اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا

محمد ﷺ نبينا .. للخير ينادينا سيرة سيد البشر بكل لغات العالم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-12-2013, 09:02 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 37
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

تكثير الطعام والشراب والوضوء ببركة النبي صلى الله عليه وسلم(1)

وإن من المعجزات الخارقة لعادات البشر التي تشهد بالنبوة للأنبياء ما يجعله الله على أيديهم من البركة التي ينتفع بها الناس.
قال الله على لسان نبيه المسيح: { قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً * وجعلني مباركاً أين ما كنت ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً } (مريم: 30-31).
ونبينا صلى الله عليه وسلم أيضاً كان نبياً مباركاً، وكان ما ساقه الله من البركة على يديه دليلاً ساطعاً وبرهاناً دامغاً على نبوته ورسالته.
وقد كثُرت في ذلك الأخبارُ وتكاثرت وهي تتحدث عما كتب الله من تكثير القليل ببركة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحملتها إلينا الأسانيد الصحاح التي بلغتْ بها مَبلغَ التواتر، قال النووي: "وقد تظاهرت أحاديثُ آحادٍ بمثل هذا، حتى زاد مجموعها على التواتر، وحصل العلمُ القطعيُ بالمعنى الذي اشتركت فيه هذه الآحاد، وهو انخراق العادة بما أتى به صلى الله عليه وسلم من تكثيرِ الطعامِ القليلِ الكثرةَ الظاهرة، ونبعِ الماء وتكثيرِه، وتسبيحِ الطعام، وحنينِ الجِذْعِ وغيرِه ... ".[1]
ومن هذه الأخبار الكثيرة التي تواتر معناها ما رواه لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حيث قال: تُوفي أبي وعليه دينٌ، فعرضتُ على غرمائه في الدَّين أن يأخذوا التمر بما عليه، فأبوا، ولم يروا أن فيه وفاءً.[2]
يقول جابر: فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك له، فقال: ((إذا جَدَدتَه فوضعتَه في المِرْبد[3] آذنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم))، أي طلب منه إذا جمع التمر في مكانه أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال جابر: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر، فجلس على المِربَد، ودعا بالبركة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((ادعُ غُرَماءَك فأوفِهم))، قال جابر: فما تركتُ أحداً له على أبي دَيْنٌ إلا قضيتُه، وفَضَل ثلاثةَ عشر وسْقاً ...
فوافيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرِب، فذكرتُ ذلك له، فضحك، وقال: ((ائت أبا بكر وعمر فأخبرهُما))، فقالا: لقد علمنا إذ صنعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنعَ أنْ سيكون ذلك.[4] أي أن أبا بكر وعمرَ توقعا أن يقضي التمرُ - مع قِلّته - الدَّين ، وذلك ليَقِينهما ببركة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر: " وفيه عَلم ظاهر من أعلام النبوة، لتكثيرِ القليل إلى أن حصل به وفاء الكثير، وفَضَل منه".[5]
وأعجب منه رآه جابر في يوم آخر، وذلك يوم الخندق، فقد رأى بالنبي صلى الله عليه وسلم جوعاً شديداً، يقول: فانكفأْتُ إلى امرأتي، فقلتُ لها: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خَمَصَاً شديداً، قال: فأخرجَت لي جِراباً فيه صاعٌ من شعير، ولنا بهيمةٌ داجنٌ، ف***تُها ...
ثم ولّيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت امرأةُ جابر: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه.
لقد خشيتْ أن يدعو جمْعاً لا يكفيه الطعام، فتفضح بين النساء بعجزها عن إطعامهم.
يقول جابر: فجئتُه صلى الله عليه وسلم فسارَرْتُه، فقلتُ: يا رسول الله، إنا قد ***نا بهيمة لنا، وطحنتُ صاعاً من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفرٍ معك.
يقول جابر: فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((يا أهل الخندق، إن جابراً قد صنع لكم سُوراً، فحيَّ هلاً بكم)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر: ((لا تُنزلِنَّ بُرمَتكم، ولا تخبِزُنَّ عجينَتَكم حتى أجيء)).
قال جابر: فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْدُمُ الناسَ حتى جئتُ امرأتي، فقالت: بكَ وبكَ.
لقد لامته وقرّعته على دعوةِ العدد الكبير إلى طعامهم القليل، إذ ظنت أنه أهمل طلبتها.
يقول جابر: فقلتُ: قد فعلتُ الذي قلتِ لي.
قال جابر: فأخرجتُ له عجينتنا، فبصق فيها وبارك، ثم عمَد إلى بُرْمَتِنا، فبصق فيها وبارك، ثم قال لامرأتي: ((ادعي خابزةً فلتخبز معَكِ، واقدحي من بُرْمتِكم ولا تُنـزِلوها)).
قال جابر: وهم ألفٌ، فأقسم بالله، لأكلوا حتى تركوه .. وإن بُرْمَتنا لتغِطُّ كما هي، وإن عجينتنا لتُخبَز كما هو.[6]
لقد أطعم النبي صلى الله عليه وسلم ألف رجل من طعام لا يكاد يكفي البضعَ من الرجال، يقول النووي: "حديث طعام جابر فيه أنواع من فوائد وجُمَل من القواعد: منها: الدليلُ الظاهر والعلم الباهر من أعلام نبوةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وقد تضمن هذا الحديث عَلَمَينِ من أعلام النبوة: أحدُهُما: تكثيرُ الطعام القليل، والثاني: عِلمُه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الطعام القليل الذي يكفي في العادة خمسةَ أنفسٍ أو نحوَهم سيَكْثُر، فيكفي ألفاً وزيادة، فدعا له ألفاً [أي من أصحابه] قبل أن يصل إليه، وقد عُلم أنه [أي طعامُ جابر] صاعُ شعير وبهيمة".[7]
وأعجب منه وأعظم في البركة ما قصّه علينا عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما حين قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل مع أحدٍ منكم طعام؟)) فإذا مع رجل صاعٌ من طعام أو نحوُه، فعُجِن، ثم جاء رجلٌ مشرك مُشعَانٌ طويلٌ[8] بغنم يسوقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بيعاً أم عطية؟ أو قال: هِبة؟)) فقال: لا، بل بيع، فاشترى منه شاةً، فصُنِعَت.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسواد البطن [أي الكبد] أن يُشوى، وأيْمُ الله ما في الثلاثين والمائة إلا قد حَزّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم حُزَّة من سواد بطنها، إن كان شاهداً أعطاه إياه، وإن كان غائباً خبّأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون، وشبعنا، فَفَضَلت القصعتان، فحملناه على البعير. [9]
قال النووي: " وفي هذا الحديث معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إحداهما: تكثيرُ سوادِ البطن حتى وسِع هذا العدد، والأخرى تكثير الصاع ولحم الشاة حتى أشبعهم أجمعين ، وفَضَلَت منه فَضْلةً حملوها لعدم حاجة أحد إليها".[10]
وأدرك أبو هريرة رضيى الله عنه ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم من البركة، فطمع أن ينال حظه منها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بتمرات فقال: يا رسول الله، ادع الله لي فيهن بالبركة، قال: فصَفّهن بين يديه، ثم دعا، فقال لي: ((اجعلهن في مِزْود [وعاء]، وأدخل يدك ولا تَنثُرْه)) قال: فحملت منه كذا وكذا وسْقاً في سبيل الله، ونأكل ونطعِم، وكان لا يفارق حقوي [أي معْقِدَ الإزار].
فلما قُتل عثمان رضي الله عنه انقطع المِزود عن حقويّ، فسقط. [11]
لقد بقي رضيى الله عنه يأكل من الجراب زُهاء خمس وعشرين سنة، كل ذلك ببركة النبي صلى الله عليه وسلم ، ليكونَ شاهداً آخرَ على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا ولغيره لما أورد القاضي عياض أحاديثَ بركات النبي صلى الله عليه وسلم من تكثير الطعام وبركة الدعاء قال: "وقد اجتمع على معنى حديثِ هذا الفصلِ بضعةَ عشر من الصحابة، رواه عنهم أضعافُهم من التابعين، ثم من لا ينعدُّ بَعدَهم، وأكثرها في قصصٍ مشهورة ومجامعٍ مشهودة، ولا يمكن التحدّث عنها إلا بالحق، ولا يسكت الحاضرُ لها على ما أُنكِر منها".[12]
وهكذا فإنه يرى هذه الأخبار منقولةً بطريق أشبه التواتر، فقد شهد كلَّ واحدة منها الكثيرون من الصحابة وغيرِهم، فلم يعارِض أحدٌ رواتَها، وهم يروون هذه الأخبار لشهرتها وصدقها.
ويخرج سلَمةَ بنِ الأكوع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فيصيبهم جَهدٌ، حتى همّوا بنحر بعض إبِلِهِم، يقول سلمة: فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فجمعنا مزاوِدَنا، فبسطنا له نِطَعاً، فاجتمع زاد القوم على النِطَع.
قال سلمة: فتطاولتُ لأَحزِرَه كم هو؟ فحَزرْتُه كرَبضة العنْز[13] ، ونحن أربعَ عشرةَ مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً، ثم حشونا جُرُبَنا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((فهل من وضوء؟)) قال: فجاء رجلٌ بإدَاوةٍ له، فيها نُطفَة [أي القليل من الماء]، فأفرغها في قَدَح، فتوضأْنا كلُنا. [14]
قال النووي: " وفي هذا الحديث: معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهما: تكثيرُ الطعام، وتكثير الماء هذه الكثرةَ الظاهرة، قال المازِرِي: في تحقيق المعجزة في هذا، أنه كلما أُكِل منه جزءٌ أو شُرِب جزء، خلق الله تعالى جزءاً آخر يخلُفُه ".[15]
ومن أخبار بركاته صلى الله عليه وسلم المتكاثرة المتواترة في معناها، ما يرويه أبو هريرة ، فلنستمع إليه وهو يقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير، قال: فنفِدَت أزواد القوم، حتى هَمّوا بنحر بعضِ حمائلهم. فقال عمر: يا رسول الله، لو جمعتَ ما بقي من أزواد القـوم، فدعوتَ اللهَ عليها.
قال أبو هريرة: ففعل .. فدعا عليها، حتى ملأ القومُ أزْوِدَتهم. فقال صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غيرَ شاك فيهِما، إلا دخل الجنة)).[16]
لقد بارك الله فيما تبقى من أزوادهم، فكَثُر قليلُ طعامهم ببركة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال النووي: "وفي هذا الحديث عَلم من أعلام النبوة الظاهرة، وما أكثرَ نظائره التي يزيد مجموعها على شرط التواتر، ويحصل العلم القطعي، وقد جمعها العلماء، وصنفوا فيها كتباً مشهورة".[17]
وفي دليل آخر من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم يروي الشيخان في الصحيحين أن أبا طلحة دخل ذات يوم على زوجه أمِ سُلَيم، فقال لها: لقد سمعتُ صوتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم.
قال أنس: فأخرجتْ [أي أمَّه أُم سُليم] أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها، فلفّتِ الخبز ببعضه، ثم دسّته تحت يدي، ولاثتني ببعضه [أي لفتني ببعضه]، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهبتُ به، فوجدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فقُمتُ عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: آرسلكَ أبو طلحة [أي: هل أرسلكَ أبو طلحة]؟ فقلت: نعم. قال: بطعام؟ فقلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا.
قال أنس: فانطلق وانطلقتُ بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة فأخبرتُه، فقال أبو طلحة: يا أم سُليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعِمُهم. فقالت: الله ورسولُه أعلم.
فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحةَ معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلُمي يا أم سُليم، ما عندك؟
فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففُتَّ، وعَصرت أُمُّ سليمٍ عُكَّةً [قربةً فيها سمنٌ] فأَدَمَتْه [أي جعلتْه إداماً]، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول [أي من دعاء الله بالبركة].

ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ائذن لعشرةٍ))، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ((ائذن لعشرة)). فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا .. [وهكذا] فأكل القوم كلُّهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً. [18]
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (( آرسلك أبو طلحة؟)) وقوله: ((ألطعامٍ؟)) هذان عَلَمان من أعلام النبوة [أي لإخباره صلى الله عليه وسلم بما غاب عنه], وذهابُه صلى الله عليه وسلم بهم علَم ثالثٌ [أي لعلمه صلى الله عليه وسلم بحصول البركة] , وتكثيرُ الطعام عَلَم رابع ".[19]
وهذه القصة وأمثالُها حضرها الجمع من الصحابة، ولا يمكن الكذب في مثل هذه الأخبار لكثرةِ شهودها وظهورِ خبرها بين الناس.
قال النووي: " إذا روى الصحابي مثل هذا الأمر العجيب, وأحال على حضوره فيه مع سائر الصحابة, وهم يسمعون روايته ودعواه, أو بلَغهم ذلك ولا ينكرون عليه, كان ذلك تصديقاً له يوجب العلم بصحة ما قال".[20]
وذات مرة كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سفر ، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل، فدعا اثنين من أصحابه، فقال: ((اذهبا فابتغيا الماء))، فانطلقا، فتَلقيا امرأةً بين مزادتين من ماء، على بعير لها .. فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرَّغَ فيه من أفواهِ المزادتين، وأوْكأ أفواهَهما .. ونُودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من شاء، واستقى من شاء.
وأما المرأةُ صاحبةُ المزادتين، فكانت قائمةً تنظر إلى ما يُفعل بمائها، وأيم الله لقد أقلع عنها، وإنه ليُخيَّل إلينا أنها أشدُ مِلأَة منها حين ابتدأ فيها.
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم تطييب خاطرها، فقال: ((اجمعوا لها من بين عجوة ودقِيقَة وسَويقَة)) حتى جمعوا لها طعاماً، فجعلوها في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، وقـال لها صلى الله عليه وسلم: ((تعلمين ما رَزِئْنا من مائِكِ شيئاً [أي لم نُنقِص منه شيئاً]، ولكن الله هو الذي أسقانا)).

فأتت المرأة أهلها وقد احتبست عنهم، قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجبُ، لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فواللهِ إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، [أي السماء والأرض] أو إنه لرسولُ الله حقاً. ثم دعت قومها للإسلام، فأسلموا. [21]
لقد استدلت المرأة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته بما رأته من دليل باهر ومعجزة عظيمة حصلت ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لا تعجب وقد شرب القوم من مائها القليل، فكفاهم رغم كثرتهم، من غيرِ أن يَنقُص شيء من مائها.
قال ابن حجر: " وقد اشتمل ذلك على عَلمٍ عظيمٍ من أعلام النبوة ... وظاهره أن جميع ما أخذوه من الماء مما زاده الله تعالى وأوجده, وأنه لم يختلط فيه شيء من مائها في الحقيقة وإن كان في الظاهر مختلِطًا, وهذا أبدعُ وأغربُ في المعجزة .. ويُحتمل أن يكون المراد: ما نَقصْنَا من مِقدار مائِك شيئاً ".[22]
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سفر آخر فقال: ((إنكم إنْ لا تدركوا الماء غداً تعطشوا)) ... ثم سار وسرنا هُنَيهةً، ثم نزل، فقال: ((أمعكم ماء؟)) قال أبو قتادة: قلتُ: نعم، معي ميضأة فيها شيء من ماء.
فقال صلى الله عليه وسلم: ((ائتني بها))، فأتيته بها، فقال: ((مَسُّوا منها، مَسُّوا منها))، فتوضأ القوم، وبقيتْ جُرعة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ازدهر بها [أي احتفظ بها] يا أبا قتادة، فإنه سيكونُ لها نبأ))...
يقول أبو قتادة: فلما اشتدت الظهيرة خرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، هلكنا عطشاً، تقطعت الأعناق، فقال: ((لا هُلْكَ عليكم)). ثم قال: ((يا أبا قتادة ائت بالميضأة))، فأتيتُ بها، فقال: ((اِحلِل لي غُمري)) يعني قدَحَه، فحَللتُه، فأتيتُ به، فجعل يصبُ فيه، ويسقي الناس، فازدحم الناس عليه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس أحسِنوا الملَأْ، فكُلكم سيصدُر عن رِيّ))، فشرب القوم حتى لم يبق غيري وغيرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فصب لي، فقال: ((اشرب يا أبا قتادة)). قلت: أنت يا رسول الله. قـال: ((إن ساقيَ القومِ آخرُهم))، فشربتُ وشرِب بعدي، وبقي في الميضأة نحوٌ مما كان فيها، وهم يومَئذ ثلاثُ مائة. [23]
قال النووي: "وفي حديث أبي قتادة هذا معجزاتٌ ظاهراتٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إحداها: إخباره بأن الميضأة سيكونُ لها نبأ، وكان كذلك. الثانيةُ: تكثيرُ الماء القليل. الثالثةُ: قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم سيَرْوى)), وكان كذلك".[24]
وقد كان لأهل الصُّفة أضياف الإسلام نصيب من بركة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد أمر أبا هريرة رضيى الله عنه أن يدعوهم، فحضروا جميعاً، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هِر)) قال: قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطهم)).
قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشربُ حتى يَرْوى، ثم يردُّ علَيّ القدح، فأعطيه الرجلَ، فيشربُ حتى يَرْوى، ثم يرد عليّ القدح، فيشربُ حتى يروى، ثم يردّ عليّ القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رَويَ القومُ كلُهم.

فأخذ القدح ، فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسّم، فقال: ((أبا هِرّ)) قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((بقيتُ أنا وأنت))، قلتُ: صدقتَ يا رسول الله، قال: ((اقعد فاشرب))، فقَعَدتُ فشربتُ، فقال: ((اشرب)) فشرِبتُ، فما زال يقول: ((اشرب)) حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسْلَكاً، قال: ((فأرني)) فأعطيته القدح، فحمِد الله وسمّى، وشرِب الفَضْلة.[25]
قال ابن حجر: "ووقع في حديث أبي هريرة الماضي في علامات النبوة أنهم كانوا سبعين، وليس المرادُ حصرَهم في هذا العدد، وإنما هي عِدَّةُ من كان موجوداً حين القصة المذكورة ... وفيه معجزة عظيمة، وقد تقدم لها نظائر في علامات النبوة من تكثير الطعام والشراب ببركته صلى الله عليه وسلم ".[26]
ويحكي لنا سمُرة رضيى الله عنه آية أخرى كثَّر الله فيها الطعام على يديه صلى الله عليه وسلم ، فيقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أُتي بقصعة فيها ثريد، فأكلَ وأكل القوم: فلم يزل يتداولونها إلى قريب من الظهر: يأكل كل قوم ثم يقومون، ويجيء قوم فيتعاقبوه، فقال رجل لسمُرة: هل كانت تُمَدُّ بطعام؟ قال: (أما من الأرض فلا، إلا أن تكون كانت تُمَد من السماء). [27]
قال المباركفوري: " لا تكون كثرةُ الطعام فيها إلا من عالم العَلاء بنزول البركة فيها من السماء".[28]
وهذا دُكَين ٍالخثعمي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الطعام في رهط من قومه ، وهم أربعونَ وأربعُ مائة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرَ بن الخطاب: ((قم فأعطهم)).
قال: يا رسـولَ الله، ما عندي إلا ما يَقيظُني والصبيةَ. [29] قال: ((قم فأعطِهم)) ، قال عمر: يا رسولَ الله سمعاً وطاعة.
قال دُكَين: فقام عمر، وقمنا معه، فصعد بنا إلى غرفةٍ له، فأخرج المفتاح من حُجزَتـِه، ففتح الباب، فإذا بالغرفة شبيه الفصيل الرابض.[30]
قال: شأنكم، فأخذ كل رجل منا حاجَته ما شاء الله. قال دُكين: ثم التفتُّ، وإني لمن آخرهم، وكأنا لم نرْزَأْ منه تمرة. [31] أي لم ينقص التمر شيئاً.
وهكذا نرى تكرار هذه الأخبار التي شهدها جموع الصحابة، فهي أصدقُ الأخبار وأوثقُها، وهي بمنزلة المتواتر المقطوع بصحته وحجيته لتكرر أفرادها.
قال النووي عن أمثال هذه المعجزات: " تواترت على المعنى كتواتُرِ جودِ حاتِمِ طيئ وحِلمِ الأحنفِ بنِ قيس, فإنه لا ينقل في ذلك قصةٌ بعينِها متواترة, ولكن تكاثرت أفرادُها بالآحاد, حتى أفاد مجموعُها تواترَ الكرمِ والحِلْم [أي لحاتم والأحنف], وكذلك تواترُ انخراقِ العادةِ للنبي صلى الله عليه وسلم بغيرِ القرآن".[32]
__________________
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-12-2013, 09:07 PM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 37
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

تكثير الطعام والشراب والوضوء ببركة النبي صلى الله عليه وسلم(2)

