بداية الغدر، فقرر أن يموت حيث مات عاصم واخوانه.. واستشهد حيث أراد.. وهكذا قضى ثمانية من أعظم المؤمنين ايمانا، وأبرّهم عهدا، وأوفاهم لله ولرسوله ذمّة..!! وحاول خبيب وزيد أن يخلصا من وثاقهما، ولكنه كان شديد الاحكام. وقادهما الرماة البغاة الى مكة، حيث باعوهما لمشركيها.. ودوّى في الآذان اسم خبيب.. وتذكّر بنوالحارث بن عامر قتيل بدر، تذكّروا ذلك الاسم جيّدا، وحرّك في صدورهم الأحقاد. وسارعوا الى شرائه. ونافسهم على ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة بدر آباءهم وزعماءهم. وأخيرا تواصوا عليه جميعا وأخذوا يعدّون لمصير يشفي أحقادهم، ليس منه وحده، بل ومن جميع المسلمين..!! وضع قوم أخرون أيديهم على صاحب خبيب زيد بن الدّثنّة وراحوا يصلونه هو الآخر عذابا.. ** |
|
#3
|
||||
|
||||
|
أسلم خبيب قلبه، وأمره،ومصيره لله رب العالمين. وأقبل على نسكه ثابت النفس، رابط الجأش، معه من سكينة الله التي افاءها عليه ما يذيب الصخر، ويلاشي الهول. كان الله معه.. وكان هو مع الله.. كانت يد الله عليه، يكاد يجد برد أناملها في صدره..! دخلت عليه يوما احدى بنات الحارث الذي كان أسيرا في داره، فغادرت مكانه مسرعة الى الناس تناديهم لكييبصروا عجبا.. " والله لقد رأيته يحمل قطفا كبيرا من عنب يأكل منه.. وانه لموثق في الحديد.. وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة.. ما أظنه الا رزقا رزقه الله خبيبا"..!! أجل آتاه الله عبده الصالح، كما آتى من قبل مريم بنت عمران، يوم كانت: ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا.. قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب).. ** وحمل المشركون الى خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه زيد رضي الله عنه. ظانين أنهم بهذا يسحقون أعصابه، ويذيقونه ضعف الممات وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه، وأنزل عليه سكينته ورحمته. وراحوا يساومونه على ايمانه، ويلوحون له بالنجاة اذا ما هو كفر لمحمد، ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!! أجل، كان ايما خبيب كالشمس قوة، وبعدا، ونارا ونورا.. كان يضيء كل من التمس منه الضوء، ويدفئ كل من التمس منه الدفء، أم الذي يقترب منه ويتحدّاه فانه يحرقه ويسحقه.. واذا يئسوا مما يرجون، قادوا البطل الى مصيره، وخرجوا به الى مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك مصرعه.. وما ان بلغوه حتى استأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين، وأذنوا له ظانين أنه قد يجري مع نفسه حديثا ينتهي باستسلامه واعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه.. وصلى خبيب ركعتين في خشوع وسلام واخبات... وتدفقت في روحه حلاوة الايمان، فودّ لو يظل يصلي، ويصلي ويصلي.. ولكنه التفت صوب قاتليه وقال لهم: " والله لاتحسبوا أن بي جزعا من الموت، لازددت صلاة"..!! ثم شهر ذراعه نحو السماء وقال: " اللهم احصهم عددا.. واقتلهم بددا".. ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد: ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الاله وان يشأ يبارك على أوصال شلو ممزّع ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم يقتلونه فوق الصليب.. ولقد أعدّوا من جذوع النخل صليبا كبيرا أثبتوافوقه خبيبا.. وشدّوا فوق أطرافه وثاقه.. واحتشد المشركون في شماتة ظاهرة.. ووقف الرماة يشحذون رماحهم. وجرت هذه الوحشية كلها في بطء مقصود امام البطل المصلوب..!! لم يغمض عينيه، ولم تزايل السكينة العجيبة المضيئة وجهه. وبدأت الرماح تنوشه، والسيوف تنهش لحمه. وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش وقال له: " أتحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك"..؟؟ وهنا لا غير انتفض خبيب كالاعصار وصاح، في قاتليه: " والله ما أحبّ أني في اهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة".. نفس الكلمات العظيمة التي قالها صاحبه زيد وهم يهمّون بقتله..! نفس الكلمات الباهرة الصادعة التي قالها زيد بالأمس.. ويقولها خبيب اليوم.. مما جعل أبا سفيان، وكان لم يسلم بعد، يضرب كفا بكف ويقول مشدوها:" والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا"..!! ** كانت كلمات خبيب هذه ايذانا للرماح وللسيوف بأن تبلغ من جسد البطل غايتها، فتناوشه في جنون ووحشية.. وقريبا من المشهد كانت تحومطيور وصقور. كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان وجبة شهيّة.. ولكنها سرعان ما تنادت وتجمّعت، وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى. وفجأة طارت تشق الفضاء، وتمضي بعيدا.. بعيدا.. لكأنها شمّت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب، فخدلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!! مضت جماعة الطير الى رحاب الفضاء متعففة منصفة. وعادت جماعة المشركين الى أوكارها الحاقدة في مكة باغية عادية.. وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة من القرشيين حملة الرماح والسويف..!! كان خبيب عندما رفعوه الى جذوع النخل التي صنعوا منها صليبا، قد يمّم وجهه شطر السماء وابتهل الى ربه العظيم قائلا: " اللهم انا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا".. واستجاب الله دعاءه.. فبينما الرسول في المدينة اذ غمره احساس وثيق بأن أصحابه في محنة.. وتراءى له جثمان أحدهم معلقا.. ومن فوره دعا المقداد بن عمرو، والزبير بن العوّام.. فركبا فرسيهما، ومضيا يقطعان الأرض وثبا. وجمعهما الله بالمكان المنشود، وأنزلا جثمان صاحبهما خبيب، حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمّه تحت ثراها الرطيب. ولا يعرف أحد حتى اليوم أين قبر خبيب. ولعل ذلك أحرى به وأجدر، حتى يظل مكانه في ذاكرة التاريخ، وفي ضمير الحياة، بطلا.. فوق الصليب..!!! |
|
#4
|
||||
|
||||
|
خالد بن سعيد - فدائي ، من الرعيل الأول في بيت وارف النعمة، مزهو بالسيادة، ولأب له في قريش صدارة وزعامة، ولد خالد بن سعيد بن العاص، وان شئتم مزيدا من نسبه فقولوا: ابن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف.. ويوم بدأت خيوط النور تسري في أنحاء مكة على استحياء، هامسة بأن محمدا الأمين يتحدث عن وحي جاءه في غار حراء، وعن رسالة تلقاها من الله ليبلغها الى عباده، كان قلب خالد يلقي للنور الهامس سنعه وهو شهيد..!! وطارت نفسه فرحا، كأنما كان وهذه الرسالة على موعد.. وأخذ يتابع خيوط النور في سيرها ومسراها.. وكلما سمع ملأ من قومه يتحدثون عن الدين الجديد، جلس اليهم وأصغى في حبور مكتوم، وبين الحين والحين يطعّم الحديث بكلمة منه، أو كلمات تدفعه في طريق الذيوع، والتأثير، والايحاء..! كان الذي يراه أنئذ، يبصر شابا هادئ السمت، ذكيّ الصمت، بينما هو في باطنه وداخله، مهرجان حافل بلحركة والفرح.. فيه طبول تدق.. ورايات ترتفع.. وأبواق تدوّي.. وأناشيد تصلي.. وأغاريد تسبّح.. عيد بكل جمال العيد، وبهجة العيد وحماسة العيد، وضجة العيد..!!! وكان الفنى يطوي