|
||||||
| محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
|||
|
|||
|
ومن الأمثلة العظيمة أيضًا التي تدل على احترام رسول الله صلى الله عليه وسلم لزعماء غير المسلمين ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم، ويحرص على تكراره من ثناء ومديح للنجاشي ملك الحبشة.. فإنَّه ما تردد صلى الله عليه وسلم أن يقول صراحةً: «إن بها مَلِكًا لا يُظلَمُ عنده أحدٌ، وهي أرضُ صدقٍ». إنه يمدح الملك النصراني بشيء هو فيه فعلاً، ولابد لكل إنسان من شيء إيجابي فيه يستحق المدح، ولكن ليس كل الناس قادرين على إبراز الحُسْنِ عند غيرهم، بل يعتقد بعض قاصري الفهم من المسلمين أنه يجب ترك الثناء على غير المسلمين خوفًا من أن يكون هذا نوعًا من الموالاة أو التودد المرفوض. ولا بد أن نأخذ في الاعتبار أن النصرانية التي كانت في الحبشة آنذاك كانت نصرانية محرَّفة كأي مكان في الدنيا، وظهر ذلك في موقف البطارقة من كلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عن المسيح عليه السلام، ومع ذلك فهذا التحريف لم يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر محاسنهم والثناء على فضائلهم.
ولم يكن هذا السلوك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه زعماء غير المسلمين سلوكًا عابرًا في حياته، وإنما كان أصلاً من الأصول التي يحتكم إليها صلى الله عليه وسلم في كل تعاملاته معهم، ويظهر هذا جليًّا في رسائله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض وزعمائها، فهو لم يختص واحدًا دون الآخر باحترام أو توقير، وإنما عاملهم جميعًا بمنتهى الدبلوماسية، وبأعلى درجات الأخلاق بصرف النظر عن مللهم ونحلهم: فقد كان مِنْهُمُ النصارى، ومنهم المجوس، ومنهم عبدة الأوثان، كما أنه لم ينظر إلى أعراقهم.. بل عظَّم الجميع من عرب ومن عجم.. لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة رسائل إلى ملوك الأرض, حينذاك دعاهم فيها إلى الإسلام، وكان اللافت للنظر أنه في كل رسائله كان يصف الملك أو الزعيم بالعظمة، ولم يتحرِّجْ من وصف رجل غير مسلم منحرف العقيدة بهذا الوصف.. يقول صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى قيصر الروم: «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم…». ويقول كذلك في رسالته إلى كسرى فارس: «من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس…». ويقول في رسالته إلى المقوقس زعيم مصر: «من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط…». وإلى النجاشي زعيم الحبشة: «هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم، عظيم الحبشة...». وهكذا كانت رسائله صلى الله عليه وسلم، تفيض احترامًا وتقديرًا على الرغم من اختلاف العقيدة والعرق مع من يراسلهم، فالتعامل الأخلاقي تعامل إنساني لا يرتبط بأرض أو زمان. المطلب الثالث: عدم التشفي في قادة الأعداء عند انكسارهم! وهذا خلق عجيب من أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وسلم، فكل إنسان ذاق ظلمًا، أو شعر بألم، يتمنى في قرارة نفسه أن يرى هذا الذي أذاقه الظلم وأشعره بالألم يذوق من نفس الكأس التي أذاقها له. إن هذا شعور فطري غريزي عند كل الناس، حتى قال ربنا في كتابه وهو يصف فوائد القتال في سبيل الله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] فجعل شفاء صدور المؤمنين أحد الفوائد المهمة للمقاتل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان طرازًا فريدًا من البشر، فكان لا يحب أن يرى عدوه منكسرًا، ولا ذليلاً، بل كان يرفع من همَّته، ويشجعه، وينزله مكانته، ويعطيه، وكأنه أحد المقربين إليه!! ولنأخذ مثالين فقط على هذا الأمر، فالمجال لا يتسع للتفصيل. أولاً: أخلاقه صلى الله عليه وسلم مع عدي بن حاتم زعيم قبيلة طيئ: كانت قبيلة طيئ من القبائل التي قاومت الإسلام بشدة، ولفترة طويلة، وقد كان لها من الخلفيات ما يجعل قبولها للدخول في الدين الجديد "الإسلام" صعبًا، فقد كانت من فروع ربيعة القحطانية، وهم فرع بعيد جدًا عن فروع قريش العدنانية، ومن ثم فالحساسية القَبَلِيَّة بينها وبين قريش كانت على أشدِّ ما يكون، وكان لقبيلة طيئ صنمها الخاص بها واسمه: "الفِلْس"، وكان الناس يزورونه من أماكن بعيدة.. ثم إن فريقًا منهم تَنَصَّرَ ويَمَّمَ وجهه شطر الدولة الرومانية، فحالفها وتعاون معها، فتجمعت