ومن هذه الأخبار ما جاء في حديث مسلم عن جابر رضيى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر مع أصحابه، فقال: ((يا جابر ناد بوَضوء))، فقلت: ألا وَضوء؟ ألا وَضوء؟ ألا وَضوء؟
ولما لم يردَّ أحد قلتُ يا رسول الله، ما وجدتُ في الركبِ من قطْرة، وكان رجل من الأنصار يبرِّد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء في أشْجابٍ له.
قال جابر: فقال لي: ((انطلق إلى فلان ابن فلان الأنصاري، فانظر هل في أشجابه من شيء؟)) فانطلقتُ إليه، فنظرت فيها، فلم أجد فيها إلا قطرة، لو أني أُفرِغُه لشرِبه يابِسه [أي يابسُ السِقاء لقلة مائه]، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني لم أجد فيها إلا قطرة...
قال: ((اذهب، فأتني به))، فأتيته به، فأخذه بيده، فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو ويغمزه بيديه، ثم أعطانيه فقال: ((يا جابر نادِ بجفْنَة)) [وهي إناء كبير] ... فأُتيتُ بها تُحمل، فوضعتُها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده [أي وضعها] في الجفنَة هكذا، فبسطها، وفرق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة.
وقال: ((خذ يا جابر، فصُب عليَّ [أي قطرة الماء التي وجدتها عند الأنصاري]، وقل: باسم الله))، فصببتُ عليه، وقلت: باسم الله.
فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم فارت الجفنة [بالماء]، ودارت حتى امتلأت فقال: ((يا جابر، ناد من كان له حاجةٌ بماء)) قال: فأتى الناس، فاستقوا حتى رووا.
فقلتُ: هل بقي أحدٌ له حاجة؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأَى.[33]
قال الـمُزني: "نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من نبعَةِ الماء من الحجر حيث ضربه موسى عليه السلام بالعصا، فتفجرت منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروجه من بين اللحم والدم ".
وصدق القائل:
وإن كان موسى أنبع الما من العصا فمن كفه قد أصبح الماء يطفح
وقال القرطبي: "هذه المعجزة تكررت من النبي صلى الله عليه وسلم مرات عديدة في مشاهد عظيمة، وجموع كثيرة، بلغتنا بطرقٍ صحيحة من رواية أنس، وعبد الله بن مسعود، وجابر، وعمران بن حصين، وغيرهم ممن يحصل بمجموع أخبارهم العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي، وبهذا الطريق حصل لنا العلم بأكثر معجزاته الدالة على صدق رسالاته".[34]
وفي موقف آخر يرويه البخاري في صحيحه نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الحديبية بأقصاها على ثَمَد قليلِ الماء يتبرَّضُه الناس تبرُضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطشُ، فانتزع سهماً من كِنانته، ثم أمرهـم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالرَّي، حتى صدروا عنه.
قال ابن حجر: " وفي هذا الفصل معجزاتٌ ظاهرة , وفيه بركةُ سلاحه وما ينسب إليه, وقد وقع نبعُ الماء من بين أصابعه في عِدة مواطن ".[35]
ولما أتى معاذ بن جبل رضيى الله عنه عين تبوك مع رسول الله ، رأى قلة مائها فوصفها، فقال: والعين مثل الشِراك تَبِضُّ [36] بشيء من ماء، فجعل الصحابة يغرفون بأيديهم من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع لهم شيء من مائها.

قال معاذ: وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر - أو قال: غزير - حتى استقى الناس.
فقال له عليه الصلاة والسلام: ((يوشك يا معاذ - إن طالت بك حياة - أن ترى ما ها هنا قد ملئ جناناً)).[37]
وفي هذا الخبر دليلان من دلائل النبوة: أولهما: تفجر العين ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما نراه اليوم من وفرة المياه واتساع الرقعة الخضراء في منطقة تبوك.
وبعض بركة النبي صلى الله عليه وسلم استمر دهراً طويلاً بعد وفاته ، ومن ذلك ما ترويه عائشة رضي الله عنها بقولها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطرُ شعيرٍ في رفٍّ لي، فأكلتُ منه حتى طال عليَّ، فكِلْتُه ففني.[38]
ومثل هذا الخبر يحكيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفَهما حتى كاله، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لو لم تكِلْه لأكلتم منه، ولقام لكم.[39]
وروى مسلم أيضاً مثلَ هذا الخبر في قصة أم مالك، وكانت تهدي سمناً للنبي صلى الله عليه وسلم في عُكّة لها، فيأتيها بَنوها، فيسألون الأُدْم [أي ما يؤتدَم به الخبز، وهو ما يسمى في أيامنا إداماً]، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ، فتجد فيه سمناً، فما زال يقيم لها أُدْمَ بيتِها حتى عصرَته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((عصرتيها؟)) قالت: نعم قال: ((لو تركتيها ما زال قائماً)).[40]
قال النووي: " قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو تركتيها ما زال قائماً)) أي موجوداً حاضراً" .
ثم بيّنَ رحمه الله سبب فناء سمنِ العُكّة والشعير حين عُصِرت أو كِيل ، فقال: "الحكمة في ذلك أن عصرَها وكَيْلَه مضادةٌ للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى, ويتضمن التدبيرَ, والأخذَ بالحول والقوة, وتكلُفَ الإحاطةِ بأسرار حِكم الله تعالى وفضله , فعوقب فاعِلُه بزواله".[41] أي كأنه خرج من التسليم لقدرة الله وعظيمِ فِعله، إلى الطمع في معرفة سبب أرضي ومادي له، فانقطع لذلك.
وكما ظهرت بركة النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام والشراب؛ فإنها ظهرت في تكثيره لماء الوضوء حين احتاج الصحابة إليه، يقول أنس رضيى الله عنه: (رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاةُ العصر، فالتمس الناسُ الوَضُوءَ، فلم يجدوه، فأُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بوَضوءٍ، فوضع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناءِ يدَه، وأمر الناس أن يتوضؤوا منه، قال أنس: فرأيتُ الماء ينبع من تحت أصابعه، حتى توضؤوا من عندِ آخرهم). [42]
وفي رواية لأحمد من حديث ابن مسعود أنه قال: ((فرأيتُ الماءَ يتفجرُ من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((حي على الوَضُوء، والبركةُ من الله)).
قال جابر: كنا ألفاً وخمسَ مائة. [43]
قال الطيبي: "وإنما طلب فَضْلةً من الماء كيلا يُظَنَّ أنه صلى الله عليه وسلم مُوجِد الماء، فإن الإيجاد إليه سبحانه، وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ((والبركةُ من الله)) أي أن هذا الذي رأيتم من زيادة الماء أيضاً ليس مني، إنما هو بركةٌ من الله تعالى وفضل".[44] إنه دليلٌ آخرُ من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.
ويروي الشيخان عن أنسِ بنِ مالكٍ شاهداً آخر من شواهد نبوته ودلائل رسالته، فيقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزَوراء، والزَوراء موضع في المدينة.
قال أنس: فدعا صلى الله عليه وسلم بقدحٍ فيه ماء، فوضع كفّه فيه، فجعل ينبُع من بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه، قال قتادة: كم كانوا يا أبا حمزة؟ فقال أنس: كانوا زُهاء الثلاثِ مائة.[45]
قال القاضي عياض: "هذه القصة رواها الثقاتُ من العدد الكثير عن الجم الغفير، عن الكافّة متصلةً بالصحابة، وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومَجمَع العساكر، ولم يرد عن أحد منهم إنكارٌ على راوي ذلك، فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته".[46]
وفي يوم الحديبية عطش الناس ولم يجدوا ماء للوضوء والشراب إلا قليلاً بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في رَكْوة، فتوضأ، فتسابقوا إلى الماء لقِلَّته، فقال: ((مالكم؟)) قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأُ ولا نشربُ إلا ما بين يديك.
فوضع يده صلى الله عليه وسلم في الركوة، فجعل الماء يثورُ بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا.
فسأل سالم راوي الحديث جابراً: كم كنتم؟ فقال مستنكراً: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمسَ عشرةَ مائة [أي ألفاً وخمسَ مائة]. [47]
قال القرطبي: "قضية نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم تكررت منه في عدة مواطن في مشاهدَ عظيمة، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعُها العلمَ القطعيَ المستفادَ من التواتر المعنوي".[48]
وفي موضع آخر يخبرنا أنس رضيى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ذات يوم بماء، فأُتي بقدح رَحراحٍ [أي متسعِ الفم]، فجعل القوم يتوضؤون.
ويذكر لنا أنس عدد من كفاهم هذا الماء، فيقول: (فحزِرت ما بين الستين إلى الثمانين، قال أنس: فجعلت أنظرُ إلى الماء، يَنبُعُ من بين أصابعه).[49]
قال النووي: "وأكثر العلماء أن معناه: أن الماءَ كان يخرج من نفسِ أصابعه صلى الله عليه وسلم , وينبُع من ذاتها. قالوا: وهو أعظم في المعجزة من نبعه من حجرٍ ... يُحتَمل أن الله كثّرَ الماء في ذاته, فصار يفور من بين أصابعه، لا من نفسِها, وكلاهما معجزةٌ ظاهرة, وآية باهرة ".[50]
وروى الحاكم عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الهجرة مستخْفيين من مكة؛ مرا بعبد يرعى غنماً، فاستسقَياه من اللبن، فقال: ما عندي شاة تُحلب غير أن ههنا عَناقاً حَملت أول الشتاء، وقد أخدجَت [أي أسقطت ولم تكمل حملها]، وما بقي لها لبن.
فقال صلى الله عليه وسلم: ((ادعُ بها))، فدعا بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح ضَرعها، ودعا حتى أنزلت (اللَبن) قال: فحلب صلى الله عليه وسلم، فسقى أبا بكر، ثم حلب، فسقى الراعي، ثم حلب فشرب.
فقـال الراعي: بالله من أنت؟ والله ما رأيتُ مثلَك قط؟ قال: ((أوَ تُراكَ تكتُم عليَّ حتى أخبرْك؟)) قال: نعم. قال: ((فإني محمد رسول الله)) فقال: أنتَ الذي تزعم قريش أنه صابئ؟ قال: إنهم ليقولون ذلك.

قال: فأشهدُ أنك نبي، وأشهد أن ما جئتَ به حق، إنه لا يفعلُ ما فعلتَ إلا نبي، وأنا متبعُك. قال: ((إنك لا تستطيع ذلك اليوم. فإذا بلغك أني قد ظهرتُ فأْتِنا)).[51]
وروى الإمام أحمد في مسنده مثلَه عن ابن مسعود قال: كنت أرعى غنماً لعقبة بن أبي مُعيط، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر فقال: ((يا غلام هل من لبن؟)) قال: قلت: نعم، ولكني مؤتمن. قال: ((فهل من شاة لم ينزُ عليها الفحل؟)) فأتيته بشاة فمسح ضروعها، فنزل لبنٌ، فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: ((اقلِص))، فقلَص.