علىهذا العيد الكبير صدره، ويكتم سرّه، فان أباه لو علم أنه يحمل في سريرته كل هذه الحفاوة بدعوة محمد، لأزهق حياته قربانا لآلهة عبد مناف..!! ولكن أنفسنا الباطنة حين تفعم بأمر، ويبلغ منها حدّ الامتلاء فانها لا تمبك لافاضته دفعا.. وذات يوم.. ولكن لا.. فان انلاهر لم يطلع بعد، وخالد ما زال في نومه اليقظان، يعالج رؤيا شديدة الوطأة، حادة التأثير، نفاذة العبير.. نقول اذن: ذات ليلة، رأى خالد بن سعيد في نومه أنه واقف على شفير نار عظيمة، وأبوه من ورائه يدفعه بكلتا يديه، ويريد أن يطرحه فيها، ثم رأى رسول الله يقبل عليه، ويجذبه بيمينه المباركة من ازاره فيأخذه بعيدا عن النار واللهب.. ويصحو من نومه مزوّدا بخطة العمل في يومه الجديد، فيسارع من فوره الى دار أبي بكر، ويقصّ عليه الرؤيا.. وما كانت الرؤيا بحاجة الى تعبير..د وقال له أبو بكر: " انه الخير أريد لك.. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فان الااسلام حاجزك عن النار". وينطلق خالد باحثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يهتدي الى مكانه فيلقاه، ويسأل النبي عن دعوته، فيجيبه عليه السلام: " تؤمن بالله وحده، ولا تشرك به شيئا.. وتؤمن بمحمد عبده ورسوله.. وتخلع عبادة الأوثان التي لا يسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع".. ويبسط خالد يمينه، فتلقاها يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفاوة، ويقول خالد: " اني أشهد أن لا اله الا الله... وأشهد أن محمدا رسول الله"..!! وتنطلق أغاريد نفسه وأناشيدها.. ينطلق لمهرجان كله الذي كان في باطنه.. ويبلغ النبأ أباه. ** يوم أسلم سعيد، لم يكن قد سبقه الى الاسلام سور اربعة أو خمسة،فهو اذن من الخمسة الأوائل المبكرين الى الاسلام. وحين يباكر بالاسلام واحد من ولد سعيد بن العاص، فان ذلك في رأي سعيد، عمل يعرّضه للسخرية والهوان من قريش، ويهز الأرض تحت زعامته. وهكذا دعا اليه خالد، وقال له:" أصحيح أنك اتبعت محمدا وأنت تسمعه يهيب آلهتنا"..؟؟ قال خالد: " انه والله لصادق.. ولقد آمنت به واتبعته".. هنالك انهال عليه أبوه ضربا، ثم زجّ به في غرفة مظلمة من داره، حيث صار حبيسها، ثم راح يضنيه ويرهقه جوعا وظكأ.. وخالد يصرخ فيهم من وراء الباب المغلق عليه: " والله انه لصادق، واني به لمؤمن". وبدا لسعيد أن ما أنزل بولده من ضرر لا يكفي، فخرج به الى رمضاء مكة، حيث دسّه بين حجارتها الثقيلة الفادحة الملتهبة ثلاثة أيام لا يواريه فيها ظل..!! ولا يبلل شفتيه قطرة ماء..!! ويئس الوالد من ولده، فعاد به الى داره، وراح يغريه، ويرهبه.. يعده، ويتوعّده.. وخالد صامد كالحق، يقول لأبيه: " لن أدع الاسلام لشيء، وسأحيا به وأموت عليه".. وصاح سعيد: " اذن فاذهب عني يا لكع، فواللات لأمنعنّك القوت".. وأجابه خالد: ".. والله خير الرازقين"..!! وغادر الدار التي تعجّ بالرغد، من مطعم وملبس وراحة.. غادرها الى الخصاصة والحرمان.. ولكن أي بأس..؟؟ أليس ايمانه معه..؟؟ ألم يحتفظ بكل سيادة ضميره، وبكل حقه في مصيره..؟؟ ما الجوع اذن، وما الحرمان، وما العذاب..؟؟ واذا وجد انسان نفسه مع حق عظيم كهذا الحق الذي يدعو اليه محمد رسول الله، فهل بقي في العالم كله شيء ثمين لم يمتلكه من ربح نفسه في صفقة، الله صاحبها وواهبها...؟؟ وهكذا راح خالد بن سعيد يقهر العذاب بالتضحية، ويتفوق على الحرمان بالايمان.. وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المؤمنين بالهجرة الثانية الى الحبشة، كان خالد بن سعيد، ممن شدّوا رحالهم اليها.. ويمكث خالد هناك الى ما شاء الله ان يمكث، ثم يعود مع اخوانه راجعين الى بلادهم، سنة سبع، فيجدون المسلمين قد فرغوا لتوهم من فتح خيبر.. ويقيم خالد بالمدينة وسط المجتمع المسلم الجديد الذي كان أحد الخمسة الأوائل الذين شهدوا ميلاده، وأسسوا بناءه، ولا يغزو النبي غزوة، ولا يشهد مشهدا، الا وخالد بن سعيد من السابقين.. وكان خالد بسبقه الى الاسلام، وباستقامة ضميره ونهجه موضع الحب والتكريم.. كان يحترم اقتناعه فلا يزيفه ولا يضعه موضع المساومة. قبل وفاة الرسول جعله عليه السلام واليا على اليمن.. ولما ترامت اليه أنباء استخلاف أبي بكر، ومبايعته غادر عمله قادما الى المدينة.. وكانه يعرف لأبي بكر الفضل الذي لا يطاول.. بيد أنه كان يرى أن أحق المسلمين بالخلافة واحد من بين هاشم: العباس مثلا، أو عليّ ابن أبي طالب.. ووقف الى جانب اقتناعه فلم يبايع أبا بكر.. وظل أبو بكر على حبه له، وتقديره اياه لا يكرهه على أن يبايع، ولا يكرهه لأنه لم يبايع، ولا يأتي ذكره بين المسلمين الا أطراه الخليفة العظيم، وأثنى عليه بما هو أهله.. ثم تغيّر اقتناع خالد بن سعيد، فاذا هو يشق الصفوف في المسجد يوما وأبو بكر فوق المنبر، فيبايعه بيعة صادقة وثقى.. ** ويسيّر أبا بكر جيوشه الى الشام، ويعقد لخالد بن سعيد لواء، فيصير أحد أمراء الجيش.. ولكن يحدث قبل أن تتحرك القوات من المدينة أن يعارض عمر في امارة خالد بن سعيد، ويظل يلح على الخليفة أن يغيّر قراره بشأن امارة خالد.. ويبلغ النبأ خالد، فلا يزيد على قول: " والله ما سرّتنا ولايتكم، ولا ساءنا عزلكم"..!! ويخفّ الصدّيق رضي الله عنه الى دار خالد معتذرا له، ومفسرا له موقفه الجديد، ويسأله مع من من القوّاد والأمراء يجب أن يكون: مع عمرو بن العاص وهو ابن عمه، أ/ مع شرحبيل بن حسنة؟ فيجيب خالد اجابة تنمّ على عظمة نفسه وتقاها: " ابن عمّي أحبّ اليّ في قرابته، وشرحبيل أحبّ في أحبّ اليّ في دينه".. ثم اختار أن يكون جنديا في كتيبة شرحبيل بن حسنة.. ودعا ابو بكر شرحبيل اليه قبل أ، ستحرّك الجيش، وقال له: " انظر خالد بن سعيد، فاعرف له من الحق عليك، مثل مل كنت تحبّ أن يعرف من الحق لك، لو كنت مكانه، وكلن مكانك.. انك لتعرف مكانته في الاسلام.. وتعلم أن رسول الله توفى وهو له وال.. ولقد كنت وليته ثم رأيت غير ذلك.. وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه، فما أغبط أحد بالامارة..!! وقد خيّرته في أمراء الجند فاختارك على ابن عمّه.. فاذا نزل بك أمر تحتاج فيه الى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به: أبو عبيدة بن الجرّاح، ومعاذ بن جبل.. وليك خالد بن سعيد ثالثا، فانك واجد عندهم نصحا وخيرا.. واياك واستبداد الرأي دونهم، أو اخفاءه عنهم".. وفي موقعه مرج الصفر بأرض الشام، حيث كانت المعارك تدور بين المسلمين والروم، رهيبة ضارية، كان في مقدمة الذين وقع أجرهم على اله، شهيد جليل، قطع طريق حياته منذ شبابه الباكر حتى لحظة استشهاده في مسيرة صادقة مؤمنة شجاعة.. ورآه المسلمون وهم يفحصون شهداء المعركة، كما كان دائما، هادئ الّمت، ذكي الصمت، قوي التصميم، فقاول: " اللهم ارض عن خالد بن سعيد"..!! |
|
#5
|
||||
|
||||
|