بذلك عدة عوامل تمنع هذه القبيلة من قبول فكرة الإسلام: أمور قبلية، وأمور عقائدية، فضلا عن موالاتهم للدولة الأولى في العالم وهي الدولة الرومانية.. فإذا أضفت إلى كل ذلك أنهم كانوا من القبائل القوية التي تبسط سيطرتها على مساحات شاسعة في الجزيرة؛ حتى لم يكن يأمن أحد على سفره إلى العراق أو الشام إلا بموافقةٍ وقبولٍ من رجال قبيلة طيئ.. إذا أضفت ذلك علمت أن تفكيرهم في الإسلام سيكون متأخرًا جدًا. ثم تدرك مدى عداوتها للإسلام حين تعلم أنَّ من أبنائها كعب بن الأشرف الزعيم اليهودي المشهور، الذي ناصب المسلمين العداء في كل مكان؛ فقد كان أبوه من طيئ، وأمُّه من بني النضير، ولما اشتدَّ كيدُه للمسلمين وألَّب عليهم الجزيرة العربية بكاملها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ب***ه، فقُتل، وفقدت طيئ بم***ه رمزًا هامًا من رموزها بين العرب. لقد كان على رأس هذه القبيلة العزيزة عدي بن حاتم الطائي، وهو ابن الزعيم العربي الشهير: "حاتم الطائي"، والذي كان مضربًا للمثل في الكرم وحسن الضيافة.. وقد شعر "عدي بن حاتم" أن البساط يُسْحَبُ من تحت أقدامه، وأن مكانته تَهتَزُّ في الجزيرة العربية؛ فحقد حقدًا شديدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول: "بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين بُعث، فكرهته أشد ما كَرِهْتُ شيئًا قط". ومرَّت الأيام، وفُتِحَتْ مكة، وآمن أهلها، وأسلمت هوازن، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا هنا وهناك تَهْدِمُ الأصنام التي تُعْبَدُ من دون الله، وكان من السرايا التي أرسلها صلى الله عليه وسلم سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى قبيلة طيئ لهدم صنم الفلس، وقاومت طيئ مقاومة شديدة.. ثم إنهم فَرُّوا في كلِّ مكانٍ، وأُسِرَ بعضُهم، وفَرَّ عدي بن حاتم إلى حلفائه من ملوك الشام، وأُسِرَتْ أخته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنَّ عليها بغير فداء، فانطلقت إلى الشام تدعو أخاها إلى القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: "لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغبًا، أو راهبًا" !! وكان عدي بن حاتم قد كره حياته كلاجئ في غير بلاده. ولنترك له الأمر ليُصَوِّرَ حاله حينئذ.. يقول عدي: "فكرهت مكاني الذي أنا فيه، حتى كنت له أشد كراهية له مني من حيث جئت، فقلت: لآتينَّ هذا الرجل، فوالله إن كان صادقًا فلأسمعنَّ منه، وإن كان كاذبًا ما هو بضائري". وجاء عدي بن حاتم إلى المدينة المنورة، وهو في هذه الحالة المنكسرة، وهو في هذا الضعف الذي لا يَخْفَى على أحد، فماذا فعل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يقول عدي: فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل؟» فقلت: عدي بن حاتم. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لَقِيَته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك! ثم أكمل عدي: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل في بيته تناول وسادة في أدم محشوة ليفًا فقذفها إليَّ، فقال: «اجلس على هذه». قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: "بل أنت"، فجلست عليها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض! قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك !! وصدق عدي – والذي خَبِر الملوك وعرفهم – فليس هذا سلوك الملوك! إنه صلى الله عليه وسلم لم يعلِّق تعليقًا سلبيًا على حرب عدي السابقة له، ولم يقل له ما الذي جاء بك بعد فرارك؟ ولم يقل له أين حلفاؤك من الرومان؟ بل لم يسأله ماذا تريد؟! لقد أخذه ببساطة عجيبة إلى بيته دون أن يؤمِّن الطرق، أو يصفَّ الحرس، وفي طريقه إلى البيت وقف يتحدث مع امرأة عجوز في تواضع عجيب، ثم أدخله بيته المتواضع جدًا، والذي لم يكن فيه إلا وسادة واحدة بسيطة، فقدَّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي ليجلس عليها، فاستحيا عدي، وقال: بل أنت، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصر على جلوس الزعيم الطائي عدي بن حاتم، وجلس هو على الأرض!!! (يتبع )
__________________
فكري إبراهيم الكفافي
مدير التعليم الابتدائي بإدارة الجمالية التعليمية دقهلية أمين اللجنة النقابية للمعلمين |
|
#2
|
|||
|
|||
|
ما أروع سيرتك يا خير البرية!