قال ابن مسعود: ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول. قال: فمسح رأسي، وقال: ((يرحمك الله، فإنك غُليم مُعلَّم)).[52]
قال أبو المحاسن الحنفي: "سأله شاة لم يصبها فحل، ليريه في ذلك آيةً معجزة تقوم له بها الحجة عليه وعلى غيره، وفي ذلك منفعة لصاحب الشاة بتلبين ضرعها، فلم يكن له في اللبن حق، لأن الله تعالى جعله في ضرعها حينئذ ... فلذلك شربه صلى الله عليه وسلم وسقاه أبا بكر".[53]
ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وأخبار بركته ما يذكره بُريدة رضيى الله عنه ، وهو يحكي خبر عِتاق سلمان من سيده اليهودي، حيث شرط اليهودي لعتاقه أن يغرس نخلاً، فيعملَ سلمان فيها حتى يَطْعَم النخلُ.
قال بُريدة: فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل إلا نخلةً واحدةً غرسها عمر، فحملتِ النخل من عامها، ولم تحمل النخلة [أي التي زرعها عمر] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما شأن هذه؟)) قال عمر: أنا غرستُها يا رسولَ الله. فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غرسها، فحملت من عامها.[54]
والمعلوم عند الزُّراع أن النخل لا يثمر إلا بعد غرسه بمدة طويلة، وحملُ النخل في سنة غِراسه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ودليل باهر من دلائل نبوته، إذ تم ذلك ببركة الله لهذا النبي العظيم.
وهكذا فهذه الأخبار المتكاثرة تشهد ببَركة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه البَركة ليست موروثاً يحمله الأحفاد عن الأجداد ، ولا علماً يتلقاه المرء بالكد والاجتهاد، إنه عطيةُ الله وبركتُه يؤتيها من شاء، فلِمَ أعطاها محمداً صلى الله عليه وسلم إنْ لم يكن لنبوتِه ورسالتِه؟
[1] شرح النووي (13/215).
[2] أي عرض على المدينين أن يعطيَهم تمر بستانه قضاءً لدين أبيه، فأبوا لأنهم رأوه أقلَ من ديونهم.
[3] المربد هو الموضع الذي يجفف فيه التمر. انظر: فتح الباري (7/289).
[4] رواه البخاري ح (2709)، ومسلم ح (2039).
[5] فتح الباري (6/688).
[6] رواه البخاري ح (4102)، ومسلم ح (2039)، واللفظ له.
[7] شرح النووي (13/217).
[8] أي طويل جداً شعث الرأس.
[9] رواه البخاري ح (2618)، ومسلم ح (2056).
[10] شرح النووي على صحيح مسلم (14/17).
[11] رواه أحمد ح (8414)، والترمذي ح (3839) وحسّنه الألباني في صحيح الترمذي ح (3015).
[12] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/289).
[13] أي كان مقدار ما لديهم من الزاد بما يغطي موضعَ جلوسِ عنْزة.
[14] رواه مسلم ح (1729).
[15] شرح النووي على صحيح مسلم (12/34-35).
[16] رواه مسلم ح (27).
[17] شرح النووي على صحيح مسلم (1/224).
[18] رواه البخاري ح (3578)، ومسلم ح (2040).
[19] شرح النووي على صحيح مسلم (13/219).
[20] شرح النووي على صحيح مسلم (12/35).
[21] رواه البخاري ح (344)، ومسلم ح (682).
[22] فتح الباري (1/540).
[23] رواه مسلم ح (681).
[24] شرح النووي على صحيح مسلم (5/189).
[25] رواه البخاري ح (6452).
[26] فتح الباري (11/292-294).
[27] رواه أحمد في مسنده ح (19622)، الترمذي ح (3625)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي ح (2866).
[28] تحفة الأحوذي (10/70).
[29] أي: يكفيني شهورَ القيظِ، وهو الصيف.
[30] أي: كميةٌ من التمر أشبهتِ الجمل الصغير.
[31] رواه أحمد ح (17126)، وابن حبان في صحيحه ح (6528).
[32] شرح النووي على صحيح مسلم (12/35).
[33] رواه مسلم ح (3014).
[34] المفهِم لما أُشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/52-53)، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/38).
[35] فتح الباري (5/397).
[36] أي تسيل كالخيط الذي يربط به النعل، لقلة مائها.
[37] رواه مسلم ح (706).
[38] رواه البخاري ح (3097)، ومسلم ح (2973).
[39] رواه مسلم ح (2281).
[40] رواه مسلم ح (2380).
[41] شرح النووي على صحيح مسلم (15/42).
[42] رواه البخاري ح (169)، ومسلم ح (2279).
[43] رواه أحمد ح (3797).
[44] شرح المشكاة (11/140).
[45] رواه البخاري ح (3572)، ومسلم ح (2279).
[46] فتح الباري (6/676).
[47] رواه البخاري ح (3383).
[48] فتح الباري (6/676).
[49] رواه البخاري ح (197)، ومسلم ح (2279)، واللفظ له.
[50] شرح النووي على صحيح مسلم (15/38-39).
[51] رواه الحاكم في مستدركه (3/9). والطبراني في المعجم الكبير ح (847) قال الهيثمي: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح" . مجمع الزوائد (8/548).
[52] رواه الأصبهاني في دلائله ح (38)، وابن حبان في صحيحه ح (7061).
[53] معتصر المختصر (1/367)
[54] رواه أحمد ح (22448)، والحاكم في مستدركه (2/20)، وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.

د. منقذ بن محمود السقار
__________________

آخر تعديل بواسطة محمد رافع 52 ، 12-12-2013 الساعة 09:10 PM
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-12-2013, 09:54 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 37
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

شفاء المرضى بنفْثِه وريقه صلى الله عليه وسلم

لما أرسل الله نبيَّه وكلمته المسيحَ عليه السلام، آتاه من الآيات ما يقيم به الحجة على بني إسرائيل، ومن ذلك إبراء الله الأكمه والأبرص على يديه ]وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني [ (المائدة: 110)، فكان برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً عند قومه على نبوته صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيد الله خاتم أنبيائه وعظيم رسله بمثل هذا الدليل والبرهان ، حين شفى على يديه بعضاً من أصحابه.
من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه، يحبُ اللهَ ورسولَه، ويحبُه اللهُ ورسولُه))، قال: فبات الناس يدوكون [أي يتحدثون] ليلتهم أيهم يعطاها، قال: فلما أصبح الناس غَدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجوا أن يُعطاها.

فقال عليه الصلاة والسلام: ((أين عليُ بنُ أبي طالب؟)) فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، فقال: ((فأرسلوا إليه))، فأُتي به رضيى الله عنه، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.[1]
وفي رواية لابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم تفل في عينيه وقال: ((اللهم أذهب عنه الحر والبرد)). قال علي: فما وجدتُ حراً ولا برداً بعد يومِئذ ، وكان أصحابه ربما رأوه يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف.[2]
قال الشوكاني: "فيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ".[3]
وقبل أن يغادر النبي صلى الله عليه وسلم أرض خيبر حقق آية أخرى تدل على نبوته ورسالته، فقد شفى الله بنفثه ساق سلمة بن الأكوع الذي أصيب في الغزوة، يقول يزيد بن أبي عُبيد: رأيت أثرَ ضربةٍ في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم، ما هذه الضربة؟ فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أُصيب سلمة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنفث فيه ثلاث نَفَثات، فما اشتكيتُها حتى الساعة.[4]
إن الجموع التي رأت ساق سلمة مضرجة بدمائها، ثم رأوه لا يشتكي منها ألماً ولا وجعاً ببركة ريق النبي صلى الله عليه وسلم ونفثه عليها، إن هذه الجموع لا يسعها أمام هذه المعجزة الباهرة إلا أن تشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، إذ مثل هذا لا يقدر عليه بشر، إنه دليل من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.
ويرسل النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن عتيك ورجالاً من الأنصار لردع سلّامِ بنِ أبي الحُقَيق، وبينما هو راجع في الطريق وقع، فانكسرت ساقه، فعصبها بعمامة.
ولنستمع إليه وهو يقص علينا الخبر، فيقول: فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ابسط رجلك))، فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنها لم أشتكِها قطّ.[5]
لقد تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم مراراً وعلى مرأى من الصحابة الكرام، يقول بريدة رضيى الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل في رجل عمرو بن معاذ حين قُطِعت رجله فبرأ. [6] فهل كان هذا فناً من فنون الطب أم معجزة وبرهاناً من براهين نبوته صلى الله عليه وسلم؟
ويروي الإمام أحمدُ عن أمُ جُندُب أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة .. فأتته امرأة خثعمية بابْن لها فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا ذاهب العقل، فادع الله له. قال لها: ((ائتيني بماء)).
فأتته بماء في تَورٍ من حجارة، فتفل فيه، وغسل وجهه، ثم دعا فيه، ثم قال: ((اذهبي، فاغسليه به، واستشفي الله عز وجل)).
قالت أم جُندب: فقلت لها: هَبِي لي منه قليلاً لابني هذا، فأخذت منه قليلاً بأصابعي، فمسحتُ بها شِقَّة ابني، فكان من أبر الناس.
فسألتُ المرأة بعد: ما فعل ابنها؟ قالت: برِئ أحسن بَرء.[7]
وفي الحديث معجزة عظيمة له صلى الله عليه وسلم، بل معجزتان: إحداهما شفاء ابن الخثعمية ببركة مجّة النبي صلى الله عليه وسلم في الماء الذي غسلته أمه فيه، والأخرى: هداية ابن أم جندب بمسح أمه وجهَه ببعض هذا الماء.
وتحدِّثُ أم جميل ابنها محمدَ بن حاطب عن خبر حدث له إبّان طفولته، فقد أقبلت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد انكفأت قدر تغلي على ذراعه، تقول أم جميل: فأتيتُ بك النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، هذا محمد بن حاطب، فتفل في فيك، ومسح على رأسك، ودعا لك، وجعل يتفُل على يديك ويقول: ((أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) فقالت: فما قمتُ بك من عنده حتى برِأَت يدك. [8]
وهكذا فإن الله الشافي قدر الشفاء لكثيرين ، وجعل نفثه صلى الله عليه وسلم وريقه سبباً في ذلك ، ليكون برهاناً آخر من براهين نبوته صلى الله عليه وسلم.
[1] رواه البخاري ح (3701)، ومسلم ح (2407).
[2] رواه أحمد في مسنده ح (780)، وابن ماجه ح (117)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه ح (114).
[3] نيل الأوطار (8/55).
[4] رواه البخاري ح (4206).
[5] رواه البخاري ح (4039).
[6] رواه ابن حبان ح (2146)، وصححه الألباني في الصحيحة ح (2940).
[7] رواه أحمد في المسند ح (26590).
[8] رواه أحمد في المسند ح (15027)
د. منقذ بن محمود السقار
__________________
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 14-12-2013, 10:09 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 37
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