أبو هريرة - ذاكرة عصر الوحي صحيح أن ذكاء المرء محسوب عليه.. وأصحاب المواهب الخارقة كثيرا ما يدفعون الثمن في نفس الوقت الذي كان ينبغي أن يتلقوا فيه الجزاء والشكران..!! والصحابي الجليل أبو هريرة واحد من هؤلاء.. فقد كان ذا موهبة خارقة في سعة الذاكرة وقوتها.. كان رضي الله عنه يجيد فنّ الاصغاء، وكانت ذاكرته تجيد فن الحفظ والاختزان.. يسمع فيعي، فيحفظ، ثم لا يكاد ينسى مما وعى كلمة ولا حرفا مهما تطاول العمر، وتعاقبت الأيام..!! من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفظا لأحاديثه، وبالتالي أكثرهم رواية لها. فلما جاء عصر الوضّاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتخذوا أبا هريرة غرضا مستغلين أسوأ استغلال سمعته العريضة في الرواية عن رسول الله عليه السلام موضع الارتياب والتساؤول. لولا تلك الجهود البارة والخارقة التي بذلها أبرار كبار نذور حياتهم وكرّسوها لخدمة الحديث النبوي ونفي كل زيف ودخيل عنه. هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من أخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد المفسدون أن يتسللوا بها الى الاسلام عن طريقه، وأن يحمّلوه وزرها وأذاها..!! ** والآن.. عندما نسمع واعظا، أو محاضرا، أو خطيب جمعة يقول تلك العبارة المأثورة:" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..". أقول: عندما تسمع هذا الاسم على هذه الصورة، أ، عندما تلقاه كثيرا، وكثيرا جدّا في كتب الحديث، والسيرة والفقه والدين بصفة عامة، فاعلم أنك تلقى شخصية من أكثر شخصيات الصحابة اغراء بالصحبة والاصغاء.. ذلك أن ثروته من الأحاديث الرائعة، والتوجيهات الحكيمة التي حفظها عن النبي عليه السلام، قلّ أن يوجد لها نظير.. وانه رضي الله عنه بما يملك من هذه الموهبة، وهذه الثروة، لمن أكثر الأصحاب مقدرة على نقلك الى تلك الأيام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والى التحليق بك، اذا كنت وثيق الايمان مرهف النفس، في تاك الآفاق التي شهدت روائع محمد وأصحابه، تعطي الحياة معناها، وتهدي اليها رشدها ونهاها. واذا كانت هذه السطور قد حرّكت أشواقك لأن تتعرّف لأبي هريرة وتسمع من أنبائه نبأ، فدونك الآن وما تريد.. انه واحد من الذين تنعكس عليهم ثروة الاسلام بكل ما أحدثته من تغيرات هائلة. فمن أجير الى سيّد.. ومن تائه في الزحام، الى علم وامام..!! ومن ساجد أمام حجارة مركومة، الى مؤمن بالله الواحد القهار.. وهاهو ذا يتحدّث ويقول: " نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا.. وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني..!! كنت أخدمهم اذا نزلوا، وأحدو لهم اذا ركبوا.. وهأنذا وقد زوّجنيها الله، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة اماما"..! قدم على النبي عليه الصلاة والسلام سنة سبع وهو بخيبر، فأسلم راغبا مشتاقا.. ومنذ رأى النبي عليه الصلاة والسلام وبايعه لم يكد يفارقه قط الا في ساعات النوم.. وهكذا كانت السنوات الأربع التي عاشها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم الى أن ذهب النبي الى الرفيق الأعلى. نقول: كانت تلك السنوات الأربع عمرا وحدها.. كانت طويلة عريضة، ممتلئة بكل صالح من القول، والعمل، والاصغاء. ** أدرك أبو هريرة بفطرته السديدة الدور الكبير الذي يستطيع أن يخدم به دين الله. ان أبطال الحرب في الصحابة كثيرون.. والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون. ولكن البيئة والجماعة تفتقد الكتابة والكتّاب. ففي تلك العصور، وكانت الجماعة الانسانية كلها، لا العرب وحدهم، لا يهتمون بالكتابة، ولم تكن الكتابة من علامات التقدم في مجتمع ما.. بل انّ أوروبا نفسها كانت كذلك منذ عهد غير بعيد. وكان أكثر ملوكها وعلى رأسهم شارلمان أميّين لا يقرءون ولا يكتبون، مع أنهم في نفس الوقت كانوا على حظ كبير من الذكاء والمقدرة.. ** |