ثم يقول عدي بن حاتم: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعدي بن حاتم، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، ثَلَاثًا».. قُلْتُ: إِنِّي عَلَى دِينٍ.. قَالَ: «أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ».. فَقُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟..! قَالَ: «نَعَمْ، أَلَسْتَ مِنَ الرَّكُوسِيَّةِ؟ وَأَنْتَ تَأْكُلُ مِرْبَاعَ قَوْمِكَ؟» قُلْتُ: بَلَى.. قَالَ: «فَإِنَّ هَذَا لا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ»، قَالَ: فَلَمْ يَعْدُ أَنْ قَالَهَا فَتَوَاضَعْتُ لَهَا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ؛ تَقُولُ: إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ، وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَقَدْ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ. أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟».. قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ سَمِعْتُ بِهَا. قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَيَفْتَحَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ»، قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟..!! قَالَ: «نَعَمْ، كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» !! هكذا وفي بساطة شديدة قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القائد الكبير، والزعيم المعروف، في صفوف المسلمين، ولم يقل في نفسه لعله يحرِّك جموعَ طيئ ضد الإسلام، ولم يذكر حربه للمسلمين، ولا كرهه لهم، إنما تعامل معه في منتهي الحلم والرفق والتقدير.. وقد قال عديٌّ رضي الله عنه بعد ذلك: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ؛ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَهَا!! ثانيًا: أخلاقه صلى الله عليه وسلم مع عبد ياليل بن عمرو زعيم قبيلة ثقيف: وهذه - والله - شخصية عجيبة، ما توقَّع أحدٌ قطُّ أن يُحْسِنَ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد تركت هذه الشخصية جروحًا عميقة في نفسه صلى الله عليه وسلم لعدة سنوات، بل إنه عندما أتى للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأته راغبًا في الإسلام كما أتى الآخرون، إنما جاء يجادل ويناور!! إنها شخصية من أهم الشخصيات في الجزيرة العربية بكاملها!! إنه عبد ياليل بن عمرو الثقفي.. زعيم قبيلة ثقيف المشهورة!! وتاريخه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد السواد!! وتبدأ قصته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أُغْلِقَتْ أبوابُ الدعوة في مكة بعد وفاة أبي طالب عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مدينة الطائف؛ ليدعو قبيلة ثقيف إلى الله، لعلها تقف موقفًا مشرِّفًا معه، فالتقى مع زعماء ثقيف، وكانوا ثلاثة على رأسهم "عبد ياليل بن عمرو"، وعرض عليهم الأمر، فوجد منهم ما لم يتخيله من الجحود والإنكار والصد عن سبيل الله، بل وجد منهم السخرية والاستهزاء والاستخفاف- كما مرَّ بنا - حتى قال زعيمهم "عبد ياليل بن عمرو": إنه ليمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسله !! ثم كان من هذا الزعيم وأصحابه ما يَعرف الجميع من حثٍّ للغلمان والسفهاء أن يطاردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه زيد بن حارثة رضي الله عنه بالحجارة والسباب، حتى أخرجوهما تمامًا من منطقة الطائف.. إن هذا الموقف السفيه لمن أشدِّ مواقف الدعوة ألمًا على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وظلَّ الوضع على هذه الصورة القاتمة لسنوات متصلة.. فلم يؤمن أحد من ثقيف إلا قليل القليل، بل لعلَّه لم يؤمن منهم قبل الفتح إلا الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وفي العام الثامن من الهجرة قامت ثقيف بالتحالف مع هوازن لتكوين حزب ضخم يهدف إلى استئصال المسلمين، وذلك في غزوة حنين، ولكنهم هُزِموا بفضل الله، وبعد هزيمتهم فرَّت جيوشهم إلى حصونهم في الطائف، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمدة شهر كامل، ولكنه لم يقدر