استجابة الله دعاءه صلى الله عليه وسلم

ومن باهر ما يدل على النبوة إجابة الله دعاء النبي حين يدعوه، فإذا ما رفع نبي الله يديه داعياً ربه ومولاه ؛ قبِل الله دعاءه وأجابه، وتكرارُ ذلك وديمومتُه دليل على صدقه، لأن الله لا يؤيد كاذباً ولادعياً يدعي عليه الكذب ، فالكاذب من أظلم الناس وأبعدِهِم عن الله ] فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون [ (يونس: 17).
وهكذا؛ فإن الله لا يؤيد بتأييده الكاذب الذي يلجأ إليه، بل يهلِكُه ويفضَحُه، كما قال موسى مخاطباً سحرة فرعون: }ويلكم لا تفتروا على اللّه كذبًا فيُسحِتَكم بعذابٍ وقد خاب من افترى { (طه: 61).
فالمفترون على الله لا يؤيدهم الله بعونه، ولا يمدهم بمدده، قال تعالى: } قل إنّ الّذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون { (يونس: 69) ، وقال: } إنّ اللّه لا يهدي من هُو كاذبٌ كفّارٌ { (الزمر: 3).
لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما خاب ولا خسر، بل هُدي وأفلح في كل صعيد، فدينُه أعظمُ الأديان في الأرض وأكثرُها - بحمد الله - انتشاراً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومعلوم أن من عوّده الله إجابة دعائه، لا يكون إلا مع صلاحه ودينه، ومن ادّعى النبوة، لا يكون إلا من أبرّ الناس إن كان صادقاً، أو من أفجرهم إن كان كاذباً، وإذا عوّده الله إجابة دعائه، لم يكن فاجراً، بل برّاً، وإذا لم يكن مع دعوى النبوة إلا برّاً، تعيّن أن يكون نبياً صادقاً، فإن هذا يمتنع أن يتعمّد الكذب، ويمتنع أن يكون ضالاً يظن أنه نبي".[1]
وقد وقعت هذه الآية البينة لنبينا صلى الله عليه وسلم، فأجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة، كل منها دليل من دلائل النبوة الشاهدة على صدقه صلى الله عليه وسلم .
ونبدأ بسنة جدبة أصابت الناس؛ وقف النبي صلى الله عليه وسلم فيها على المنبر يخطب الجمعة ، فقام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال, وجاع العيال، فادع الله لنا.
يقول أنس بن مالك: فرفع يديه، وما نرى في السماء قزْعة [أي قطعة من السحاب]، فوالذي نفسي بيده ما وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال, ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم , فمُطرنا يومنا ذلك ومن الغد، وبعد الغد، والذي يليه، حتى الجمُعَة الأخرى.
وفي الجمعة الأخرى قام ذلك الأعرابي، أو قال: غيره، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا)).
يقول أنس: فما يشير بيده إلى ناحيةٍ من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجَوْبة ، وسال الوادي قناة [2] شهراً، ولم يجىء أحدٌ من ناحيةٍ إلا حدّث بالجُوْد".[3]
لقد نزل المطر بدعائه صلى الله عليه وسلم واستمر أسبوعاً ، ثم توقف بدعائه صلى الله عليه وسلم بعد أسبوع من هطوله، كما انفرجت السحابة عن المدينة لقوله: ((اللهم حوالينا ولا علينا))، ، أليس ذلك كلُه من أمارات نبوته وعلامات صدقه؟
قال النووي: "ومراده بهذا؛ الإخبار عن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم كرامته على ربه سبحانه وتعالى، بإنزال المطر سبعة أيام متوالية متصلاً بسؤاله من غير تقديم سحاب ولا قزَع، ولا سببٍ آخر، لا ظاهرٍ ولا باطن".[4]
وقال ابن حجر: "وفيه عَلَمٌ من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام عقِبه أو معَه، ابتداء في الاستسقاء، وانتهاء في الاستصحاء، وامتثال السحاب أمره بمجرد الإشارة".[5]
وصدق من قال:

دعـا اللهَ خـالقَه دعـوة أُجيبتْ وأشخَص منه البصر
ولم يك إلا كـقلب الرداء وأسـرعَ حتى رأينـا المطر
وفي بعض الأحيان خص النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من أصحابه بشيء من دعائه فأجاب الله سؤله، وقبل دعاءه، ومنه دعاؤه لخادمه الوفي أنس بن مالك ، فقد كافأه النبي صلى الله عليه وسلم على خدمته له بدعوة أجابها الله تعالى، فعاش أنس مجللاً ببركتها مائة سنة.
يقول أنس رضيى الله عنه: جاءت بي أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أزّرتني بنصف خمارها، وردّتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله، هذا أُنيس ابني، أتيتك به يخدمك، فادع الله له.
فقال: ((اللهم أكثِر مالَه وولده))، قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي ووَلَدَ وَلَدي ليتَعادُّون على نحو المائة اليوم. [6]
وفي رواية قال أنس: فما ترك خير آخرة ولا دنيا؛ إلا دعا لي به قال: ((اللهم ارزقه مالاً وولداً، وبارك له فيه)).[7]
وقد أجاب الله دعوة نبينا، يقول أنس: (فإني لمن أكثر الأنصار مالاً، وحدثتني ابنتي أمينة أنه دُفن لصُلبي مَقْدَم حجاج البصرةَ بضعٌ وعشرون ومائة).
قال ابن حجر: "وفيه التحدّث بنعم الله تعالى، وبمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم لما في إجابة دعوته من الأمر النادر، وهو اجتماع كثرة المال مع كثرة الولد".[8]
ودعا صلى الله عليه وسلم بالبركة لعروةَ البارقي في ماله، لما أعطاه النبي ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه. [9]
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم بارك له في صفْقة يمينه)). يقول عروة: فلقد رأيتُني أقف بكُناسة الكوفة، فأربحُ أربعينُ ألفاً قبل أن أصِل إلى أهلي". [10]
قال ابن حجر: "المقصود منه الذي يدخل في علامات النبوة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعروة فاستجيب له، حتى كان لو اشترى التراب لربح فيه".[11]
وإذا أردنا أن نعرف سر الحافظة التي أوتيها راوية الإسلام أبو هريرة، فلنستمع إليه وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو كثرة نسيانه للحديث، فيقول: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساهُ، فقال له عليه الصلاة والسلام: ((ابسط رداءك))، فبسطتُه، قال: فغرفَ بيديه، ثم قال: ((ضُمّه))، فضممتُه، فما نسيتُ شيئاً بعده. [12]
قال ابن حجر: "وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأبي هريرة، ومعجزة واضحة من علامات النبوة؛ لأن النسيان من لوازم الإنسان، وقد اعترف أبو هريرة بأنه كان يَكثُر منه، ثم تخلف عنه [أي النسيان] ببركة النبي صلى الله عليه وسلم".[13]
وثمة دعوة أخرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم نال أبا هريرةَ خيرُها، ألا وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمِّه بالهداية، فقد كان يدعوها إلى الإسلام، وهي مشركة تأبى الإسلام وتصده عنه، يقول أبو هريرة: فدعوتُها يوماً، فأسمَعَتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلتُ: يا رسول الله، إني كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام، فتأبى عليّ، فدعوتُها اليومَ، فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهديَ أمَّ أبي هريرة.
__________________
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14-12-2013, 10:10 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 37
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

ولم يخيب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صاحبَه الوفي، فقال: ((اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة))، فخرج مستبشراً فرحاً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم ، يرجو أن تكون سبباً في إسلام أمه.
يقول: فلما جئتُ، فصِرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعتْ أمي خَشْفَ قدميّ [أي صوت مشيي]، فقالت: مكانكَ يا أبا هريرة، وسمعتُ خضْخضَة الماء، فإذا هي تغتسل للإسلام، وتشهد بشهادة التوحيد.

قال: فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيتُه وأنا أبكي من الفرح، فقلت: يا رسول الله أبشر، قد استجاب اللهُ دعوتك، وهدى أمَّ أبي هريرة.[14]
لقد أتى رضيى الله عنه أول النهار يبكي حُزناً على تمنُّعِ أمِّه عن الإسلام وسِباِبها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فما لبِث أن عاد يبكي فرَحاً بإسلامها ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .
قال النووي: "وفيه استجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفَور بعين المسؤول، وهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم".[15]
وسرورُ أبي هريرة وفرحُه لم ينسياه أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم دعوةً ثالثة، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يحبِّبَني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحبِّبَهم إلينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم حبِّب عُبَيدَك هذا وأمَه إلى عبادك المؤمنين، وحبِّب إليهمْ المؤمنين)).
يقول أبو هريرة: فما خُلِق مؤمن يسمع بي ولا يراني؛ إلا أحبني.[16]
وهكذا فحبُ المؤمنين في كل عصر لراوية الإسلام العظيم أبي هريرة، هو دليل باهر وبرهان ظاهر على استجابة الله دعاء نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم.
وأما عبدُ الله بن عباس حبرُ الأمة وتَرْجُمَانُ القرآن، فإن ما أوتيَه من العلم والحكمة كان بفضل الله الذي استجاب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وذلك أنه لما كان غلاماً جهز وَضُوءَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي شاكراً صنيعه: ((اللهم فقهه في الدين)).[17]
وفي مرة أخرى وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على كتِف ابن عباس وقال: ((اللهم فقهه في الدين، وعلِّمه التأويل)).[18]
وهذه الدعوة مما تحققتْ إجابةُ اللهِ النبيَ صلى الله عليه وسلم فيها، فقد شبَّ ابن عباس، فكان عمر يُجلِسه مع أكابر الصحابة يستشيره ويأخذ برأيه، على حداثة سنه، فقد فاق أقرانه، بما آتاه الله من الفقه في الدين وما علمه من محاسن التأويل، حتى صح عن ابن مسعودٍ فقيهِ الصحابة أنه قال فيه: " لو أدرك ابنُ عباس أسنانَنا؛ ما عاشره منا رجل"[19] أي لنبوغه وفقهه، وكان يقول: " نِعم تَرْجُمَانُ القرآنِ ابنُ عباس ".[20]
وكما يستجيب الله دعاء أنبيائه لأصحابهم؛ فإنه يستجيب لهم إذا دعوا على الكافرين بنبوتهم أو على العاصين من أتباعهم.
فقد أجاب الله دعاء نوح عليه السلام لما قال: }رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً { (نوح: 26)،
فاستجاب الله له وأغرق الكافرين } فدعا ربه أني مغلوبٌ فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمرٍ * وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر* وحملناه على ذات ألواحٍ ودسرٍ *تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كفر { (القمر: 10-14).
وموسى عليه السلام ، دعا فرعونَ الطاغية إلى توحيد الله وطاعته، فأبى واستكبر، فدعا عليه: }وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم{ (يونس: 88)، فاستجاب الله دعاءه، فغرق فرعون وملؤه، وجعل يستجدي النجاة عند الموت } حتى إذا أدركه الغرق قال آمنتُ أنه لا إله إلا الذي آمنتْ به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين { (يونس: 90).
وهكذا كان حالُ خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، فقد سجد صلى الله عليه وسلم ذات مرة، فوضع المشركون سَلَا الجزور وقذرَها على ظهره الشريف، وأخذوا يتضاحكون، فدعا عليهم عليه الصلاة والسلام وقال: ((اللهم عليك بقريش)) ثلاث مرّات.
يقول ابن مسعود: فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته.
ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهلِ بن هشام، وعتبةَ بنِ ربيعةَ، وشيبةَ بنِ ربيعةَ، والوليدِ بن عتبةَ، وأميةَ بنِ خلفٍ، وعقبةَ بنِ أبي مُعَيط)).
يقول ابن مسعود رضيى الله عنه: وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيتُ الذين سمّى صرعى يوم بدر، ثم سُحبوا إلى القليب، قليبِ بدر. [21]
قال ابن حجر: "وهذا يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضي، فيكون فيه عَلمٌ عظيم من أعلام النبوة".[22]
ولما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورأى إدبار قريش وإعراضهم وصدهم عن الإسلام، قال: ((اللهم سبعٌ كسبع يوسف)).
قال ابن مسعود: فأخذتهم سَنةٌ حصّت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، وينظر أحدهم إلى السماء، فيرى الدخان من الجوع.
فأتاه أبو سفيان، فقال: يا محمد، إنك تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادعُ الله لهم.
وفي رواية لأحمد في مسنده أن أبا سفيان قال: أي محمد، إن قومك قد هلكوا، فادع الله عز وجل أن يكشف عنهم، قال: فدعا. ثم قال: ((اللهم إن يعودوا فعُدْ )).
ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: ]فرتقب يوم تأتي لسَّماء بِدخانٍ مُّبين[ إلى قوله: }إنكم عائدون * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون{ (الدخان: 10-16) قال: فالبطشةُ يومُ بدر.[23]