|
#6
|
||||
|
||||
|
نعود الى حديثنا لنرى أبا هريرة يدرك بفطرته حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الاسلام الى من يحفظن تراثه وتعاليمه، كان هناك يومئذ من الصحابة كتّاب يكتبون ولكنهم قليلون، ثم ان بعضهم لا يملك من الفراغ ما يمكّنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول من حديث. لم يكن أبا هريرة كاتبا، ولكنه كان حافظا، وكان يملك هذا الفراغ، أو هذا الفراغ المنشود، فليس له أرض يزرعها ولا تجارة يتبعها!! وهو اذا رأى نفسه وقد أسلم متأخرا، عزم على أن يعوّض ما فاته، وذلك بأن يواظب على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مجالسته.. ثم انه يعرف من نفسه هذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه، وهي ذاكرته الرحبة القوية، والتي زادت مضاء ورحابة وقوة، بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها أن يبارك الله له فيها.. فلماذا اذن لا يكون واحدا من الذين يأخذون على عاتقهم حفظ هذا التراث ونقله لللأجيال..؟؟ أجل.. هذا دوره الذي تهيئه للقيام به مواهبه، وعليه أن يقوم به في غير توان.. ** ولم يكن أبو هريرة ممن يكتبون، ولكنه كان كما ذكرنا سريع الحفظ قوي الذاكرة.. ولم تكن له أرض يزرعها، ولا تجارة تشغله، ومن ثمّ لم يكن يفارق الرسول في سفر ولا في حضر.. وهكذا راح يكرّس نفسه ودقة ذاكرته لحفظ أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته.. فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، راح أبو هريرة يحدث، مما جعل بعض أصحابه يعجبون: أنّى له كل هذه الحاديث، ومتى سمعها ووعاها.. ولقد ألقى أبوهريرة رضي الله عنه الضوء على هذه الظاهرة، وكانه يدفع عن نفسه مغبة تلك الشكوك التي ساورت بعض أصحابه فقال: " انكم لتقولون أكثر أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم.. وتقولون: ان المهاجرين الذين سبقوه الى الاسلام لا يحدثون هذه الأحاديث..؟؟ ألا ان أصحابي من المهاجرين، كانت تشغلهم صفقاتهم بالسوق، وان أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم.. واني كنت أميرا مسكينا، أكثر مجالسة رسول الله، فأحضر اذا غابوا، وأحفظ اذا نسوا.. وان النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال: من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه اليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني..! فبسطت ثزبي فحدثني ثم ضممته اليّ فوالله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه.. وأيم والله، لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا، وهي: ( ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)..". هكذا يفسر أبو هريرة سر تفرّده بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فهو أولا كان متفرغا لصحبة النبي أكثر من غيره.. وهو ثانيا كان يحمل ذاكرة قوية، باركها الرسول فزادت قوة.. وهو ثالثا لا يحدّث رغبة في أن يحدّث، بل لأن افشاء هذه الأحاديث مسؤولية دينه وحياته، والا كان كاتما للخير والحق، وكان مفرطا ينتظره جزاء المفرّطين.. من أجل هذا راح يحدّث ويحدّث، لا يصدّه عن الحديث صادّ، ولا يعتاقه عائق.. حتى قال له عمر يوما وهو أمير المؤمنين: " لتتركنّ الحديث عن رسول الله،أو لألحقنك بأرض دوس".. أي أرض قومه وأهله.. على أن هذا النهي من أمير المؤمنين لا يشكل اتهاما لأبي هريرة، بل هو دعم لنظرية