|
#1
|
||||
|
||||
![]() --------------------------------------------------------------------------------
الحلقةالثامنةعشر أفقت من غفوتي القصيرة ... كنت أجلس على أريكة بمحاذاة الشاطئ ، تتدلى قدماي في مياه البحر و تعانقان أمواجه الراقصة ... الهواء كان منعشا جدا و البحر غاية في الجمال ... منظر لم تره عيناي منذ سنين إنها المرة الأولى منذ تسع سنين ، التي يبتهج فيها صدري و أنا بين أهلي و أحبابي ... أصوات مجموعة من الأطفال تغلغلت في أعماق أذني و أيقظتني من راحتي النادرة ما إن فتحت عينيّ الناعستين حتى تلقتا منظرا جعلني أقف منتصبا فورا ! كانت رغد ... صغيرتي الحبيبة ... خطيبة أخي الوحيد ... تجلس على الرمال المبللة تعبث بالماء ... إلى جواري تماما ! نهضت و قد أصابني الروع ! و سرعان ما هبت هي الأخرى واقفة ، تنظر إلي ... وجّهتُ سهام بصري إلى البحر ... ليبتلع أي شعور يفكر في الاستيقاظ في داخل قلبي ... و خطوت مبتعدا عنها استوقفتني ، فأخبرتها بأنني ماض للسباحة فقالت بسرعة : " انتظر ! سأعود لأمي ... " لم أعرف ما إذا كانت تقصد مني مرافقتها أو مراقبتها تحديدا ، إلا أنها حين سارت مبتعدة بقينا أنا و سامر ـ و الذي خرج من الماء للتو و وقف إلى يساري لا يفصلني عنه غير شبرين ـ نراقبها و هي تبتعد ... و حين ظهر فتى في طريقها يريد أخذ كرة القدم التي تدحرجت منه نحوها ، اضطربت صغيرتي ... و استدارت نحونا ... و أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي اليمنى و اختبأت خلفها ! أنا طبعا وقفت كالجدار لا أحس بشيء مما حولي و لا أعرف ماذا يحدث و ماذا علي أن أفعل ! أردت أن أسحب ذراعي لكنها غرست أظافرها بي و آلمتني ... الفتى ذاك كان يحمل الكرة و ينظر بتعجب نحونا و أمي و دانه أيضا تنظران بتعجب أما النظرات التي لم أعرف ما طبيعتها هي نظرات أخي سامر ... " صغيرتي ... صغيرتي ... لا بأس عليك ... اهدئي أرجوك " رغد الآن تنظر إلى و قد اغرورقت عيناها بالدموع ، و قالت بانفعال و اضطراب : " لماذا لم تأتِ معي ؟ لماذا تركتني وحدي ؟ هل تريد أن يؤذيني أحد بعد ؟ " كلمتها هذه جعلت عضلاتي تنقبض جميعها فجأة ، و لا شعوريا مسكت أنا بيديها و شددت عليهما بقوة ... لحظة جحيم الذكرى ... و أعيينا تحدق ببعضها البعض بحدة ... من عيني يقدح الشرر الحارق ... و من عينها تنسكب الدموع المجروحة ... و في بؤبؤيها أرى عرضا للشريط المشؤوم اللعين ... و صورة لعمّار يبتسم ... و الحزام يتراقص ... " لكنت ُ قتلته " نطقت بهذه الجملة لا إراديا و أنا أحدق بها في نظرات ملؤها الشر ... و القهر ... لقد شعرت بأشياء تتمزق بداخلي ... و أشياء تعتصر ... و أشياء تتوجع و تصرخ ... كيف لي أن أتحمل موقفا كهذا ؟؟ لو ظل سامر صامتا ، ربما بقيت شهورا واقفا عند نفس النقطة ، إلا أن صوته قطع الحبال المشدودة و أرخى العضلات المنقبضة " رغد ... " أطلقنا نظراتنا المقيدة ببعضها البعض و سمحنا لها بالانتقال إلى عيني سامر ... لا يخفى عليكم الذهول و الحيرة و الدهشة التي كانت تغلف وجه سامر الواقف ينظر إلينا ... قال : " رغد ... عزيزتي ... " و لم ينطق بعدها بجملة واضحة تفسر التعبيرات الغامضة المرسومة على وجهه الحائر ... رغد الآن بدأت تمسح دموعها و قد هدأت نوعا ما ... الآن ... تصل أمي و أختي ... و تستدير رغد إليهما ، و تنطق بمرارة : " قلت لك لا أستطيع ... لا أريد المجيء ... لا أستطيع ... لا تتركوني وحدي " و انخرطت في مزيد من البكاء المؤلم أمي أحاطتها بذراعيها و أخذت تتمتم بكلمات لم استطع استيعابها من هول ما أنا فيه ... ثم رأيتهن هن الثلاث ، رغد و أمي و دانة ، يبتعدن عائدات من حيث أتين ... سامر ظل واقفا لثوان أخرى ، ثم هم باللحاق بهن ... و حانت منه التفاتة إلي ... فرآني و أنا أنهار على الرمال و أضغط بيدي على معدتي و أتأوه ألما ... لقد شعرت بأشياء تتمزق و تعصر في أحشائي ... و دوار داهمني دون إنذار مسبق ... و خور و وهن مفاجئ في بدني ... فهويت أرضا ... كنت أعرف أن قلبي ينزف من الداخل ، كما تنزف أنسجة جسدي كله من شدة الموقف و قسوته ... و شعرت بالدماء تجري بكل الاتجاهات في جسمي ... و أحسست بها تصعد من جوفي ... و تملأ فمي ... ثم تخرج و تنسكب على الرمال ملونة إياها هي و يدي المرتكزة عليها باللون الأحمر ... الآن ... تستطيع عيناي رؤيتها بوضوح ... تماما كما ترى النور ... دماء حقيقية خرجت من جوفي ممزوجة بعصارة معدتي المتلوية ألما ... " وليد ! " رفعت رأسي ، فإذا بي أرى سامر ينظر إلى موضع الدماء بذعر ... " ما هذا ؟؟ " ما هذا ؟ أظن أنها دماء ! و هي المرة الأولى التي تخرج فيها دمائي من جوفي ... و أنا أشعر بألم حاد جدا في معدتي ... ما هذا ؟ أظن أن هذا عرضٌ لمرض ٍ ما ... بعد فترة ... كنا نجلس قرب موقد الجمر ، نستنشق الأدخنة المتصاعدة من المشويات ... و نتلذذ برائحتها الشهية ... كان والدي يقلب الأسياخ و يهف الجمر ... و كلما نضج اللحم في أحد الأسياخ دفعه إلى واحد منا ، فيلتهمه بشهية كبيرة ... و الآن جاء دوري ... " تفضل يا وليد " كنت أود مشاركتهم هذه الوجبة اللذيذة التي لم أذق لها مثيلا منذ سنين ... لكن الآلام الحادة في معدتي حالت دون إقبالي على الطعام ... " شكرا أبتاه ... لا أستطيع التهامها فمعدتي مضطربة جدا " قال سامر : " لقد تقيأ دما قبل قليل " الجميع ينظر إلى الآن بقلق ... ابتسمت و قلت : " ربما أكلت شيئا لم تتقبله ! لا تكترثوا " أمي قالت بقلق : " بني ... عساه خيرا ؟؟ " " لا تقلقي أماه ... ستهدأ بالصيام لبعض الوقت " ثم حاولت تغيير مجرى الحديث ... أبي مد سيخ اللحم المشوي نحو الشخص التالي قائلا : " نصيبك يا رغد " رغد كانت تجلس على مؤخرة البساط ، بعيدة عن موقد الجمر الذي نجتمع قربه ... رغد نهضت ، و أقبلت نحونا و مدت يدها و أخذت السيخ ، ثم همت بالعودة إلى المؤخرة ... نهضت أنا و قلت : " تفضلي هنا ... أنا سأتمشى قليلا " و ابتعدت كي أدع لها المجال لتجلس مكاني ، قرب الجميع ... و تستمتع معهم بوجبة الشواء الشهية ... ذهبت أولا نحو سيارة أخي ، و استخرجت علبة السجائر التي كنت أضعها في جيب بنطالي الذي استبدلته بملابس السباحة ... ثم انطلقت إلى البحر ... و جلست على الرمال ... أدخن بشرود صوت أبي الجهور كان يصلني خافتا ضاحكا ... إذن فالجميع يستمتعون بوقتهم ... كم أتمنى لو أعود للحياة الدائمة معهم ... ليتني أستطيع ذلك ... ليتني أستطيع رمي الماضي في قلب البحر ... و نسيانه ... بعد قرابة النصف ساعة جاءتني دانة ابتسمت عند رؤيتي لها ، فابتسمت هي الأخرى إلا أنها سرعان ما حملقت بي بتعجب ... " أنت تدخّن ؟؟ " مرّغت السيجارة التي كانت في يدي في الرمل المبلل ، إلى جوار أختها السابقة ... و ابتسمت ابتسامة واهنة تنم عن الاستسلام و القنوط ... " عادة سيئة ... لا خلاص منها ! " دانه جلست إلى جانبي و أخذت تراقب الأمواج المتلاطمة ... ثم قالت : " لم أكن أعلم بذلك ! لو كان نوّار يدخن لرفضت الارتباط به ! لا أطيق رائحة هذه المحروقة السامة ! " قلت ببعض الخجل : " معذرة " ثم أضافت مداعبة : " و على فكرة ... فإن جميع الفتيات مثلي أيضا ! و إن استمررتم في التدخين فسوف تسببون أزمة عزّاب و عوانس ! " أطلقتُ ضحكة عفوية على تعليقها خرجت من أعماق صدري ممزوجة ببقايا الدخان! قلتُ بعد ذلك : " إذن ... هل استعديتما للزفاف ؟؟ " بشيء من الخجل قالت : " تقريبا ... إنه يريد أن نتزوج بعد عودة والديّ من الحج مباشرة ! أبي يود تأجيل ذلك شهرين أو ثلاثة ... أما والدتي فتراه موعدا مناسبا جدا ، و تريد أن يتزوج سامر و رغد معنا دفعة واحدة ! " و هذا خبر ليس فقط يحبس الأنفاس في صدري و يعصر معدتي ، بل و يستل روحي من جسدي ... و لن أعجب إن رأيتها تنسكب على الرمال أمامي كما انسكبت دمائي قبل قليل ! في هذه اللحظة أقبل سامر و رغد ... لينضموا إلينا قال سامر : " هل لنا بالانضمام إليكما ؟ تركنا الوالدين يشويان السمك ! " قالت دانة ضاحكة : " أوه أمي ! من سيلتهم المزيد ؟ أخبرتها ألا تحضر السمك و لكنها مولعة به كثيرا ! " و استدارت نحوي : " وليد كيف معدتك الآن ؟ ألا تحب أن تتناول بعض السمك المشوي ؟؟ " " كلا ، لا طاقة لي بالطعام هذه الليلة " و جلس سامر إلى جانبي الآخر ، و رغد إلى جانب دانة ... قال : " فيم كنتما تتحدثان ؟؟ " قالت دانة : " فيكما أنت و رغد ! كنت أخبر وليد أنكما حتى الآن لم تتخذا قرارا نهائياحاسما بشأن موعد الزفاف ! " سامر ابتسم و قال : " أنا جاهر و في انتظار أوامر العروس ! " العروس هي رغد ! و رغد هي صغيرتي الحبيبة ... التي كنت أحلم بالزواج منها ذات يوم ... ثم فقدتها للأبد ... فهل لكم أن تتخيلوا حالي هذه اللحظة ؟؟ قالت دانة : " هيا يا رغد ! قولي نعم و دعينا نحتفل سوية ! " ثم غيرت النبرة و قالت مداعبة : " و لكن كوني واثقة من أنني سأكون الأجمل بالتأكيد ! " أذناي طارتا نحوها ، حتى كادتا تلتصقان بشفتيها أو حتى تخترقان أفكارها لأعلم ما ستقوله قبل أن تقوله ... تكلمي رغد ؟؟ رغد ظلت صامتة ... و أنا أذناي تترقبان بصبر نافذ ... هيا يا رغد قولي أي شيء ... ارمني بسهام الموت واحدا بعد الآخر ... اطعنيني بخناجر الغدر و حطمي قفصي الصدري و مزقي الخافق الذي ما فتئ يحبك مذ ضمك إليه طفلة يتيمة وحيدة ... توهم أنها خلقت من أجله فجاءت قذائفك تدمر قلعة الوهم التي بنيتها و عشت بداخلها 15 عاما ... أو يزيد ... و أقسم ... أقسم أنك لو تزوجت مع شقيقتي في نفس الليلة ، فإني سأتخلى عنها و أخذلها و أدفن نفسي بعمق آلاف الأميال تحت الأرض ، لئلا أحضر أو أشارك أو أبارك ليلة تزفين فيها إلى غيري ... مهما كان ... بعد كل هذه المشاعر التي تصارعت في داخلي في ارتقاب كلمتها التالية ... و أذاني تصغيان باهتمام و تركيز شديدين أكاد معهما أسمع دبيب النمل ... بعد كل هذا ... جاءني السهم المباغت التالي : " وليد ... ما رأيك ؟؟ " أنى لي أن أصف ما أود وصفه و أنا بحال كهذه ؟؟ تسألينني أنا عن رأيي ؟؟ رأيي في ماذا ؟؟ في أن تتزوجي شقيقي اليوم أو غدا أو بعد قرن ؟؟ في أن تذبحيني اليوم أو غدا ... أو بعد قرن ؟؟ أتشهد أيها البحر ؟؟ ألا يا ليتك تبتلعني هذه اللحظة ... فأمواجك العاتية ستكون أكثر لطفا و رحمة بحال رجل تسأله حبيبة قلبه : ما رأيك بموعد زفافي ! تحركت يداي إلى علبة السجائر الموضوعة على الأريكة الجالسة خلفي ، و تناولت واحدة و أشعلتها في محاولة مستميتة للفرار من جملة رغد ، التي كنت قبل ثواني أتوق لسماعها و أرسل أذنيّ نحو لسانها لالتقاط الجملة بسرعة فور خروجها ... بدت اللحظة التالية كالساعة بل كالقرن في طولها .. سحبت نفسا عابقا بالدخان المنبعث من السيجارة المضغوطة بين شفتي ... و أطلقت زفرة قوية ... حسبت معها أن روحي قد انطلقت ، و الدخان قد لوث الكرة الأرضية بكاملها ... قلت ... بعدما عثر لساني على بضع كلمات مرمية على جانبية : " الأمر عائد إليكما " و وقفت ... و قلت : " معذرة ... سأدخن في مكان آخر " و انصرفت عنهم ... سرت ُ مبتعدا ، و وقفت موليا إياهم ظهري ... انفث السموم من و إلى صدري و أقاوم آلام قلبي و معدتي ... و أحترق . بعد فترة ، انتهت رحلتنا و آن أوان العودة إلى البيت ... لم أكن أريد أن أركب سيارة سامر ... فقربه و قربها مني يعني مزيدا من الألم و الاحتراق ، لكنني حين رأيت دانة تركب سيارة والدي ، و رغد تقف عند سيارة سامر ... توجهت تلقائيا و جلست على المقعد الأمامي ، لأمنعها من الجلوس عليه ! مشوار العودة كان طويلا مملا ... فقد التزمنا الصمت ... و رغد نامت ! " وصلنا عزيزتي ! " قال سامر ذلك و هو يلتفت إلى الوراء ، ليوقظ رغد ... كنا قد وصلنا قبل الآخرين ... فتحت أنا الباب و هبطت من السيارة ، و رأيت رغد تستفيق ... ذهبت إلى مؤخرة السيارة أفرغ حقيبتها من حاجيات الرحلة ، ثم أحملها إلى داخل المنزل ... و أقبل سامر يساعدني ، و حين وصلت إلى الباب ، جاءت رغد بمفتاح سامر و فتحته لي ... و انطلقت مسرعة نحو الباب الداخلي تفتحه على مصراعيه لأدخل بما تحمل يداي ، و أتجه نحو المطبخ ... وضعت الأشياء في المطبخ و استدرت راغبا في العودة لجلب البقية ... رغد واقفة عند باب المطبخ تراقبني ... حين مررت منها ... " وليد " وقفت ... و عاودني الشعور بالألم في معدتي فجأة ... يكفي أن أسمعها تنطق باسمي حتى تتهيج كل أوجاعي ... لم أرد ، و لكنني توقفت عن السير منتظرا سماع ما تود قوله ... " وليد " عادت تناديني ... تعصرني ... " نعم ؟؟ " قالت : " ألم يعد يهمك أمري ؟؟ " فوجئت بسؤالها هذا فالفت إليها مندهشا ... كانت عيناها حمراوين ربما من أثر النوم ... و لكن القلق باد عليهما ... " لم تقولين ذلك !؟ " قالت : " لم لم تبد ِ رأيك بشأن زواجي ؟؟ " تصاعدت الدماء المحترقة إلى شرايين وجهي و ربما إلى حلقي لكنني ابتلعتها عنوة قلت : " إنه أمر يخصكما وحدكما ... و لا شأن لي به " رغد هزت رأسها اعتراضا ثم قالت : " لكن وليد ... أنا ... " و لم تتم الجملة ، إذ أن أخي سامر أقبل يحمل بعض الأغراض ، فسرت أنا خارجا لجلب المتبقي منها ... فيما بعد ، و سامر يحمل بطانية و وسادة قاصدا الذهاب للنوم في غرفة الضيوف و تركي أنام في غرفته ، كما أصر ... و قبل أن يخرج من الغرفة توقف و قال : " وليد ... هل لي بسؤال ؟ " " تفضل ؟؟ " تأملني لحظة ثم قال : "وليد ... لماذا ... قتلت عمّار ؟؟ " ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ذهبت مباشرة إلى غرفتي ، قبل أن تحضر أمي و دانه ثم تطلبان مني مساعدتهما في الغسل و التنظيف ... فأعمال المنزل هي آخر آخر شيء أفكر بالقيام به في هذه الساعة ، و هذه الحال يكاد قلبي ينفطر أسى ... لحقيقة مرة أتجرعها رغما عني وليد لم يعد يهتم لأمري ... و لم أعد أعني له ما كنت و أنا طفلة صغيرة ... ربما ظن الجميع أنني أويت لفراشي و نمت ... فعادتي أن أنام مبكرة ، إلا أنني قضيت ساعات طويلة في التفكير و الحزن ... و الألم و الدموع أيضا لماذا يعاملني وليد بكل هذا الجفاء و يبتعد كلما اقتربت ؟؟ و دليل آخر ... تكرر صباح اليوم التالي ... فقد نهضت متأخرة ... و وجدت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون حول أمور شتى ... دخلت الغرفة فتوقف الجميع عن الحديث ، و ألقيت تحية الصباح ... ثم خطوت باتجاه أحد المقاعد راغبة في مشاركتهم أحاديثهم ... و الذي حدث هو أن وليد نهض ، و هم بالمغادرة ... شعرت ُ بألم حاد في صدري ... قلت : " كلا ... ابق حيث أنت ... أنا عائدة إلى غرفتي ... اعتذر على إزعاجكم " و استدرت بسرعة مماثلة للسرعة التي بها انهمرت دموعي ... و غادرت المكان ... ذهبت إلى غرفتي و سبحت في بحر دموعي ... وافتني أمي بعد قليل و رأتني على هذه الحال " رغد يا عزيزتي ... لا تأخذي الأمر بهذه الحساسية ! إنه لا يقصد شيئا ... لكنه الحياء ! " انفجرت و تفوهت بجمل لم أفكر فيها إلا بعد خروجها ، من شدة تأثري ... قلت : " إذا كان وجودي في هذا البيت يزعجه فأنا سأرحل إلى بيت خالتي ... ليأخذ حريته التامة في التجول حيثما يريد " أمي صدمت بما قلت ، و حملقت بي باندهاش ... " رغد ! كيف تقولين ذلك ؟؟ " " إنه يتعمد تجاهلي و تحاشي ّ ... كأنني فتاة غريبة و موبوءة ... أ لهذا الحد لم يعد يطيقني ؟ ألم أعد أعني له شيئا ؟؟ ألم يكن يعني لي كل شيء في الماضي ؟؟ " و سكت ّ ُ ، التقط بعض الأنفاس و أمسح الدموع بكومة من المناديل متكدسة في يدي ... كنت أبكي بانفعال ... والدتي قالت فجأة : " و الآن ؟؟ " نقلت بصري من كومة المناديل المبللة في يدي ، إلى عيني أمي و نظراتها المقلقة ... و الآن ؟؟ أعتقد أن أمي كانت تلمح إلى شيء ، لم تجرؤ على التصريح به ... و إن قرأت بعض معالمه في عينيها ... إنها نفس النظرة التي رمقتني بها تلك الليلة ، ليلة رحيل وليد السابق ، قبل أذان الفجر ... و خفت ... من الحقيقة التي لا أريد أن أكتشفها أو يكتشفها أي كان ... حقيقة الشعور بالحرارة التي تتأجج داخلي كلما كان وليد على مقربة .. في ذات اليوم ، أصررت على الذهاب إلى بيت خالتي و تناول الغذاء مع عائلتها كنت أريد أن أبتعد مسافة تسمح لي بالهدوء ، فنبضاتي لا يمكن أن تهدأ و وليد في مكان قريب ... هناك فوجئت بأمر آخر ! خالتي انفردت بي لبعض الوقت في إحدى الغرف و بدون أية مقدمات سألتني : " هل صحيح أنك ... أنك لا ترغبين في الزواج من ابن عمك سامر ؟؟ " دهشت و هالني ما سمعت ... قلت بذهول : " أنا ؟ من ... قال ذلك ؟؟ " خالتي كانت تحدثني بجدية و قلق واضحين ... قالت : " لقد سمعَتْك سارة تخبرين نهلة بهذا ذات مرة ... و ذكرت الأمر على مسمع مني و من حسام ... و من حينها و هو و أنا معه في جنون ! " لم أع ِ الأمر بالسرعة المفروضة ، بل بقيت أحملق بدهشة و بلاهة في عيني خالتي ... و ربما هي فسرت صمتي موافقة على ما تقول ... " رغد ... أخبريني بكل شيء ... فإن لم تكوني ترغبين في الزواج من ذلك المشوه فثقي بأنني لن أسمح لهذا الزواج بأن يتم أبدا " فيما بعد ، كنت أجلس مع نهلة في غرفتها دون وجود سارة ـ لوحدنا أخيرا ! قلت : " و تقولين أنها لا تعي شيئا ؟ إنها أخطر مما ظننت ! يا لجرأتها ... كيف تخبر خالتي و حسام بأمر كهذا !؟ هل أنا قلت ذلك ؟؟ " نهلة تنهدت و قالت : " هذا ما ترجمه دماغها الصغير ! لقد قلت أنك لا تريدين الزواج الآن ! أخضعتني أمي لاستجواب مكثف ، و أخي حقق معي مطولا بسبب هذا الأمر ! " " يا إلهي ! " ابتسمت نهلة ابتسامة سخرية ماكرة ، ثم وقفت فجأة و نفخت صدرها هواء ً ، و رفعت كتفيها عاليا ، و قطبت حاجبيها و عبست بشكل غريب مرعب و قالت بنبرة خشنة ـ تقلد حسام : " أمي يجب أن تتأكدي من الأمر لأنني إن اكتشفت أنهم أرغموها على هذا الزواج أو استقلوا كونها يتيمة و صغيرة و ضعيفة ، فأقسم بأنني سأشوه النصف الآخر من وجه ذلك اللئيم الماكر " قفزت أنا واقفة بغضب ... " نهلة ! " ألا أنها تابعت تمثيل المشهد : " قلت لك يا أمي ... تدخلي و امنعي هذا الارتباط منذ البداية ... أترين أن فتاة في الرابعة عشر هي مدركة بالقدر الكافي لتحديد مصيرها في أمر كهذا ؟؟ كيف تجرءوا على فعل هذا كيف ؟؟ كيف ؟؟ ويل لذاك المشوه مني " " يكفي نهلة ... " قلت ُ بعصبية ، فعادت نهلة إلى شخصيتها الطبيعية ، و قالت : " هذا ما كان يحصل كل يوم ! تعرفين أن حسام يبغض خطيبك من ذلك الحين ! " قلت : " لا أقبل أن ينعته أحد بالمشوه ... و تشوه وجهه ليس شيئا يستحق أن يعير عليه" نهلة جلست على السرير ، و قالت : " ليس بسبب التشوه هو ناقم منه ! تعرفين ! إنه بسببك أنت ! لازال مولعا بك ! " انزعجت من هذا ... فقد كنت أظن أن الأمر قد انتهى ... لكن ... " أرجوك نهلة لنغير الموضوع ... لقد أكدتُ لوالدتك أن سارة فهمت خطأ ... و إن بدا عليها عدم الاقتناع ... لكن لندع الأمر ينتهي الآن ... " و أتيت و جلست قربها ... ثم اضطجعتُ مسترخية على السرير ... " إذن ... ماذا قررت ؟ مع دانة أم بعدها ؟؟ " تنهدت بانزعاج من الموضوع برمته ... قلت : " لم أقرر يا نهلة ... لماذا يطاردني الجميع بهذا السؤال ؟؟ " نهلة أمسكت بيدي اليمنى و أخذت تحرك خاتم الخطوبة حول إصبعي البنصر و تقول : " لأن هذا الخاتم سئم البقاء حول هذا الإصبع ! إنها أربع سنوات يا رغد ! " قلت : " لكنني لا أزال صغيرة ! ألا ترين ذلك ؟؟ أريد أن أتخرج من الجامعة أولا.. و أريد أن ... تتغير علاقتي بسامر فأنا لا أشعر بشيء مميز تجاهه " كنت أنظر إلى السقف ، و لكن رأس ابنة خالتي ظهر أمامي فجأة ... و أجبرني على النظر إلى عينيها ... قالت : " تقصدين لا تحبينه ... " و كان تقريرا إجباريا لا سؤالا ... التفت يمينا فأمسكت هي بوجهي و أعادته حيث كان و أجبرتني على النظر إلى عينيها الناطقتين بالحق ... " لا تهربي رغد ! أنت ِ لا تحبينه ! " استسلمت ... و غضضت بصري ... أتحاشى تلك النظرة الثاقبة الفاهمة ... نهلة هي أكثر شخص يفهمني و أبوح إليه بأسراري و كل ما يختلج مشاعري ... نهلة مسحت على رأسي بعطف و قالت : " رغد ... لا تتزوجيه إذا لم تكوني ترغبين في ذلك ... إنه كالأخ بالنسبة إليك ! أبقيه أخا فأنت بحاجة إليه كأخ لا كزوج ! " " نهلة ! ... " و ضربت أنفي بإصبعها ضربة خفيفة و هي تقول : " أليس كذلك ؟؟ " عدت أحدق بها ... في حيرة من أمري ... قلت : " من أتزوج إذن ؟؟ " هي ابتسمت و قالت بمكر : " أخي حسام ! " رفعت رأسي و صدمت جبينها بجبيني عمدا ثم جلست و أخذت هي تمثل دور المتألمة ! " آه ... رأسي ! كسر في الجمجمة ! انجدوني ! " قلت بنفاذ صبر : " قلت لك ِ ! لا تتوبين !" قالت و قد بدت عليها الجدية الآن : " صدقيني يا رغد ... إنه مهووس بك ! " قلت : " و الآخر كذلك ! لم تظنينه يلح علي بالزواج ؟ إما أن نتزوج أو يفتش عن وظيفة أخرى تبقيه قربي ! " قالت ، تنظر إلي بعين شبه مغمضة و حاجبيها مرفوعين أقصاهما : " من مثلك ! عاشقان في وقت واحد ! يا للحظ ! كم أنا مسكينة ! " " قلت لك لا تتوبين ! أوه نهلة ! لسوف أطلب من خالتي التفتيش عن عريس لك حتى أتخلص منك كما تخلصت من دانة ! " ضحكت نهلة و قالت : " سأتزوج من شقيق زوجك حتى آتي للعيش معك ! لن تتخلصي مني ! " و استمرت في الضحك ... الجملة أثارتني كثيرا ... غضبت و قلت بانفعال لا يتناسب و دعابتها العفوية : " قلت لك دعي وليد و شأنه ... لا تأتي بذكر هذا ثانية أ فهمت ِ ؟؟ " نهلة ابتلعت ضحكتها و نظرت إلي بشيء من التعجب و الحيرة ... " ما الأمر رغد ! كنت أمزح ... لم انفعلت هكذا ؟؟ " خجلت من نفسي فأنا لا أعرف لم انفعلت بهذا الشكل بينما هي تمزح ليس إلا ... بل ، و حتى لو كان كلامها غير مزاح ... لم علي الانفعال هكذا ؟؟ اعتقد أن وجهي تورد ... فنظرات نهلة توحي بأنها تلحظ شيئا غريبا على وجهي ... التفت نحو اليسار أخفي شيئا مما قد يكون ظاهرا على وجهي دون أن أملك القدرة على مواراته لكن توتري كان أوضح و أفصح من أن يغيب عن ذهن نهلة ... التي تعرفني عز المعرفة ... " رغد ... ماذا دهاك ؟؟ " " أنا ؟ لا شيء ... لا شيء " و الآن استدرت كليا ، و أوليتها ظهري ... بل و سرت نحو المجلة الموضوعة على المنضدة قرب سرير نهلة ... متظاهرة بالبرود ... قالت تحاصرني : " وليد غائب الآن ؟؟ " قلت : " لا ... عاد إلينا منذ يوم أمس الأول ... " و أمسكت بالمجلة ، و جلست على السرير ، و أخذت أقلب صفحاتها و ألْهي نفسي بالتفرج على الأزياء و المساحيق و العطور ... و حتى الأخبار السياسية و الرياضية ... و صور اللاعبين ! " أوف ! " أغلقت المجلة بسرعة ، بعد أن وقعت عيناي على صورة نوّار يبتسم ! يا إلهي ! كم أنفر من هذا الشخص ! رغم أنه محبوب من قبل الكثيرين و الكثيرات ! " ماذا دهاك ؟؟ " " إنه ذلك المغرور ! من أمنيات حياتي ... أن أتصفح مجلة ذات يوم ثم لا أجد صورة له فيها ! يا له من شخص بغيض ! أتساءل ما الذي يجذب هؤلاء البشر إليه ؟؟ دانة المسكينة ! " " و لم مسكينة ..؟ ألست تقولين أنها تحبه ؟؟ " " كثيرا ! إنه سيعود الليلة من رحلته و ستقيم الدنيا و تقعدها من أجله ! لابد أنها الآن تعد أطباق العشاء و الكعك من أجله ! الحمد لله إنني لست معها في المطبخ هذه الساعة ! " و ضحكنا بمرح ... ثم قالت : " و خطيبك سيرحل اليوم ؟ " " نعم ... خلال ساعتين " " إذا ... ألا يجدر بك أن تكوني معه الآن ؟؟ " وقفت ... و سرت في الغرفة بضع خطوات حائرة ... فقد خرجت من منزلي منذ الصباح ، و هاهي الساعة تتجاوز الثالثة ظهرا ... و لابد أن سامر ينتظر عودتي الآن ... قلت : " إنه مع وليد ... الكل محتفٍ بعودته و مشغول به ! من سيذكرني هذه اللحظة ؟؟ " قالت : " هل سيرحل وليد عاجلا ؟ " " لا .. على ما أظن و أتمنى " " تتمنين ؟؟ " وقعت ُ في شركي ! قلت محاولة التصحيح و التعديل : " أقصد نتمنى جميعا ... فلا أحد يود رحيله و والداي سيحزنان كثيرا جدا كالمرة السابقة و التي سبقتها إن رحل ... أتمنى أن يستقر هنا و يريح الجميع " ربما كان الحمرة تعلو وجهي هذه المرة أيضا ... و الآن ... إي شيء أشغل يدي به تغطية على اضطرابي هذا ؟ ألا يوجد في الغرفة مجلة أخرى ...؟؟ وقع بصري على مجموعة زجاجات العطر أمام مرآة الغرفة ، فذهبت أليها أشمها واحدة تلو الأخرى ... أقبلت نهلة و وقفت إلى جانبي ... قالت : " ربما لديه ارتباطات هامة هناك ! عمل ... منزل ... عائلة ... زوجة ! " استدرت إليها و قد اكفهر وجهي ... و قلت بسرعة : " إنه غير متزوج " " أحقا ؟؟ " كانت نظراتها تشكيكية مخيفة ! قلت : " طبعا ! و هل تظنين أنه سيتزوج دون إبلاغنا ! مستحيل ! ما يبقيه هناك هو العمل ... ليته يجد فرصة للعمل هنا و يستقر معنا ... " قالت : " لتضمنوا عدم رحيله ... زوجوه ! " و أضافت و هي تبتسم بمكر : " أنتم الثلاثة في ليلة واحدة ! و نتخلص منكم ! " رفعتُ إحدى زجاجات العطر أمام وجهها بغتة و تأهبتُ لرش العطرعلى عينيها ! " أوه لا لا رغد كنت أمزح ! " و فرّت و صرت أطاردها حتى جلسنا على السرير نضحك بشدة ! بعد قليل ... قلت : " علي العودة للبيت ! سامر ينتظر اتصالي ! " و قمت ، متوجهة إلى الهاتف الموضوع على مكتب نهلة ... و اتصلت بالمنزل ... و إذا بالدماء تتصاعد من جديد و بغزارة إلى وجهي ... و نهلة تقترب مني و تراقبني ... " وليد ؟ إنها أنا " " ( مرحبا ... رغد ) " " إمم .. أود التحدث إلى سامر " " ( سامر ... أظنه يستحم الآن ! هل تريدين شيئا ؟ ) " " أأأ ... أريد أن يأتي إلي ّ ... هل لا أبلغته بأنني أنتظره ؟ " " ( حسنا ) " " شكرا " " العفو ... صغيرتي " و أغلقت السماعة بصعوبة ... فقد كانت يدي ترتجف ! و بدأت أتنفس بعمق و أشعر بالحر ... و أيضا ... أتصبب عرقا ! نهلة وقفت أمامي مباشرة تشاهد الاضطراب الذي اعتراني فجأة ... بحيرة و فضول " رغد ... " " نعم ؟؟ " " لماذا تنفعلين كلما جيء بذكر وليد !؟ " " أنا ؟؟ من قال ذلك !؟ " و مدت نهلة يدها و تحسست جبيني براحتها ... " إنك تغلين ! وجهك أحمر ناضج و جبينك مبلل بالعرق ! " أربكتني كثيرا كلمات نهلة ... و حاولت التملص من نظراتها لكنها حاصرتني ... ابتعدت عنها و ذهبت إلى حيث أضع عباءتي لأرتديها استعدادا للمغادرة ! " و لكن خطيبك لم يحضر بعد ! " " سأستعد ... " كنت أريد أن أنشغل بشيء بعيدا عن نظرات نهلة التي تخترق أعماقي ... كنت أضبط حجابي مولية إياها ظهري ... قالت : " خطيبك شاب جيد يستحق فتاة رائعة مثلك ! " تابعت ترتيب حجابي دون أن أعير جملتها هذه اهتماما ... قالت : " و أخي شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلك ! " و لم ألتفت إليها ! حتى لا أدع لها مجالا لفتح الموضوع مجددا ! و تابعت ارتداء عباءتي ... " و وليد شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلي ! " استدرت فجأة نحو نهلة ... باضطراب و توتر و انزعاج جلي شديد ! ... اصطدمت نظراتنا الحادة العميقة ... و بقينا لبضع ثوان نحملق في بعضنا البعض ... نهلة أوقعت بي ... إنها خبيثة ! كنظراتها التي ترشقني بها الآن ... أتت نحوي ... و رفعت يدها و أمسكت بعباءتي و سحبتها ... " رغد يا ابنة خالتي العزيزة ... لن تخرجي من هنا حتى أعرف ما حكايتك مع وليد ! " بعد عشر دقائق كنت أجلس في السيارة إلى جانب سامر ... " هل تحبين أن نتجول قليلا قبل العودة ؟؟ " " كما تشاء " قضينا قرابة الساعة نجول في شوارع المدينة ... و نتبادل الأحاديث ... سامر ... و الذي لم يجد الفرصة السانحة قبل الآن لفتح الموضوع ، سرعان ما تطرق إليه ... " الوقت يمضي يا رغد ... لقد بدأت أضيق ذرعا بالوحدة هناك ... لا أريد أن أخسر وظيفة ممتازة كهذه ، لكنني لا أريد أن أبقى بعيدا أطول من ذلك ... " تتمه حرت و لم أجد تعقيبا ملائما ... و ربما صمتي أحبط سامر ... ففقد حماسه للمتابعة بعد بضع جمل ... حينما وصلنا إلى المنزل ، وجدنا والدي ّ و وليد يجلسون في الفناء الخارجي ، حول الطاولة الصغيرة القريبة من الشجرة الطويلة ، بجانب الباب الداخلي ... كان الجو جميلا ... و العصافير تغرد بحماس على أغصان الشجرة ... و الدخان يتصاعد من أقداح الشاي الموزعة على الطاولة ... سامر كان يمسك بيدي ، ثم أطلقها و سار نحوهم بسرعة ... " شاي أم وليد ! أين نصيبي ؟؟ " و انضم إليهم ... ألقيت نظرة على وليد فرأيته ينظر نحوي و لكن سرعان ما بدد نظراته نحو الفراغ ... لم يكن يريد النظر إلي ... علي أن أنصرف قبل أن ينهض مغادرا ظانا بأنني سأنضم إليهم ... توجهت نحو الباب و دخلت إلى الداخل ... كنت بالفعل أتمنى أن أشاركهم ! و لكن لو فعلت ... فبالتأكيد سيغادر وليد ... ما أن دخلت حتى وصلتني رائحة الكعك الشهية ! و سرت إلى المطبخ ! " دانه ! رائحة كعكتك زكية جدا ! دعيني أتذوقها ! " " عدت ِ أخيرا ! لا يا عزيزتي ! هذه لنوّار و نوّار فقط ! " " و هل سيأكل الكعكة كاملة ! مسكين ! كيف سيلعب إذا انفجرت معدته ؟ " نظرت إلي ّ بانزعاج و صرخت : " رغد ... انصرفي فورا ! " ضحكت و خرجت ، متوجهة إلى غرفتي حيث وضعت حقيبتي و عباءتي ، و وقفت أمام المرآة أتأمل وجهي ... لم يكن الإفلات من محاصرة نهلة سهلا ... أي حكاية لي مع وليد ؟؟؟ ما أكثر الحكايات ! أريد أن أنضم إليهم ! على الأقل ... سأراقبهم من النافذة ! و بسرعة خرجت من غرفتي قاصدة الذهاب إلى النافذة المشرفة على الفناء الأمامي ... حيث هم يجلسون ... من تتوقعون صادفت في طريقي ؟؟ نعم وليد ! دخل للتو ... و حينما رآني توقف برهة ... ثم سار مغيرا طريقه ... ربما كان يود القدوم من ناحيتي إلا أنه غير مساره و انعطف ناحية المطبخ ... أ لهذا الحد لا يريد أن يراني أو حتى يمر من ممر أقف أنا فيه ؟؟ " وليد " ناديته بألم ... إذ أن تصرفه هذا جرحني ... لم يلتف إلي ، و رد ببرود : " نعم ؟ " تحشرج صوتي في حنجرتي ... و بصعوبة نطقت ، فجاء صوتي خفيفا ضعيفا لم أتوقع أنه سمعه ... لكنه سمعه ! " أريد أن أتحدث إليك " " خيرا ؟ " كل هذا و هو مدير ظهره إلي ... أمر ضايقني كثيرا ... " وليد ... أنا أحدثك ! أنظر نحوي ! " استدار وليد بتردد ، و نظر إلى عيني نظرة سريعة ثم طارت أنظاره بعيدا عني ... كم آلمني ذلك ... قلت : " لماذا لا تود التحدث معي ؟؟ " بدا مضطربا ثم قال : " تفضلي ... قولي ما عندك " و تنهد بضيق ... قلت بمرارة : " إذا كنت لا تود الاستماع إلي ... و لم يعد يهمك أمري ... فلا داعي لقول شيء " وليد التزم الصمت ... ثم و بعد أن طال الصمت بنا ، استدار راغبا في الانصراف ... أنا جن جنوني من إهماله لي بهذا الشكل ... و أسرعت نحوه و قبضت على يده و قلت بحدة و مرارة : " انتظر ... " وليد سحب يده و استدار نحوي بغضب ... و رأيت النار تشتعل في عينيه ... كان مرعبا جدا ... الدموع تغلبت علي الجفون ... و تحررت من قيودها و شقت طريقها بإصرار و شموخ على الخدين ... وليد توتّر ... و تلفت يمنة و يسرة ... ثم قال : " لماذا تبكين الآن ؟؟ " قلت بعدما أغمضت عيني أعصر دموعها ... ثم فتحتهما : " لماذا لم تعد تهتم بي ؟ لماذا تتحاشاني ؟ لماذا تعاملني بهذه الطريقة القاسية و كأنني لا أعني لك شيئا ؟؟ " الرعب ... و الذعر و الهلع ... أمور أثارتها نظراته الحادة المخيفة التي رماني بها بقسوة ... قبل أن يضربني بكلماته التالية : " يا ابنة عمي ... لقد كبرت ِ و لم تعودي الطفلة المدللة التي كنتُ أرعاها ... أنت ِ الآن امرأة بالغة ... و على وشك الزواج ... لدي حدود معك ِ لا يجوز تخطيها ... و لديك سامر ... ليهتم بأمرك من الآن فصاعدا " و تركني ... و سار مبتعدا إلى الناحية التي كان يريد سلكها قبل ظهوري أمامه ... اختفى وليد ... و اختفت معه آمال واهية كانت تراودني ... وليد الذي تركني قبل تسع سنين ، لم يعد حتى الآن .. مسحت بقايا دموعي و آثارها ... و خرجت إلى حيث كان والدي ّ و سامر يجلسون حول الطاولة ... أقبلت نحوهم فوقف سامر مبتسما يزيح الكرسي المجاور له إلى الوراء ليفسح المجال لي للجلوس ... سامر ... كان دائما يعاملني بلطف و اهتمام بالغ ، و يسعى لإرضائي و إسعادي بشتى الوسائل ... اقتربت من سامر و نقلت بصري منه ، و إلى والديّ ، ثم إلى أكواب الشاي و الدخان الصاعد من بعضها ... ثم إلى الخاتم المطوق لإصبعي منذ سنين ... ثم إلى عيني سامر اللتين تراقباني بمحبة و اهتمام ... ثم قلت : " سامر ... لقد اقتنعت ... سنحتفل مع دانه "
__________________
لو صرخت الدنيا ف وشي اكيد هعلي حسي ... لو كان ده وقت الانهيار انا حاطه روحي ع كفي ... لو كان ده وقت الانفجار .. اكيد ملغمه نفسي ...!! * ** فى حياة كل منا ذكرى تمنى الا يمر بها ولكن لولا ألمها لارتكب المزيد من الاخطاء فى حق نفسه وفى حق الاخرين* ** الحمدلله ![]() ![]() |
#2
|
||||
|
||||
![]() الحلقةالتاسعةعشر
******** كنت قد دخلت إلى داخل المنزل لإحضار سيجارة ... فكلما شعرت بالضيق ، عكفت على التدخين بشراهة ... و رؤية رغد و سامر يقبلان نحونا ... و أصابعهما متشابكة جعلت شعبي الهوائية تنقبض و تنسد ... سامر جلس معنا ، و ذهبت رغد إلى الداخل ... بعد قليل دخلت ُ قاصدا الذهاب إلى غرفة سامر و إحضار السجائر ، فرأيتها أمامي ... الغضب الذي كان يسد شعبي مع ذلك الهواء خرج فجأة باندفاع مصبوبا عليها ... فتحدثت معها بقسوة رافضا الإصغاء إلى ما كانت تود إخباري به ... الآن أنا في الغرفة أشعر بالندم ... لماذا أصبحت أعاملها بهذه الطريقة ؟؟ أليست هذه هي رغد ... طفلتي الحبيبة المدللة ؟؟ رغد ... أتسمعون ؟؟ أتدركون ؟؟ إنها رغد ! رغد ! حملت سجائري و ذهبت في طريقي إلى الخارج ... عند عبوري الممر قرب المطبخ لمحت أختي دانه ، و كانت ترتدي مريلة خاصة بالمطبخ و توشك على المسير نحو الباب ... " وليد ! ... أوه سجائر ! " ثم مسكت أنفها بإصبعيها كمن يمنع رائحة كريهة من اقتحام أنفه ! " لن أدخن هنا ! " قالت : " أنا أيضا ذاهبة لوداع سامر ! رغد الكسولة تركتني أعمل وحدي ! " و خرجنا سوية ... رغد كانت تجلس قرب سامر ... الذي يبدو على وجهه الانفعال و السرور ! قالت دانة : " آسفة سامر سأودعك الآن و أعود للمطبخ ! " و وجهت كلامها إلى رغد : " فالكسالى يجلسون هنا ! و لكن بعد أن أتزوج ستقع على رؤوسهم أعمال المنزل رغما عنهم ! " سامر ضحك ، و كذلك والدي ... أما رغد فألقت نظرة لا مبالية على دانة ثم أخذت تشرب الشاي ... والدتي قالت : " بل على رأسي أنا ! فأنتما ستخرجان من هنا في ليلة واحدة ! " أنا صعقت ... و اكفهر وجهي ... و حملقت في رغد ... أما دانة فقالت : " ماذا ... أمي ؟؟ هل ...؟؟ " سامر قال : " قررنا أخيرا !! " دانة سارت نحو رغد ببهجة فوقفت الأخرى و تعانقتا ... " أيتها الخبيثة ! هل تريدين سرقة الأضواء مني ؟؟ " و ضحكتا بمرح ... ثم عانقت دانة سامر و تمتمت ببعض الكلمات ، ثم ودعته و عادت إلى الداخل ... " يجب أن أغادر الآن ! " قال ذلك سامر ... فوقف والداي ، فاحتضنهما و قبل رأسيهما ... ثم أمسك بيدي رغد ، و ضمها إليه في عناق طويل ... كل هذا و أنا واقف كالشجرة التي إلى جانبي ... أشعر بالصواعق تضربني من كل جانب ، و أعجز عن فعل شيء ... و الآن ... يقبل الخائن نحوي أنا ... يريد توديعي ... ابتعد يا سامر فأنا أشعر برغبة جنونية في ضربك ! و لا أعرف أي قوية امتلكت لحظها و منعت يدي من أن تحطم وجهه ... صافحته و عانقته عناقا باردا خال من أية مشاعر ... و تركته يذهب ... بعدما خرج ، تجاوزت الطاولة و من يجلس حولها ، و وقفت بعيدا لئلا أزعج أحدا بدخان سجائري ... كنت أسمع أصوات الثلاثة ، أبي و أمي و الخائنة يتحدثون عن أمور الحفلة و الإعداد لها ... و كنت أشعر بأن طبقة سميكة من الإسمنت قد صبت على صدري و يبست و كتمت أنفاسه ... أمي ذهبت بعد ذلك للمطبخ لتساعد دانة ، و بقي والدي مع رغد ... كنت أختلس نظرة ناحيتهما من حين لآخر ... والدي كان يجلس موليا ظهره إلي أما الخائنة فكانت تواجهني و لم يحدث أن التفت ُّ إلا و اصطدمت نظراتنا ، فزادت الإسمنت على صدري طبقة بعد طبقة ... والدي تلقى مكالمة عبر هاتفة المحمول ، ثم انصرف إلى الداخل ... و بقيت صغيرتي وحدها تشرب الشاي ... توقفت عن الالتفات إلى الوراء ... و شردت في اللاشيء الذي لا أراه أمامي ... و الآن شعرت بحركة خلفي ... و بقيت كما أنا أرتقب ... و ظهر ظل أمامي يكبر و يكبر ... و الفتاة الواقفة خلفي تقترب و تقترب ... و الآن توقفت ... لثوان معدودة ... ظلت رغد واقفة خلفي و أنا لا أملك من الشجاعة و القوة ما يمكنني من الاستدارة إليها ... و لكني أرى ظلها أمامي ... و أرى يدها تتحرك نحوي ... ثم تتراجع ... ثم تستدير ... ثم تنسحب ... عندما ابتعدت استدرت أنا للخلف و رأيتها و هي تسير مبتعدة و يدها تمسح ما قد يكون دموعا منسكبة على وجهها ... مددت يدي ... أريد أن أمسك بها ... أمسك بظلها ... أمسك بطيفها ... أمسك بدمعها ... أمسك بذرات الهواء التي لامستها ... و اختفت رغد ... و عادت يدي فارغة لم تجني غير الحسرة و الألم ... عندها ، تلوّت معدتي أيما تلوي ... و عصرت كما تعصر الملابس المبللة باليدين ... في تلك الليلة ، حضر نوّار خطيب شقيقتي و قد جالسته لبعض الوقت ... و رغم أنه دمث الخلق ، إلا أن نفسه لا تخلو من الغرور و التعالي ... و قد أحرجني لدى سؤاله لي عن دراستي المزعومة و أعمالي و خبراتي المعدومة ! و كنت أختصر الإجابات ببعض جمل غامضة ، و سرعان ما انسحبت تاركا الخطيبين يستمتعان بعشائهما ... و لشدة الآلام ـ الجسدية منها و النفسية ـ فإنني اكتفيت بقدر يسير من الطعام ... و ذهبت إلى غرفة سامر متحججا بالنعاس ... رغد لم تكن قد شاركتنا الوجبة ، فلا أظنها تفكر في فعل ذلك بعد الطريقة الفظة التي عاملتها بها ... الندم يقرصني و يوخز جميع أعصابي الحسية ... إضافة إلى آلام المعدة الحادة ... و مرة أخرى خرجت الدماء من جوفي و زادت قلقي ... لابد أنني مصاب بمرض ... و لابد لي من مراجعة الطبيب ... على السرير تلويت كثيرا حتى قلبت المفارش و البطانيات و الوسائد رأسا على عقب ... أفكاري كانت تدور حول رغد ... كيف لي أن أهدأ لحظة واحدة ... و موعد زفافها قد تحدد ! لو كان باستطاعتي تأجيله قرنا بعد ... فقط قرن واحد ... أضمن فيه أنها تبقى معزولة عن أي رجل ... و تموت دون أن يصل إليها أحد ... أخرجت صورة رغد الممزقة و جعلت ألملم أجزاءها ، و أتاملها ، ثم أبعثرها من جديد و أعود لتجميعها كالمجنون ... نعم مجنون ... لأن تصرف كهذا لا يمكن أن يصدر من كائن عاقل ... تركتها ملمومة على المنضدة التي بجواري ... و قمت أذرع الغرفة ذهابا و جيئة كبندول الساعة ! اقتربت الساعة من الواحدة ليلا ... و أنا ما بين آلم معدتي الحارق و ألم قلبي المحترق ... حتى رغبت في تناول أي شيء من شأنه أن يهدئ الحريق المشتعل بداخلي ... و تنفُّس أي شيء يطرد الضيق من صدري ... أخذت علبة سجائري ... و خرجت من الغرفة ... تاركا الباب مفتوحا ... ذهبت أولا إلى المطبخ و حملت علبة حليب بارد معي فقد لاحظت تأثيره المهدئ على معدتي ، و خرجت إلى الفناء ... و بدأت بشربه و التدخين معا ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ لا أستطيع أن أنام و أنا أفكر ... و أفكر و أفكر ... فيما قاله وليد لي ... و الصداع يشتد لحظة بعد أخرى ... كم آلمني ... أن أكتشف أنه لم يعد يهتم بي أو يرغب في رعايتي كالسابق ... لقد تغير وليد ... و أصبح قاسيا و مخيفا ... و غريبا ... كنت أبكي حسرة و مرارة ... فأنا فقدت شيئا كان يشغل حيزا كبيرا من حياتي ... و منذ ظهوره ، و أنا في صراع داخلي ... بقيت فترة طويلة أتأمل صورته التي رسمتها قبل شهور ... و لم أتمها ... و إذا بي أرى نفسي ألّون بياض عينيه باللون الأحمر الدموي ... ! غضبا و حسرة ... صار مخيفا ... مرعبا ... دانه كانت تمضي وقتا غاية في السعادة و المتعة مع خطيبها الذي تحبه ... و هذا يجعلني أتألم أكثر ... لأنني لا أحظى بالسعادة التي تحظى بها ... و لا أشعر بالمشاعر التي تشعر هي بها تجاه خطيبها ... غدا هو يوم دراسة ، و يجب أن أنام الآن و إلا فإنني سأنام في القاعة وسط الزميلات ! خرجت من غرفتي و في نيتي ابتلاع قرص مسكن من الأقراص الموجودة في الثلاجة ، و فيما أنا أعبر الردهة لاحظتُ باب غرفة سامر مفتوحا ... تملكني الفضول ! سرت بحذر و هدوء نحو الغرفة ! وقفت على مقربة و أصغيت جيدا ... لم أسمع شيئا ... اقتربت أكثر خطوة بعد خطوة ، حتى صرت عند فتحة الباب ، و أطللت برأسي إلى الداخل بتهور ... لكني لم أجد أحدا ! عندها فتحت الباب على مصراعيه بسرعة ... و بذعر و هلع صحت : " وليد ! " قفزت و أنا أركض كالمجنونة ... أجول في أنحاء المنزل و في رأسي الاعتقاد الصاعق بأن وليد قد فعلها و رحل خلسة ... الدموع تسللت من عيني من شدة ما أنا فيه ، و شعرت برجلي ّ تعجزان عن حملي فصرت أترنح في مشيتي مخطوفة الفؤاد ... *****ة الروح ... و انتهى بي الأمر إلى باب المدخل ... وقفت عنده و مسكت قبضته و ركّزت كل ثقلي عليها لتدعمني لئلا أقع ... فإن انفتح الباب ... فلا شك أن وليد قد غادر و تركه مفتوحا ... و انفتح الباب و انهرت أنا مع انفتاحه ... لقد فعلها و فر خلسة دون وداعي ... خارت قواي و أخذت أبكي و أنحب بصوت عال ... " لماذا ؟ لماذا يا وليد لماذا ؟؟ " فجأة ... ظهر شيء أمامي ! كنت أجلس عند الباب بلا حول و لا قوة ... و شعرت بشيء يتحرك فأصابني الذعر الشديد ... فإذا به وليد يظهر في المرأى ... " رغد !!؟ " لم أصدّق عيني ... هل هذا شبح ؟؟ أم حقيقة ؟؟ جسم كبير ... طويل عريض ... متخف في الظلام ... يتقدم نحوي ... لا يُرى شيءٌ منه بوضوح غير لهيب السيجارة التي بين إصبعيه ... " رغد ... ما ... ماذا تفعلين هنا ...؟؟ " و كدمية كهربائية قد فُصِل سلكها عن المكبس ، شللت ُ عن الحركة ... حتى رأسي الذي كان ينظر إلى الأعلى ... الأعلى .. حيث موضع عيني وليد ، هوى إلى الأسفل ... متدليا على صدري سامحا للدموع بأن تبلل الأرض ... لم أجد في بدني أي مقدار من القوة لتحريك حتى جفوني ... وليد وقف مندهشا متوجسا برهة ... ثم جلس القرفصاء أمامي ... و قال بصوت حنون جدا ... " صغيرتي ... ؟؟" الآن ... كسبت من الطاقة ما مكنني من رفع رأسي للأعلى و النظر إليه ... و بقيت أنظر إلى عينيه و تحجبني الدموع عن قراءة ما فيهما ... " ما الذي تفعلينه هنا ؟؟ " " هل تريد الرحيل دون وداعي ؟؟ " لم تخرج الكلمات كالكلمات ... بل خرجت كالبكاء الأجش ... " الرحيل ؟؟ من قال ذلك ؟؟ " " ألست ... ألست تريد الرحيل ؟؟ " " لا ... خرجتُ أدخّن ! ... لكن ... ما الذي تفعلينه أنت هنا في هذا الوقت ؟؟ " أخذت نفسا عميقا و أطلقت الكلمات التالية باندفاع و بكاء : " ظننت أنك رحلت ... دون علمي و وداعي ... كما فعلت قبل سنين ... تركتني وحيدة ... في أبشع أيام حياتي ... " مد وليد يده فجأة و بانفعال نحوي ، ثم أوقفها في منتصف الطريق ، و سحبها ثانية ... قلت : " حتى لو لم أعد أعني لك شيئا ... لا ترحل دون علمي يا وليد ... أرجوك لا تفعل ... عدني بذلك ... " وليد ظل صامتا لا يجرؤ على شيء سوى الإصغاء إلي ... قلت : " عدني بذلك وليد أرجوك ... " هز رأسه إيجابا و قال : " أعدك .. " نظرت إليه بتشكك ... كيف لي أن أثق بوعوده ... ؟؟ ... قلت : " اقسم " وليد تردد قليلا ثم قال : " أُقسِم ... لن أرحل دون علمك ... صغيرتي ... " شعرت بالراحة لقسمه ... و سحبت نفسا عميقا ليهدئ من روعي ... وليد حملق بي قليلا ثم وقف ... و رفع سيجارته إلى فمه و سحب بدوره نفسا عميقا ... وقفت أنا ، و سمحت للباب الذي كنت أستند عليه و أحول دون انغلاقه أن ينغلق نفث هو الدخان للأعلى ، ثم قال و هو لا يزال ينظر عاليا : " لم استيقظت الآن ؟؟ " قلت ، و أنا أراقب الدخان يعلو و ينتشر ... " لم أنم بعد " قال : " لم ؟ ألن تذهبي غدا إلى الكلية ؟ " قلت : " بلى ... لكن ... لدي أرق " و صمت ... ثم سألته : " و أنت ؟ " قال : " كذلك ، لذا خرجتُ أدخن ... في ساعة كهذه " قلت : " هل ... يريحك التدخين ؟؟ " وليد لم يجب مباشرة ، ثم قال : " نعم ... إلى حد ما ... يرخي الأعصاب ... " قلت : " دعني أجرب ! " وليد التفت إلي بدهشة و نظر باستغراب ! " ماذا ؟؟ " " أريد أن أجرب ! " اعتقد أنها ابتسامة تلك التي ظهرت على إحدى زاويتي فمه ! قال : " هل تعنين ما تقولين ؟؟ " " نعم ... أتسمح ؟؟ " وليد هز رأسه اعتراضا و قال : " لا ... لا أسمح " " لم ؟ " " لا أسمح لشيء كهذا بدخول صدرك ... " " لكنه يدخل صدرك ! " قال : " أنا صدري اعتاد على حمل السموم و الهموم ... " ثم رمى بالسيجارة أرضا و سحقها تحت حذائه ... و علت وجهه علامات التألم ، و ضغط بيده على بطنه و قال : " لندخل " و حينما دخلنا ، قال : " تصبحين على خير " و اتجه نحو المطبخ ... أنا تبعته إلى هناك فرأيته يخرج علبة حليب بارد و يجلس عند الطاولة و يرشف منها ... و بعد رشفة أو رشفتين سمعته يتأوه ... و يسند رأسه إلى الطاولة في وضع يوحي للناظر إليه بأنه يتألم ... دخلت المطبخ ... فأحس بوجودي ... فرفع رأسه و نظر إلي ... " ألن تخلدي للنوم ؟ الوقت متأخر " شعرت بقلق شديد عليه ... قلت : " ما بك ؟؟ " أبعد نظره عني و قال : " لا شيء " لكني كنت أرى الألم باد على وجهه ... و عاد يشرب الحليب جرعة بعد جرعة ... " وليد ... هل أنت مريض ؟؟ " تنهد بنفاذ صبر و شرب بقية الحليب دفعة واحدة ، ثم نهض ... و خطا نحوي ... " تصبحين على خير " و تجاوزني ، و ذهب إلى غرفة سامر ... و أغلق الباب ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ صحوت من النوم على صوت والدتي توقظني من أجل تأدية صلاة الفجر ... كنت قد نمت قبل ساعة و نصف ، و أشعر بإعياء شديد ... أفقت من النوم فوجدتها واقفة قربي ... نهضت و ذهبت للتوضؤ ، و عندما عدت وجدتها لا تزال واقفة عند نفس المكان تنظر إلى المنضدة ... ما إن أحست بوجودي حتى استدارت نحوي بسرعة ، و قالت : " والدك ينتظرك ... " ثم خرجت من الغرفة .... ألقيت نظرة على المنضدة التي كانت أمي تراقبها قبل مجيئي ... فإذا بي أرى صورة رغد الممزقة ... التي نسيتُ إعادتها إلى محفظتي ليلا ... شعرت بالقلق ... لابد أن أمي رأت الصورة واضحة ... و لابد أن شكوكا قد راودتها إلا إذا كان احتفاظ رجل بصورة ممزقة لطفلة كان متعلقا بها بجنون ... هو أمر مألوف و مشهد تراه كل يوم ... ! أدينا الصلاة في مسجد قريب و عدت إلى السرير و نمت بسرعة قياسية ... عندما نهضت ، كان ذلك قبيل الظهر و لم يكن في البيت غير والدتي ، فوالدي في مكتبه ، و رغد في الكلية ، و دانه مدعوة للغداء في مطعم ، مع خطيبها ... أمي لم تشر إلى أي شيء بحيال تلك الصورة ... لذا ، تجاهلت الأمر ... و أقنعت نفسي بأنها نسيت أمرها ... لم أرَ صغيرتي ذلك النهار ، إذ يبدو أنها عادت من الكلية عصرا و ذهبت للنوم مباشرة في وقت كنت أنا فيها مشغول بشيء أو بآخر .... و في الليل ... و قبل ذهابي إلى غرفة المائدة لتناول العشاء ، مررت بالمطبخ فرأيت صغيرتي تأكل وجبتها منفردة هناك ... عندما رأتني توقفت عن الأكل و انخفضت بعينيها إلى مستوى الأطباق ... في انتظار مغادرتي ... آلمني أن أراها وحيدة هكذا فيما نحن مجتمعون معا ... قلت : " تعالي و انضمي إلينا " رغد حملقت بي قليلا متشككة ثم سألت : " ألا يزعجك ذلك ؟؟ " قلت : " لا ... صغيرتي " و سرعان ما حملت أطباقها و طارت إلى غرفة المائدة ... بمنتهى البساطة ! فيما نحن نتحدث عن أمور شتى ، قال والدي : " أيمكنك يا وليد اصطحاب رغد من و إلى الجامعة يوميا ؟؟ إن تفعل تزيح عن عاتقي مشوارا مربكا " و لأنه لم يكن لدي ما أقوم به ، لم أجد حجة تمنعني من الموافقة ... لكن بعض الاستياء ظهر على وجه والدتي ... أنساني إياه البهجة التي ظهرت على وجه رغد ... أو ربما توهمت أنها ظهرت على وجه رغد ! في اليوم التالي كان علي أن أنهض باكرا من أجل هذه المهمة ، و رافقتنا والدتي هذه المرة .... المشوار كان يستغرق قرابة العشرين دقيقة . رغد كانت تركب المعقد الخلفي لي ، ذهابا و إيابا ... و كانت تلتزم الصمت معظم المشوار إلا عن تعليقات بسيطة عابرة ... في المساء ، كنا نقضي أوقاتا ممتعة في مشاهدة أحد الأفلام ، أو مزعجة في متابعة الأخبار و ما آلت إليه الأوضاع الأخيرة ، أو محرقة في الحديث عن الزفاف المرتقب ... أتناول وجباتي معها ... آخذها إلى الجامعة أو أي مكان تود ... أتبادل بعض الأحاديث معها بشأن دراستها و ما إلى ذلك ... أتفرج على لوحاتها الجديدة ... أرافقها هي و دانة و أمي إلى الأسواق ... أنصت باهتمام كلما تحدثت و أراقبها دون أن أشعر كلما تحركت ... كل هذا ... قد أثار جنوني ... و ذكريات الماضي ... فصرت أشعر بأنها عادت لي ... طفلتي الحبيبة التي أعشقها و أعشق رعايتها ... أخذني جنوني إلى التفكير بعدم الرحيل ... كيف لي أن أبتعد عنها و أنا متعلق بها بجنون ... كيف لي أن أسمح للمسافات و الزمن بتفريقنا ؟؟؟ إنني سأبقى حيث تكون رغد ... لأنه لا شيء في هذه الدنيا يهمني أكثر منها هي ... سأبحث عن عمل ، و استقر هنا إلى جانبك ... سأبقى قربك يا رغد ... نعم قربك يا صغيرتي الحبيبة ... ثم ... و باتصال هاتفي واحد من سامر ... يتحطم كل شيء ، و أسقط من برج الأوهام الطرية ، إلى أرض الواقع القاسية الصلبة ... و يتدمر كل شيء ... لم تكن صغيرتي تملك هاتفا في غرفتها ، لذلك فإن مكالماتها تكون على مرأى و مسمع من الجميع ... و كلما تحدثت إلى سامر غمرتني رغبة في تقطيع أسلاك الهاتف و الكهرباء ... في المنزل برمته ! في أحد الأيام ، كنت ذاهبا لإحضارها من الجامعة ، و صادف أن الشارع كان مزحوما و شبه مسدود بسبب حادث مروري ... طال بي المشوار و أنا أسير ببطء شديد بسبب الحادث ... و عوضا عن الوصول خلال 20 دقيقة وصلت بعد 40 دقيقة على الأقل ... عادة ما تكون صغيرتي تنتظرني عند الموقف حيث تقف الطالبات ، إلا أنني الآن لم أجدها ... انتظرت بضع دقائق ، لكنها لم تخرج ... وقفت في مكاني حائرا ثم اتجهت إلى الحارس و أخبرته بأنني أنتظر قريبتي و لم أرها ، فطلب اسمها ثم اتصل برقم ما ، و بعدها بدقيقتين رأيت رغد تخرج من البوابة ... مع بعض الفتيات ... كنت لا أزال واقفا قرب الحارس ، نظرت هي باتجاهي و ظلت واقفة حيث هي ... و تتحدث إلى زميلاتها ... شكرت الحارس ثم تقدمت ُ إليها فودعتهن و أتت نحوي ... " أنا آسف ... تأخرت ُ بعض الشيء " " بل كثيرا " قالت بغضب ... ثم سارت نحو السيارة ... بعدما اتخذنا مقعدينا ، و قبل أن ننطلق عدت ُ أقول : " آسف صغيرتي ... " و لكنها لم تجب ، و فتحت نافذة السيارة لأقصى حد ... يبدو أنها مستاءة و غاضبة ! و نحن نسير بالسيارة مررت من حارس الأمن ذاته فألقيت التحية عبر النافذة و انطلقت ... " كيف تلقي تحية على شخص بغيض و غير مهذب كهذا ؟؟ " تعجّبت من سؤالها ! قلت : " لم تقولين عنه ذلك ؟؟ " " كلما خرجت ُ لأرى ما إذا كنت َ قد وصلت َ أم لا ، وجدته ينظر باتجاه المدخل ... كان أجدر بك أن تصفعه ... لقد كنت أخرج فأجد والدي في انتظاري هنا كل يوم ... إياك و أن تتأخر ثانية " يا له من أسلوب ! قلت : " حاضر ... أنا آسف " صمتت برهة ثم قالت : " و كذلك ابق هاتفك المحمول مشغلا ، كلما اتصلت وجدته مغلقا " و أخرجت هاتفي من جيبي فاكتشفت أنه كان مغلقا سهوا ... " حسنا ... لم انتبه له " و أيضا صمتت برهة ثم عادت تقول : " و لا تخرج من السيارة ... ابق حيث أنت و أنا سآتي إليك " عجبا لأمر هذه الفتاة ! قلت : " و لم ؟؟ " قالت بعصبية : " افعل ذلك فقط ... مفهوم ؟؟ " قلت باستسلام : " مفهوم ... سيدتي !! " لحظتها اجتاحتني رغبة بالضحك ، كتمتها عنوة ! و توقفت عن الكلام ... و طوال الوقت ظلت صامتة بشكل لم يرحني ... لابد أنها لا تزال غاضبة لأنني تأخرت ... حينما شارفنا على بلوغ المنزل ... راودتني فكرة استحسنها قلبي و استسخفها عقلي ... لكنني قبل أن أقع في دوامة التردد طرحت السؤال التالي : " هل ... هل ترغبين ببعض البوضا ؟؟ " طبعا السؤال كان غاية في السخف و الحماقة ... لكنني كنت أسيرا للذكريات ... ففي تلك الأيام ... كنت أغدق العطاء بالبوضا و غيرها على صغيرتي كلما غضبت لإرضائها ! شعرت بالندم لأنني تفوهت بهذه الجملة الغبية ... و كنت على وشك الاعتذار إلا أن رغد قالت بمرح و على غير ما توقعت : " نعم ... بالتأكيد ! " أوقفت السيارة عند محل لبيع البوضا ، قريب من المنزل ... و سألتها : " أي نوع تفضلين ؟؟ " قالت : " هل ستتركني وحدي ؟؟ سآتي معك " و فتحت الباب هامة بالنزول دخلنا المحل ، و كان يحوي عددا من الناس ، ما جعل رغد تسير شبه ملتصقة بي ... بعد ذلك ... انتهى بنا المطاف إلى المنزل ، و لو تركت الساحة لأحلامي لأخذتني مع صغيرتي في نزهة ... كما في السابق ... إلا أنني طردتها بعيدا و عدت بالصغيرة إلى المنزل ... و أنا مسرور و مرتاح ... فرائحة الماضي أنعشت رئتي ... ليت الأقدار لم تفرقني عنك يا رغد ... ليتك تعودين إلي ! ليتنا نتناول البوضا أو البطاطا المقلية سوية ... كل يوم ... ما أجملها من لحظات ... و نحن نحمل البوضا اللذيذة برضا و سرور دخلنا إلى داخل المنزل ، ثم إلى غرفة المعيشة ... حيث فوجئت بالنار تصهر ما بيدي ... و ما بصدري ... و ما بجوفي و داخلي ... هناك كان سامر يجلس مع والدي ّ و دانة ... حضر على غير توقع و دون سابق إبلاغ ... حينما رآنا نهض بسرور و جاء يرحب بنا ... نصيبي من الترحيب كان محدودا ... مقابل نصيب الفتاة التي تقف إلى جواري ... تحمل البوضا في يد ، و الحقيبة في اليد الأخرى ... السعادة المؤقتة التي أوهمت نفسي بها تلاشت نهائيا ... و أنا أرى سامر يطوقها بذراعيه ... " اشتقت إليك عروسي ! " البوضا وقعت و لوثت الأرض ... بل قلبي هو من وقع أرضا و لوثت دماؤه الكرة الأرضية بأكملها ... انثنيت نحو البوضا المنصهرة أود التقاطها ... " دعها بني ، أنا سأرفعها " و أقبلت أمي لتنظف ما تلوث ... " ملابسك تلوثت وليد " " حقا ؟ سأذهب لتغييرها " أهي ملابسي من تأذت ؟؟ و انصرفت مسرعا ... لا يحركني شيء غير الغضب و الغيرة المشتعلة في صدري ... و رغبة مجنونة في أن أوسع سامر ضربا ... إن بقيت انظر إليه دقيقة أخرى بعد ... محال أن أبقى في هذا المنزل ليلة أخرى ... و الليلة بالذات ... سأرحل و بلا عودة . ~ ~ ~ ~ ~ ~ بدأت أشعر بأن وليد يهتم بي ... إلى حد ما ... و هو شعور جعلني أحلق في السماء ... و اليوم ، تأخر عن موعد حضوره للجامعة عصرا ، و بعدما وصل خرجت أنا و بعض زميلاتي كل واحدة في طريقها لسيارتها ... وليد كان يقف قرب حارس البوابة ... و هو شخص غير محترم ... نبغضه جميعنا.. رأتني إحدى زميلاتي أنظر ناحية وليد فسألتني : " إلى من تنظرين !؟ " قلت باستياء : " من تظنين ؟ الحارس ؟ طبعا إلى ابن عمّي " قالت و هي تنظر إليه : " تعنين هذا الرجل ؟؟ " " نعم " قالت : " واو ! كل هذا ابن عمك !؟ حجم عائلي ! " و ضحكت هي و فتيات أخريات ضحكات خفيفة ! و قالت أخرى : " ما شاء الله ! مع أنك صغيرة الحجم ! أنت و ثلاث أخريات معك مطلوبات من أجل التوازن ! " و ضحكن كلهن ! قلت بغضب : " مهلا فليس هذا هو خطيبي " ثم ودعتهن على عجل و سرت نحوه ... عندما عدنا إلى البيت و نحن نأكل البوضا باستمتاع ، وجدت سامر هناك فدهشت ... لم يكن قد أبلغنا بأنه قادم ، كما و أنه غير معتاد على الحضور نهاية أسبوعين متتاليين ! أخبرني في وقت لاحق بأنه اشتاق إلي .. و يريد أن نتحدث عن الزفاف المرتقب ، و الذي لم يسعه الوقت للحديث حوله في المرة الماضية ... قضينا أمسية عائلية هادئة لم يشاركنا فيها وليد معللا بآلام معدته المزعجة ... أظن أن السبب هو التدخين ! في اليوم التالي ، أيقظتني أمي لتأدية صلاة الفجر ... عندما رأيتُ عينيها حمراوين متورمتي الجفون ، سألت بقلق : " أمي .. ماذا هناك ؟؟ " أمي مسحت براحتها على رأسي و قالت بحزن : " رحل وليد " جن جنوني ... و قفزت ... و ركضت خارجة من غرفتي ... إلى غرفة سامر ... فوجدتها خالية ... و جلت بأنحاء المنزل غير مصدقة و غير مقتنعة ... لا يمكن أن يكون قد رحل ! لقد وعد بألاّ يرحل دون وداعي ... أقسم على ذلك ... تدفقت دموعي كمياه السد المتهدم ... تجري بعنف و تدمر كل أمل تصادفه في طريقها ... باب المنزل كان موصدا... والدي و سامر قد ذهبا للمسجد ... فتحت الباب ... و خرجت للفناء مندفعة ... ثم إلى البوابة الخارجية ... فتحت منها القدر الذي يكفي لأن أرى الموقف خال ٍ من أي سيارات ... استدرت ... و هرولت أقصد المرآب ... والدتي أوقفتني ... و أمسكت بكتفي ... " لا داعي يا رغد ... لقد ودعنا قبل قليل ... " لا ! لا يمكن أن يفعل ذلك ! لا يمكن أن يختفي من جديد ... صعقت ... و انفضت أطرافي ... و صحت : " لماذا لم يودعني ؟؟ " أمي هزت رأسها بأسى ... صرخت : " لماذا يفعل بي هذا ؟؟ لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ " و مسكت بعضدي أمي بقوة و انفعال ... و زمجرت بقوة و عصبية و بكاء أجش : " لماذا يعاملني بهذا الشكل ؟؟؟ لقد وعد بألا يرحل دون وداعي ... إنه كاذب ... كاذب ... كان يسخر مني ... كان يستغفنلي و يهديني البوضا ! ... كما فعل سابقا أنا أكرهه يا أمي ... أكرهه ... أكرهه ... أكرهه ... "
__________________
لو صرخت الدنيا ف وشي اكيد هعلي حسي ... لو كان ده وقت الانهيار انا حاطه روحي ع كفي ... لو كان ده وقت الانفجار .. اكيد ملغمه نفسي ...!! * ** فى حياة كل منا ذكرى تمنى الا يمر بها ولكن لولا ألمها لارتكب المزيد من الاخطاء فى حق نفسه وفى حق الاخرين* ** الحمدلله ![]() ![]() |
#3
|
||||
|
||||
![]()
تلات حلقات
حلو كده ![]() وبكرة كمان تلات حلقات نورت يااستاذ بورسعيدي واستاذ نجم رودوك اكتر من رائعة منوراني ياايمي انتي وولاء
__________________
لو صرخت الدنيا ف وشي اكيد هعلي حسي ... لو كان ده وقت الانهيار انا حاطه روحي ع كفي ... لو كان ده وقت الانفجار .. اكيد ملغمه نفسي ...!! * ** فى حياة كل منا ذكرى تمنى الا يمر بها ولكن لولا ألمها لارتكب المزيد من الاخطاء فى حق نفسه وفى حق الاخرين* ** الحمدلله ![]() ![]() |
#4
|
||||
|
||||
![]() تنبيه عام لا نقصد به موضوع بعينه السادة الأعضاء أصحاب الموضوعات المثبتة بالركن الأدبي نرجو من سيادتكم التواصل في موضوعاتكم بشكل جدي وفي صلب الموضوع وفي خلال يومين إن لم يتم التواصل في الموضوع تم إلغاء تثبيت الموضوع لنعطي الفرصة لموضوعات نشطة بالفعل ![]() ![]() |
#5
|
||||
|
||||
![]()
أنا على فكره القصه دى جبتلى اكتئاب بجد
بجد كل ما اقراها يصيبنى الحزن والرغبه فى البكاء بس برضه ببقى عايزه اقراها معرفش ليه كملى يبنتى اما نشوف اخرتها
__________________
![]() |
#6
|
||||
|
||||
![]()
كمان حسام ؟؟
مش كفاية وليد وسامر ؟ ولسة على فكرة الحلقة 17 مكررة
__________________
![]() |
#7
|
||||
|
||||
![]() الحلقةالخامسةوالعشرون
******** على الرمال الناعمة بمحاذاة الشارع جلست بين الفتاتين بعدما أعيانا طول الوقوف و الانتظار.. و من حولنا أناس كثر متفرقون .. نسمع بكاء النساء و الأطفال .. أرى رغد تفرك يديها ببعضهما البعض بقوة و باستمرار و تهف عليهما طالبة شيئا من الدفء . لقد كانت ترتجف بردا.. أكاد أسمع اصطكاك أسنانها بعضها ببعض.. أما دانة فكان وجهها مغمورا تحت ثنايا القميص و مستسلمة لصمت موحش.. لم تكن الشمس قد أشرقت بعد.. و كان التعب قد أخذ منا ما أخذ و نرى رجال الشرطة يجولون ذهابا و جيئة و أعيننا متشبثة بهم.. التفت ناحية رغد و سألتها: " أتشعرين بالبرد؟" الصغيرة أجابت بقشعريرة سرت في جسدها.. أنا أيضا كنت أشعر بالبرد لا يدفئ جدعي سوى سترتي الداخلية الخفيفة.. لكن إن تحمّلت أنا ذلك ، فأنّى لفتاة صغيرة تحمّله ؟؟ ألقيت ُ نظرة على مجموعة من رجال الشرطة المتمركزين قرب السيارات ثم قلت: " دعانا نذهب إلى السيارة " و وقفت فوقفت الفتاتان من بعدي و سرت فسارتا خلفي تمسك كل منهما بالأخرى حتى صرت قرب رجال الشرطة.. نظروا إلى بتشكك.. و سألني أحدهم عما أريد " أود البقاء في سيارتي فقد قرصنا البرد" " عد من حيث أتيت يا هذا " " لكن الجو بارد ٌ جدا لا تتحمل قسوته الفتاتان " الشرطي نظر إلى الفتاتين و لم يعلّق. فقال آخر : " ابقوا حيث الآخرين" قلت بإصرار: " ستموتان بردا! " ثم أضفت : " هل تعتقدون أننا سنهرب ؟ سأعطيك مفتاح السيارة لتتأكد" و أدخلت يدي في جيبي و استخرجت ُ مفاتيحي و مددتها إليه... الشرطي تبادل النظرة مع زملائه ثم همّ بأخذ المفاتيح بما احتواها. لقد كانت المفاتيح مضمومة في ميدالية أهدتني إياها رغد ليلة العيد.. انتزعت مفتاح السيارة من بينها و قدّمته إلى الشرطي و احتفظت بالميدالية و بقية المفاتيح. حين أعطيته المفتاح ، سمح لنا بالتوجه إلى السيارة. عندما فتحت الباب الأمامي الأيمن وقفت الفتاتان عنده تنظران إلى بعضهما البعض، ثم تنحت رغد جانبا سامحة لدانة بالدخول .. و فتحت هي الباب الخلفي . حينما جلسنا في السيارة ، أخذنا الصمت فترة طويلة.. و بدأت أجسادنا تسترد شيئا من دفئها المفقود... لم يكن أحدنا يعرف كيف يفكر ، كنا فقط في حالة ذهول و عدم تصديق .. منتظرين ما يخبئه لنا القدر خلف ظلام الليل.. أسندنا رؤوسنا إلى المقاعد علّها تمتص شيئا من الشحنات المتعاركة في داخلها.. و من حين لآخر ، ألقي نظرة على الفتاتين أطمئن عليهما.. رغد اضطجعت على المقاعد الخلفية و ربما غلبها النوم... أطل من خلال النافذة على السماء فأرى خيوط الفجر تتسلل خلسة.. فيلقي الله في نفسي ذكره.. " الصلاة " قلت ُ ذلك و التفت إلى دانة التي تجلس إلى جواري ملقية بثقل رأسها على مسند المقعد. نظرت إلي، ثم أغمضت عينيها. أما رغد فلم تتحرك. نظرت إلى الناس فوجدت بعضهم يركعون و يسجدون..على الرمال قلت : " سأذهب لأصلي " فتحت عينيها مجددا ثم أغمضتهما. " توخيا الحذر ، دقائق و أعود" و مددت ُ يدي إلى مقبض الباب ففتحته و خرجت.. أغلقت الباب و مشيت بضع خطى مبتعدا قبل أن أسمع صوب باب ينفتح بسرعة و أسمع من يناديني.. " وليــــد " التفت إليها فرأيتها تخرج من السيارة مسرعة، تقصدني أتيت إليها فأبصرت في وجهها الفزع المهول " إلى أين تذهب ؟ " قالت لاهثة ، فأجبت مطمئنا : " سأصلّي مع الناس " و أشرت إلى الطرف الآخر من الشارع حيث المصلين.. رغد هتفت بسرعة : " لا تذهب " قلت : " سأصلي و أعود مباشرة " " لا تذهب ! لا تتركني وحدي " قلت مطمئنا : " دانة معك ، لحظة فقط " رغد حركت رأسها اعتراضا و إصرارا و هي تقول : " لا تذهب .. ألا يكفي ما نحن فيه ؟ لا تبتعد وليد أرجوك " لم أستطع إلا أن أعود أدراجي ، و أتيمم و أؤدي الصلاة ملتصقا بالسيارة. ما إن فرغت ُ من ذلك ، حتى سمعنا ضجيجا يقتحم السماء.. نظرنا جميعنا إلى الأعلى فأبصرنا طائرة تخترق سكون الفجر... صرخ بعض الموجودين : " قنابل ! " و هنا .. بدأ الناس يتصايحون و يصرخون و يركضون فارين .. محدثين ضجة و جلبة شديدين.. رأيتهم جميعا يجرون على الشارع مبتعدين.. فتحت ُ بابي السيارة بسرعة و هتفت " هيا بنا " و أمسكت بيدي الفتاتين و جررتهما ليركضا معي بأسرع ما أوتينا من قوّة.. " أركضا.. أركضا بسرعة " اقتحمنا أفواج الهاربين الصارخين المستصرخين .. هذا يدفع هذا و هذا يسحب هذا و ذاك يصطدم بالآخر .. و آخر يدوس على غيره.. و الحابل مختلط بالنابل.. نحن نركض و نركض دون التعقيب.. دون أي التفات إلي الوراء.. و دوي الطائرة يعلو سماءنا.. و يجلجل أرضنا المهتزة تحت أقدامنا الراكضة..الحافية.. أسمع صراخا من كل ناحية.. أسمع صراخ دانة و رغد.. و صراخي أنا أيضا.. و أشد قبضي عليهما و أطلق ساقي ّ للريح.. يتعثر من يتعثر.. ينزلق من ينزلق.. يتدحرج من يتدحرج.. يقع من يقع و ينكسر ما ينكسر و يداس ما يداس.. لا شيء يستدعيني لأوقف انجراف رجليّ .. أسابق الزمن.. و أكاد أسبقه .. كان ذلك من أشد الأوقات هولا و فظاعة.. لن يفوقهما شدة إلا هول يوم الحشر... سيارات الشرطة و سيارات أخرى رأيناها تشق الطريق فرارا سابقة إيانا.. و سمعنا أصوات رشق ناري زادنا رعبا على رعب و صراخا فوق صراخ.. قطعت مسافة لا علم لي بطولها، أسحب الفتاتين خلفي و هما عاجزتان عن مجاراة خطواتي الواسعة ، تقفزان قفزا بل تطيران طيرانا.. فجأة وقعت رغد أرضا فصرت أسحبها سحبا إلى أن تمكنت ُ من إيقاف اندفاعي الشديد في الركض.. و أقبل الناس من خلفنا يرتطمون بنا و داسها أحدهم في طريقه.. صرخت : " قومي رغد " إلا أنها كانت تمسك بقدمها و تتلوى ألما و تصرخ : " قدمي .. قدمي .. " جثوت نحوها و أمسكت بقدمها الحافية فإذا بقطعة من الزجاج مغروسة فيها و الدماء تتدفق من الجرح.. لابد أنها داست عنوة على كسرة الزجاج هذه أثناء جرينا المبهم.. أمسكت بقطعة الزجاج بين إصبعي و انتزعتها بعنف و رغد تصرخ بشدة.. بعد ذلك سحبتها من يدها لنستوي واقفين و طرت راكضا ممسكا بالفتاتين.. عنوة.. رغد كانت تصرخ ألما و تركض على أطراف أصابع قدمها المصابة فيما الدماء تقطر منها و تهتف : " لا أستطيع .. آي .. لا أستطيع " مما أبطأ سرعة انطلاقنا .. ثم عادت و هوت أرضا من جديد.. و ضغطت على قدمها المصابة بيدها الحرة .. " انهضي رغد بسرعة " " لا أستطيع .. قدمي تؤلمي .. آي.. تؤلمني بشدة .. لا أستطيع " " هيا يا رغد لننج ُ بأنفسنا " " لا أستطيع .. كلا " لأن أفكر، لا مجال .. ، لأن أتردد .. لا مجال ..، لكي أنجو بحياتي و حياة شقيقتي و حبيبتي .. سأقدم على أي شيء.. انتشلت صغيرتي من على الأرض بذراعي و حملتها على كتفي.. وجهها إلى ظهري و قدماها إلى أمامي .. منكبة على رأسها.. هتفت : " تشبثي بي جيدا " و أنا أطبق عليها بقوة بإحدى يدي ّ خشية أن تنزلق، فيما أمسك بشقيقتي باليد الأخرى ، ثم أسابق الريح... تارة أزيد و تارة أخفف السرعة.. ألتقط بعض الأنفاس و أسمح لشقيقتي بتنفس الصعداء.. كان الإعياء قد أصابنا و نال منا ما نال حين رفعت بصري إلى السماء فلم أبصر أية طائرة و أصغيت أذني فلم أسمع أي ضجيج... و تفلت من حولي فوجدت الناس متهالكين على الشارع و معظمهم مضطجعين هنا أو هناك.. من فرط التعب و نفاذ الطاقة.. انحرفت يسارا و خرجت عن الشارع إلى الرمال على حافته.. و هويت جاثيا على الأرض.. حررت رغد و دانة من بين يدي و ارتميت على الرمال منكبا على وجهي و أخذت أتنفس بقوّة .. تجعل ذرات الرمل و الغبار المتطايرة من حولي تقتحم فمي مع تيارات الهواء... أخذت أسعل و أتحشرج.. و قد أغلقت عيني لأحميهما من الغبار.. لزمت وضعي هذا لدقيقتين دون حراك.. فجسدي كان منهكا جدا و بحاجة إلى كمية أكبر من الأوكسجين ليطرد غازاته الضارة خارجا.. عندما فتحت عيني ّ و نظرت يمنة و يسرة رأيت الفتاتين مرتميتين على الرمال مثلي.. دانة متمددة على ظهرتها تتنفس بسرعة ، و رغد جالسة تمسّد قدمها المصابة و تئن ألما.. لم أجد في جسدي من الطاقة ما يمكنني الآن من النهوض.. الشمس كانت قد أرسلت أول جيوش أشعتها الذهبية الباهتة لتغزو السماء و تطرد الظلام .. و شيئا فشيئا بدأت تحتل السماء.. وتنير الكون.. وتكشف ما كان خافيا و تفضح ما كان مستورا.. جلست بعدما استرددت بعض قواي.. وأنا أراقب رغد المتألمة.. المكشوفة الرأس.. يتدلى خمارها ( شماغي ) على كتفيها ... كان الجرح لا يزال ينزف.. و الدماء سقت الرمال.. كما لطخت ملابس رغد بل و وجدت بقعا منها على ملابسي أنا أيضا.. فقد كانت تقطر و أنا أحملها.. " دعيني أرى " قلت ذلك و قرّبت وجهي من قدمها أتأمل الجرح العميق.. و ما علق به من الرمال و الشظايا و الأتربة.. مسحت ما حولي بنظرة سريعة فلم أجد ما أغطي به هذا الجرح النازف.. نفس القميص الذي كانت دانة تختمر به ، نزعت أحد كمّيه و لففته حول قدم رغد .. كما لففت خمارها حول رأسها بنفسي... دانة قالت بعد ذلك بانهيار: " ماذا يحدث برب السماء ؟؟ فليخبرني أحد.. هل هذه حقيقة؟؟ لماذا فعلوا هذا بنا؟؟ ما حلّ بنوّار؟؟ و سامر ؟؟ " و أجهشت بكاء و نواحا.. فضممتها إلى صدري أحاول تهدئتها .. و أبقيتها بين ذراعي مقدارا من الزمن.. بينما رغد تراقبنا.. بعد ذلك رأينا الناس ينهضون و يسيرون في نفس الاتجاه.. فوجا بعد فوج.. و جماعة بعد أخرى.. قلت : " هيا بنا " قالت دانة : " إلى أين ؟؟ " " لا أعرف.. سنسير مع الآخرين" قالت : " سنموت في الطريق.. " قلت : " لو لم توقفنا الشرطة و تخرجنا من سياراتنا لربما كنا الآن قد بلغنا مكانا آمنا.. لا أريد العودة للوراء و لا التخلف عن الآخرين.. كما أنهم أخذوا مفتاح سيارتي.. أظننا على مقربة من إحدى المدن " فقد كانت اللافتة على جانب الطريق تشير إلى ذلك.. نهضت معهما و سرنا على مهل، و رغد تعرج و تستند إلى دانة... و تتوقف من حين لآخر.. قطعنا مسافة طويلة بلا هدف ... نسير زمنا و نرتاح فترة .. و تعامدت الشمس فوق رؤوسنا و نحن تائهون في البر.. كنا نشعر بتعب شديد.. و مهما نسير نجد الطريق طويلا .. و لا تعبره أية سيارات.. توقفنا بعد مدة لنيل قسطا من الراحة.. و أي راحة ؟؟ قالت رغد : " أنا عطشى..." و نظرت إلي باستغاثة.. ماذا بيدي يا رغد ؟؟ لو كانت عيني عينا لسقيتك منها و إن شربتها كلها و أبقيتني جافا .. أو أعمى.. لكنني مثلك ، يكاد العطش يقتلني و ما تبقى من طاقتي لا يكفي لقطع المزيد من الطريق.. إننا سنموت حتما إذا بقينا هنا.. أنا أرى الناس ينهارون من حولي من التعب و العطش و الجوع.. و يتخلّف من يتخلّف منهم بعد مسيرتنا.. يجب أن نسرع و إلا هلكنا.. " هيا بنا " قالت دانة : " أنا متعبة ، دعنا نرتاح قليلا بعد " قلت بإصرار : " كلا .. يجب أن نسرع بالفرار قبل أن يدركنا حتفنا " و أجبرت الفتاتين على النهوض و السير مجددا و بأسرع ما أمكنهما .. قوى رغد يبدو أنها انتهت.. إنها تترنح في السير.. تمشي ببطء.. تجر قدميها جرا.. تئن و تلهث.. تسير مغمضة العينين متدلية الذراعين.. ثم أخيرا تقع أرضا.. أسرعت إليها و أمسكت بكتفيها و هززتها و أنا أقول : " رغد .. رغد تماسكي .." رغد تدور بعينيها الغائرتين النصف مغلقتين و تنطلق حروف من فيها الفاغر مع أنفاسها الضعيفة السطحية : " ماء.. عطشى.. سأموت.. وليد.. لا تتركني " ثم تغيب عن الوعي.. أخذت أهزها بقوة أكبر و أصرخ : " رغد .. أفيقي.. أفيقي .. هيا يا رغد تشجعي.. " فتفتح عينيها لثوان ، ثم تغمضهما باستسلام... ثم أسمع صوت ارتطام فالتفت ، فأرى شقيقتي تهوي أرضا هي الأخرى.. أسرع إليها و أوقظها : " دانة انهضي... هيا قومي سنصل قريبا " " متعبة.. دعني أرتاح.. قليلا " و انظر إلى الشمس فأراها تقترب من الأفق.. و تنذر بقرب الرحيل..و ختم النهار.. تركتهما ترتاحان فترة بسيطة ، ثم جعلتهما تنهضان .. دانة تسحب قدميها سحبا .. و رغد مستندة إلي.. أجرها معي .. وصلنا بعد ذلك إلى محطة وقود .. و صار من بقي من الناس يركضون باتجاهها و يقتحمون البقالة الصغيرة التابعة لها كالمجانين بحثا عن الماء.. أسرعت أنا أيضا بدوري إلى هناك .. أسحب الفتاتين و حين اقتربت من الباب و رأيت الناس تتعارك يرصّ بعضهم بعضا قلت للفتاتين : " انتظراني هنا " و حررتهما من يدي وأنا أقول : " لا تتحركا خطوة واحدة " و هممت بالذهاب لمزاحمة الآخرين.. رغد صرخت صرخة حنجرة ميتة : " لا تذهب " قلت : " سأجلب الماء .. انتظريني " و حين سرت خطوة مدت هي يدها و أمسكت بذراعي تسحبني تجاهها و تقول في ذعر : " لا تذهب وليد .. كلا ..كلا .. " حررت ذراعي من يدها و زمجرت : " دعيني أدرك الماء قبل أن يدركنا الموت.. ستموتين إن لم ألحق " " سأموت إن ذهبت " لا أعرف كيف أصف الشعور الذي انتابني لحظتها.. في قعر الضعف و اليأس و الاستسلام.. أرى صغيرتي متشبثة بي في خشية من أن الوحدة.. بينما الموت أولى بأن تخشاه و تهرب منه.. قلت موجها كلامي لدانة : " أمسكي بها " و دفعت بيدها بعيدا عني و أسرعت إلى البقالة..تلاحقني صيحاتها.. غصت وسط الزحام و لم استطع نيل أكثر من قارورتي ماء صغيرتين و علبة عصير انتشلتها انتشالا و ركلت من حاول سلبها مني.. خرجت بغنيمتي من المعركة و جريت نحو الموضع الذي تركت الفتاتين فيه فلم أجدهما.. تلفت يمنة و يسرة فلم أجدهما ... جن جنوني و رحت أهتف مناديا : " رغد... دانة ... أين أنتما ؟؟ " ثم سمعت صوت دانة تهتف : " وليد .. هنا " و وجدتها تجلس عند خازنات الوقود و رغد ملقاة أرضا إلى جوارها.. ركضت نحوها فزعا.. " ماذا حدث ؟؟ " " ربما ماتت ؟ لا أعرف إنها لا تستفيق " مسكت رغد و هززتها بقوة و أنا أصرخ : " رغد .. أفيقي.. لقد جلبت الماء.. أفيقي هيا .." بالكاد ترمش بعينيها.. فتحت علبة العصير و أدخلت طرف الماصة بداخلها و الطرف الآخر في فم رغد و ضغطت على العلبة حتى يتدفق العصير إلى فم رغد.. رغد حركت شفتيها قليلا.. ثم أخذت تبلع العصير.. ثم تشربه.. " اشربي.. اشربي .." أما دانة فأخذت إحدى قارورتي الماء و شربتها كاملة دفعة واحدة.. و تقاسمت أنا و رغد القارورة الأخرى.. " اشربي المزيد.. اشربيه كله.. " الناس كانوا يدخلون و يخرجون من البقالة كل يحمل الطعام و الشراب.. دون مراعاة لأي حقوق.. و أي لياقة.. ففي وضع كالذي كنا عليه.. ينسى المرء نفسه.. استردت رغد وعيها الكامل .. و شيئا من قوتها.. " أأنت بخير الآن رغد ؟؟ أيمكنك النهوض ؟" أومأت برأسها إيجابا فنهضنا نحن الثلاثة و أنا مسندا إياها.. قلت : " سأجلب طعاما يمنحنا القوة لمتابعة السير" رغد قالت : " أنا متعبة.. لا أستطيع السير بعد.. لا أستطيع " و نظرت إلى دانة ، فقالت هي الأخرى : " و لا أنا.. دعنا نرتاح ساعة " و في الواقع ، جميع من كانوا يسيرون جلسوا للراحة و تناول ما امتدت إليه أيدهم من الطعام.. اخترنا نحن بدورنا موضعا لنجلس فيه .. بعيدا بعض الشيء عن الآخرين .. ذاك أني لم أشأ جعل الفتاتين عرضة لأعين الغير.. بعدما استقررنا هناك، أردت العودة إلى البقالة و إحضار أي طعام.. إلا أن رغد منعتني .. فالتزمت مكاني .. كنت أراها تضغط على جرحها من حين لآخر.. و تعبيرات وجهها تتألم و أسمعها تئن.. قلت : " أهو مؤلم جدا ؟ تحمّلي صغيرتي.. قليلا بعد" و لا يزيدها ذلك إلا أنينا.. " أنا متعبة " قالت و هي بالكاد قادرة على حمل رأسها و تكاد تسقطه .. و تدور بعينيها في المكان .. و تفرك يديها من البرد .. تفطّر قلبي لرؤيتها بهذا الشكل.. و لم أعرف ما أفعل؟؟ إن صغيرتي تتألم و على حافة الموت.. ماذا أفعل ؟ هي رأتني أراقب تحركاتها و تململها .. قالت : " أريد أن أنام " قلت : " اضطجعي و نامي صغيرتي.. " حركت رأسها اعتراضا.. بينما عيناها تكادان تنغلقان رغما عنها.. رأفت بحالها البائس.. و قلت بعطف : " اضطجعي رغد.. أنت متعبة جدا .. استرخي هيا.." رغد نظرت إلى دانة.. ثم إلى الناس ، ثم إلي بتردد.. قلت مشجعا : " هيا صغيرتي .. لا تخشي شيئا " و بادرت دانة بالاضطجاع .. بدورها.. فتشجعت رغد.. و همت بالانبطاح.. لكنها قالت قبل ذلك : " لا تذهب إلى أي مكان وليد أرجوك " قلت مطمئنا : " لا تقلقي، أنا باق ٍ هاهنا " ثم تمددت على الرمال.. و أغمضت عينيها .. أنا أيضا استلقيت على الرمال المجردة.. طالبا بعض الراحة .. و سرعان ما رأيت رغد تجلس و هي تنظر إلي و تقول : " هل ستنام ؟ " قلت : " كلا.. سأسترخي قليلا " و بدت مترددة .. قلت : " عودي للنوم رغد .. اطمئني " فعادت و استلقت على الأرض .. و سكنت قليلا .. قم عادت فجلست و ألقت نظرة علي ! قلت : " ماذا ؟؟ " قالت : " لا تنم وليد أرجوك " جلست مستويا ، و قلت : " لن أنام صغيرتي .. نامي أنت و أنا سأبقى أراقب ما حولنا .. اطمئني " و أخيرا اطمأن قلبها أو ربما تغلّب عليها النعاس و التعب ، فاستسلمت للنوم بسرعة.. في العراء.. ننام مفترشين الأرض الجرداء... ملتحفين السماء .. تهب علينا التيارات الباردة تجمّد أطرافنا .. فنرتجف .. و تقشعر أجسادنا و قلوبنا .. ثم لا تجد ما يدفئها و يهدئ روعها.. كان الليل يمر ساعة بعد أخرى.. دون أن نحسب الزمن.. عاد البدر يراقبنا و يشهد تشردنا .. و حال لم يخلق الله مثلها حالا .. أراقب الفتاتين فأجدهما مستغرقتين في النوم .. و أنا شديد الإعياء .. و السكون و الظلام مخيم على الأجواء.. و معظم الناس رقود.. النعاس غلبني أنا أيضا.. فقد نلت ما نلته من الإجهاد.. لكنني كنت أقاومه بتحد ٍ .. كيف لعيني أن تغفوا و فتاتاي نائمتان في العراء.. عرضة لكل شيء .. و أي شيء ؟؟ وقفت كي أطرد سلطان النوم ، و جعلت أحوم حول الفتاتين و أذرع المكان ذهابا و جيئة.. و أقترب منهما كل حين أراقب أنفاسهما.. و أطمئن إلى أنهما نائمتان و على قيد الحياة.. أنا متعب.. متعب.. أكاد أنهار.. رأسي دائخ و الكون يدور من حولي.. و عيناي تزيغان .. يا رب.. إن عينك لا تغيب و لا تغفل.. و لطفك و رحمتك وسعا كل شيء.. فاشملنا تحت حفظك.. أ اغمض عينيّ لحظة واحدة؟ فقط لحظة.. أهدئ من تهيجهما و حرارتهما.. لحظة واحدة يا رب.. و لم تطعني عيناي كما أبى قلبي أن يغفل عنهما طرفة عين... فيما أنا بهذه الحال.. بعد مضي فترة من الزمن.. أبصرت نورا يقترب منا قادما من آخر الشارع.. إنها سيارة ! السيارة الأولى التي تعبر هذا الشارع مذ تشرّدنا فيه .. لم تكن سوى سيارة حوض.. ما أن رآها بعض الناس حتى أسرعوا راكضين إليها طالبين النجدة.. أسرعت إلى الفتاتين و أيقظتهما : " رغد.. دانة .. هيا بنا بسرعة " فتحتا أعينهما مذعورتين ، و مددت يدي و أمسكت بيديهما و سحبتهما لتنهضا جالستين ثم واقفتين في فزع.. قلت : " لنلحق بالسيارة " و ركضت ساحبا إياهما حتى أدركنا السيارة و انضممنا إلى أفواج الناس الذين ركبوا حوضها سائق السيارة كان يهتف : " انتظروا لأعبئ خزانها وقودا " إلا أن الناس تشبثوا بها بجنون .. بعد ذلك انطلقت السيارة بمن حملت تسير بسرعة لا بأس بها.. كان بعضنا جالسا و البعض واقفا ، و كنا نحن الثلاثة ضمن الوقوف . كنا واقفين عند مقدمة الحوض، الفتاتان ملتصقتان برأس السيارة و أنا أكاد ألتصق بهما، فاتحا ذراعيّ حولهما أصد الناس عن ملامستهما.. بعد مسيرة ساعة أو أكثر .. لا أعلم تحديدا.. بلغنا مشارف إحدى المدن.. و أوقف السائق السيارة و قال : " امضوا في سبلكم" هبطنا جميعا و تفرقنا .. هذا هنا و هذا هناك .. باحثين عن ملاجئ لهم.. وقفت أنا حائرا.. إلى أين أذهب في هذا الليل الكئيب.. و معي هاتان الفتاتان المنكوبتان ؟؟ و تلفت من حولي فرأيت لا فتة تدل إلى طريق المدينة الشمالية الزراعية ، و الكائنة على مقربة.. نجحت بعد جهد في إقناع السائق بإيصالنا إلى هناك ، و تحديدا إلى مزرعة نديم ، فهي الفكرة التي طرأت على رأسي المرهق هذه اللحظة ،.. بمقابل.. و شكرت الله أن جعلني أحمل محفظتي في جيبي مع المفاتيح.. ولم تكن المسافة طويلة ، وصلنا بعد فترة قصيرة إلى هناك.. هبطنا من السيارة و شكرت السائق .. و حثثت الفتاتين على السير معي.. قالت دانة : " إلى أين ؟ " قلت : " تقطن عائلة صديقي هنا، سأسألهم استضافتنا لهذه الليلة.. فنحن متعبون جدا " لقد كان كل ما سبق أشبه بالكابوس .. إلا أنه كان الواقع.. بوابة المزرعة كانت مفتوحة كالعادة ، مشينا متجهين نحو المنزل.. دانة تمسك بقميصي الموضوع حول رأسها، و رغد تجر قدمها المصابة.. و كلاهما تمسكان بيدي من الجانبين.. عند عتبات باب المنزل.. تركتاني لأصعد العتبات ، ثم أقرع الجرس، ثم ينفتح أسمع صوتا يسأل عن الطارق ، فأجيب : " وليد شاكر " ثم أرى الباب ينفتح ، و تظهر من خلفه ... أروى نديم . ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ اتسعت حدقتا الفتاة التي أطلت من فتحة الباب ... و ألقت علينا جميعا نظرة مذهولة و قالت : " سيد وليد ! " وليد قال : " مساء الخير.. هل العم إلياس موجود ؟؟ " ردت الفتاة : " خالي في طريقه إلى هنا .. " ثم عاودت النظر إلينا أنا و دانة ، ثم قالت : " ما الأمر ؟؟ " قال وليد : " فررنا من القصف الجوي... نجونا بأعجوبة " الفتاة وضعت يدها على صدرها و شهقت .. ثم قالت : " أ ... أنت ... تقيم في المدينة الصناعية ؟؟ " أجاب وليد : " نعم ، مع عائلتي .. " و أشار إلينا.. ثم قال : " تدمرت مدينتا.. و الآن.. أصبحنا بلا مأوى.. " سرعان ما فتحت الفتاة الباب على مصراعيه و قالت : " هلموا بالدخول " وليد قال : " سننتظر العم إلياس.. " إلا أن الفتاة أصرت : " تفضلوا رجاء ... " ثم التفتت إلى الداخل و أخذت تنادي : " أمي ... " وليد الآن التفت إلينا و قال : " تعالا" ترددنا قليلا إلا أننا سرنا معه إلى الداخل ... و في النور استطعت أن أرى وجه الفتاة الذي لم يكن جليا قبل قليل... فتاة شديدة البياض و الشقرة... زرقاء العينين حمراء الخدّين.. أجنبية الملامح.. أقبلت سيدة أخرى نحونا و حين رأت وليد تهللت و رحبت به بحرارة.. السيدة كانت شديدة الشبة بالفتاة.. قالت الفتاة : " هربوا من المدينة الصناعية يا أمي ! " امتقع وجه السيدة ثم قالت : " أوه ربّاه ! حمدا لله على سلامتكم " و أخذت الفتاة تكرر ذلك أيضا .. قال وليد : " سلمكما الله ، شكرا لكما و أعتذر على حضوري إلى هنا ..لكننا بحاجة لمكان آمن نبات فيه ليلتنا هذه " السيدة الكبرى أشارت إلى وليد بالتوقف عن الحديث و عادت ترحب من جديد .. و التفتت إلينا أنا و دانة .. وليد قال : " شقيقتي و ابنة عمّي " قالت السيدة : " و أين أبواك ؟ " قلت : " لم يعودا من الحج بعد .. أو .. لا أعرف ما حصل معهما ! " قالت السيدة و هي تشير بيدها نحو المقاعد : " تفضلوا رجاء .. تفضلوا " أنا و دانة كنا ممسكتين بيد بعضنا البعض .. واقفتين بحذر و تردد.. وليد تحدّث إلينا قائلا : " تعالا .. لنجلس هناك " و سرنا معه إلى المقاعد.. و جلست دانة ملتصقة به و أنا ملتصقة بها.. وليد ألقى نظرة علينا ثم قال مخاطبا الفتاة : " هل لنا ببعض الماء من فضلك ؟؟ " " فورا " و ذهبت الفتاة و عادت تحمل قارورة كبيرة من الماء المعدني و كأسين اثنين.. ملأتهما ماءا و قدّمت الأول إلي و الثاني إلى دانة.. فشربنا بنهم شديد... المزيد و المزيد و المزيد... و وليد و الفتاة و السيدة يراقبوننا بشفقة ! ذهبت الفتاة و أحضرت قارورة أخرى و كأسا ثالثا و دفعتهما نحو وليد ... " تفضّل " وليد تناولهما و بدأ يشرب الكأس بعد الآخر حتى أفرغ معظم محتويات القارورة في جوفه.. أيّكم جرّب عطشا كهذا العطش ؟؟ ألا لعنة الله على الظالمين ... قالت السيدة مخاطبة الفتاة : " اذهبي و حضّري بعض الطعام.. حضّري الحساء و الشطائر " و أسرعت الفتاة منصرفة إلى حيث أمرت .. وليد قال : " نحن آسفون يا سيدة ليندا .. إننا" فقاطعته السيدة و قالت : " لا .. لا داعي لقول شيء يا بني .. ألف حمد لله على نجاتكم .. " ثم سمعنا صوت الباب ينفتح ، و يدخل منه رجل عجوز ... ما إن دخل حتى وقف وليد فوقفنا أن و دانة تباعا .. الرجل ذهل ، و قال بتعجب : " وليد ؟؟ " و أقبل وليد نحوه فصافحه ثم أخبره عما حصل معنا و ما دعانا للحضور إلى هنا.. و العجوز لم يقل كرما عن السيدة و الفتاة .. بل رحب بوليد و عانقه و حمد الله كثيرا على سلامته.. حتى هذه الساعة لازلت بين الإدراك و إلا إدراك .. بين الحقيقة و الحلم ، و التصديق و التكذيب... و لازلت أشعر بتعب لا يسمح لي بالوقوف أكثر من ذلك.. خصوصا على قدم جريحة متألمة.. لذا فإنني هويت على المقعد و ألقيت برأسي على مسنده.. دانة جلست إلى جواري و ربتت على كتفي و قالت : " رغد.. أأنت بخير ؟؟ " أنا تنهّدت و أننت .. وليد أقبل هو الآخر نحوي قلقا .. و قال : " أأنت على ما يرام ؟؟ " أشرت إلى قدمي .. أنا أتألم.. وليد قال مخاطبا الرجل العجوز : " أيوجد لديكم مطهرا و ضمادا للجروح ؟؟" السيدة غابت ثوان ثم عادت تحمل ما يلزم .. وليد قال : " يجب غسلها أولا .. " السيدة قالت : " دورة المياه من هنا " إلا أنني هزت رأسي ممانعة.. و لزمت مكاني.. دانة قالت بصوت هامس تكلم وليد : " أنا أريد استخدام دورة المياه " وليد أستأذن أصحاب المنزل ، ثم نهضت دانة واقفة ، تغطي معظم وجهها بالقميص الموضوع على رأسها... اعتقد أن الرجل العجوز انصرف هذه اللحظة .. أما السيدة الأخرى فعادت تشير إلى ناحية الحمام : " من هنا .. " ذهبت دانة إلى دورة المياه ، و السيدة استأذنت و غادرت لدقائق.. و بقيت أنا متهالكة على المقعد و وليد واقف إلى جواري.. قال : " أأنت بخير صغيرتي ؟؟" لا ! كيف لي أن أكون بخير ؟؟ إنني في حال من أسوأ الأحوال التي مرت علي ّ ... بدأت بالبكاء إلا أن دموعا لم تخرج من عيني ... وليد جلس بقربي و قال : " ستكونين بخير.. نجونا من الموت .. الحمد لله " شعرت لحظتها برغبة في الارتماء في حضنه.. و البكاء على صدره.. و الاسترخاء بين ذراعيه.. أنا متعبة و أتألم.. أريد من يواسيني و يشجعني.. أريد حضنا يشملني و يدا تربت علي.. أريد أمي.. أريد أبي.. أريد وليد.. و لم أنل منه غير نظرات مشجعة.. أقبلت السيدة تحمل معها وشاحين.. قدّمتهما إلي.. نزعت ُ عن رأسي ما كنت أتحجّب به، و لففت أحد الوشاحين حول رأسي ، على مرأى من وليد ... ! و عندما عادت دانة ، و قد غسلت وجهها و قدميها الحافيتين أعطيتها الوشاح الآخر... قالت : " تعالي لأغسل جرحك رغد..." و أيضا لم أتحرّك .. ففوق تعبي و إعيائي و الدوار الذي أشعر به.. أنا خائفة.. نعم خائفة.. السيدة قامت بنفسها بإحضار وعاء يحوي ماء .. و وضعته عند قدمي ّ و قالت : " هل أساعدك ؟ " دانة قالت : " شكرا لك ، سأفعل ذلك " ثم أخذت تحل الضماد ـ و الذي هو عبارة عن كم قميص وليد ـ من حول قدمي .. و غمرتها بعد ذلك في الماء النظيف الدافئ.. بدأت الأوجاع تتفاقم و تتزايد.. و أخذت أئن و أصيح .. لكنني لم أقاوم.. و استسلمت لما فعلته دانة بقدمي.. و أنا مغمضة العينين.. عندما فتحتهما كانت قد انتهت من لف قدمي بالضماد ... كما أن السيدة أحضرت ماءا نظيفا لأغسل قدمي الأخرى... كل هذا و أنا ملتزمة الصمت و السكون إلا عن أنات و صياح ألم.. و الآن، جاءت الفتاة تحمل صينية ملآى بالشطائر بينما يتبعها العجوز حاملا صينية أخرى رُصّت علب العصير الورقية فوقها... و وضعا الطعام و الشراب أمامنا و الفتاة تقول : " تفضلوا هذا لحين نضج الحساء " لم يمد أحدنا يده.. ما الذي يجعلنا نفكّر بالطعام في وقت كهذا ؟؟ فراح أصحاب المنزل يحثوننا على الطعام.. وليد تناول اثنتين من علب العصير و قدمهما لي و لدانة، فأخذت علبتي و شربت ما بها ببطء... أصحاب المنزل الثلاثة استأذنوا منصرفين عنا، ربما لنتصرف بحرية أكبر.. وليد أيضا وزع الشطائر علينا إلا أنني رفضت تناولها.. " خذي يا رغد.. لابد أنك جائعة جدا.. كلي واحدة على الأقل" " لا أريد " " هيا أرجوك .. ستموتين إن بقيت بلا طعام ساعة بعد " و لم يفلح في إقناعي.. لكنه و دانة تناولا شيئا من الطعام بصمت.. لحظات و إذا بالفتاة تقبل بأقداح الحساء الساخن.. و تقدمها إلينا ثم تنصرف.. أجبرت نفسي على رشف ملعقتين من الحساء.. ثم أسندت رأسي إلى المقعد و أغمضت عيني.. تتمه كنت أسمع أصوات الملاعق .. و حركة الأواني .. و ربما حتى صوت بلعهما للطعام و هضم معدتيهما له ! و أسمع كذلك صوت نبضي يطن في أذني.. و أنفاسي تنحشر في أنفي.. و الآن .. صوت وليد يناديني .. " رغد " فتحت عيني فوجدته ينظر إلي بقلق.. و يعيد السؤال : " أأنت بخير ؟؟ " قلت : " أنا متعبة " قال : " سأتحدّث معهم .. " ثم نهض و نادى : " أيها العم الطيب .. " ظهر الثلاثة من حيث كانوا يختبئون عنا .. قال وليد : " اعذرونا رجاء ً.. إننا في غاية التعب فقد قضينا ساعات طويلة نسير في الخلاء.. أين يمكننا المبيت بعد إذنكم ؟؟ " قالت السيدة : " ستنام ابنتي معي في غرفتي و يمكن للفتاتين المبيت في غرفتها.. سنعد فراشا أرضيا إضافيا " و قال العجوز مخاطبا وليد : " و أنت غرفتك كما هي " قال وليد : " هذا جيّد ... " ثم أضاف : " أشكركم جميعا جزيل الشكر.. إنني ... " و مرة أخرى قاطعته السيدة و قالت : " لا داعي لكل ذلك يا سيد وليد، ألم نكن كالعائلة؟ جميعكم أبنائي.. " ثم أضافت مخاطبة الفتاة : " خذي الفتاتين إلى غرفتك " الفتاة أقبلت نحونا و هي تبتسم و تقول : " تفضلا معي .. " كلانا نظرت إلى وليد بتردد.. فقال الأخير : " هيا عزيزتاي " و هز رأسه مطمئنا.. يبدو أنه على علاقة وطيدة بهم.. و يثق بهم كثيرا.. وقفت دانة و وقفت معها .. ثم قلت لوليد : " و أنت ؟ " قال : " سأبات في غرفة في الخارج تابعة للمنزل " هززت رأسي اعتراضا شديدا ... مستحيل ! و عوضا عن مرافقة الفتاة اقتربت منه هو ، و قلت : " لن تذهب و تتركنا " قال : " إنها غرفة خارجية اعتدت المبيت فيها.. ملاصقة للمنزل تماما " هززت رأسي بإصرار أشد : " لا .. لا " وليد نظر إلي بضيق و تعب و أسى .. كأنه يرجوني أن أطلق سراحه و أدعه يرتاح قليلا.. قال : " ستكونين بخير.. هذه عائلتي " إلا أنني ازددت إصرارا و رفضا و قلت : " سأذهب معك " وليد و دانة تبادلا النظرات .. و لم يعرف أي منهما ما يقول.. مددت يدي فأمسكت بيده مؤكدة أكثر و أكثر بأنني لن أسمح له بالابتعاد عني.. أخيرا تكلّم وليد مخاطبا أصحاب المنزل : " إن لم يكن في ذلك ما يزعجكم .. فسنبيت في الغرفة الخارجية نحن الثلاثة.. و نحن آسفون لكل ما سببناه لكم من إزعاج .. " العجوز تكلّم و قال : " كما تشاءون يا بني.. سأجلب المزيد من الفرش و البطانيات لكم " و تحرك الثلاثة ، و أحضروا البطانيات و حملوها سائرين نحو الباب، و سرنا معهم إلى خارج المنزل .. كانت الغرفة المقصودة هي غرفة تابعة للمنزل مفصولة عنه بجدار مشترك.. و كانت صغيرة نسبيا و بداخلها سرير صغير و أثاث بسيط ، و تتبعها دورة مياه صغيرة قريبة من الباب.. الثلاثة و معهم وليد تعاونوا في تحضير فراشين أرضيين على المساحة الحرة من الغرفة.. و حالما انتهوا ، قال العجوز .. " أتمنى لكم نوما هانئا " و عقّبت السيدة : " تصبحون على خير" أما الفتاة فقد أسرعت بالذهاب ثم العودة بصينية الشطائر و بعض العصائر .. و وضعتها على المنضدة الصغيرة التابعة لأثاث الغرفة و هي تقول : " فيم لو احتجتم أي شيء فلا تترددوا في طلبه ! " وليد قال : " شكرا جزيلا..هل نستطيع استخدام الهاتف ؟ " قال العجوز : " بكل تأكيد.. " فشكرهم كثيرا و كذلك فعلت دانة ، ثم انصرفوا ... و فور خروجهم أقفل وليد الباب و أقبل إلى الهاتف .. و اتصل بأحد الأرقام .. و كان أول ما نطق به بعدها و بلهفة شديدة : " سامر يا عزيزي .. أأنت بخير ؟؟ "
__________________
لو صرخت الدنيا ف وشي اكيد هعلي حسي ... لو كان ده وقت الانهيار انا حاطه روحي ع كفي ... لو كان ده وقت الانفجار .. اكيد ملغمه نفسي ...!! * ** فى حياة كل منا ذكرى تمنى الا يمر بها ولكن لولا ألمها لارتكب المزيد من الاخطاء فى حق نفسه وفى حق الاخرين* ** الحمدلله ![]() ![]() |