لقد علم كفار قريش أن رسولَ الله مجابُ الدعوة عندَ الله ، فجاؤوا يطلبون السقيا بدعائه، لأنهم علموا أن الله لا يرد نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم } فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون { (الأنعام: 33).
واستهزأ عتيبة بن أبي لهب بالقرآن ، فكُتب مع أبويه في سجل الهالكين؛ فقد دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يموت بين أنياب السبُع، فقال: ((اللهم سلط عليه كلباً من كلابك))، فكانت دعوة نبي أجابها الله، حين خرج عتيبة في قافلة يريد الشام، فنزل منزلاً، فقال: إني أخاف دعوةَ محمد صلى الله عليه وسلم.
فحطوا متاعهم حوله، وقعدوا يحرسونه، فجاء الأسد فانتزعه، فذهب به.[24]
وفي رواية لابن عساكر أن أبا لهب قال: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد.[25]
ولله درُّ حسان بن ثابت رضيى الله عنه وهو يقول:
من يُرجع العام إلى أهله فما أكيلُ السبعِ بالراجع
وقعد بُسر الأشجعي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس يأكل بشماله، فلما ذكّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكل باليمين استكبر عن قبول الحق فقال: لا أستطيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا استطعت، ما منعه إلا الكبر))، فما رفعها إلى فيه[26].
أي عاجلته استجابة الله ، فشُلت يمينه للتو، بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، جزاءَ استكباره عن قبول الحق والإذعان له.
وحاقت دعوتُه صلى الله عليه وسلم أيضاً بأعرابي دخل عليه النبي يَعُوده في مرضه، فقال صلى الله عليه وسلم مواسياً: ((لا بأسَ، طهور إن شاء الله))، فأجاب الأعرابي بجواب ملؤه القنوط وسوء الظن بالله: قلتَ: طهور؟ كلاّ، بل هي حُمّى تفُور - أو تثور - على شيخ كبير، تُزيرُه القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فنَعَمْ إذاً)). [27]
قال ابن حجر: "في بعض طرقه زيادة تقتضي إيراده في علامات النبوة، أخرجه الطبراني وغيره ... وفي آخره: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما إذا أبيتَ فهي كما تقول، قضاءُ الله كائن)) فما أمسى من الغد إلا ميتاً".[28]
وهكذا؛ فإن هذه الدعوات المجابة وأمثالها دليل على رضا الله عن نبيه وتأييده له، ولو كان يتقوّل على ربه النبوة والرسالة لخذله اللهُ وأهلكه: } ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه باليمين * ثمّ لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين[ (الحاقة:47-41).
[1] الجواب الصحيح (6/297).
[2] الجوبة: هي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا الفُرجة في السحاب، ووادي القناة اسم لوادٍ مشهور من أودية المدينة. انظر فتح الباري (2/479).
[3] رواه البخاري ح (1013)، ومسلم ح (897) واللفظ له.
[4] شرح صحيح مسلم (6/192).
[5] فتح الباري (2/480).
[6] رواه البخاري ح (6344)، ومسلم ح (2481) واللفظ له.
[7] رواه البخاري ح (1982).
[8] فتح الباري (4/269).
[9] رواه البخاري ح (3443).
[10] رواه أحمد في مسنده ح (18877).
[11] فتح الباري (6/734).
[12] رواه البخاري ح (119).
[13] فتح الباري (1/260).
[14] رواه مسلم ح (2491).
[15] شرح صحيح مسلم (16/52).
[16] رواه مسلم ح (2491).
[17] رواه البخاري ح (143)، ومسلم ح (2477) واللفظ للبخاري.
[18] رواه أحمد ح (2393).
[19] رواه عبد الرزاق في المصنف ح (32219).
[20] رواه عبد الرزاق في المصنف ح (32220).
[21] رواه البخاري ح (240)، ومسلم ح (1794) واللفظ له.
[22] فتح الباري (1/419).
[23] رواه البخاري ح (1007)، ومسلم ح (2798)، وأحمد ح (4149).
[24] رواه الحاكم (2/588)، وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في الفتح (4/39).
[25] تفسير القرآن العظيم (4/316).
[26] رواه مسلم ح (2021).
[27] رواه البخاري ح (5656).
[28] فتح الباري (6/722).

د. منقذ بن محمود السقار
__________________
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 14-12-2013, 10:17 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 37
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم

وإن من دلائل النبوة حمايةُ الله لأنبيائه، وإنجاؤه لمن شاء منهم من أيدي أعدائهم، رغم ما يتربص بهم السفهاءُ من السوء.
ولقد قال نوح عليه السلام متحدياً كفارَ قومه: } يا قوم إن كان كبُر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمرُكم عليكم غُمةً ثم اقضوا إليّ ولا تنظِرون { (يونس:71)، فلم يصلوا إليه بسوء لحماية الله له.
ومثله قول أخيه هود صلى الله عليه وسلم: }قال إني أُشهِد الله واشهدوا أني بريءٌ مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم { (هود: 54-56).

ولما أراد السفهاء *** إبراهيم عليه السلام، وألقوه في النار أنجاه الله منها بقدرته وفضله ]قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم * وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين [ (الأنبياء: 68-70).
وكذا كان الحال مع نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقد أنجاه الله من المؤامرات التي واجهتْه من لدن بعثتِه عليه الصلاة والسلام، وقد أخبره الله وأنبأه بسلامتِه من كيدهم وعدوانهم ، فقال له: } يـا أيها لرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته ولله يعصمك من لناس{ (المائدة: 67).
قال ابن كثير: "أي بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظُك وناصرُك ومؤيدُك على أعدائك ومُظفِرُك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل إليك أحدُ منهم بسوء يؤذيك".[1]
تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت هذه الآية: }ولله يعصمك من لناس{ (المائدة: 67)، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه من القبة، فقال لهم: ((يا أيها الناس، انصرفوا عني، فقد عصمني الله)).[2]
وفي الآية دليلان من دلائل النبوة، أولهما: إخبار الله له بحفظه صلى الله عليه وسلم، وقد كان.
قال الماوردي: "فمن معجزاتِه: عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذُعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه اللهُ تعالى بها فحققها، حيث يقول: }والله يعصمك من الناس{ فعَصَمَه منهم".[3]

والدليل الآخرُ في الآية من دلائل النبوة، يظهر لمن عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقصوداً بال*** من أعدائه، فكان الصحابة يحرُسونه خوفاً عليه، فلما نزلت الآية صرفهم عن حراسته، ليقينه بما أنزل الله إليه، ولو كان دعياً لما غرر بنفسه، ولما عرَّض نفسَه للسوء.
وقد صدق المستشرق بارتلمي هيلر في قوله:"لما وعد الله رسوله بالحفظ بقوله: ]والله يعصمك من الناس[، صرف النبي حراسه، والمرء لا يكذب على نفسه، فلو كان لهذا القرآن مصدر غير السماء لأبقى محمد على حراسته".[4]

قال ابن تيمية مستدلاً لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله لنبيه وحفظه له ونصره لدينه: "وقد أيده تأييداً لا يؤيد به إلا الأنبياء، بل لم يؤيَد أحدٌ من الأنبياء كما أُيِّد به، كما أنه بُعث بأفضل الكتب إلى أفضل الأمم بأفضل الشرائع، وجعله سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ، فلا يعرف قط أحد ادعى النبوة وهو كاذب؛ إلا قطع الله دابره وأذله وأظهر كذبه وفجوره.
وكل من أيده الله من المدعين للنبوة لم يكن إلا صادقاً، كما أيد نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان، بل وأيد شعيباً وهوداً وصالحاً، فإن سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وهذا هو الواقع، فمن كان لا يعلم ما يفعله الله إلا بالعادة، فهذه عادة الله وسنته يعرف بها ما يصنع، ومن كان يعلم ذلك بمقتضى حكمته؛ فإنه يعلم أنه لا يؤيد من ادعى النبوة وكذب عليه".[5]
وصور حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها أن قريشاً اجتمعت في الحِجر، فتعاقدوا باللاتِ والعزى ومناة الثالثةِ الأخرى ، لو قد رأينا محمداً ، قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقْه حتى ن***َه.
فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها تبكي، حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك لقد قاموا إليك ف***وك، فليس منهم رجل إلا قد عَرف نصيبه من دمك.

فقال: ((يا بنية، أريني وَضوءاً)) فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا. وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقِروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصراً، ولم يقم إليه منهم رجل.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من التراب، فقال: ((شاهت الوجوه)) ثم حصَبهم بها، يقول ابن عباس: فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاةً إلا قُتل يوم بدر كافراً.[6]

الله أكبر، قريشٌ بخُيلائها وكِبْرِها تتعاهد على *** رجل أعزل، وتقسم على ذلك بآلهتها، ثم لا يقوم منهم واحد لتنفيذ عزمتهم، بل قام صلى الله عليه وسلم على رؤوسهم يحصِبُهم بالحصى متحدياً عجزهم، مبيناً سِفالَ أمرهم وهوانَه، وكيف لا؟ والله العظيم يؤيده ويقويه، فيقول: } والله يعصمك من الناس { (المائدة: 67).
وأما أبو جهل فرعون هذه الأمة فقد رام أيضاً *** النبي صلى الله عليه وسلم، حين أقبل يختال ذات يوم في جنبات مكة فقال: هل يعفِّر محمدٌ وجهَه بين أظهرِكم [يعني بالسجود والصلاة]؟ فقيل: نعم.
فقال: واللاتِ والعزى، لئن رأيتُه يفعلُ ذلك لأطأنَّ على رقَبَتِه، أو لأعفِّرنَّ وجهَه في التراب.
فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعمَ ليطأَ على رقَبَتِه، قال: فما فجِئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي [أي يحتمي] بيديه.

فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نارٍ وهوْلاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكةُ عُضواً عضواً)).[7]

وهذه معجزة عظيمة رآها عدو الإسلام أبو جهل، فقد رأى أجنحة ملائكة الله وهي تحمي النبي صلى الله عليه وسلم، وأيقن بأن الله حماه بجنده وعونه، لكن منعه الكِبْرُ وحبُ الزعامة والحرصُ عليها من الإذعان للحق والانقياد له، فحاله وحال غيرِه من المشركين كما قال الله: } فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون { (الأنعام: 33).