كان عمر يتبنّاها ويؤكدها، تلك هي: أن على المسلمين في تلك الفترة بالذات ألا يقرؤوا، وألا يحفظوا شيئا سوى القرآن حتى يقرّ وثبت في الأفئدة والعقول.. فالقرآن كتاب الله، ودستور الاسلام، وقاموس الدين، وكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما في تلك التي أعقبت وفاته عليه الصلاة والسلام، والتي يجمع القرآن خلالها قد تسبب بلبلة لا داعي لها ولا جدوى منها.. من أجل هذا كان عمر يقول: " اشتغلوا بالقرآن، فان القرآن كلام الله".. ويقول: " أقلوا الرواية عن رسول الله الا فيما يعمل به".. وحين أرسل أبو موسى الأشعري الى العراق قال له: " انك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ القرآن كدويّ النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالحديث، وأنا شريكك في ذلك".. كان القرآن قد جمع بطريقة مضمونة دون أن يتسرب اليه ما ليس منه.. اما الأحاديث فليس يضمن عمر أن تحرّف أو تزوّر، أو تخذ سبيل للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنيل من الاسلام.. وكان أبو هريرة يقدّر وجهة نظر عمر، ولكنه أيضا كان واثقا من نفسه ومن أمانته، وكان لا يريد أن يكتم من الحديث والعلم ما يعتقد أن كتمانه اثم وبوار. وهكذا.. لم يكن يجد فرصة لافراغ ما في صدره من حديث سنعه ووعاه الا حدّث وقال.. ** على أن هناك سببا هامّا، كان له دور في اثارة المتاعب حول أبي هريرة لكثرة تحدثه وحديثه. ذلك أنه كان هناك يومئذ محدّث آخر يحدّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويكثر ويسرف، ولم يكن المسلمون الأصحاب يطمئنون كثيرا لأحاديثه ذلكم هو كعب الأحبار الذي كان يهوديا وأسلم. ** أراد مروان بن الحكم يوما أن يبلو مقدرة أبي هريرة على الحفظ، فدعاه اليه وأجلسه معه، وطلب منه أن يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حين أجلس كاتبه وراء حجاب، وأمره أن يكتب كل ما يقول أبو هريرة.. وبعد مرور عام، دعاه مروان بن الحكم مرة أخرى، أخذ يستقرئه نفس الأحاديث التي كان كاتبه قد سطرها، فما نسي أبو هريرة كلمة منها!! وكان يقول عن نفسه: " ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني، الا ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص، فانه كان يكتب، ولا أكتب".. وقال عنه الامام الشافعي أيضا: " أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره". وقال البخاري رضي الله عنه: " روي عن أبو هريرة مدرسة كبيرة يكتب لها البقاء والخلود.. وكان أبو هريرة رضي الله عنه من العابدين الأوّابين، يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله.. فيقوم هو ثلثه، وتقوم زوجته ثلثه، وتقوم ابنته ثلثله. وهكذا لا تمر من الليل ساعة الا وفي بيت أبي هريرة عبادة وذكر وصلاة!! وفي سبيل أن يتفرّغ لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عانى من قسوة الجوع ما لم يعاني مثله أحد.. وانه ليحدثنا: كيف كان الجوع يعض أمعاءه فيشدّ على بطمه حجرا ويعتصر كبده بيديه، ويسقط في المسجد وهو يتلوى حتى يظن بعض أصحابه أن به صرعا وما هو بمصروع..! ولما أسلم لم يكن يئوده ويضنيه من مشاكل حياته سوى مشكلة واحدة لم يكن رقأ له بسببها جفن.. كانت هذه المشكلة أمه: فانها يومئذ رفضت أن تسلم.. ليس ذلك وحسب، بل كلنت تؤذي ابنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكره بسوء.. وذات يوم أسمعت أبا هريرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره، فانفضّ عنها باكيا محزونا، وذهب الى مسجد الرسول.. ولنصغ اليه وهو يروي لنا بقيّة النبأ: ".. فجئت الى رسول الله وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، كنت أدعو أم أبي هريرة الى الاسلام فتأبى علي، واني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبا هريرةالى الاسلام.