#8
|
||||
|
||||
![]() الحلقةالتاسعةوالعشرون
******** أعد الدقائق واحدة تلو الأخرى ، في انتظار وصول وليد... رغم أنها مجرد أيام، تلك التي فصلت بيننا مذ لقائنا الأخير ، إلا أنني أشعر بها كالشهور ...لا بل كالسنين ... نعم كالسنين التي قضيتها محرومة من رؤيته ، و معتقدة بأنه سافر يدرس.. بينما كان ... كلما جالت هذه الخاطرة برأسي طردتها مسرعة ، و أجبرت نفسي على الفرح .. فهو سيصل اليوم في أية لحظة... سامر تحاشى الحديث معي منذ الصباح، إنه فقط مهتم بالإعدادات للحفلة البسيطة ، و قد قام هو و دانة بترتيب مائدة في الصالة ، لاستقبال الرجال ، و أخرى في غرفة المجلس ، لاستقبال السيدات . حاولت مساعدتهم إلا أنني كنت متعبة من آثار الصدمة التي تلقيتها مؤخرا و لم تسعفني قواي البدنية على فعل شيء أكثر من المراقبة عن كثب.. بعد تأدية صلاة العشاء ، أتتني دانة لتتحدث معي الحديث الأخير... قبل فراقنا.. ابتداء من هذه الليلة ، سوف لن يكون لدي أخت ٌ أتشاجر معها ! من سيعلّق على مظهري كلما ارتديت شيئا جديدا، من سيوبّخني كلما أخطأت ! من سيغار مني و أغار منه؟؟ من سيعلمني أشياء أجهلها و يفتح عيني على الحياة... دانة كانت بالنسبة لي .. الباب إلى الحياة ، فأنا لم أعرف من هذه الدنيا شيئا إلا عن طريقها... و رغم أن الفرق بين عمرينا هو سنتان و نصف ، إلا أنني أشعر بنفسي صغيرة جدا أمامها .. و أحسها أختي الكبرى و معلّمتي الحبيبة ... لذا ، عندما دخلت الغرفة و أنا لا أزال مرتدية حجاب الصلاة و قالت : " سأتخلص منك أخيرا ! " انفجرنا ضحكا ، ثم بكاء ... شديدا جدا .. جعل سامر يقف عند الباب مذهولا حائرا ! " لمن ستتركينني دانة ؟ سأبقى وحيدة منعزلة عن العالم من بعدك ! " " هنيئا لك ! ستنفردين برعاية أبي و تدليله ! أنت مثل القطة رغد ! مهما كبرت تظلين تعشقين الدلال ! كان الله في عون الرجل الذي ستتزوجينه ! " الآن صارت تشير إليه بالمجهول ! لم تذكر اسم سامر .. فهي إذن اقتنعت أخيرا بأن سامر لم يعد لي ... نظرت أنا نحو سامر فوجدت وجهه المشوه غارقا في الحزن ... و كرهت نفسي... كرهت قدري.. و ظروفي التي انتهت بي و به إلى هذه الحال... أعدت نظري إلى دانة .. نظرة استغاثة.. استنجاد.. أريد من ينقذني من هذا كله.. فوجدت على وجهها ابتسامة خفيفة ، و سمعتها تهمس : " على كل ٍ ، هو يحب تدليلك كثيرا ! " ابتسمت ُ ، و ضممتها إلي ، و أنا أشعر بأنها المرة الأولى التي تفهمني فيها... رباه ! كيف تغيّرت بهذا الشكل بين ليلة و ضحاها ؟؟ هل يعني أنها موافقة على و راضية عن انفصالي عن سامر ، و ارتباطي بوليد؟؟ هل تدرك هي أنني أحب وليد و وليد فقط؟؟ وليد قلبي ... آه كم أنا متلهفة لرؤيتك ... عد بسرعة .. اظهر فورا .. فقد أضناني الشوق و الحرمان ... قمت بعد ذلك و لبست فستانا أهداني إياه سامر من أجل الحفلة ، و ووضعت بعض الحلي ، و التي أيضا أهداني إياها سامر... و ارتديت حذاء عالي الكعب جدا ، كالعادة ، و بصراحة .. أهداني إياه سامر أيضا ! إلا أنني لم أضع أيا من المساحيق على وجهي ، فأنا أريد مقابلة وليد قلبي وجها لوجه ... بدوت مسرورة ، أحوم حولهما كالفراشة ... و عندما حضر الضيوف أحسنت استقبالهم و قدت النساء إلى المجلس ... كانت أم نوار و أخواته، في غاية الأناقة و الجمال.. يرتدين ملابس مبهرة و حلي كثيرة .. و قد تلوّنت وجوههن بالماكياج المتقن جدا ! شعرت ببعض الخجل من نفسي لكوني بلا ألوان ! مع ذلك ، أبدو جميلة فلا تلتفتوا لهذا الأمر ! حضرت العروس بعد ذلك ، في قمة الأناقة و الروعة .. و أخذنا نلتقط العديد من الصور التذكارية ، و سأظهر جميلة رغم كل شيء ! مر الوقت .. و مع انقضاء كل ساعة ينقضي خيط أمل في حضور وليد.. لماذا لم يحضر بعد ؟؟ أحقا سيأتي أم أنه ... ذهبت إلى المطبخ لجلب المزيد من العصائر فإذا بي أصادف سامر هناك ، يحمل أطباق الجلي ... قلت : " ألم يحضر وليد ؟؟ " سامر تظاهر بالابتسام و قال : " ليس بعد " قلت : " هل أنت واثق من حضوره ؟ هل قال أنه آت ٍ بالفعل ؟؟ " " قال إن لديه ارتباطات و مشاغل أخرى ، لكنه سيحاول الحضور ... " نظرت إلى الساعة المعلقة على جدار المطبخ بيأس... قال سامر : " لا يزال الوقت مبكرا ... لا تقلقي... " ثم غادر المطبخ ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ اعتقد إن من حقّي أن آخذ هذه المساحة بين السطور .. لأصف لكم مشاعري المجروحة ... إذا كان هناك رجل تعيس في الدنيا فهو أنا.. كيف لا و أنا أرى مخطوبتي.. محبوبتي رغد.. تعد الدقائق بلهفة في انتظار عودة وليد.. حبيب قلبها الغالي.. أصبت بجنون ما بعده جنون ، حين اعترفت لي و بلسانها أنها تحبه هو.. و أنه السبب في قرارها الانفصال عني ، بعد خطوبة استمرت أربع سنوات أو يزيد... أربع سنوات من الشوق و اللهفة.. و الحب و الهيام.. في انتظار الليلة التي تجمعنا أنا و هي.. عريسين في عش الزوجية.. ثم يأتي وليد.. و في غضون شهور أو ربما أيام .. يسرق قلبها مني ! رغد لم تقل لي في السابق : ( أنا أحبك ) ، و لكنها لم تقل : ( أنا لا أحبك ) .. بل كانت الأمور فيما بيننا تجري على خير ما يرام .. حتى أخبرني وليد نفسه ذات ليلة بأنها ترغب في تأجيل زواجنا... الشيء الذي لا أعرفه حتى هذه اللحظة ، ما إذا كان وليد يعرف بحبها له أو يبادلها الشعور ذاته ، أم لا ... أنا أعرف أنه يحبها و يهتم بها كأخت.. أو ابنة عم .. أما كحبيبة.. كزوجة .. فهذا ما لا أعرفه و لن أحتمل صدمة معرفته ، إن كان يحبها بالطريقة التي أحبها أنا بها.. أتذكر أنها في اليوم الذي عرض عليها ارتباطنا قبل سنين قالت : ( لننتظر وليد أولا ) و لأنه كان من المفترض ألا يعود إلا بعد أكثر من عشر سنين من ذلك الوقت، فإننا عقدنا قراننا بموافقة الجميع... و أنا أنظر إليها هذه اللحظة و هي تراقب الساعة ، أشعر بأن خلايا قلبي تتمزّق خلية خلية ، بل ... و أنويتها تنشطر .. و ذراتها تتبعثر حول المجرّة بأكملها ... لماذا فعلت ِ هذا بي يا رغد ؟؟ إن كنت تجهلين ، فأنا أحبك حبا لا يمكن لأي رجل في الدنيا أن يحمل في قلبه حبا مثله.. حبا يجعلني أدوس على مشاعري و أحرق أحاسيسي رغما عنها ، لأجعلك تحيين الحياة التي تريدينها مع الشخص الذي تختارينه.. و ليته كان أنا... و إن اكتشفت أن وليد لا يكترث لك ، فإنني لن أقف صامتا ، و أدعك تبعثرين مشاعرَ أنا الأولى بها من أي رجل على وجه المعمورة ، بل سآخذك معي.. و أحيطك بكل ما أودع الله قلوب البشر من حب و مودة ، و أحملك إلى السحاب .. و إن شئت ِ .. أتحوّل إلى وليد .. أو إلى أي رجل آخر تريدين أن تصبي مشاعرك في قلبه ... فقط.. اقبلي بي... غادرت المطبخ على عجل ، لئلا أدع الفرصة لرغد لرؤية العبرة المتلألئة في محجري... نعم ، سأبكي لتضحكي أنت ... و سأحزن لتفرحي أنت .. و سأنكسر لتنجبري أنت .. و سأموت ... لتحيي أنت... يا حبيبة لم يعرف الفؤاد قبلها حبيبة .. و لا بعدها حبيبة .. و لا مثلها حبيبة... و سيفنى الفؤاد ، و تبقى هي الحبيبة .. و هي الحبيبة .. و هي الحبيبة ... عندما وصل وليد، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر و خمس و أربعين دقيقة، أي قبل ربع ساعة من ولادة يوم جديد.. خال من رغد ... قرع الجرس ، فأقبلت نحو الباب و سألت عن الطارق ، فأجاب : " أنا وليد " جمّدت مشاعري تحت طبقة من الجليد ، لا تقل سماكة عن الطبقات التي تغطي المحيط المتجمّد الجنوبي... و فتحت الباب .. تلك الطبقة انصهرت شيئا فشيئا ، لا بل دفعة واحدة حين وقعت عيناي على الشخصين الواقفين خلفه ، وليد ، و الفتاة الشقراء ! " مرحبا ، سامر ... " بصعوبة استطعت رد التحية و دعوتهما للدخول ... وليد كان يرى الدهشة الجلية على وجهي مجردة من أي مداراة مفتعلة ! قال ، و هو يشير إلى الفتاة الواقفة إلى جانبه تبتسم بهدوء : " أروى نديم ، تعرفها " قلت : " أأ .. أجل ... " قال : " خطيبتي " و من القطب الجنوبي ، إلى أفريقيا الاستوائية ! اعتقد أنكم تستطيعون تصوّر الموقف خيرا من أي وصف أنقله لكم ! " خـ ... ــطيبتك !! " " نعم ، ارتبطنا البارحة " نظرت إلى الفتاة غير مصدّق ، أطلب منها تأكيدا على الكلام ، ابتسمت هي و نظرت نحو وليد .. وليد قال : " أ لن تبارك لنا ؟؟ " " أأ ... نعم ...طبعا ... لكنني تفاجأت ، تفضلا على العموم ، مبروك لكما .. " و قدتهما أولا إلى المجلس ، حيث النسوة... طرقت الباب و أنا أنادي أختي دانة... ، فتحت هذه الأخيرة لي الباب و خرجت من فتحته الضيقة ، و حالما أغلقته انتبهت لوليد ... " وليد ! " أشرق وجهها و تفجرت الأسارير عليه .. ثم فتحت ذراعيها و أطبقت عليه معانقة إياه عناقا حميما... " نعم .. كنت أعلم بأنك ستأتي و لن تخذلني ، فأنت لم تخذلني ليلة خطوبتي.. أنا سعيدة جدا.. " وليد قال : " مبروك عزيزتي... أتم الله سعادتك و بارك لك زواجك .. " بعد ذلك ، رفعت رأسها لتنظر إليه ، ثم دفنته في صدره و هي تقول : " سامحني... لم أكن أعلم .. سامحني يا أخي الحبيب .. أنا فخورة بك.. و أتباهى أمام جميع المخلوقات .. بأن لي أخا مثلك.. سامحني .. " وليد ربت على ظهر دانة بحنان ، و إن كانت الدهشة و الحيرة تعلوان وجهه ، و قال مواسيا : " لا بأس عزيزتي .. لا تبكي و إلا أفسدت ِ زينتك ، و غير المغرور رأيه بك ! " رفعت دانة رأسها و انفجرت ضحكا ، و وكزته بمرفقها و هي تقول : " لم تتغير ! سوف أطلب من نوّار أن يضربك قبل خروجنا ! " قلت أنا : " احذري ! و إلا خرج عريسك بعاهة مستديمة ! " و ضحكنا بانفعال نحن الثلاثة... التفت وليد للوراء حتى ظهرت خطيبته الجديدة ، و التي كانت تقف على بعد خطوات ... قال : " اقتربي أروى " اقتربت الفتاة و هي تنظر نحو العروس ، و تحييها .. " مبروك دانة ! كم أنت جميلة ! " دانة حملقت في الفتاة قليلا ثم قالت محدثة وليد : " هل حضرت عائلة المزارع ؟؟ " وليد قال : " أروى فقط.. " فتعجبت دانة ، فوضّح : " خطيبتي " طغى الذهول على وجهها ربما أكثر مني ، قالت باستغراب شديد : " خطيبتك !! " قال وليد : " نعم ، عقدنا قراننا البارحة... باركي لنا " الاضطراب تملّك دانة ، و حارت في أمرها و لزمت الصمت لوهلة ، إلا أنها أخيرا تحدّثت : " فاجأتماني ...بشدّة ! ... مبروك على كل حال " و كان واضحا لنا، أو على الأقل واضحا لي استياؤها من المفاجأة... قلت : " فلتتفضل الآنسة ... " دانة التفتت إلى أروى و قالت : " تفضلي " و فتحت الباب لتسمح لها بالدخول ... و قالت مخاطبة إيّاي : " رغد في غرفتها .. ذهبت لاستبدال فيلم الكاميرا ... " و كان القلق جليا على ملامحها ... قال وليد : " جيد ! أ أستطيع رؤيتها ؟؟ " تبادلنا أنا و دانة النظرات ذات المعنى .. و قالت هي : " نعم ، سأدخل لأقدّم أروى للجميع " و دخلت الغرفة و أغلقت الباب تاركة إياي في المأزق بمفردي ! وليد التفت إلي و قال : " أريد إلقاء التحية عليها.. إن أمكن " أنا يا من كنت أدرك أنها تنتظره بلهفة منذ ساعات... و أنها ستطير فرحا متى ما رأته .. لم أملك من الأمر شيئا .. قلت باستسلام : " أجل ، تفضل ... " و قدت ُ بنفسي ، حبيب خطيبتي إلى غرفتها لكي تقابله ... طرقت ُ الباب و قلت : " رغد .. وليد معي " قاصدا أن أنبهها لحضوره ، لكي ترتدي حجابها.. إلا أنني ما كدت ُ أتم الجملة ، حتى انفتح الباب باندفاع سريع ، و ظهرت من خلفه رغد على حالها .. و هتفت بقوة : " وليد ! " أي رجل في هذا العالم ، يحمل ذرة حب واحدة لخطيبته ، أو حتى ذرة شعور بالملكية و الغيرة ، فإنه في لحظة كهذه سيرفع كفيه و يصفع وجهي الشخصين الماثلين أمامه في مشهد حميم كهذا ... إلا أنني أنا ... سامر العاشق المسلوب الحبيبة .. المغطّي لمشاعره بطبقة من الجليد .. وقفت ساكنا بلا حراك و بلا أي ردّة فعل .. أراقب خطيبتي و هي ترتمي في حضن أخي بقوة .. و تهتف بانفعال : " وليد .. لماذا لم تخبرني .. لماذا .. لماذا .. " ~ ~ ~ ~ ~ و إن كنت أتظاهر بالبرود و الصمود ، إلا أن ما بداخلي كان يشتعل كالحمم... و إن كنت أتظاهر بأنني فقط أود إلقاء التحية ، فإن حقيقة ما بداخلي هي أنني متلهف لرؤية صغيرتي الحبيبة و الإحساس بوجودها قريبة مني ... لقد كنت أسير خطوة خطوة.. و مع كل خطوة أفقد مقدارا من قوتي كما يفقد قلبي السيطرة على خفقاته ، فتأتي هذه الأخيرة عشوائية غير منظمة .. تسبق الواحدة منها الأخرى... و حين فتح الباب.. كنت ُ قد أحرقت آخر عصب من جسدي من شدة التوتر.. لدرجة أنني لم أعد أحس بشيء.. أي شيء .. لم أع ِ إلا و قذيفة ملتهبة قوية تضرب صدري .. تكاد تكسر ضلوعي و تخترق قلبي... بل إنها اخترقته .. فرغد لم تكن تقف أمامي بل .. كانت تجلس في قلبي متربعة على عرش الحكم.. تزيد و تنقص ضرباته قدر ما تشاء .. تعبث بأعصابه كيفما تشاء.. تسيّر أحاسيسه حسبما تريد... و لأنني كنت مذهولا و فاقدا للسيطرة على حركاتي تماما ، فقد بقيت ُ ساكنا.. دون أي ردّة فعل ... كان صدري مثل البحر .. غاصت صغيرتي في أعماقه و قطعته طولا و عرضا .. و خرجت منه مبللة بالدموع و هي تنظر إلي و تهتف : " لماذا لم تخبرني ؟؟ لماذا يا وليد ؟ لم أخفيت عنّي كل هذه السنين ؟؟ " شيء ما بدأ يتحرّك في دماغي المغلق .. و يفتح أبواب الوعي و الإدراك لما يدور من حولي ... بدأت أنتبه لما تقوله صغيرتي .. و بدأت أحس بأظافرها المغروسة في لوحي كتفي ّ كالمسامير ... و بدأت أرى اللآليء المتناثرة من محجريها ... أغلى ما في كوني ... لا شعوريا رفعت يدي إلى وجهها أردم سيل العبر ... " لا تبكي صغيرتي أرجوك .. " فأنا أتحمّل أي شيء في هذه الدنيا ، إلا أن أرى دموع غاليتي تتبعثر سدى... إنني أشعر بحرارة شديدة أجهل مصدرها الحقيقي ... أهو داخلي ؟ أم حضن صغيرتي ؟ أم الشرر المتطاير من عيني ّ أخي، اللتين تحملقان بنا بحدّة.. رغد أزاحت يديها عني ، و ابتعدت خطوة.. و ذلك أثار توترا في المسافة التي بيننا.. تماما كالتوتر الذي يولّده ابتعاد قطعة حديد صغيرة عن مغناطيس ! قالت : " لقد اكتشفت ذلك الآن فقط .. لماذا لم تخبرني بأنك .. بأنك .. كنت في السجن ؟؟ " و إن كانت مشاعري قبل قليل مخدّرة من تأثير قرب رغد ، فإنها استيقظت كلها دفعة واحدة فجأة.. و تهيّجت .. فصرت أشعر بكل شيء ، حتى بحرارة البراكين الخامدة في اليابان ! نقلت نظري من رغد ، إلى سامر ، إلى رغد ، إلى سامر ... و حين استقرّت عيناي عليه، رأيت قنبلة متوهجة ، على وشك الانفجار... لطفك يا رب ... ! قلت ُ أخيرا : " أنت من أخبرها ؟؟ " سامر لم يجب بكلمة ، بل بإيماءة و تنهيدة قوية نفثها صدره .. و شعرت أيضا بحرارتها... أعدت ُ النظر إلى رغد.. فاسترسلت في سؤالي : " لماذا لم تخبرني؟؟ " أخبرك ؟؟ بأي شيء يا رغد ؟؟ أ لم تري الطريقة التي عاملتني بها دانة ، بل و الناس أجمعون؟ أتراك تنظرين إلي ّ الآن مثلهم ؟؟ لا يا رغد .. أرجوك لا .. قلت بلا حول و لا قوة : " ما حصل..، لكن... أرجو ألا يغيّر ذلك أي شيء ؟؟ " و انتظرت إجابتها بقلق... قالت : " بل يغيّر كل شيء ... " و أذهلتني هذه الإجابة بوضوحها و غموضها المقترنين في آن واحد... قالت: " وليد ... وليد أنا ... " و لم تتم ، إذ أن دانة ظهرت في الصورة الآن مقبلة نحو غرفة رغد.. و تكسوها علامات القلق... جالت بمقلتيها بيننا نحن الثلاثة و استقرت على سامر... شعرت أنا بأن هناك شيء يدور في الخفاء أجهله ... سألت : " ما الأمر ؟؟ " لم يجب أي منهم بادىء ذي بدء إلا أن دانة قالت أخيرا، مديرة دفة الحديث لمنعطف آخر: " رغد ! الكاميرا ! سنستدعي نوّار الآن ! " ثم التفتت نحو سامر : " إنه منتصف الليل ! هيا استدعه ! " و يبدو أن ترتيباتهم كانت على هذا النحو ، أن يدخل العريس إلى تلك الغرفة لالتقاط بعض الصور مع العروس و مع قريباته قبل المغادرة . سامر نطق أخيرا : " سأستدعيه... أخبريهن " و رغد تحرّكت الآن من أمامي متجهة نحو المنضدة و من فوقها تناولت الكاميرا و أقبلت نحو دانة و مدّت الكاميرا إليها ، فقالت دانة: " أعطها لسامر الآن .. " التفتت رغد نحو سامر .. و قدّمتها إليه... سامر نظر إلى رغد نظرة عميقة.. جعلتها تطأطىء رأسها أرضا ... أخذ سامر الكاميرا منها.. و قال .. " سنلتقط له معنا بعض الصور ثم نعيدها إليكن .. " قال ذلك و وجه خطاه نحو الصالة... هممت ُ أنا باللحاق به... إلا أنني توقفت ، و التفت إلى رغد ... و قلت : " كيف قدمك الآن ؟ " رغد و التي كانت لا تزال مطأطئة برأسها رفعته أخيرا و نظرت إلي مبتسمة و قالت : " طاب الجرح... " قلت : " الحمد لله " ثم أوليتها ظهري منصرفا إلى حيث انصرف أخي ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ كنت ُ مجنونة، لكنني لم أتمالك نفسي بعدما رأيت وليد يقف أمامي... بطوله و عرضه و شحمه.. جسده و أطرافه... و عينيه و أنفه المعقوف أيضا ... كأن سنينا قد انقضت مذ رأيته آخر مرة ، ينصرف من هذه الشقة جريحا مكسور الخاطر ... اندفعت إليه بجنون... و أي جنون ! ظللت أراقبه و هو يولّي .. حتى اختفى عن ناظري.. و بقيت محدّقة في الموضع الذي كان كتفاه العريضان يظهران عنده قبل اختفائه، و كأنني لازلت أبصر الكتفين أمامي ! " رغد ! " نادتني دانة ، فحررت أنظاري من ذلك الموضع و التفت إليها... و رأيتها تحدّق بي و علامات غريبة على وجهها... أنا ابتسمت .. لقد قرّت عيني برؤية وليد قلبي.. و لأنه هنا ...، فقط لأنه هنا ، فإن هذا يعطيني أكبر سبب في الحياة لأبتسم ! لا أعرف لم كانت نظرة دانة غريبة.. ممزوجة بالأسى و القلق.. قلت : " ما بك ؟ " " لا ... لا شيء " " سأغسل وجهي و أوافيكن... " و أسرعت قاصدة الحمّام ... طائرة كالحمامة ! بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة المجلس...مرتدية حجابي ، إذ أنني سأبقى لأتفرج على العريسين و لمياء - شقيقة نوار - تلتقط الصور لهما.. جميعهن كن يجلسن في أماكنهن كما تركتهن قبل قليل، نظرن إلي ّ جميعا حالما دخلت.. فابتسمت في وجوههن... فجأة لمحت وجها غريبا في غير موقعه ! وجه أروى الحسناء ! دُهشت و علاني التعجب ! وقفت هي مبتسمة و قائلة : " مرحبا رغد ! كيف حالك ؟ و كيف صحتك ؟؟ " " أروى ! " " مفاجأة أليس كذلك ؟؟ " اقتربت منها و صافحتها و الدهشة تتملكني...و نظرت في أوجه الأخريات بحثا عن وجه أم أروى ... أو حتى وجه العجوز ! قلت : " أهلا بك ِ ! أحضرت ِ بمفردك ؟؟ " ابتسمت و قالت : " مع وليد " مع من ؟؟ مع وليد ؟؟ ماذا تقصد هذه الفتاة ؟؟ " مع وليد ؟؟ " ازدادت ابتسامتها اتساعا و حمرة وجنتيها حمرة و بريق عينيها بريقا ... و التفتت نحو دانة ثم نحوي و قالت : " ألم تخبرك ِ دانة ؟؟ " التفت نحو دانة و أنا في غاية الدهشة و القلق.. و رميتها بنظرات متسائلة حائرة.. دانة أيضا نظرت إلي بنفس القلق.. ثم قالت : " إنها ... إنها و وليد... " و لم تتم... نظرت إلى أروى ، فسمعتها تقول متمة جملة دانة ، تلك الجملة التي قضت علي و أرسلتني للهلاك فورا : " ارتبطنا .. البارحة " عفوا ؟؟ عفوا ؟؟ فأنا ما عدت أسمع جيدا من هول ما سمعت أذناي مؤخرا ! ماذا تقول هذه الفتاة ؟؟ " ماذا ؟؟ " و رأيتها تبتسم و تقول : " مفاجأة ! أ ليس كذلك ؟؟ " نظرت إلى دانة لتسعفني ... دانة أنقذيني مما تهذي به هذه ... ما الذي تقوله فلغتها غريبة.. و شكلها غريب.. و وجودها في هذا المكان غريب أيضا... دانة نظرت إلي بحزن ، لا ... بل بشفقة ، ثم أرسلت أنظارها إلى الأرض... غير صحيح ! غير ممكن .. مستحيل ... لا لن أصدّق ... " أنت و .. وليد ماذا ؟؟ ار... تبطـ.. ـتما ؟؟ " " نعم ، البارحة .. و جئت ُ معه كي أبارك للعريسين زواجهما.." خطوة إلى الوراء، ثم خطوة أخرى.. يقترب الباب مني، ثم ينفتح.. ثم أرى نفسي أخرج عبره.. ثم أرى الجدران تتمايل.. و السقف يهوي.. و الأرض تقترب مني.. و الدنيا تظلم.. تظلم.. تظلم..و يختفي كل شيء... " سامر .. تعال بسرعة" هتاف شخص ٌ ما.. يدوي في رأسي.. أيدي أشخاص ما تمسك بي.. أذرع أشخاص ما تحملني.. و تضعني فوق شيء ما.. مريح و واسع.. أكفف تضرب وجهي.. أصوات تناديني.. صياح.. دموع.. لا ليست دموع.. إنها قطرات من الماء ترش على وجهي.. أفتح عيني.. فأرى الصورة غير واضحة.. كل شيء مما حولي يتمايل و يتداخل ببعضه البعض.. الوجوه، الأيدي.. السقف.. الجدران.. أغمض عيني بشدة.. أحرّك يدي و أضعها فوق عيني ّ .. لا أتحمل النور المتسلل عبر جفنيّ .. أشعر بدوار.. سأتقيأ.. ابتعدوا.. ابتعدوا... ~ ~ ~ ~ ~ عندما استردّت رغد وعيها كاملا، كان ذلك بعد بضع دقائق من حضورنا إلى الممر و رؤيتنا لها مرمية على الأرض... كنا قد سمعنا صوت ارتطام ، شيء ما بالأرض أو الجدران ، ثم سمعنا صوت دانة تهتف : " سامر ..تعال بسرعة" قفزنا نحن الاثنان، أنا و سامر هو يهرول و أنا أهرول خلفه تلقائيا حتى وصلنا إلى هناك.. دانة كانت ترفع رأس رغد على رجلها و تضرب وجهها محاولة إيقاظها.. و رغد كانت مغشي عليها... أسرعنا إليها ، و مددت أنا يدي و انتشلتها عن الأرض بسرعة و نقلتها إلى سريرها و جميعنا نهتف " رغد.. أفيقي... " صرخت : " ماذا حدث لها ؟؟ " دانة أسرعت نحو دورة المياه، و عادت بمنديل مبلل عصرته فوق وجه رغد، و التي كانت تفتح عينيها و تغمضهما مرارا... استردت رغد وعيها و أخذت تجول ببصرها فيما حولها.. و تنظر إلينا واحدا عقب الآخر... قال سامر : " سلامتك حبيبتي... هل تأذيت ؟؟ " قالت دانة : " أأنت على ما يرام رغد ؟؟ " قلت أنا : " ما ذا حدث صغيرتي ؟؟ " نظرت رغد إلي نظرة غريبة.. ثم جلست و صاحت : " سأتقيأ " بعدما هدأت من نوبة التقيؤ ، وضعت رأسها على صدر سامر و طوقته بذراعيها و أخذت تبكي ... سامر أخذ يمسح على رأسها المغطى بالحجاب... و يتمتم : " يكفي حبيبتي، اهدئي أرجوك.. فداك أي شيء..." قلت : " صغيرتي ؟؟ " رغد غمرت وجهها في صدر سامر... مبللة ملابسه بالدموع.. " صغيرتي ..؟؟ " " دعوني وحدي.. دعوني وحدي .. " و أجهشت بكاء شديدا... لم أعزم الحراك و لم استطعه، إلا أن دانة قالت لي : " لنخرج وليد " قلت بقلق : " ماذا حدث يا دانة ؟؟ " قالت : " قلت لك... إنها مريضة! هذه المرة الثالثة التي يغشى عليها فيها منذ الأمس... " صعقني هذا النبأ.. قلت مخاطبا رغد: " رغد هل أنت بخير..؟؟ " لم تلتف إلي ، بل غاصت برأسها أكثر و أكثر في صدر سامر و قالت : " دعوني وحدي... دعوني وحدي.." يد دانة الآن أمسكت بيدي ، و حثّتني على السير إلى الخارج، ثم أغلقت الباب... حاولت التحدث معها إلا أنها اعترضت حديثي قائلة : " سوف أعود لأطمئن ضيفاتي.. وليد استدع نوّار ... " و انصرفت... بقيت واقفا عند باب غرفة رغد غير قادر على التزحزح خطوة واحدة.. ماذا حل ّ بصغيرتي ؟؟ و لماذا تتشبث بسامر بهذا الشكل ؟؟ هل صحتها في خطر؟ هل عدلت عن فك ارتباطها به ؟ ماذا يحدث من حولي..؟؟ لحظات و إذا بي أرى دانة تظهر من جديد " وليد أ لم تتحرك بعد ! هيا استدعه " " حسنا.. " و عدت إلى صالة الرجال، و رأيتهم أيضا متوترين يتساءلون عما حدث، طمأنتهم و استدعيت العريس و قدته إلى مجلس النساء.. حيث قامت والدته أو إحدى شقيقاته بالتقاط الصور التذكارية لهن مع العريسين... أروى كانت بالداخل أيضا.. عدت إلى بقية الضيوف و أنا مشغول البال .. بالكاد ابتسم ابتسامة مفتعلة في وجه من ينظر إلي... فيما بعد، جاء نوّار و قال : " سننطلق إلى الفندق الآن.." و كان من المفروض أن يسير موكب العريسين إلى أحد الفنادق الراقية، حيث سيقضي العريسان ليلتهما قبل السفر يوم الغد مع بقية أفراد عائلة العريس إلى البلدة المجاورة و من ثم يستقلون طائرة راحلين إلى الخارج... سامر كان من المفترض أن يقود هذا الموكب.. ذهبت إلى غرفة رغد.. و طرقت الباب.. " سامر.. العريسان يودان الذهاب الآن.." فتح الباب، و خرج سامر.. ينظر إلي بنظرة ريب .. قلت: " كيف رغد؟؟ " قال بجمود : " أفضل قليلا" أردت ُ أن أدخل للاطمئنان عليها، لكن سامر كان يقف سادا الباب.. حائلا دون تقدّمي و تحرجت من استئذانه بالدخول.. قلت : " إنهما يودان الانصراف الآن... " سامر نظر إلي ّ بحيرة .. ثم قال : " أتستطيع مرافقتهما ؟؟ " " أنا ؟؟ " " نعم يا وليد، فرغد لن تتمكن من الذهاب معنا و علي البقاء معها " فزعت، و قلت: " أهي بحالة سيئة؟ " " لا، لكنها لن ترافقنا ، بالتالي سأبقى هنا " " إنني أجهل الطريق.. " " اطلب من أحد أخوته مرافقتكم..." لم تبد لي فكرة حسنة، قلت معترضا: " اذهب أنت يا سامر، و أنا باق هنا مع رغد و أروى..." أقبلت دانة الآن، و سألت عن حال رغد، ثم دخلت إلى غرفتها... ~ ~ ~ ~ ~
__________________
لو صرخت الدنيا ف وشي اكيد هعلي حسي ... لو كان ده وقت الانهيار انا حاطه روحي ع كفي ... لو كان ده وقت الانفجار .. اكيد ملغمه نفسي ...!! * ** فى حياة كل منا ذكرى تمنى الا يمر بها ولكن لولا ألمها لارتكب المزيد من الاخطاء فى حق نفسه وفى حق الاخرين* ** الحمدلله ![]() ![]() |