قال النووي: "ولهذا الحديث أمثلة كثيرة في عصمته صلى الله عليه وسلم من أبي جهل وغيرِه , ممّن أراد به ضرراً, قال اللّه تعالى: } واللّه يعصمك من النّاس{".[8]
وكما حمت الملائكة النبي صلى الله عليه وسلم من أبي جهل ، فقد تنزلت لحمايته يوم أُحد، حين أطبق عليه المشركون، وتفرق عنه أصحابه منهزمين، ففي الصحيحين يقول سعدُ بن أبي وقاص رضيى الله عنه: (رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أُحدٍ رجُلَين، عليهما ثيابٌ يَيَاض، ما رأيتهما قبلُ ولا بعد). يعني جبريلَ وميكائيلَ عليهما السلام.[9]

قال النووي: "فيه بيان كرامةِ النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى، وإكرامِه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيانُ أن الملائكة تقاتِل، وأن قتالَهم لم يَختصَّ بيوم بدر".[10]
ولم يتوان المشركون من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذائه والكيد له، ومن ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: }تبت يدا أبى لهبٍ وتب{ (المسد: 1)، جاءت أم جميلٍ ، امرأةُ عمه أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، إنها امرأة بذيئة، وأخاف أن تؤذيَك، فلو قُمت، قال: ((إنها لن تراني)).
فجاءت أم جميل، فقالت لأبي بكر: إن صاحبك هجاني! قال: لا، وما يقول الشعر، قالت: أنت عندي مُصَدق، وانصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لم ترَك؟! قال: ((لا، لم يزل ملك يسترني عنها بجناحه)).[11]
وكذا أرادت قريش أن ت*** النبي صلى الله عليه وسلم مراراً قبل هجرته، لكن الله نجاه منهم وحماه، فلما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج من مكة مهاجراً، رصدوا له على باب بيته، فخرج عليه الصلاة والسلام من بينهم، وقد أعمى الله أبصارهم عنه، فلم يروه حال خروجه.[12]
وفي هذا يقول سبحانه: } وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو ي***وك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين { (الأنفال:30)، لقد رد الله مكرهم في نحورهم ، ونجى نبيه عليه الصلاة والسلام.
وخرج صلى الله عليه وسلم من مكة مستخفياً تحوطه عناية الله، حتى وصل وصاحبُه إلى غار ثور، واختبآ فيه عن أعين المشركين الذين جدّوا بالبحث عنه حتى وصلوا إلى الغار، ووقفوا ببابه، وظن أبو بكر رضيى الله عنه الهلكة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بلسان الواثقِ من ربه، المتوكل عليه، العالمِِِِ بأنه لا يسْلمه إلى مرام أعدائه: ((ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثُهما؟)).[13]
نعم فالله معه ينصره ويحميه }إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم{ (التوبة:40).
__________________
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 14-12-2013, 10:18 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 37
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم

وإن من دلائل النبوة حمايةُ الله لأنبيائه، وإنجاؤه لمن شاء منهم من أيدي أعدائهم، رغم ما يتربص بهم السفهاءُ من السوء.
ولقد قال نوح عليه السلام متحدياً كفارَ قومه: } يا قوم إن كان كبُر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمرُكم عليكم غُمةً ثم اقضوا إليّ ولا تنظِرون { (يونس:71)، فلم يصلوا إليه بسوء لحماية الله له.
ومثله قول أخيه هود صلى الله عليه وسلم: }قال إني أُشهِد الله واشهدوا أني بريءٌ مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم { (هود: 54-56).
ولما أراد السفهاء *** إبراهيم عليه السلام، وألقوه في النار أنجاه الله منها بقدرته وفضله ]قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم * وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين [ (الأنبياء: 68-70).
وكذا كان الحال مع نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقد أنجاه الله من المؤامرات التي واجهتْه من لدن بعثتِه عليه الصلاة والسلام، وقد أخبره الله وأنبأه بسلامتِه من كيدهم وعدوانهم ، فقال له: } يـا أيها لرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته ولله يعصمك من لناس{ (المائدة: 67).
قال ابن كثير: "أي بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظُك وناصرُك ومؤيدُك على أعدائك ومُظفِرُك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل إليك أحدُ منهم بسوء يؤذيك".[1]
تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت هذه الآية: }ولله يعصمك من لناس{ (المائدة: 67)، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه من القبة، فقال لهم: ((يا أيها الناس، انصرفوا عني، فقد عصمني الله)).[2]
وفي الآية دليلان من دلائل النبوة، أولهما: إخبار الله له بحفظه صلى الله عليه وسلم، وقد كان.
قال الماوردي: "فمن معجزاتِه: عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذُعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه اللهُ تعالى بها فحققها، حيث يقول: }والله يعصمك من الناس{ فعَصَمَه منهم".[3]
والدليل الآخرُ في الآية من دلائل النبوة، يظهر لمن عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقصوداً بال*** من أعدائه، فكان الصحابة يحرُسونه خوفاً عليه، فلما نزلت الآية صرفهم عن حراسته، ليقينه بما أنزل الله إليه، ولو كان دعياً لما غرر بنفسه، ولما عرَّض نفسَه للسوء.
وقد صدق المستشرق بارتلمي هيلر في قوله:"لما وعد الله رسوله بالحفظ بقوله: ]والله يعصمك من الناس[، صرف النبي حراسه، والمرء لا يكذب على نفسه، فلو كان لهذا القرآن مصدر غير السماء لأبقى محمد على حراسته".[4]
قال ابن تيمية مستدلاً لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله لنبيه وحفظه له ونصره لدينه: "وقد أيده تأييداً لا يؤيد به إلا الأنبياء، بل لم يؤيَد أحدٌ من الأنبياء كما أُيِّد به، كما أنه بُعث بأفضل الكتب إلى أفضل الأمم بأفضل الشرائع، وجعله سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ، فلا يعرف قط أحد ادعى النبوة وهو كاذب؛ إلا قطع الله دابره وأذله وأظهر كذبه وفجوره.
وكل من أيده الله من المدعين للنبوة لم يكن إلا صادقاً، كما أيد نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان، بل وأيد شعيباً وهوداً وصالحاً، فإن سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وهذا هو الواقع، فمن كان لا يعلم ما يفعله الله إلا بالعادة، فهذه عادة الله وسنته يعرف بها ما يصنع، ومن كان يعلم ذلك بمقتضى حكمته؛ فإنه يعلم أنه لا يؤيد من ادعى النبوة وكذب عليه".[5]
وصور حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها أن قريشاً اجتمعت في الحِجر، فتعاقدوا باللاتِ والعزى ومناة الثالثةِ الأخرى ، لو قد رأينا محمداً ، قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقْه حتى ن***َه.
فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها تبكي، حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك لقد قاموا إليك ف***وك، فليس منهم رجل إلا قد عَرف نصيبه من دمك.

فقال: ((يا بنية، أريني وَضوءاً)) فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا. وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وعقِروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصراً، ولم يقم إليه منهم رجل.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من التراب، فقال: ((شاهت الوجوه)) ثم حصَبهم بها، يقول ابن عباس: فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاةً إلا قُتل يوم بدر كافراً.[6]
الله أكبر، قريشٌ بخُيلائها وكِبْرِها تتعاهد على *** رجل أعزل، وتقسم على ذلك بآلهتها، ثم لا يقوم منهم واحد لتنفيذ عزمتهم، بل قام صلى الله عليه وسلم على رؤوسهم يحصِبُهم بالحصى متحدياً عجزهم، مبيناً سِفالَ أمرهم وهوانَه، وكيف لا؟ والله العظيم يؤيده ويقويه، فيقول: } والله يعصمك من الناس { (المائدة: 67).
وأما أبو جهل فرعون هذه الأمة فقد رام أيضاً *** النبي صلى الله عليه وسلم، حين أقبل يختال ذات يوم في جنبات مكة فقال: هل يعفِّر محمدٌ وجهَه بين أظهرِكم [يعني بالسجود والصلاة]؟ فقيل: نعم.
فقال: واللاتِ والعزى، لئن رأيتُه يفعلُ ذلك لأطأنَّ على رقَبَتِه، أو لأعفِّرنَّ وجهَه في التراب.
فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعمَ ليطأَ على رقَبَتِه، قال: فما فجِئهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه، ويتقي [أي يحتمي] بيديه.
فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نارٍ وهوْلاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكةُ عُضواً عضواً)).[7]

وهذه معجزة عظيمة رآها عدو الإسلام أبو جهل، فقد رأى أجنحة ملائكة الله وهي تحمي النبي صلى الله عليه وسلم، وأيقن بأن الله حماه بجنده وعونه، لكن منعه الكِبْرُ وحبُ الزعامة والحرصُ عليها من الإذعان للحق والانقياد له، فحاله وحال غيرِه من المشركين كما قال الله: } فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون { (الأنعام: 33).
قال النووي: "ولهذا الحديث أمثلة كثيرة في عصمته صلى الله عليه وسلم من أبي جهل وغيرِه , ممّن أراد به ضرراً, قال اللّه تعالى: } واللّه يعصمك من النّاس{".[8]
وكما حمت الملائكة النبي صلى الله عليه وسلم من أبي جهل ، فقد تنزلت لحمايته يوم أُحد، حين أطبق عليه المشركون، وتفرق عنه أصحابه منهزمين، ففي الصحيحين يقول سعدُ بن أبي وقاص رضيى الله عنه: (رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أُحدٍ رجُلَين، عليهما ثيابٌ يَيَاض، ما رأيتهما قبلُ ولا بعد). يعني جبريلَ وميكائيلَ عليهما السلام.[9]
قال النووي: "فيه بيان كرامةِ النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى، وإكرامِه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيانُ أن الملائكة تقاتِل، وأن قتالَهم لم يَختصَّ بيوم بدر".[10]
ولم يتوان المشركون من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذائه والكيد له، ومن ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: }تبت يدا أبى لهبٍ وتب{ (المسد: 1)، جاءت أم جميلٍ ، امرأةُ عمه أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، إنها امرأة بذيئة، وأخاف أن تؤذيَك، فلو قُمت، قال: ((إنها لن تراني)).
فجاءت أم جميل، فقالت لأبي بكر: إن صاحبك هجاني! قال: لا، وما يقول الشعر، قالت: أنت عندي مُصَدق، وانصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لم ترَك؟! قال: ((لا، لم يزل ملك يسترني عنها بجناحه)).[11]
وكذا أرادت قريش أن ت*** النبي صلى الله عليه وسلم مراراً قبل هجرته، لكن الله نجاه منهم وحماه، فلما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج من مكة مهاجراً، رصدوا له على باب بيته، فخرج عليه الصلاة والسلام من بينهم، وقد أعمى الله أبصارهم عنه، فلم يروه حال خروجه.[12]
وفي هذا يقول سبحانه: } وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو ي***وك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين { (الأنفال:30)، لقد رد الله مكرهم في نحورهم ، ونجى نبيه عليه الصلاة والسلام.
وخرج صلى الله عليه وسلم من مكة مستخفياً تحوطه عناية الله، حتى وصل وصاحبُه إلى غار ثور، واختبآ فيه عن أعين المشركين الذين جدّوا بالبحث عنه حتى وصلوا إلى الغار، ووقفوا ببابه، وظن أبو بكر رضيى الله عنه الهلكة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بلسان الواثقِ من ربه، المتوكل عليه، العالمِِِِ بأنه لا يسْلمه إلى مرام أعدائه: ((ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثُهما؟)).[13]
نعم فالله معه ينصره ويحميه }إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم{ (التوبة:40).
__________________
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 14-12-2013, 10:23 AM
الصورة الرمزية محمد رافع 52
محمد رافع 52 محمد رافع 52 غير متواجد حالياً
مشرف ادارى متميز للركن الدينى ( سابقا )
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 19,444
معدل تقييم المستوى: 37
محمد رافع 52 will become famous soon enough
افتراضي

وهكذا نجّى النبي صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم ، واتجه صوب المدينة المنورة من جديد، تحوطُه رعاية الله ، وتكلؤه عنايته.
أما قريش فلم تستسلم، ولم تفتر عزيمتُها في محاولة ***ِ النبي صلى الله عليه وسلم والنيلِ منه، فأرسلوا إلى قبائل العرب يضعون لهم الجوائز إن همُ ***وا النبيَ صلى الله عليه وسلم وصاحبَه، لكنهما كانا يسيران في حفظ الله ورعايته.