على إخراجهم من الحصون، ومن ثم غادر المنطقة دون أن يفتح الطائف.. وكانت هذه صدمة للصحابة رضي الله عنهم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هَوَّنَ عليهم الأمر، بل دعا لثقيف بالهداية كما تقدم بنا في هذا البحث. ولكن تفاقم أمر ثقيف عندما قَتَلت زعيمَها عروة بن مسعود رضي الله عنه، عندما أسلم ودعاهم إلى الإسلام، فأثَّر ذلك جدًا في رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومرَّت الأيام، وفي رمضان من العام التاسع من الهجرة وجدت قبيلة ثقيف أن قوة المسلمين أصبحت هي القوة الأولى في الجزيرة العربية، وبخاصة بعد فرار الجيوش الرومانية منها في تبوك، ففكَّرت أن تأتي المدينة لتبايع على الإسلام!! وكان واضحًا من كلامهم وترتيبهم أنهم ما جاءوا حُبًا للإسلام، ولا اقتناعًا به، ولكن لرؤيتهم أنهم لا طاقة لهم بحرب المسلمين، ومن ثَمَّ كوَّنوا وفدًا يُحاور ويفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليصل معه إلى أفضل ما يمكن أن يصلوا إليه، وجعلوا على رأس هذا الوفد "عبد ياليل بن عمرو" الزعيم القديم الذي سَخِرَ في يومٍ ما من رسول الله صلى الله عليه وسلم سخريةً شديدة، ولكن دارت الأيام دورتها، وجاء زعيم ثقيف منكسرًا أمام الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، الذي مُكِّن له في الأرض، وأصبح في مركز القوة.. وبرغم كل هذا التاريخ الأسود استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف - وعلى رأسه "عبد ياليل" - خير استقبال، ولم يُذَكِّرْهُمْ بماضيهم أبدًا، ولم يقل لهم شيئًا عن سخريتهم منه يوم ذهب إليهم صلى الله عليه وسلم طالبًا نصرتهم، ولم يقل: هذه بتلك، أو: اليومَ باليومِ الذي سخرتم فيه مني.. بل قابلهم صلى الله عليه وسلم بالترحاب وبالبسمة وبالكرم وبالضيافة وبالهدية.. بل جلس معهم يستمع لمفاوضاتهم ومقترحاتهم التي كانت في غاية السفاهة، ومع ذلك لم ينفعل عليهم، أو يغضب منهم، بل ناقشهم في هدوء، وتكلَّم معهم في رَويَّة!! لقد طلبوا أن يُسْلِموا ولكن بشروط منها: أن يأذن لهم في الربا والزنا وفي الخمر، وأن يُعْفَوْا من الصلاة، وأن تُتْرَكَ لهم اللات دون أن تُكسر.. !! لقد كانت مطالب سفيهة تدل على عدم فقهٍ لمعنى الإسلام، ومع سفاهة تلك المطالب إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفقد أعصابه أو يتركهم، إنما أخذ يُفَسِّرُ لهم ويشرح، ورفض مطالبهم هذه في منتهى الأدب، وبأسلوب يَغْلِبُ عليه الرفق واللين، وكان يُحاورهم كل ليلة بعد صلاة العشاء، ويُكثر من الحديث معهم، وكان قد ضرب لهم قُبَّة (خيمة) في المسجد النبوي تكريمًا لهم، وتعظيمًا لقَدْرِهِم.. هذا مع أنهم لم يُسلموا بعد.. وفي نهاية الأمر، قَبِلَ وفد ثقيف بالإسلام كاملاً دون انتقاص ولا تفريط، ودخلت بعد ذلك قبيلة ثقيف في الإسلام، وكانت من أكثر الناس ثباتًا على الإسلام حتى في زمان الردة.. وليس من شكٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سلك معهم مسلكًا عنيفًا، أو أظهر فيهم تشفيًا وشماتة لكانت حالهم غير هذه الحال، ولأصبحوا حَجَرَ عَثْرَةٍ في طريق الأمن والأمان في الجزيرة العربية كلها، ولكنه صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا ما دأب على تذكيرنا به حين قال: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ". ولقد رأينا الخير الواسع الذي عمَّ الجزيرة بكاملها، بل عمَّ العالم بهذا النهج الذي انتهجه في التعامل مع الناس، وفي التعامل مع المخالفين له، والمعترضين عليه، والطاعنين فيه، والساخرين منه، وقد صدق صلى الله عليه وسلم حين وصف قيمة الرفق بقوله المختصر المبدع: "من يُحرَم الرفق يُحرَم الخير". وصلِّ اللهم وسلِّمْ وبارِكْ على مَنْ عَلَّمَ الناسَ الخيرَ، وهَدَاهم إلى الرُّشد.. رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلِّم. المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.
__________________
فكري إبراهيم الكفافي
مدير التعليم الابتدائي بإدارة الجمالية التعليمية دقهلية أمين اللجنة النقابية للمعلمين |
![]() |
| العلامات المرجعية |
| أدوات الموضوع | |
| انواع عرض الموضوع | |
|
|