#9
|
||||
|
||||
![]() تتمه
" أنا تعيسة جدا " كان هذا جوابي على سؤال دانة التي أتتني بقلق لتطمئن علي.. دانة جلست إلى جواري على السرير و أخذت تواسيني.. إلا أن شيئا لا يمكنه مواساتي في الصاعقة التي أحلّت بي... " أرجوك يا رغد.. كفى عزيزتي.. ألن تودّعينني ؟ إنني راحلة عنك للأبد ! " و جاءت جملتها قاصمة لظهري... " لا ! لا تذهبي و تتركيني ! سأكون وحيدة ! أريد أمي .. أريد أمي..." و بكيت بتهيج.. " يكفي يا رغد ستجعلينني أبكي و أنا عروس في ليلة زفافي التعسة ! " انتبهت لنفسي أخيرا.. كيف سمحت لنفسي بإتعاس أختي العروس في أهم ليالي عمرها؟ ألا يكفي أنها حرمت من حفل الزفاف الضخم الذي كانت تعد له منذ شهور... و خسرت كل ملابسها و حليها و أغراض زفافها.. و احترق فستان العرس تحت أنقاب المدينة المدمّرة !؟ طردت بسرعة الدموع المتطفلة على وجهي، و أظهرت ابتسامة مفتعلة لا أساس لها من الصحة و قلت : " عزيزتي سأفتقدك ! ألف مبروك دانة " تعانقنا عناقا طويلا.. عناق الفراق.. فبعد أكثر من 15 عاما من الملازمة المستمرة 30 يوما في الشهر، نفترق..و دموعنا مختلطة مع القبل... قدم سامر.. و قال : " هيا دانة .. " صافحتها و قبلتها للمرة الأخيرة... ثم جاء دور سامر، و من ثمّ الرجل الضخم الذي كان يقف في الخارج عند الباب مباشرة... لم استطع أن ألقي عليه و لا نظرة واحدة.. لم أشأ أن أنهار من جديد.. اضطجعت على سريري، و سحبت الغطاء حتى أخفيت وجهي أسفل منه... سمعت سامر يقول : " سآخذهما للفندق و أعود مباشرة.. وليد و خطيبته سيبقيان معك " و لم تهز في ّ هذه الجملة شعرة واحدة ، بل أغمضت عيني و أنا أقول : " سأنام.." أحسست بالجميع يغادرون الغرفة و يغلقون الباب، ثم اختفت الأصوات و الحركات.. لقد غادر جميع الضيوف.. و في الشقة لم يبق إلا أنا.. و وليد.. و الأجنبية الدخيلة... دخلت في نوم عميق أشبه بالغيبوبة.. إلا أنني في لحظة ما..أحسست بدخول شخص ما إلى الغرفة.. و اقترابه مني.. ثم شعرت بيد تمتد إلى لحافي فتضبطه فوقي، ثم تمسح على رأسي من فوق حجابي الذي لم أنزعه، ثم توهمت سماع همس في أذني ... " أحلام سعيدة يا حبيبتي" و ابتعد المجهول.. و سمعت صوت انغلاق الباب.. فتحت عيني الآن فوجدت الغرفة غارقة في السكون و الظلام.. هل كان ذلك وهما؟؟ هل كان تهيؤا ؟؟ حلما؟؟ لست أكيدة.. و إن كان حقيقة ، فالشيء الذي سأكون أكيدة منه ، هو أن الشخص كان سامر... ~ ~ ~ ~ ~ ~ استخدمت غرفتي السابقة بينما جعلت أروى تستعمل غرفة العروس، للمبيت تلك الليلة... لقد كنت شديد القلق على صغيرتي .. و لم أنم كما يجب.. كنا قد قررنا البقاء ليومين قبل معاودة الرحيل، و كان هذان اليومان من أسوأ أيام حياتي ! رغد كانت مريضة جدا و ملازمة للفراش، و سامر كان يمنعني من الدخول إلى غرفتها أغلب المرات، و في المرات القليلة التي سمح لي بإلقاء نظرة، كنت أرى رغد شاحبة جدا و مكتئبة للغاية ، ترفض الحديث معي و تطلب منا تركها بمفردها ضاق صدري للحالة التي كانت عليها و سألت سامر: " ماذا حدث لها ؟ هل حدث شيء تخفونه عني؟ لم هي كئيبة هكذا؟؟ هل آذاها أحد بشيء ؟؟ " قال سامر : " إنها كئيبة لفراق دانة ، فكما تعرف كانت تلازمها كالظل... " " لكن ليس لهذا الحد.. أنا أشعر بأن في الأمر سر ما.. " نظر إلي شقيقي نظرة ارتياب و قال : " أي سر؟؟ " قلت : " ليتني أعرف... " كنا خلال هذين اليومين نتناول وجباتنا أنا و أروى في المطاعم، و في الليلة الأخيرة، عندما عدنا من المطعم ، وجدنا رغد و سامر في غرفة المائدة يتناولان العشاء... فرحت كثيرا، فهي علامة جيدة مشيرة إلى تحسّن الصغيرة.. قلت : " صغيرتي.. حمدا لله على سلامتك، أتشعرين بتحسّن ؟؟ " رغد نظرت نحوي بجمود ، ثم نحو أروى ، ثم وقفت ، و غادرت الغرفة ذاهبة إلى غرفة نومها... وقف سامر الآن و نظر إلي بعصبية : " أ هذا جيّد؟ ما كدت أصدق أنها قبلت أخيرا تناول وجبة.. " قلت ُ بانزعاج : " هذه حال لا يصبر عليها، لسوف آخذها إلى الطبيب.. " و سرت ُ مسرعا نحو غرفتها ، فأقبل شقيقي من بعدي مسرعا : " هيه أنت.. إلي أين ؟؟ " التفت ُ إليه و قلت : "سآخذ الفتاة للمستشفى " قال بغيظ : " من تظن نفسك؟ ألا تراني أمامك؟؟ خطيبتك هي تلك و ليست هذه " قلت مزمجرا : " قبل أن تكون خطيبتك هي ابنة عمّي ، و إن كنت نسيت فأذكرك بأنها ستنفصل عنك، و لتعلم إن كنت جاهلا بأن أمورها كلها تهمني و أنا مسؤول عنها كليا ، مثل والدي تماما " و هممت بمد يدي لطرق الباب و من ثم فتحه ، إلا أن سامر ثار... و أمسك بيدي و أبعدها بقوة.. تحررت من مسكته و هممت بفتح الباب ألا أنه صرخ : " ابتعد " و قرن الصرخة بانقضاض على ذراعي، و سحب لي بقوة... دفعت به بعيدا عني فارتطم بالجدار، ثم ارتد إلي و لكمني بقبضته في بطني لكمة عنيفة... اشتعلت المعركة فيما بيننا و دخلنا في دوامة جنونية من الضرب و الركل و اللطم و الرفس.. أتت في غير أوانها ! أروى واقفة تنظر إلينا بذهول.. و باب غرفة رغد انفتح .. و ظهرت منه رغد مفزوعة تنظر إلينا باستنكار و توتّر " سامر... وليد... يكفي ... " إلا أن أحدنا لم يتوقّف... في العراك السابق كان سامر يستسلم لضرباتي .. أما الآن ، فأجده شانا الهجوم علي و يضربني بغيظ و بغض.. كأن بداخله ثأرا يود اقتصاصه مني... بعد لحظات من العراك، و يد الغلبة لي، و أنا ممسك بذراع أخي ألويها للوراء و أؤلمه ، جاءت رغد تركض نحوي صارخة : " أترك خطيبي أيها المتوحّش " و رأيت يديها تمتدان إلي ، تحاولان تخليص سامر من بين يدي... أمسكت بذراعي و شدّتني بقوة، فحررت أخي من قبضتي و استدرت لأواجهها... صرخت بوجهي : " وحش.. مجرم.. قاتل.. أكرهك.. أكرهك.. أكرهك " و بقبضتيها كلتيهما راحت تضربني على صدري بانفعال ضربة بعد ضربة بعد ضربة... و أنا واقف كالجبل بلا حراك.. أشاهد.. و اسمع.. و أحس.. و أتألم.. و أحترق... و أتزلزل ... و أموت..
__________________
لو صرخت الدنيا ف وشي اكيد هعلي حسي ... لو كان ده وقت الانهيار انا حاطه روحي ع كفي ... لو كان ده وقت الانفجار .. اكيد ملغمه نفسي ...!! * ** فى حياة كل منا ذكرى تمنى الا يمر بها ولكن لولا ألمها لارتكب المزيد من الاخطاء فى حق نفسه وفى حق الاخرين* ** الحمدلله ![]() ![]() |
#10
|
||||
|
||||
![]() الحلقةالثلاثون ******** بعد سيل الضربات القوية التي وجهتها إلى صدر وليد ، بانفعال و ثورة.. بغضب و غيظ و قهر.. شعرت بألم في يدي ّ كان هو ما جعلني أوقف ذلك السيل... رفعت رأسي إليه، فرأيته ينظر إلي بجمود .. لم تهزه ضرباتي و لم توجعه! من أي نوع من الحجر أنت مخلوق؟؟ من أي نوع من المعادن صدرك مصنوع؟؟ ألا تحس بي؟؟ عيناي كانتا مغرورقتين بالعبرات الحارقة.. تمنيت لو يمسحها.. تمنيت لو يضمني إلى صدره.. تمنيت.. لو أصحو من النوم ، فأكتشف أن أروى هي مجرد حلم.. وهم .. لا وجود له.. و كم كانت أمان ٍ مستحيلة التحقق... كان وليد ينظر إلي بعمق، كانت نظراته تنم عن الحزن.. و الاستسلام... فهو لم يقاومني و لا يبعدني.. بل تركني في ثورة غضبي أفرغ على صدره دون إدراك.. كل ما كتمته من غيظ مذ علمت بنبأ ارتباطه... ابتعدت عنه، التفت إلى سامر، ثم إلى أروى، ثم إلى وليد مجددا... ثم ركضت داخلة غرفتي و صافعة الباب بقوة... لم أسمح لسامر بالدخول عندما أراد ذلك بعد قليل، و بقيت أبكي لساعات... في اليوم التالي، عندما خرجت من غرفتي قاصدة المطبخ، لمحت غرفة دانة سابقا ، الدخيلة حاليا مفتوحة الباب... اقتربت منها بحذر .. و ألقيت نظرة شاملة عليها كانت خالية من أي أحد .. أسرعت نحو غرفة وليد.. فوجدتها الأخرى مفتوحة و لا وجود لأي شيء يشير إلى أن وليد لم يرحل... ركضت بسرعة نحو الصالة، رأيت سامر يجلس هناك شاردا .. حين رآني ، ابتسم و وقف و ألقى علي تحية الصباح .. قلت بسرعة : " أين وليد ؟؟ " ألقى علي سامر نظرة متألمة ثم قال : " رحل " صعقت ... هتفت : " رحل ؟؟ متى ؟؟ " قال : " قبل قليل.. " مستحيل ! لا ... غير ممكن ... صرخت : " لماذا تركته يرحل ؟؟ " نظر إلي سامر بحيرة ..صرخت مجددا : " لماذا تركته يرحل ؟؟ " قال سامر مستاء ً : " و هل كنت تتوقعين مني أن أربطه إلى المقعد حتى لا يذهب ؟ أخذ خطيبته و أغراضهما و ولا خارجين دون سلام " صرخت : " كان يجب أن تمنعه ! الحق به.. دعه يعود .. أعده إلي حالا " سامر هتف بعصبية : " لا تثيري جنوني يا رغد.. ماذا تريدين به ؟ لقد تزوّج من أخرى و قضي الأمر " صرخت بقوة : " لا " " رغد ! " " لن أصدّق.. إنكم تكذبون ... كلكم تكذبون.. وليد لم يرتبط بأحد.. وليد لم يدخل السجن.. وليد لم يقتل أحدا.. وليد لن يتخلّى عني...لن يبتعد عني.. أعده إلي.. أعده إلي..أعده إلي.. " و انهرت باكية..حسرة على وليد قلبي و على هذه الحال بقيت أياما... اشتد علي المرض و السقم.. و تدهورت حالتي النفسية كثيرا..كما ساءت حالة سامر و أصبح عصبيا جدا..و صرنا نتشاجر كل يوم..و الحال بيننا لا تطاق.. ما زاد الأمر سوءا هو أننا كلما اتصلنا بوالدي ّ وجدنا الهاتف مغلقا، و عندما اتصلنا بالفندق الذي كانا ينزلان به أُبلغنا بأنهما قد غادراه... انقطعت أخبارهما عنا عدة أيام و حلّ التوتر الفظيع علينا و امتزجت المشاكل و المخاوف و المشاجرات مع بعضها البعض، و تحوّلت حياتنا أنا و سامر إلى جحيم... و جحيمنا صار يتفاقم و يتضاعف يوما بعد يوم، إلى أن طغى الطوفان المدمّر و حلّت الصاعقة الكبرى...أخيرا... ~ ~ ~ ~ ~ التحقت بمعهد إداري في مبنى قريب من المزرعة، و بتوفيق من الله أولا ، ثم بمساعدة من العم إلياس و السيدة ليندا، أصبحت طالبا رسميا في المعهد. الحياة بدت مختلفة، و كل شيء سار على خير ما يرام، حظيت أخيرا بشيء من الراحة و السعادة.. خطيبتي..كانت إنسان رائع جدا.. في الأخلاق و الطيبة و المشاعر و الجمال و كل شيء... نعمة من رب السماء .. حاولت جاهدا أن أصرف مشاعري نحوها... و أودع فيها ما يكنه قلبي من الحب و الحنان ، إلا أن رغد.. لم تسمح لي بذلك... فقد كانت محتلة القلب من أول وريد إلى آخر شريان...و بُعدها و صحتها المتدهورة ما زاداني إلا تعلقا بها و لهفة إليها... و كلما تسللت يداي إلى الهاتف، و أدارتا رقم الشقة، ذكرني عقلي بكلماتها الأخيرة القاتلة... فوضعت السماعة و ابتعدت ... لم أتصل للسؤال عن أي فرد من أسرتي، و أقنعت نفسي بأنني لم أعد أنتمي إليهم.. و أن عائلتي الحقيقية هي عائلة نديم رحمه الله... لذلك ، حين وردتني مكالمة من سامر بعد أيام حاولت اصرافها، إلا أن أروى ألحّت علي بالإجابة .. و هي تقول : " لو كان لدي أخ أو أخت لكنت فعلت أي شيء من أجلهما مهما تعاركا معي أو حتى قتلاني ! " تناولت السماعة من يدها و أنا أشعر بالخجل من هروبي هذا... قربتها من أذني و فمي و تحدّثت : " نعم يا سامر؟؟ " " كيف حالك؟ " " بخير.." و ساد صمت استمر عدة ثواني ... قلت : " أهناك شيء ؟؟ " فأنا لا أتوقع أن يتصل ليسأل عني فقط ، خصوصا بعد شجارنا الأخير... قال سامر : " يجب أن تحضر إلى هنا يا وليد " ذهلت من عبارته، قلت متوترا و قد انتابني القلق المفاجئ : " خير؟ هل حصل شيء ؟؟ " " نعم، و لابد من حضورك " هوى قلبي على الأرض..من القلق ، قلت و أنا بالكاد أحرك شفتي ّ : " رغد بخير ؟؟ أ أصابها مكروه ؟؟ " سامر صمت ، ما جعلني أوشك على الموت... قلت : " ما بها رغد أخبرني ؟؟ " قال : "على ما هي عليه، أريدك حضورك فورا " التقطت بعض أنفاسي و قلت : " لم سامر؟ أخبرني ماذا حصل ؟؟ " " لن أخبرك على الهاتف ، تعال بأسرع وقت يا وليد.. الأمر غاية في الأهمية " لم استطع بعد تلك المكالمة السكون برهة واحدة ، تحركت بعصبية كالمجنون .. و من فوري ذهبت لأبحث عن سيارة أجرة، إذ أنني لم أكن أملك واحدة كما تعلمون... أرادت أروى مرافقتي إلا أنني عارضت ذلك، و خلال ساعة، كنت أشق طريقي نحو شقة سامر.. و قلبي شديد الانقباض.. لابد أن مكروها قد حل ّ بصغيرتي و إن كان كذلك، فلن أسامح نفسي على البقاء بعيدا بينما هي مريضة... قطعت المسافة في زمن قياسي، و حين وصلت أخيرا إلى الشقة، قرعت الباب بشكل متواصل إلى أن فتحه أخي أخيرا... من النظرة الأولى إلى وجهه أدركت أن الموضوع أخطر مما تصوّرت.. كانت عيناه حمراوان و جفونه وارمة ، و وجهه شديد الكآبة... و السواد أيضا... منظره أوقع قلبي تحت قدمي ّ في الحال... و قبل أي كلمة أخرى هتفت مفزوعا : " أين رغد ؟؟ " و ركضت إلى الداخل مسرعا و أنا أنادي : " رغد ... رغد ... " و حين بلغت غرفتها طرقت الباب بقوة... و أنا أهتف بفزع... " رغد... أأنت هنا ؟ " فتح الباب و ظهرت رغد .. و ما أن وقعت أعيننا على بعضها البعض حتى كدت أخر صريعا.. " رغد ! " " وليد ... " " أنت ِ بخير صغيرتي ؟؟ أنت بخير ؟؟ " انفجرت رغد باكية بقوة ، التفت إلى الوراء فإذا بسامر يقف خلفي ، هتفت : " ماذا حصل ؟ " رغد ازداد بكاؤها .. قلت منفعلا : " أخبراني ماذا حدث ؟؟ " و نظرت إلى سامر في انتظار ما سيقول ... سامر حرّك شفتاه و قال أخيرا : " أصيب والدانا في الغارة على الحدود" صعقت ، شهقت : " ماذا ؟؟ " طأطأ سامر رأسه للأسفل ، فقلت بسرعة : " سامر ؟؟ " لم يرفع عينيه في البداية، إلا أنه حين رفعهما كانتا غارقتين في الدموع، و قال أخيرا : " قتلوهما.." شهر كامل قد مضى، و أنا مقيم مع أخي و رغد في هذه الشقة... نسبح في بحر الدموع و الألم... لا يقوى أحدنا حتى على النهوض من المقعد الذي يجلس عليه... أسوأ اللحظات.. كانت تلك اللحظات التي رأيت فيه رغد تلطم وجهها و تصرخ و تنوح و تصيح... " لماذا كتب علي أن أيتّم مرتين؟؟ من بقي لي بعدهما؟؟ أريد أن ألحق بهما.. أمي .. أبي .. أنا مدللتكما العزيزة.. كيف تفعلان هذا بي ؟؟ كيف تتركاني يتيمة من جديد؟ و أنا في أمس الحاجة إليكما.. ليتني متّ منذ صغري..ليتني احترقت مع المنزل و لم أعش هذا اليوم... وا حسرتاه" كانت تجول في الشقة و تصرخ و تنادي كالمجنونة.. و تصفع رأسها بأي شيء تصادفه في طريقها.. و كنت أمشي خلفها، محاولا تهدئتها و مواساتها ، بينما أنا الأكثر حاجة للمواساة.. أبعد حرماني منهما لثمان سنين.. ثمان سنين كان من الممكن أن أقضيها تحت رعايتهما و حبهما.. اللذين مهما كبرت سأبقى بحاجة إليهما، أفقدهما بهذا الشكل؟؟ حينما أتذكر يوم وداعهما... آه يا أمي.. و يا أبي.. لو كنت أعرف أنه اللقاء الأخير.. ما كنت تركتكما تخرجان... أتذكر وصايا أمي... (اعتني بشقيقتيك جيدا لحين عودتنا).. أماه.. هاأنا قد اعتنيت بهما و إن قصّرت.. فأين عودتك ؟؟ لو كنت أعلم أنه آخر العهد لي بكما... ما فارقتكما لحظة واحدة حتى أموت دونكما أو معكما.. لكنه قضاء الله.. و مشيئة الله.. يا رب.. فكما جاءاك ملبيين طائفين حول بيتك المشرّف، يا رب فأكرمهما بنعيم الجنة التي وعدت بها عبادك المؤمنين... و لا حول و لا قوّة إلا بالله... شهر كامل قد انقضى و لم تتحسن أحوالنا النفسية شيئا يذكر.. و هل يمكن أن يندمل جرح كهذا؟؟ لقد كانا في حافلة مع مجموعة من الحجيج عائدين إلى البلد، بعدما نفذ صبر الجميع و دفعهم الحنين لأهلهم للإقدام على السفر برا...و كانت مجازفة أودت بحياتهم جميعا ... نحن.. و يا من كنا غارقين في بحر الحزن و المآسي.. و يا من تشردنا..و تشتتنا..و تفرّقنا و انتكست أحوالنا و تنافرت قلوبنا..و كنا ننتظر عودة والدينا لعل ّ الله يصلح الحال.. يأتينا نبأ مصرعهما المفاجئ المفجع.. و ينسف ما بقي لنا من قوة أيما نسف... السلطات اتصلت بأخي سامر و أبلغته الخبر المفجع، ليذهب لاستلام الجثتين من إحدى المستشفيات، التي نقل إليها جميع راكبي الحافلة، و الذين قتلوا جميعا دون استثناء.. كنت أريد الذهب..فقط لألقي نظرة..فقط لأقبّل أي شيء منهما.. رأسيهما.. جبنيهما.. أيديهما..إقدامهما..أو حتى ملابسهما..أي شيء منهما و لهما.. لكني بقيت رغما عني ملازما رغد في المستشفى.. متوقعا أن أفقدها هي الأخرى.. بين لحظة و أخرى.. كانت أفظع أيام حياتي.. كانت نائمة معظم الوقت، و كلنا أفاقت سألتني : " أين أبي؟؟ أين أمي ؟؟ ألا أزال حية ؟؟ متى سأموت؟؟" و لا أجد شيئا أواسيها به غير آهات تنطلق من صدري ، و شلالات تتدفق من عيني.. ونيران تحرق جسدي و ترديني فتاتا.. رمادا..غبارا.. عندما عاد أخي.. كنت أنظر إلى عينيه بتمعن..أحدق بهما بجنون..علّ صورة والدي ّ قد انطبعت عليهما.. علّني أرى طيف ما رأتاه.. أخذت أضمه، و أشمه و أقبّله.. فقد كان معهما.. و ربما علق به شيء منهما..أي شيء... أي شيء... و حين سألني عن رغد.. قلت باكيا : " ستموت! إنني أراها تموت بين يدي.. ماذا أستطيع أن أفعل؟ ليتني متّ قبل هذا " و حين تحدث معها ، سألته بلهفة : " أين هما؟؟ هل عادا معك؟؟ هل عادا للمنزل؟ أعدني إليهما..فأنا أريد أن يشهدا عرسي..ليس مثل دانة !" أي عرس يا رغد..أي فرح..أي لقاء تتحدثين عنه ؟؟ لقد انتهى كل شيء.. و الحبيبان اللذان كانا يدللانك و يحيطاننا جميعا بالحب و الرعاية.. ذهبا في رعاية من لا يحمد على مكروه قضى به سواه... اللهم لا اعتراض على قضائك... و إنا لله .. و إنا إليه راجعون.... اليوم، و كما قررت أخيرا، سأذهب إلى المزرعة.. فلا بد لي من مواصلة العمل، و الدراسة في ذلك المعهد.. و العودة إلى أهلي بعدما حصل.. أصبحت ضربا من المحال.. فمن يريد العودة إلى جحيم الذكريات... ؟؟ سامر..كان قد أهداني سيارة قبل أيام، جاءت منقذة لي في وقت الحاجة الحقيقية.. شكرته كثيرا.. و أذكر أنه يومها ابتسم ابتسامة واهية و قال : " و لم كل هذا الشكر ! إنها مجرّد سيارة.. بلا روح و لا مشاعر !" استغربت من ردّه، إلا أنه غير الحديث مباشرة... زرت المزرعة مرتين اثنتين فقط مذ قدمت إلى هنا.. فقد كان بقائي قرب رغد هو مركز اهتمامي و بؤرته... أما أحوال العائلة هناك كانت مستقرة.. أجمع أشيائي في حقيبة أضعها على السرير، باب الغرفة مفتوح، يطل منه أخي سامر... و يتحدّث ... " أحقا سترحل وليد؟؟ " استدير إليه و أقول : " كما ترى " مشيرا إلى الحقيبة.. و أضيف : " سأعود إلى عملي، و دراستي" يظل واقفا عند الباب ، ثم يخطو خطوتين إلى الداخل و يقول بصوت خافت : " أنا أيضا سأعود إلى عملي... انتهت إجازاتي الممددّة " التفت إليه و أنا أدرك ما يعني، بل هو أكثر ما يشغل تفكيري على الإطلاق، لكنني أقول : " و إذا ؟؟ " يقول : " رغد... " نعم ، لا زلنا و منذ زمن..نقف عند هذه النقطة.. رغد... قال : " لا يمكن تركها وحيدة..، خذها معك " و فاجأني هذا الطلب، فهو آخر ما كنت أتوقع أن يطلبه أخي مني... لقد كنت أنا من سيطرح الفكرة، و خشيت أن أعقد الأمور أكثر في وقت نحن فيه في غنى تام عن أي تشويش يزيدنا ألما فوق ألم... قلت : " معي أنا ؟؟ " " نعم يا وليد.. فهناك حيث تقيم، لديك عائلة يمكن لرغد أن تظل تحت رعايتهم أثناء غيابك.. لكن هنا في هذه الشقة..." لم يتم كلامه.. لقد كان هذا الموضوع هو شغلي الشاغل منذ قررت العودة للمزرعة، ألا أنني لم أكن أعرف الطريق لفتحه أمام سامر، خطيب رغد... قلت : " ما كنتَ فاعلا لو أنكما تزوجتما إذن؟ " قال : " ربما ..أتركها في بيتنا مع والدي ّ " و الكلمة قرصت قلبينا... و عصرت شعورنا... تابع : " ألا أنه .. لا والدين لنا الآن .. و لا بيت.." " يكفي أرجوك.." قلت ذلك محاولا إبعاد غيمة الهم عني، فقد اكتفيت من كل ذلك.. اكتفيت من الهموم التي حملتها على صدري مذ ارتكبت جريمتي و حتى هذا اليوم... بددت أشباح الذكرى المؤلمة بعيدا عن رأسي.. و قلت : " أتظنها ترحب بذلك ؟؟ " ابتسم ابتسامة مائلة للسخرية و قال : " جرّب سؤالها بنفسك..." و رمقني بنظرة حادة، ثم غادر الغرفة... بعدما انتهيت من جمع أشيائي، ذهبت ُ إلى غرفة رغد... طوال الأيام الماضية لم تكن تغادرها .. حتى القليل من الطعام الذي كانت تعيش عليه، تتناوله على سريرها.. حالتها كانت سيئة جدا ولازمت المستشفى وقتا طويلا، و كنا نتناوب أنا و سامر على رعايتها...إلا أنها تحسّنت في الآونة الأخيرة.. و أحضرناها إلى هنا.. و الحمد لله فلو أصابها شيء..هي الأخرى، فسوف أموت فورا لا محالة...لن يقوى قلبي على تحمّل صدمة أخرى.. و خصوصا للحبيبة رغد..لا قدّر الله .. طرقت الباب و ذكرت اسمي، ثوان، ثم أذنت لي بالدخول... دخلت، فرأيتها جالسة على السرير، كالعادة، إلا أنها ترسم شيئا ما في كراستها... اقتربت لألقي نظرة على ما ترسم، كانت صورتين وهميتين لوالدي ّ رحمهما الله.. مرسومتين بالقلم الرصاصي، و بمعالم غامضة مبهمة... " كيف أنت صغيرتي؟ " لم ترفع عينيها عن الرسمة، قالت : " كما أنا " و هو جواب يقتلني...إن كنتم لا تعلمون... قلت : " أنت بخير، الحمد لله .." قالت : " نعم ، بخير.. يتيمة مرتين، وحيدة و بلا أهل.. و لا من يتولى رعايتي .. عالة على ابن عمّي ... " مزقتني كلماتها هذه، قلت : " عالة على خطيبك !؟ " قالت مصححة : " ابن عمّي.. فأنا لن أتزوّجه.. ما لم يحضر والداي و يباركا زواجنا.." كادت الدمعة تقفز من عيني... اقتربت منها أكثر.. و قلت محاولا المواساة : " حتى لو لم تتزوجيه، يبقى ابن عمّك و مسؤولا عنك.. فلا تأتي بذكر كلمة عالة هذه مرة أخرى " الآن، قامت بالخربشة على الصورتين بخطوط عشوائية حادة، ثم .. نزعت الورقة من الكراسة، ثم مزّقتها.. أخيرا نظرت إلي : " لم لا ترسلاني إلى دار لرعاية الأيتام ؟ " " رغد بالله عليك.. لم تقولين ذلك ؟؟ " " نعم فهو المكان الأنسب لي، سامر يريد العودة للعمل و أنا أعيقه " قلت بألم : " و أنا ؟ " رمقتني بنظرة مبهمة ، ثم قالت : " و أنت ستعود إلى عملك، و فتاتك..، و دانة تزوجت و استقرت مع زوجها في الخارج..، بلا بيت و لا والدين .. و لا أهل.. إما أن ترسلاني لبيت خالتي، أو لدار الأيتام " اغتظت، و قلت بعصبية : " كفّي عن ذلك يا رغد، بالله عليك... أتظنين أنني سأتخلى عنك بهذه السهولة ! " رغد حدقت بي، متشككة مرتابة... قلت : " أبدا يا رغد ! لا تظني .. أنه بوفاة والدي رحمه الله.. لم يعد لك ولي مسؤول.. إنك من الآن فصاعدا، لا .. بل من يوم وفاته فصاعدا... بل و من يوم وفاة والديك الحقيقيين فصاعدا.. تحت مسؤوليتي أنا.." لا تزال تحملق بي بريبة.. قلت : " و من هذه اللحظة، اعتبريني أمك و أباك و أخاك و كل شيء.. " شيء من التصديق ظهر على وجهها.. أرادت التحدث إلا أنها منعت نفسها .. قلت مؤكدا : " نعم صغيرتي، و لتكوني واثقة مائة بالمائة.. من أنك ستبقين ملازمة لي كعيني هاتين.. و لسوف أفقأهما قبل أن أبعدك عني مترا واحدا ! " الآن رغد راحت تنظر إلى المسافة التي تفصل بيننا، بضع خطوات تتجاوز المتر.. ثم تنظر إلي... نظرت أنا إلى حيث نظرت، ثم خطوت خطوتين للأمام، و قلت : " متر ! أليس كذلك ؟؟ " هنا .. انطلقت ضحكة غير متوقعة من حنجرة رغد.. ضحكة صغيرة كصغر حجمها و حجم حنجرتها.. و قصيرة كقصر المسافة التي بيننا هذه اللحظة... و مبهجة كبهجة العيد ! لم أستطع منع نفسي من الابتسام.. و هل هناك أجمل من ابتسامة أو ضحكة عفوية تشق طريقها بين الدموع و الهموم؟؟ لما رأيت منها هذا التجاوب، فرحت كثيرا.. فضحكة رغد ليست بالأمر السهل..إنها أعجوبة حصلت في زمن المرض و المآسي... قلت : " بما أن سامر سيبدأ العمل و سينشغل ثمان ساعات من النهار خارج الشقة، و أنا لابد لي من العودة لعملي، فأنا سآخذك معي.. فهل تقبلين ؟؟ " قالت : " و سامر؟ يبقى وحيدا ؟ " قلت : " سنأتي أسبوعيا لزيارته أو يأتينا هو.. ربما تتغير ظروفنا فيما بعد.. و نستقر جميعا في مكان واحد.. ما رأيك ؟ " نظرت إلى الأرض، ثم قالت : " حسنا " أثلج صدري، ارتخت عضلاتي و ارتاح قلبي من توتره.. قلت : " إذن اجمعي أشياءك الآن، سنذهب عصرا " وقفت رغد مباشرة، و بدأت بجمع قصاصات الورقة التي مزقتها قبل قليل.. أخذت تنظر إليها، و شردت... قلت مداعبا : " اطمئني يا رغد.. سترين..أي نوع من الآباء و الأمهات سأكون ! " ابتسمت رغد، و ألقت القصاصات في سلة المهملات... ~ ~ ~ ~ ~ لم يكن لدي الكثير من الأشياء، لذا لم احتج أكثر من حقيبة صغيرة جمعت حاجياتي فيها، و وضعتها قرب الباب.. وليد ذهب إلى الحلاق، و حينما يعود .. سنغادر.. سوف لن أتحدث عن فاجعة موت والدي ّ لأنني لا أريد لدموعي و دموعكم أن تنهمر.. فقد اكتفيت..تشبّعت للحد الذي لم تعد فيه الدموع تحمل أي معنى... لقد كنت أنا من أصرّ عليهما للحضور بأية وسيلة.. فقد كنت في حالة سيئة كما تعلمون.. و ربما هذا ما دفعهما لسلك الطريق البري الخطر.. أنا الآن فتاة يتيمة مرتين.. بلا ولي و لا أهل، غير خطيب لن أتزوجه يوما.. و ابن عم لن يتزوجني يوما.. لكنه لن يتخلى عني.. أجهل طبيعة الحياة التي سأعيشها من الآن فصاعدا.. إلا أنني لا أملك من الأمر شيئا و إذا ما كتبت لي العودة إلى المدينة الصناعية ذات يوم، فلسوف استقر في بيت خالتي.. حتى يومنا هذا، و الحظر الشديد مستمر على المدينة الصناعية و مجموعة من المدن التي تعرضت أو لا تزال تتعرض للقصف و التدمير من قبل العدو... أما هذه المدنية، و كذلك المدينة الزراعية، فهما بعيدتان عن دائرة الحرب... ارتديت عباءتي، مستعدة للخروج .. و لمحت سامر يقبل نحوي.. وقفت أنظر إليه و هو ينظر إلي.. و كانت النظرات أبلغ من الكلمات.. قال : " سأفتقدك" قلت : " و أنا كذلك.. سنأتي لزيارتك كل أسبوع" ابتسم ابتسامة واهنة و من ثم قال : " هل ستكونين على ما يرام هناك ؟؟" لم أرد.. فأنا لا أعلم ما الذي ينتظرني.. " أينما كنت يا رغد..أتمنى لك السعادة و الراحة " نظرت إليه نظرة امتنان.. أمسك يدي بحنان و قال : " سأكون هنا.. متى ما احتجتني.. دائما في انتظارك و رهن إشارتك.." لم أملك إلا أن طوّقته بيدي الأخرى.. و قلت : " يا عزيزي..." و تعانقنا عناقا هادئا صامتا.. طويلا.. بعد مدّة ، عاد وليد.. ودّعنا سامر.. و ركبنا السيارة، وليد في المقدمة و أنا خلفه.. وانطلقنا... لكي يقطع الوقت و يقتل الملل، أدار المذياع.. فأخذت أصغي إلى كل شيء و أي شيء.. كما كنت أراقب الطريق... و رغم الصمت الذي كان رفيق لسانينا، إلا أنني شعرت به يكلّمني... أكاد أسمع صوته، و أحس بأنفاسه.. و الحرارة المنبعثة من جسده الضخم... كان هو مركزا على الطريق.. بينما أنا أغلب الأحيان مركزة عليه هو... الآن، و بعد كل الأحداث التي مررت بها..أعترف بأنني لا أزال أحبه.. وصلنا إلى نقطة تفتيش.. ما أن لمحتها حتى أصبت بالهلع.. فبعد الذي عشته تلك الفترة.. صرت أرتجف خوفا من مثل هذه الأمور... الشرطي طلب من وليد البطاقة و رخصة القيادة.. ثم سأله عني.. " ابنة عمي " " أين بطاقتها ؟ " " إنها لا تحمل بطاقة خاصة، فهي صغيرة " " إذن بطاقة والدها " " والدها متوف، ووالدي الكافل كذلك، توفي مؤخرا..إلا أنها مضافة إلى بطاقة شقيقي، خطيبها حاليا " قال الشرطي متشككا : " هل هذا صحيح ؟؟ " قال وليد : " طبعا ! " الشرطي التفت إلي أنا و قال : " هل هذا ابن عمّك ؟ " قلت بوجل : " أجل " " أهو خطيبك ؟ " " لا ! شقيق خطيبي.." " و أين خطيبك أو ولي أمرك ؟ " " لم يأت ِ معنا، لكنه على علم بسفرنا " " صحيح ؟ " وليد قال بعصبية وضيق : " و هل تظنني اختطفتها مثلا ؟ بربّك إنها مثل ابنتي " ابتعد الشرطي مترددا ثم سمح لنا بالعبور... أنا كنت أنظر إلى وليد عبر المرآة.. مندهشة و مستنكرة جملته الأخيرة ! ابنته !؟ أنا مثل ابنته ؟؟ فارق السن بيننا لا يتجاوز التسع سنين ! وليد أبي ! بابا وليد ! و شعرت ُ برغبة مفاجئة في الضحك ! لكن هذه الرغبة تحوّلت إلى حرج شديد جدا..عندما أصدرت معدتي نداء الجوع ! مباشرة نظر وليد عبر المرآة فالتقت أنظارنا.. و أبعدت عيني بسرعة في خجل شديد... تكلم وليد قائلا : " لم تأكلي شيئا منذ الصباح..أليس كذلك؟ " تحرجت من الرد عليه..و علتني حمرة الخجل.. لم أكن في الآونة الأخيرة أتناول أكثر من وجبة واحدة في اليوم.. و كنت أجبر نفسي على أكلها فقط لأبقى حية.. أتذكر الآن.. الطبخات اللذيذة التي كانت أمي، و دانة تعدّانها.. آه أماه.. إنني مشتاقة لأي شيء من يديك.. حتى و لو كان السمك المشوي الذي تعدّينه، و اهرب أنا من المائدة كرها له... كنت سأدخل متاهة الذكرى المؤلمة، لكن صوت وليد أغلق أبواب المتاهة حين سمعته يقول : " سآخذك إلى مطعم جيد في المدينة الشمالية الزراعية .. سيعجبك طعامه " المشوار كان طويلا.. و الهدوء جعل النعاس يطغى علي.. فمنت لبعض الوقت.. صحوت من النوم على صوت وليد يهمس باسمي... " رغد.. رغد صغيرتي.." فتحت عيني.. فوجدته ملتفتا إلى الوراء يناديني.. و تلفت من حولي فرأيت السيارة واقفة .. قال وليد: " وصلنا " قلت : " المزرعة ؟ " و أنا أطالع ما حولي.. باستغراب.. قال : " المطعم " قلت : " ماذا ؟ " " المطعم صغيرتي.. نتناول عشاءنا ثم نذهب إلى المزرعة " و تذكرت أنني كنت جائعة ! كانت الوقت لا يزال باكرا.. وليد فتح بابه و خرج من السيارة، ثم فتح الباب لي.. هبطت و صافحتني أنسام الهواء الباردة.. فضممت ذراعي ّ إلى بعضهما البعض.. " أتشعرين بالبرد؟ " " قليلا" " المكان دافئ في الداخل.. هيا بنا " سرنا جنبا إلى جنب، أنا بقامتي الصغيرة و رأسي المنحني للأسفل، و هو بجسده العملاق.. و رأسه العالي فوق هامته الطويلة ! ثنائي عجيب متناقض ! دخلنا المطعم .. كان تصميم مدخله جميل.. و الكبائن متباعدة و متقنة الهندسة.. اختار وليد كبينة بعيدة، و جلسنا متقابلين، لكن ليس وجها لوجه! شغلنا نفسينا بتقليب صفحات الكتيب الصغير، الحاوي لقوائم الأطعمة و المشروبات... قال وليد : " ماذا تودين ؟ " في هذه اللحظة ، و أنا في توتري الشديد هذا، و الإحساس بقرب وليد يشويني.. قلت : " دورة المياه " " عفوا ! ؟ " تركت الكتيب من يدي، قام وليد و قال : " تفضلي.." كانت دورة المياه النسائية في الطرف الآخر..على مقربة من الباب توقّف وليد.. و تركني أمشي وحدي.. التفت إليه.. قال : " سأنتظر هنا " لم أشعر بالطمأنينة.. تراجعت .. قلت: " لنعد " قال : " هيا رغد ! سأبقى واقفا في مكاني.. " " لا.." وليد نظر إلى ما حولنا ثم قال : " حسنا، سأقترب أكثر" و مشى معي حتى بلغنا الباب... نظرت إليه بشيء من التردد، إلا أنه قال : " لا تتأخري رجاء ً " و أنا أفتح الباب قلت : " إياك أن تبتعد ! " قال مطمئنا : " لا تقلقي.. " و عندما خرجت وجدته واقفا بالضبط عند نفس النقطة ! عدنا إلى تلك الكابينة و طلب لي وليد وجبة كبيرة، مليئة بالبطاطا المقلية ! لا أعرف أي شهية تلك التي تفجرت في جوفي، و التهمتها تقريبا كاملة..! و لو كان طلب طبقا آخر بعد ، لربما التهمته أيضا عن آخره.. يكفي أن يكون وليد قريبا مني، حتى أشعر برغبة في التهام الدنيا كلها... بعد العشاء.. قام وليد بجولة في المنطقة، بين المزارع.. و أراني بعض معالم المدينة، و كذلك المعهد الذي يدرس فيه، و السوق الذي تباع فيه الخضراوات... منذ زمن.. و أنا حبيسة الشقة و المستشفى، لا أرى الشمس و لا أتنفس الهواء النقي.. لذلك فإن الجولة السريعة هذه روحت عن نفسي كثيرا... كان كلما تحدّث عن أو أشار إلى شيء، أصغيت له باهتمام.. ودققت بتمعن، و كأنه درس علي حفظه قبل الامتحان! قبيل وصولنا إلى المزرعة، سألني : " أتودين بعض البوضا..؟" و كان ينظر إلي عبر المرآة ... قلت منفعلة مباشرة : " ماذا !؟ البوضا مجددا ! كلا أرجوك ! أنا يتيمة بلا مأوى الآن !؟؟ " و ليد، حدق بي برهة ، ثم انفجر ضاحكا ! أنا كذلك، لم أقو على كبت الضحكة في صدري، فأطلقتها بعفوية... نعم ! فلن تغريني البوضا مرة أخرى و لن أنخدع بها! عندما وصلنا إلى المزرعة كانت الساعة تقريبا التاسعة مساءا... مباشرة توجهنا إلى المنزل، و قرع وليد الجرس، ففتح العجوز الباب... تهلل وجهه لدى رؤية وليد و صافحه و عانقه، ثم رحب بي ترحيبا كريما... قال وليد : " ابنة عمي .. تحت وصايتي الآن.. و إن لم يكن في ذلك أي إزعاج.. فهي ستبقى معي هنا حتى نجد حلا آخر.." شعرت أنا بالحرج، لكن ترحيب العجوز خفف علي ذلك، قال : " عظم الله أجرك يا بنيتي، على الرحب و السعة، و إن لم تتسع المزرعة لكما نحملكما على رؤوسنا.." ابتسمت للعجوز و شكرته.. قال العجوز مخاطبا وليد، الذي كان يجول ببصره فيما حوله : " في المطبخ.. تفضلا " لم يتغيّر في ذلك المنزل أي شيء... سرت تابعة لوليد الذي تقدّم نحو إحدى الغرف، و التي يبدو أنها المطبخ... و العجوز خلفنا هناك.. وجدنا أروى و أمها تجلسان على الأرض حول سفرة العشاء... و بادرتا بالنهوض بمجرد رؤيتنا... و حانت اللحظة التي كنت أخشى حينها... ما أن وقع نظري على أروى... حتى شعرت بشيء ما يتفجر في صدري... شيء حارق موجع.. تتمه كانت تجلس ببساطة على الأرض، مرتدية بنطالا ضيقا و بلوزة قصيرة الكمين واسعة الجيب، و شعرها الذهبي الأملس الطويل مربوط بخصلة منه، و ينساب على كتفيها و ظهرها كذيل الفرس ! رحبت الاثنتان بنا ، ثم توجهت أروى نحو المغسل، و غسلت يدها و نشفتها ، ثم أقبلت نحو وليد و مدّت يدها لتصافحه ! وليد ببساطة مدّ يده و صافحها ! " حمدا لله على سلامتكما ! كيف حالكما ؟ " قالت ذلك و هي تشد على يد وليد، و وليد يبتسم و يطمئنها، و أنا أسلط أنظاري على يديهما ، ثم عينيهما ، ثم أعود إلى يديهما، ثم أعض على شفتي السفلى بغيظ... إلى متى ستظل هذه ممسكة بيد ابن عمّي؟؟ هيا ابتعدي ! " مرحبا بك يا رغد، عظم الله أجرك " رفعت بصري عن يديهما و نظرت إليها ببغض، و مددت يدي لأصافحها.. أعني لأجبرها على ترك يد وليد... " أجرنا و أجركم، غفر الله لنا و لكم " قالت : " كيف صحتك الآن ؟ " " بخير و لله الحمد " عادت تنظر إلى وليد ، و تخاطبه : " هل كانت رحلتكما متعبة ؟ " قال : " لا ، كانت ممتعة " نظرت إلى وليد فرأيته ينظر إلي و يبتسم... قالت أروى : " تفضلا.. شاركانا العشاء " و كررت أمها الجملة ذاتها قال وليد : " بالهناء و العافية، تناولنا عشاءنا في أحد المطاعم.. أتموا أنتم طعامكم و نحن سنجلس في المجلس " و على هذا ذهبنا إلى المجلس، وبقي الثلاثة حول السفرة.. و يبدو أن وليد صار يتحرك في المنزل بحرية كيفما يشاء... جلس على أحد المقعدين الكبيرين المتقابلين الموجودين في المجلس، فجلست أنا إلى جواره.. و سكنا عن أي كلام أو حركة لبضع دقائق... ثم قال وليد : " رغد" نظرت إليه.. فرأيت ملامح الجدية و القلق على وجهه... قال : " أنا آسف و لكنني في الوقت الحالي لا أستطيع توفير سكن آخر.. كما و أن الظروف لن تمكننا من العيش في شقة مستقلة، لأن عملي هنا و أقضي كل ساعات النهار هنا.. " لم أعلّق ، فقال : " هل هذا يروق لك ؟ " قلت : " أخشى أن يسبب وجودي الضيق لهم .." قال : " لا ، إنهم أناس طيبون جدا.. و كرماء لأقصى حد..، لن يزعجهم وجودك، أريد أن أعرف .. هل يزعجك أنت ذلك؟؟ " قلت : " سأبقى حيث ما تبقى أنت..، ألست المسؤول عني الآن؟ " بدا الضيق جليا على وليد، مال بجدعه للأمام و قال : " رغد يا صغيرتي.. الأمر ليس متروكا لظروفي بل هو حسب رغبتك أنت.. إذا رغبت بأي شيء آخر فأبلغيني و سأنفذه حتما " قلت : " حقا وليد ؟؟ " قال : " طبعا، بدون شك.. تعرفين أنني من أجلك أفعل أي شيء..." شعرت بالصدق ينبع من عينيه.. و آه من عينيه .. لو تعرف يا وليد.. أنا لا أريد من هذه الدنيا غيرك أنت.. لقد فقدت كل شيء.. والداي ماتا. .و تيتّمت مرتين.. و أختي رحلت.. و سامر تركته جريحا متألما.. و خالتي و عائلتها ظلوا بعيدين عني.. لم يبق لي إلا أنت.. أنت الدنيا في عيني.. أنا أريد أن أبقى معك، قريبة منك و تحت رعايتك و حبك ما حييت.. أينما كنت.. هنا أو في أي مكان في المجرّة.. فقط أبقني قربك.. و أشعرني باهتمامك و حبك.. " وليد .." همست بصوت أجش... وليد أجابني مسرعا : " نعم صغيرتي ؟ " قلت : " أنا.. أنا..." و لم أتم، إذ أن أروى أقبلت الآن، تحمل أقداح الشاي... " تفضلا.." لم تكن لدي أدنى رغبة في احتساء الشاي لكنني فعلت من باب المجاملة.. أروى جلست على المقعد المجاور، قرب وليد... تبادلا حديثا قصيرا، ثم قالت مخاطبة إياي : " يمكنك استخدام غرفتي، و أنا سأنام مع أمي لحين ترتيب غرفة خاصة بك " نظرت إلى وليد و قلت : " و أنت ؟ " قال : " في غرفتي ذاتها " هززت رأسي اعتراضا.. وليد قال : " لا تخشي شيئا يا رغد.. المكان آمن هنا و موثوق كبيتنا تماما " " لا ! لن أبقى وحدي هنا " قال : " يمكن لأروى البقاء معك في الغرفة.. " قلت : " إذن خذني لمكان آخر " تبادل وليد و أروى النظرات، ثم نظر إلى المقعد الذي نجلس عليه، ثم قال : " حسنا.. سأبات أنا على هذا.. داخل المنزل" لم تعجبني الفكرة أيضا.. فنظرت إليه باعتراض و عدم اقتناع.. قال : " هذه الليلة على الأقل.. ثم نجد حلا آخر" فاستسلمت للأمر... ذهبت أروى بعد ذلك لإعداد فراش لي في غرفتها... عندها قلت لوليد : " وليد.. لا تبتعد عني أرجوك " وليد نظر إلي بعطف و قال : " لا تخشي شيئا صغيرتي.. أتظنين أنه، لو كان مكانا غير آمن، كنت تركتك تباتين فيه ؟ " قلت : " لكني أخاف.. أخاف كثيرا.. المكان غريب و الناس كذلك.. لا تبتعد عني " كنت أقول ذلك و أنا متوترة.. و لما لحظ وليد حركة أصابعي المضطربة.. قال : " اطمئني رغد.. و لسوف أبقي الباب مفتوحا " ذهبنا أنا و وليد و أروى للتعرف على أرجاء المنزل و انتهينا إلى غرفة أروى.. غرفة بسيطة كسائر المنزل، لا تحوي شيئا مميزا ... كان الفراش دافئا.. و جسدي متعبا لكن القلق لم يسمح لي بالنوم.. أروى نامت بسرعة.. أما أنا فتلاعبت بي الهواجس حتى بدأت أوصالي ترتعد خوفا.. ارتديت عباءتي.. و خرجت من الغرفة بحذر.. شققت طريقي بهدوء تام نحو المجلس.. كان الباب شبه مغلق، و وليد كان نائما على المقعد الكبير.. و بصيص خفيف من الضوء يتسلل إلى الغرفة عبر فتحة الباب.. و عبرها تسللت أنا أيضا إلى الداخل...و أوصدت الباب من بعدي ! لأنه طويل جدا، فإن قدميه الكبيرتين كانتا تبرزان من فوق ذراع المقعد.. أما ذراعاه فقد كانتا مرفوعتين فوق رأسه، إذ أن مساحة المقعد لا تكفي لضمهما على جانبيه ! مسكين وليد! لابد أن جسده غير مرتاح في نومته هذه البتة ! و مع ذلك كان يغط في نوم عميق... ! جلست أنا على المعقد الكبير الآخر... لبضع دقائق.. شاعرة بالأمان و الطمأنينة، و الدفء أيضا.. فبقرب وليد يطيب لقلبي البقاء و لعضلاتي الاسترخاء و لعيني الإغماض.. استلقيت على المعقد.. و سمحت للنوم بالسيطرة علي.. بكل سهولة ! ~ ~ ~ ~ ~ وضعت المنبه على المنضدة قرب المقعد، و نمت بعد أرق، لأنني كنت قلقا على رغد.. أفكر..هل ستتقبل الحياة هنا..؟ هل ستألف الأوضاع و ترضى بها؟ هل سيسرّها العيش في منزل متواضع، و حال متوسطة، و هي ابنة العز و الدلال و الغنى ..؟؟ إن علي ّ أن أجد أكثر من أجل تحسين وضعي المالي و العام..فرغد لم تعتد حياة الفقر و الحاجة... و لا تستحق حياة كهذه... استيقظت بسرعة على رنين المنبه المزعج... كنت قد ضبطته لإيقاظي وقت الفجر لأصلي... حينما جلست، لمحت شيئا يتحرك على المقعد الكبير الآخر و الموازي للمقعد الذي نمت عليه ..! و ذلك الشيء جلس أيضا دققت النظر فيه ..أظنه خيال رغد! أو ربما هوسي بها جعلني أتهيأ خيالها في كل مكان !؟ في اليقظة و المنام ! قلت متسائلا : " رغد ؟" ذلك الشيء تكلم مصدرا صوتا ناعسا ، يشبه صوت رغد ! " نعم " قلت : " رغد صغيرتي ! أهذه أنت ؟؟ " " نعم، أريد أن أنام " و استلقت على المقعد مجددا ! نهضت أنا عن مقعدي و وقفت أمدد أطرافي.. شاعرا بالإعياء ... إن هذا المقعد صغير و لا يتسع لجسد رجل مثلي ! تقدمت نحوها " رغد ! ما الذي تفعلينه هنا ؟ " قالت و هي شبه نائمة : " كنت خائفة " " مم ؟ " " من الأشباح " ماذا !؟ أهي نائمة أم تهذي ؟؟ " أي أشباح ؟؟ " جلست رغد فجأة و نظرت من حولها يمينا و شمالا... و هي تقول : " أشباح؟؟ أين ؟ أين ؟ " و يبدو أنها استفاقت أخيرا .. ثم نظرت إلي .. ثم قالت : " وليد .. " قلت : " نعم.. " قالت : " نحن في منزل أروى أليس كذلك ؟ " " نعم صغيرتي، هل كنت تحلمين ؟ " أخذت تفرك عينيها... قلت : " لم أنت هنا ؟ " قالت : " لم أشعر بالطمأنينة هناك.. " " لم صغيرتي؟ " قالت و هي تنظر إلي برجاء : " أريد أن أبقى معك .. المكان غريب علي.." " ستعتادينه.. لا تقلقي " " لكن يا وليد... " هنا طرق الباب و سمعت صوت العم يناديني... " وليد .. انهض بني ..الصلاة " و كاد يفتح الباب، إلا أنه كان موصدا ! إنها رغد ! صغيرتي المجنونة ! أجبت : " نعم عمي أنا مستيقظ " قال : " هيا إذن " قالت رغد : " إلى أين ؟ " " إلى المسجد " قالت معترضة : " و تتركني وحدي ؟؟ سآتي معك " كنت أعرف أنها ستقول ذلك ! ذهبت إلى الباب مسرعا و فتحته فرأيت العم إلياس يسير نحو المخرج... و كنا قد اعتدنا الذهاب للصلاة في المسجد المجاور سيرا على الأقدام... قلت : " عمّي .. اذهب أنت سأصلي هنا " تعجّب العم و قال : " لم يا ولدي ؟ " " أخبرك لا حقا.. تقبل الله منكم " جعلت الباب شبه مغلق و عدت إلى رغد التي بادرتني بالسؤال : " الحمام قرب الغرفة أليس كذلك ؟ " " بلى " و همّت بالخروج قاصدة إياه ... " انتظري رغد " نظرت إلي باستغراب... قلت : " حتى يخرج العم ... " و عدت أنظر من فتحة الباب حتى إذا ما غادر العم خارجا، فتحته و استدرت إلى رغد قائلا : " تفضلي ... " رغد سارت ببطء و هي تنظر إلى الأرض بخجل.. تنحيت أنا جانبا .. و لما صارت قربي .. رفعت رأسها إلي و قالت : " أنا آسفة " ... توترت، و لم يتجرأ لساني على النطق بشيء... فأخفيت نظري تحت الأرض.. منتظرا منها الخروج... إلا أنها بقيت واقفة قربي هكذا لوهلة... و أنا شديد الحرج، ثم قالت : " لكنك..أصبحت أبي الآن ! أليس كذلك ! " رفعت نظري إليها بسرعة مندهشا، و ارتفع حاجباي تعجبا ! كانت تنظر إلي، و الآن.. ابتسامة مرسومة على شفتيها أستطيع أن أرى عذوبتها رغم الظلام... قالت : " بابا وليد ! " و أسرعت خارجة من الغرفة ... تاركة إياي في ذهول و جنون ! إذا كانت ..هذه الفتاة.. اليتيمة المدللة.. الحبيبة الغالية.. ستعيش معي و تحت رعايتي أنا في بيت واحد.. فإنني و بدون أدنى شك.. سأفقد عقلي و أتحول خلال أيام، بل خلال ساعات.. إلى مجنون لم يخلق الله مثل جنونه جنونا... و أنتم الشاهدون !