وجاز النبي قُديداً، فأدركه سراقة بن مالك، يقول الصديق رضيى الله عنه: وتبِعنا سراقة بن مالك، ونحن في جَلَدٍ من الأرض [أي في أرض صلبة]، فقلت: أُتينا يا رسول الله, فقال: ((لا تحزن, إن الله معنا)) فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فارتطمت فرسه إلى بطنها.

وفي رواية للبخاري يروي سراقة الخبر فيقول: (حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات - ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخَرَرت عنها، ثم زجرتُها فنهضتْ، فلم تكَد تُخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثَرِ يديها عُثانٌ ساطع في السماء مثل الدخان...).[14]
فقال سراقة: (إني قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ، فادعوَا لي، فـاللهَ لكما أن أرُدّ عنكما الطلب، فدعا صلى الله عليه وسلم اللهَ فنجا، فرجع لا يلقى أحداً من الطَلَب إلا قال: قد كُفيتكم ما ها هنا، فلا يلقى أحداً إلا ردّه).[15]
قالَ أنس: (فكان أوَّل النهار جاهداً على نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكان آخرَ النهار مَسْلَحةً له).[16]
فكان إنجاء الله نبيه من بين يدي سراقة سبباً في إسلامه وذوده عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رضيى الله عنه وهو يخاطب أبا جهل:
أبا حكمٍ والله لو كنتَ شاهداً لأمر جوادي إذ تسوخُ قوائمه
علمتَ ولم تَشْكُك بأن محمداً رسولٌ ببرهانٍ فمن ذا يقاومه[17]

ولما رجع مشركو مكة من بدر مدحورين - بقوة الله - ، أقبل عمير بن وهب حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحِجِر ، فقال صفوان: قبَّح اللهُ العيش بعد ***ى بدر.
فقال عمير: أجل والله ما في العيش خيرٌ بعدَهم ، ولولا دينٌ عليَّ لا أجد له قضاء، وعيالٌ لا أدع لهم شيئاً ، لرحلت إلى محمد ف***تُه إن ملأتُ عينيّ منه ، فإن لي عنده عِلّة أعتل بها عليه ، أقول: قدِمت من أجل ابني هذا الأسير.

ففرح صفوان بإقدام عمير وخُطته، ومضى يزيل عوائق تنفيذها، فقال: علي دينُك، وعيالُك أُسوةُ عيالي في النفقة ، لا يسعني شيء فأعجزُ عنهم.
فاتفقا، وحمله صفوان وجهزه، وأمر بسيف عمير فصُقل وسُمَّ ، وقال عمير لصفوان: اكتم خبري أياماً.

وقدم عمير المدينة، فنزل بباب المسجد، وعَقَل راحلته ، وأخذ السيف، وعمَد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه عمر وهو في نفر من الأنصار، ففزع ودخل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله لا تأمنه على شيء.
فقال صلى الله عليه وسلم: ((أدخله علي)).

فخرج عمر، فأمر أصحابه أن يدخلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحترسوا من عمير، وأقبل عمر وعمير حتى دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع عمير سيفُه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ((تأخر عنه)).
فلما دنا عمير قال له: ((ما أقدمك يا عمير ؟)) قال :قدِمت على أسيري عندكم ، تفادونا في أسرانا، فإنكم العشيرة والأهل.

فقال صلى الله عليه وسلم: (( ما بال السيف في عنقِك؟)). فأجاب عمير: قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً؟ إنما نسيته في عنقي حين نزلت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اصدقني، ما أقدمك يا عمير؟)). فقال: ما قدمت إلا في طلب أسيري.

فبغته النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فماذا شرطتَ لصفوان في الحِجر؟))، ففزع عمير وقال: ماذا شرطتُ له؟
فأجاب من علَّمه الله الخبير فقال: ((تحمّلْتَ له ب***ي؛ على أن يعول أولادَك ، ويقضيَ دَيْنَك ، واللهُ حائلٌ بينك وبين ذلك)).

فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله ،كنا يا رسول الله نكذبُك بالوحي وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديثَ كان بيني وبين صفوان في الحِجِر لم يطلع عليه أحد، فأخبرك الله به ، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق.
ففرح به المسلمون، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجلِس يا عمير نواسِك)).

وقال لأصحابه: ((علموا أخاكم القرآن))، وأطلق له أسيره ، فقال عمير: ائذن لي يا رسولَ الله ، فألحق بقريش ، فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، لعل الله أن يهديَهم .. ثم قدم عمير فدعاهم إلى الإسلام، ونصحهم بجُهده ، فأسلم بسببه بشر كثير.[18]
وهكذا نجى الله نبيه وحبيبه من كيد عميرٍ وصفوان ، فلم يجدْ عميرٌ أمام هذه المعجزة الباهرة والآية القاهرة إلا أن يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وللرب الذي حماه بالوحدانية.

ومن صور حماية الله لنبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم قصة شاة اليهودية، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى خيبر، فقدمت له يهودية من أهل خيبر شاةً مشوية مسمومة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراعَ، فأكل منها، وأكل رهطٌ من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارفعوا أيديِكم))، وفي رواية: ((ارفعوا أيديكم، فإنها أخبرتني أنها مسمومة)).[19]
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها، فقال لها: ((أسمَمْت هذه الشاة؟)) قالت اليهودية: من أخبرك؟ قال: ((أخبرتني هذه في يدي)). للذراع ، قالت: نعم .

قال: ((ما أردت إلى ذلك؟)) قالت: قلتُ: إن كان نبياً فلن يضرَه ، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه . فعفا عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها.[20]
وفي رواية للخبر في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألها عن ذلك ،فقالت: أردت لأ***كَ. فقال صلى الله عليه وسلم: (( ما كان الله ليسلطَكِ عليّ )).[21]

قال النووي: " قوله صلى الله عليه وسلم ((ما كان الله ليسلطك عليّ)) فيه بيانُ عصمتِه صلى الله عليه وسلم من الناس كلِّهم، كما قال الله: }ولله يعصمك من الناس{ (المائدة: 67)، وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته من السُّمِّ المهلِك لغيرِه، وفيه إعلامُ الله تعالى له بأنها مسمومةُ، وكلامُ عضوٍ منه له، فقد جاء في غير مسلم: ((إن الذراع تخبرني أنها مسمومة)).[22]

ويحدث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركتهم نومة القيلولة في وادٍ كثير الشجر.
يقول جابر: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس ، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمُرَةٍ، فعلق بها سيفه، فنِمنا نومةً، ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه، فإذا أعرابيٌ جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظتُ وهو في يده صَلتاً، فقال لي: من يمنعُك مني؟ قلت: اللهُ، فها هو ذا جالس)) ثم لم يعاقبْه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية لأحمد أنه قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهُ عز وجل)).
فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ فقال الأعرابي: كن كخير آخذ.
فقال صلى الله عليه وسلم: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟)) قال: لا، ولكني أعاهدُك أن لا أقاتِلَكَ، ولا أكونَ مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فذهب إلى أصحابه، فقال: قد جئتُكم من عندِ خير الناس. [23]

وفي هذا الحديث دلائلُ مختلفة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، منها: ثبات النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد الله له، ثم حمايةُ الله له من ال***.
ومنها تأييدُه له بالملائكة، فقد وقع في رواية لابن إسحاق أن جبريل دفع بصدر المشرك فسقط سيفه.

وأخيراً: عفوُ النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل مع رفضه للإسلام، وذلك خلق من أخلاق النبوة، وإلا فمن يصنع ذلك مع غريمه وعدوه الذي كاد أن ي***ه؟ وقد صدق الأعرابي حين قال: جئتُكم من عندِ خير الناس.
} أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد { (الزمر: 36)، وفي هذا كله ما يشهد له صلى الله عليه وسلم بالنبوة لتأييد الله إياه وحفظه له.
[1] تفسير القرآن العظيم (3/143).
[2] رواه الترمذي ح (3046)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (2489).
[3] أعلام النبوة (127).
[4] ربحت محمداً ولم أخسر المسيح، عبد المعطي الدلالاتي ص (108).
[5] الجواب الصحيح (1/410).
[6] رواه أحمد في المسند ح (2757) والحاكم في مستدركه (3/170)، وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/228).
[7] رواه مسلم ح (2797).
[8] شرح مسلم على صحيح النووي (17/140).
[9] رواه البخاري ح (4054)، و مسلم ح (2306).
[10] شرح صحيح مسلم (15/66).
[11] رواه أبو يعلى في مسنده ح (2358)، والبزار ح (2294)، وصححه ابن حبان ح (6511).
[12] انظر الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام ، للسهيلي (4/178).
[13] رواه البخاري ح (3653)، ومسلم ح (2381).
[14] رواه البخاري ح (3906).
[15] رواه البخاري ح (3615)، ومسلم ح (2009).
[16] رواه البخاري ح (3911).
[17] فتح الباري (7/286).
[18] رواه الطبراني في معجمه الكبير ح (117)، وابن هشام في السيرة (3/213).
2 رواه أبو داود ح (4510)، والحديث أصله في البخاري ح (2617)، ومسلم ح (2190).
[20] رواه أبو داود ح (4510) وهو صحيح كما قال الألباني في مشكاة المصابيح ح (5931).
[21] رواه البخاري ح (2617) ، ومسلم ح (2190).
[22] شرح صحيح مسلم (14/179).
[23] رواه البخاري ح (4137)، ومسلم ح (843)، ورواية أحمد في المسند ح (14512).

د. منقذ بن محمود السقار
__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية

الكلمات الدلالية (Tags)
النبوة, دلائل, سيرة النبى, هدى المصطفى

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 04:09 PM.