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة.. فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله، فلما أتيت الباب اذا هو مجاف، أي مغلق، وسمعت خضخضة ماء، ونادتني يا أبا هريرة مكانك.. ثم لبست درعها، وعجلت عن خمارها وخرجت وهي تقول: أشهد أن لا اله الا الله، وأِهد أن محمدا عبده ورسوله.. فجئت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن، وقلت: أبشر يا رسول الله، فقد أجاب الله دعوتك.. قد هدى أم أبي هريرة الى الاسلام.. ثم قلت يا رسول الله: ادع الله أن يحبّبني وأمي الى المؤمنين والمؤمنات.. فقال: اللهم حبّب عبيدك هذا وأمه الى كل مؤمن ومؤمنة".. ** |
|
#7
|
||||
|
||||
|
وعاش أبو هريرة عابدا، ومجاهدا.. لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة. وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه امارة البحرين. وعمر كما نعلم شديد المحاسبة لولاته. اذا ولّى أحدهم وهو يملك ثوبين، فيجب أن يترك الولاية وهو لا يملك من دنياه سوى ثوبيه.. ويكون من الأفضل أن يتركها وله ثوب واحد..!!! أما اذا خرج من الولاية وقد ظهرت عليه أعراض الثراء، فآنئذ لا يفلت من حساب عمر، مهما يكن مصدر ثرائه حلالا مشروعا! دنيا أخرى.. ملاءها همر روعة واعجازا..!! وحين وليّ أبو هريرة البحرين ادّخر مالا، من مصادره الحلال، وعلم عمر فدعاه الى المدينة.. ولندع أبو هريرة يروي لنا ما حدث بينهما من حوار سريع: " قال لي عمر: يا عدو الله وعدو كتابه، أسرقت مال الله..؟؟ قلت: ما أنا بعدو لله ولا عدو لكتابه،.. لكني عدو من عاداهما.. ولا أنا من يسرق مال الله..! قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف..؟؟ قلت: خيل لي تناسلت، وعطايا تلاحقت.. قال عمر: فادفعها الى بيت مال المسلمين"..!! ودفع أبو هريرة المال الى عمر ثم رفع يديه الى السماء وقال: اللهم اغفر لأمير المؤمنين".. وبعد حين دعا عمر أبا هريرة، وعرض عليه الولاية من حديد، فأباها واعتذر عنها.. قال له عمر: ولماذا؟ قال أبو هريرة: حتى لا يشتم عرضي، ويؤخذ مالي، ويضرب ظهري.. ثم قال: وأخاف أن أقضي بغير علم وأقول بغير حلم.. ** وذات يوم اشتد شوقه الى لقاء الله.. وبينما كان عوّاده يدعون له بالشفاء من مرضه، كان هو يلحّ على الله قائلا: " اللهم اني أحب لقاءك، فأحب لقائي".. وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة. ولبن ساكني البقيع الأبرار ب\تبوأ جثمانه الوديع مكانا مباركا.. وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته، كانت ألسنتهم ترتل الكثير من الأحاديث التي حفظها لهم عن رسولهم الكريم. ولعل واحدا من المسلمين الجدد كان يميل على صاحبه ويسأله: لماذا كنّى شيخنا الراحل بأبي هريرة..؟؟ فيجيبه صاحبه وهو الخبير بالأمر: لقد كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، ولما أسلك سمّاه الرسول عبدالرحمن.. ولقد كان عطوفا على الحيوان، واكنت له هرة، يطعمها، ويحملها، وينظفها، ويؤويها.. وكانت تلازمه كظله.. وهكذا دعي: أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه.. |
| العلامات المرجعية |
| أدوات الموضوع | ابحث في الموضوع |
| انواع عرض الموضوع | |
|
|