__________________
لو صرخت الدنيا ف وشي اكيد هعلي حسي ... لو كان ده وقت الانهيار انا حاطه روحي ع كفي ... لو كان ده وقت الانفجار .. اكيد ملغمه نفسي ...!! * ** فى حياة كل منا ذكرى تمنى الا يمر بها ولكن لولا ألمها لارتكب المزيد من الاخطاء فى حق نفسه وفى حق الاخرين* ** الحمدلله ![]() ![]() |
#11
|
||||
|
||||
![]() شكرا على التنبيه يااستاذ نجم
الحلقةالعشرون ********* لم يكن العثور على مزرعة نديم بالأمر السهل ... قضيت وقتا لا بأس به في التفتيش ، خصوصا و أنا أقدم إلى هذه المدينة للمرة الأولى . المدينة الشمالية هي مدينة زراعية تكثر فيها الحقول و المزارع ، و بها من المناظر الطبيعية الخلابة ما يبهج النفس المهمومة و يطرد عنها الحزن ... كان الوقت ضحى عندما وصلت أخيرا إلى مزرعة نديم بعد مساعدة البعض . كنت مرهقا جدا ، فأنا لم أنم لحظة واحدة منذ نهضت صباح الأمس ... و لم أهدأ دقيقة واحدة مذ رأيت الخائنين يتعانقان أمامي ... عدا عن هذا ، فإن معدتي لم ترحم بحالي و عذبتني أشد العذاب طوال هذه الساعات كانت مساحة المزرعة صغيرة ، محاطة بالسياج ، و بها الكثير من الأشجار المثمرة ... ركنت سيارتي جانبا و دخلت عبر البوابة الكبيرة المفتوحة ... كنت أسير ببطء و أراقب ما حولي ، و رأيت منزلا صغيرا في آخرها . فيما أنا أسير نحو المنزل لمحت سيدة تقف عند الأشجار ، و إلى جانبها عدة صناديق خشبية مليئة بالثمار .. كانت السيدة تقطف الثمار و تضعها في تلك الصناديق . و كانت ترتدي جلبابا واسعا و تلف رأسها بوشاح طويل ... اقتربت ببطء من السيدة و أصدرت نحنحة قوية للفت انتباهها . السيدة استدارت نحوي و نظرت إلي بتساؤل ، و من الوهلة الأولى توقعت أن تكون امرأة أجنبية ، في الأربعينات من العمر . قلت : " معذرة سيدتي ، إنني أبحث عن مزرعة السيد نديم وجيه و عائلته " قالت السيدة : " من أنت ؟؟ " أجبت : " أنا صديق قديم له ، أدعى وليد شاكر " تهلل وجه السيدة ، و قالت : " أنت صديق نديم ؟؟ " قلت : " نعم ... في الواقع كنت زميلا له في ... " و صمت ّ لحظة ، ثم تابعت : " في السجن ... " علامات الاهتمام ظهرت جلية على وجه السيدة و أخذت تحدق بي ، فخجلت و غضضت بصري ... قالت : " أنا زوجة نديم ... أحقا تعرفه ؟ " " نعم ... سيدتي و هو من دلّني إليكم " قالت : " و أين هو الآن ؟؟ ألا يزال في السجن ؟؟ " صعقت لدى سماعي هذا السؤال و رفعت بصري إليها فوجدتها تكاد تخترقني بنظراتها القوية المهتمة جدا و القلقة ... عادت تكرر بخشية : " أما زال في السجن ؟؟ " رباه ! لقد قتِل نديم قبل سنين ! ألم يخبروا أهله بذلك ؟؟ بم أجيب هذه السيدة الآن ؟؟ السيدة رفعت يدها إلى صدرها كمن يتوقع خبرا سيئا ، قرأته في عيني ... أنا هربت بعيني ... نحو أشياء عدة ... إلا أنني في النهاية عدت أواجه نظراتها الملهوفة ... و قلت بنبرة حزينة : " البقاء لله " السيدة هلعت ... و انفتحت حدقتاها على مصراعيهما و انفغر فاها ... ثم ضربت على صدرها ... و رأسها ... و صرخت : " يا ويلي " أنا كنت أريد أن ... أعتذر عن نقل خبر مفجع كهذا ... و لكني لم أعثر على الكلمات الملائمة ... كما و أنني شغلت بحالة السيدة المفجوعة ... فجأة ... ترنحت السيدة و هوت أرضا ! اقتربت منها و قلت بصوت خائف قوي : " سيدتي ! " و ظهر لي أنها فقدت الوعي ... عدت أنادي دون جدوى ... ارتبكت و لم أعرف ما أفعل ... تلفت يمنة و يسرة و لم أجد أحدا ، و ناديت بأعلى صوتي : " أيسمعني أحد ؟؟ ساعدوني ... " و لم أسمع أو أرى أي تجاوب ... لم يكن في المزرعة على ما يبدو غير هذه السيدة ... ركضت بسرعة نحو ذلك المنزل و أنا أنادي : " أمن أحد هنا ؟ أرجوكم ساعدوني " وقفت أمام المنزل ثانية ، ثم اقتحمته ! كنت أنادي و استنجد ... و كانت أبواب المنزل مفتوحة ... فجأة وصلني صوت ٌ من خلف أحد الأبواب : " من هناك ؟؟ " قلت بسرعة و اضطراب : " أسرعوا ... السيدة في الخارج فقدت وعيها " اندفع الباب منفتحا فجأة و بقوة كادت تصدّع الجدار الذي اصطدم به ، و انطلق من الداخل شهاب ٌ ذهبي ! " أمي ! " صرخت الفتاة الشقراء التي ظهرت مسرعة و ركضت مسرعة كالبرق نحو الخارج و أنا ... أتبعها ... وصلنا إلى حيث السيدة ، و بدأت الفتاة تصيح و تصرخ بذعر ... " أمي ... أمي ... ردي علي أرجوك ... " و هوت إلى جانبها تحاول إيقاظها أنا وقفت ُ مذهولا مسلوب الإرادة و التفكير ... الفتاة أخذت تنادي بصوت قوي : " خالي ... تعال بسرعة " تلفت أنا من حولي و لم أر أحدا ... نهضت الفتاة الشقراء بسرعة و ركضت مبتعدة و هي تنادي " خالي ... أسرع " يا إلهي ... هل ماتت السيدة ؟؟ إنني من تسبب في موتها ... ماذا أفعل الآن ؟؟ لحظة شعرت ُ فيها برغبة قوية في الهروب ... إلا أن رجليّ لم تسعفاني ... ظهرت الآن الفتاة الشقراء ، تمسك بيد رجل عجوز أشقر ، تجبره على الركض ، و هو لا يقوى عليه ... و أخيرا وصلا إلينا ... في نفس اللحظة التي بدأت فيها السيدة تفتح عينيها ... أقبلت الفتاة بسرعة لمساعدة أمها في الجلوس و هي تقول بفزع : " أمي ... ماذا جرى لك ؟؟ " السيدة بدت متعبة و منهارة ، وضعت رأسها على صدر ابنتها و أغمضت عينيها ... الفتاة نظرت الآن و لأول مرة نحوي أنا ! " من أنت ؟؟ ماذا حدث ؟؟ " أنا ارتبكت و بدأت أتأتئ.... الرجل العجوز اقترب من السيدة و قال : " ليندا ! ماذا جرى لك ؟؟ " قالت الفتاة : " يجب أن نأخذها إلى المستوصف يا خالي هيا بسرعة " و تعاونا الاثنان على إسنادها ... قال العجوز : " السيارة في المؤخرة ! " قالت الفتاة : " أوه كلا ! " حينها أنا تدخلت و قلت : " أيمكنني المساعدة ؟؟ لدي سيارة تقف بالخارج ... على مقربة " نظر العجوز إلى ، و كأنه ينتبه لوجودي الآن فقط ، و قال : " من أنت ؟؟ " قلت : " أنا ... وليد شاكر ... صديق نديم " الفتاة نظرت إلي باهتمام ، إلا أن والدتها تأوهت ، فأهملت الفتاة نظراتها إلي و نادت : " أمي ... تماسكي أرجوك ... " قلت : " تعالوا معي ... " و لم يتردد الآخرون كثيرا ، بل ساروا خلفي مباشرة ... وُضعت السيدة في السيارة ، و جلس الرجل العجوز إلى جانبي ، ثم ذهبت الفتاة مسرعة و عادت خلال ثواني ، و جلست إلى جانب أمها في على المقاعد الخلفية تولّى العجوز إرشادي إلى أقرب مستوصف من المزرعة ، و هناك تم إسعاف السيدة و إجراء اللازم ... الأحداث جرت بسرعة مدهشة ، حتى أنني لا أذكر بقية التفاصيل ! قال الطبيب : " نوبة قلبية ... يجب أن تنقل للمستشفى من أجل الملاحظة و العلاج " رباه ! هل تسببت ُ دون قصد ٍ مني في نوبة قلبية لزوجة صديقي ؟؟ كم أنا نادم على الحضور ... بل نادم على تذكر وصيتك يا نديم ... فعوضا عن مساعدة عائلتك هاأنا أتسبب بمرض زوجتك ! الذي حدث هو أن صحة السيدة تحسنت شيئا فشيئا ، و رفضت هي الذهاب للمستشفى و أصرت على العودة إلى البيت ... بصعوبة أقنعتها ابنتها بالبقاء بعض الوقت ، حتى تتحسن أكثر ... تُركت السيدة في غرفة للملاحظة ، و بقينا أنا و العجوز في على مقربة ... الآن تخرج الفتاة من الغرفة ، و تأتي نحونا العجوز يبادر بالسؤال : " كيف هي ؟؟ " " نائمة ، لكنها أفضل " و بعدها تنظر إلي أنا ... غضضت أنا بصري ... فسألتني : " من أنت ؟؟ " أجبت : " وليد شاكر ... كنت أحد أصدقاء السيد نديم وجيه " قالت : " إنه والدي " قلت : " نعم ... عرفت " قالت : " و لم جئت لمزرعتنا ؟ ألا تعرف أن أبي في السجن منذ زمن ؟؟ " صمت ... ما ذا بإمكاني القول ؟؟ قالت : " بم أخبرت أمي ؟؟ " و أيضا بقيت صامتا ... قالت : " والدي قُتِل ... أليس كذلك ؟؟ " رفعت نظري إليها مندهشا ... و متندما ... و أسِفا ... و كم كانت تعبيرات وجهها تنم عن القوة و الجرأة ... ثم نظرت إلى الرجل العجوز ... فرأيته هو الآخر يحملق بي ... قلت : " أنا ... آسف ... " خشيت أن تأتي ردة فعل الفتاة كأمها لكنني عجبت من هذه القوة و الصمود اللذين تملكاها ... قالت : " كنت أتوقع ذلك ... " ثم انصرفت عائدة نحو الغرفة ... بعد ذلك بدأ العجوز يستجوبني ... و سردت عليه بعض أخبار نديم و أوضاعه في السجن قبل موته ... و علمت أنهم منعوا من زيارته و لم يبلغوا بوفاته ... و كم أثار ذلك حزني و حنقي ... أبعد العذاب الذي صبوه عليه كل تلك المدة ، يقتلونه و يدفنونه ثم لا يبلغون أهله حتى بأنه مات !؟ أ تركوا العائلة تعيش مرتقبة عودته فيما هو رميم تحت الأرض ..؟؟ طال الانتظار ، و لم أعرف ... أعلي الذهاب و تركهم ؟؟ أم علي البقاء و مساعدتهم ؟ و لكنني آثرت البقاء ... من باب الأدب و الوفاء لصديقي الراحل ... بعد فترة ، اشتد علي الألم ، و التعب و بدأت أحس بالدوار ... لم أكن قد تناولت شيئا بعد تلك البوضا الأخيرة ... لذلك أحس باضطراب ... و قد لاحظ العجوز اضطرابي و وهني ، إذ كنت أسند رأسي إلى الحائط القائم خلف المقعد الذي أجلس عليه .. " هل أنت على ما يرام ؟؟ " سألني العجوز ... أجبت : " أشعر بالإعياء ... " قمت بصعوبة ، بالكاد أحمل نفسي و سرت خطى متعثرة حتى وصلت إلى عيادة الطبيب ... انهرت على السرير هناك و قلت : " أنا مرهق ... ساعدني ... " اشتد بي الدوار و بدأت أتقيأ ... عصارة ممزوجة بالدم ... بعد أربعين دقيقة من العلاج شعرت بتحسن كبير ... و شكرت الطبيب ... الطبيب سألني عدة أسئلة عرف منها عن آلام معدتي المتكررة و الدماء التي تخرج من جوفي ، فأجرى لي بعض الفحوص ثم رتب لإرسالي إلى قسم المناظير لإجراء منظرة لمعدتي ... الرجل العجوز كان يأتي للاطمئنان علي بين الفينة و الأخرى ... " أ أنت بخير يا هذا ؟ " " أنا بحال أفضل الآن . شكرا لسؤالك أيها العم ، ماذا عن السيدة ؟ " " لا تزال نائمة و يريد الطبيب نقلها إلى مستشفى أكبر ، لكن ظروفنا لا تسمح بذلك " و الآن دخلت الممرضة في الغرفة التي كنت ُ أنا فيها و قالت : " هيا يا سيد ، سنأخذك إلى قسم المناظير " الرجل العجوز نقل بصره بيني و بينها في تساؤل ، فقلت : " سأعود بسرعة " و ذهبنا إلى قسم المناظير و تم إجراء منظرة لمعدتي ... و بعد الفراغ من ذلك قال لي الطبيب : " إنها قرحة نازفة ... في معدتك أيها السيد " خمس ساعات مضت و نحن في ذلك المستوصف ، ننتظر تحسن السيدة زوجة نديم كي نغادر وصف لي الطبيب أدوية اقتنيتها من صيدلية مجاورة ، بسعر باهظ ... كما و أنني دفعت مبلغا كبيرا نسبيا من أجل مستحقات الطبيب و الفحوص و المنظرة أتساءل ، أي مبلغ خسرت عائلة نديم يا ترى ؟؟ أقف الآن عند المخرج ، و أرى الفتاة ابنة نديم تدفع كرسي العجلات الذي تجلس عليه والدتها ، و إلى جانبهم العجوز الطيب . حينما صاروا قربي ، انطلقت نحو السيارة و أنا أقول : " من هنا رجاءً " أخذ الثلاثة يتبادلون النظرات ، ثم نظروا إلي ... في أعينهم كانت آثار الدموع واضحة ، كما علامات الحيرة و التردد ... قلت : " سأوصلكم إلى المزرعة ... إن لم يكن لديكم مانع ؟؟ " وصلنا إلى المزرعة و طلب مني العجوز أن أوقف السيارة في الداخل ، إمام المنزل مباشرة قام الاثنان بمساعدة السيدة على السير حتى دخلوا المنزل ، و أنا واقف أراقب إلى جانب سيارتي ... بعد قليل حضر العجوز و ناداني : " تفضل بالدخول يا ... ما قلت اسمك ؟ " " وليد ... وليد شاكر أيها العم " " تفضل يا وليد شاكر " ترددت قليلا ، إلا أنني آثرت البقاء معهم لبعض الوقت ، إذ لابد أنهم يودون معرفة شيء من تفاصيل موت نديم ، رحمه الله المنزل كان صغيرا و بسيطا ، و أثاثه عادي و قديم ، ما يعطي الزائر انطباعا عن المستوى المادي البسيط الذي تعيش به هذه العائلة الصغيرة . أخذني العجوز إلى الصالة الرئيسية في المنزل ، و بعد أن جلست بدأ يرحب بي ... " أهلا بك ... نحن شاكرون لك صنيعك النبيل " قلت : " لا داعي لأي شكر أيها العم ، لم أفعل شيئا " قال : " و كيف تشعر الآن ؟؟ هل تحسنت ؟؟ " " كثيرا و لله الحمد ، كل ما في الأمر أنني قضيت ساعات طويلة بلا نوم و لا طعام لذا داهمني الدوار و الإعياء ! " قال : " نعم أجل ... الطعام " و نهض و ذهب إلى غرفة مجاورة ، و عاد مع الفتاة ... الفتاة ألقت تحية علي ، و نطقت ببعض كلمات الترحيب ، ثم استأذنت ... و أخذنا أنا و العجوز نتحدث عن أمور متفرقة ، أتى ذكر نديم و مأساة وفاته في معرضها ... " لقد كنا نتوقع ذلك ، فجميع من سجنوا معه بلغتنا أنباء وفاتهم ، كل هذه السنين و نحن لسنا على يقين من حياته أو موته ... ليندا لم تفقد الأمل في عودته ذات يوم " كم شعرت بالأسى ... لأجل هذه العائلة البائسة ... التي عاشت محرومة من معيلها كل تلك السنين ، و بعد كل هذا الانتظار تكتشف أنه مات ! كيف يفعلون هذا ؟؟ يسجنونه و يعذبونه و يقتلونه ، ثم لا يخبرون أهله بأنه مات ؟؟ قلت : " يوم وفاته ... طلب مني نديم أن أزور عائلته و أطمئن على أحوال أهله ... كان ذلك قبل سنين ... أربع تقريبا ... إلا أنني ... " العجوز كان يراقبني باهتمام شعرت معه بالخجل ، و برغبة في الاختفاء في الحال ! قال : " هانحن نعيش حياتنا و الحمد لله .. أدعوه أن يحفظ لي صحتي و قوتي لأرعى أختي و ابنتها " و هنا دخلت ( ابنتها ) تحمل صينية ملأى بالطعام ... وضعت الصينية على الطاولة الماثلة أمامي و عادت ترحب بي ... ثم قالت : " تفضل يا سيد وليد " و انصرفت شعرتُ بالخجل ... فأنا وسط عائلة غريبة علي ... أناس لم يسبق لي رؤيتهم قبل اليوم ... و هم على ما يبدو كرماء ! " تفضل يا بني ... طعام خفيف لحين موعد العشاء " دهشت ! قلت : " العشاء !؟ " " نعم .. فأنت ستتناول عشاءك معنا هذه الليلة " " أوه كلا ... إنني ... إنني سأنصرف بعد قليل " و أصر العجوز على استضافتي ليس فقط على العشاء ، بل و للمبيت عندهم هذه الليلة ! العشاء كان لذيذا جدا ، علمت أن الفتاة هي التي أعدته ! كما علمت أن حالة السيدة قد تحسنت كثيرا ، و لذا فإنها و ابنتها كذلك شاركتانا الجلسة و الأحاديث بعد الوجبة . الثلاثة يبدون متشابهين في المظهر ! جميعهم من السلاسة الشقراء ! السيدة كانت تمطرني بالأسئلة عن نديم و ما حصل معه ، و أنا أحاول الإجابة بالقليل الذي لا يسبب لها انتكاسة ، إلا أنها مع ذلك أخذت تبكي ، و تبعتها ابنتها ... قالت الابنة بانفعال و هي لا تملك منع نفسها عن البكاء : " أرجوك يا أمي توقفي عن البكاء ... كنت تعرفين أنه لن يعود ... جميعنا نعلم أنهم و لا شك قتلوه ... الظلمة القساة الحقرة ... الأوغاد المجرمون ... احرقهم يا رب جميعا ... انتقم منهم فأنت العزيز ذو الانتقام ... و افعل بهم ما فعلوه بنا ... و أفظع " أما أنا فقد كنت أردد دعوتها عليهم في صدري ... يا رب انتقم منهم جميعا ... عاد بي شريط الذكريات إلى سنين السجن ... و عذاب السجن ... و الزنزانة ... و الطعام الرديء ... و الأسرّة المهترئة ... و الحشرات ! ... و الرائحة العفنة ... التي اختزنت في ذاكرة أنفي ! أكاد أشمها ! رفعت يدي إلى أنفي كمن يريد منع رائحة كريهة من التسلل إلى تجويف أنفه ، فلامست أصابعي الحفرة الصغيرة التي تركها السجن علامة عليه ... شعرت بنار تتأجج في صدري ... نار كنت أخالها قد خمدت بعد هذه الشهور التي قضيتها خارج السجن ... إلا أنني ... و أنا أرى المناحة و البؤس و الدموع المنسكبة من أعين الأرملة و اليتيمة ... و أتذكر نديم و هو يحتضر ... و الكدمات و الجروح التي كانت تغطي جسمه أكثر من شعيرات جلده ... عقدت العزم على ألا تواتيني فرصة للنيل منهم إلا و اقتنصتها ... و من خلال الساعات التي قضيتها في تبادل الأحاديث معهم ، شعرت بقربي لهم و قربهم مني ... و كأنني وسط عائلتي ، و كأنني أعرفهن من سنين ... لقد ألفت ُ هذه العائلة و أحببتها في الله ! في اليوم التالي ، و رغم أنني نمت باكرا كما نامت العائلة ، استيقظت قرابة الساعة الحادية عشرة ... كنت قد نمت في غرفة صغيرة في الطابق السفلي للمنزل مفترشا فراشا أرضيا بسيطا و ملتحفا ببطانية ثقيلة . على الأقل ، وفرت كلفة ليلة واحدة كنت سأبيتها في فندق أو ما شابه ... نهضت و خرجت من الغرفة و أنا أتنحنح ... بعد قليل ، كنت أقف في الصالة الرئيسية وحيدا ، تلفت من حولي فلم أشعر بأي حركة توحي بوجود كائن حي على مقربة مني ! مضيت نحو المخرج ، و خرجت من المنزل راغبا في استنشاق الهواء العليل العابق برائحة الأشجار و الزهور ... كم كان منعشا و باعثا للنشاط ! أخذت أتجول سيرا حول المنزل و في ممرات المزرعة ... و أتأمل الجمال الطبيعي من حولي ، و أستمع إلى غناء العصافير و أشاهد استعراضاتها الجميلة في السماء ... المكان كان غاية في الروعة ... و أي امرئ يقضي هنا سويعات معدودة ، لا شك أنه سيخرج بنفس مبتهجة و نفسية مرتاحة ! فيما أنا أسير ... وجدت السيدة و الفتاة على مقربة ... كانتا ترتديان ملابس سوداء ... ربما حدادا على تأكيد موت نديم ، رحمه الله ... و كانتا تسحبان صناديق مليئة بالثمار ... تجرانها جرا ... إلى حيث تقف سيارة حوض زرقاء ، يعلو حوضها الرجل العجوز ،و يقوم بترتيب صناديق الثمار المكشوفة ، التي ترفعها السيدة و الفتاة متعاونتين و تضعانها في الحوض . تفعلان ذلك ، ثم تعودان لجر المزيد من الصناديق ... اقتربت من السيارة و ألقيت التحية على العجوز المنهمك في ترتيب الصناديق ، و يبدو أنه لم يسمع ! تبعت السيدتين إلى حيث وجدت مجموعة من الصناديق المليئة بالثمار تنتظر دورها للشحن في السيارة ... و هاهما تسيران نحوي و تجر كل واحدة منهما صندوقا جديدا ... " صـ باح الخير " حييتهما فتركتا الصندوقين و ردتا التحية ، ثم قالت السيدة : " هل نمت جيدا ؟ أتمنى ألا يكون الفراش قد أتعبك ؟؟ " قلت : " على العكس ... نمت بعمق ... شكرا لكم جميعا " السيدة قالت مخاطبة ابنتها : " أروى اذهبي و أعدي الفطور لضيفنا " الفتاة نظرت إلى الصندوق ثم إلى أمها و قالت : " حسنا " و همت بالذهاب ... أنا قلت : " شكرا لكن لا داعي لذلك ... لا أشعر بالجوع الآن " قالت السيدة : " بلى ! سيكون فطورك جاهزا خلال دقائق ، و معذرة فأخي مشغول الآن لكن تصرف بحرية " ثم التفتت إلى الفتاة و قالت : " هيا أروى " الفتاة ذهبت في طريقها إلى المنزل ... و السيدة تابعت سحب صندوقها ... سرت أنا نحو الصندوق الآخر ، و حملته و نقلته إلى حوض السيارة ... فيما هي لا تزال تجر صندوقها ! الآن انتبه العجوز إلي ! " صباح الخير أيها العم " " أوه ! شاكر ... نهضت إذن ! لابد أنك كنت متعبا جدا ! صباح الخير " وضعت الصندوق في السيارة و قلت : " كنت ، لكنني الآن بحالة ممتازة و الحمد لله . شكرا لكم . اسمي وليد أيها العم !" سحب العجوز الصندوق ليصفه بنظام قرب أخوته ثم قال : " أجل تذكرت ! وليد . سآخذ هذه إلى السوق ، أتفضل انتظاري أو مرافقتي ؟ " نظرت ناحية السيدة المقبلة تجر الصندوق ، ثم إلى العجوز و قلت : " أفضل مساعدتكم ! " ثم بدأت بنقل الصناديق واحدا تلو الآخر ... و طلبت من العجوز أن يطلب من السيدة أن ترتاح ، فقد عاشت أزمة قلبية يوم أمس ! أقبلت الفتاة بعد ذلك ، و رأتني أحمل أحد الصناديق ... فتعجبت ! ثم قالت : " طعامك جاهز أيها السيد ... تفضل إلى المنزل " و مضت نحو ما تبقى من الصناديق و جرّت أحدها ... وضعت ما بيدي في حوض السيارة ، و عدت ناحية الصناديق ... كانت الفتاة تجر صندوقها بجهد ... قلت : " دعي الأمر لي سيدتي أستطيع نقلها جميعا وحدي دون عناء " فتركت صندوقها و تنحت جانبا ، فحملته و نقلته إلى السيارة ، و سارت هي من بعدي حتى صارت واقفة إلى جوار والدتها ... انتهيت من مهمتي ، فشكرني الجميع ثم قالت السيدة الأم : " لقد برد فطورك ! أرجوك تفضل لتناوله " شعرت بالخجل ، و نظرت نحو الأرض بحياء ، فنادت السيدة على العجوز " إلياس ... تعال لتكرم ضيفنا ! " نزل العجوز أرضا ، و رافقنا نحو المنزل ... هناك جلست عند المائدة أتناول فطوري الشهي ، و إلى جانبي العجوز يشرب الشاي ، بينما السيدة و ابنتها تراقباننا عن بعد و تتابعان أحاديثنا ! في معرض الحديث ، قال العجوز : " ليتني أعود لمثل شبابك و قوتك ! اخبرني ... ماذا تعمل ؟؟ " توقفت عن مضغ اللقمة الموجودة في فمي ، و ابتلعتها كما هي ! قلت : " في الواقع أيها العم الطيب ... أنا عاطل عن العمل ! " دهش العجوز ، فأخبرته بأن تخرجي من السجن حال دون قبولي في الوظائف التي حاولت الالتحاق بها ، و أخبرته إنني هنا في المدينة الشمالية للبحث عن عمل ... قال : " شبّان هذه الأيام يحبون الوظائف المكتبية و الإدارية التي لا تتطلب منهم سوى الجلوس و تقليب الأوراق ! سيصعب عليك العثور على وظيفة كهذه في هذه المدينة ! " قلت : " سأجرب ! فإن فشلت ، عدت ُ من حيث أتيت ! " قال : " إذن ... ما هي خطتك الآن ؟؟ " قلت : " سأذهب إلى قلب المدينة ، استأجر شقة صغيرة ، و أبحث عن وظيفة ... عسى الله أن يوفقني هذه المرة " بعد ذلك رافقت العجوز إلى السوق ، حيث قام ببيع الثمار على أحد تجار الخضار و الفاكهة ، ثم عدنا إلى المزرعة .... حينما وصلت ، و فيما أنا في طريقي إلى سيارتي ، لمحت السيدتين واقفتين عند الأشجار ، تقطفان الثمار و تجمعانها في السلات و الصناديق ... نظرت إلى العجوز السائر جواري و قلت : " ألا يساعدكم أحد في العناية بهذه المزرعة ؟؟ " قال : " كلا ! نحن الثلاثة من يعتني بها ، لكننا نستأجر بعض العمال لقطف الثمار أو التنظيف أو ما إلى ذلك من حين لآخر ! " يا للحياة الشاقة التي تعيشها هذه العائلة ! لو تعلم يا نديم ... ! قلت : " دعوني أساعدكم قبل المغادرة ! " و بدأت العمل ! قطفنا كميات كبيرة من الثمار ، و وزعناها على الصناديق ، و تركناها قرب بعضها البعض ، لحين الغد ، حيث سيتم نقلها إلى السيارة من جديد ... بعد ذلك قمنا بجمع الأوراق و الثمار المتساقطة و تنظيف الأرض ! كل ذلك استغرق منا ساعات من العمل ، و كلما حاول العجوز ثنيي أو الاعتذار ، قلت له : " هذا واجبي ، و نديم يستحق أكثر من ذلك " بعد ذلك ، دخلنا إلى المنزل و من ثم تناولت وجبة الغداء المتأخرة مع العجوز الطيب ... ، شكرته على حسن ضيافته و وعدته بالعودة لزيارتهم كلما أمكنني ... و خرجت من المنزل و ركبت سيارتي الواقفة أمام المنزل ، و سرت بها ... عبرت على مجموعة الصناديق ، و فكرت ... في العناء الذي ستلاقيه السيدتان غدا في نقلها إلى السيارة الزرقاء ... غدا و بعده و كل يوم ... اعتقد أن من واجبي تقديم المزيد من المساعدة لهذه العائلة التي أوصاني صديقي الراحل بها خيرا أوقفت السيارة و عمدت إلى الصناديق و جعلت انقلها إلى السيارة الزرقاء المركونة على مقربة ، واحدا تلو الآخر ... دون علم أحد ! الشمس كانت على وشك المغيب ... لم أكن أشعر بأي تعب أو إعياء يذكر ، كما و أن آلام معدتي قد اختفت تقريبا بعد العلاج السحري الذي وصفه لي الطبيب ! أو ربما العلاج السحري في هذه المزرعة الجميلة و مناظر الطبيعة الخلابة ، و الهواء المنعش ... كم أنا سعيد لأنني استطعت خلال الساعات الماضية طرد آلامي الجسدية و النفسية ... و أفكاري المهمومة ... بما فيها الخائنة رغد ! رغد ... ما تراك تفعلين الآن ؟؟؟ و ما تراك فعلت ِ بعد علمك برحيلي ؟؟ ما تراك فاعلة إن علمت ِ أنني لن أعود إليك مرة أخرى ... و أنني في سبيل الابتعاد عنك مستعد لهجر أهلي للأبد ؟؟؟ " ماذا تفعل ! " روعتُ فجأة حين سمعت صوتا آت ٍ من خلفي ، و استدرت بفزع ! كانت ابنة نديم ! كنت أحمل الصندوق على ذراعي و أسير نحو السيارة الزرقاء ، و أفكر برغد ! ثم وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه ، أمام ابنة نديم ... تنظر نحوي بدهشة ! تتأتأتُ في الحديث ، قلت : " أأأ ... فكرت في ... بما أنني لازلت هنا ... يمكنني المساعدة قبل ... معذرة فأنا لم أقصد سوءا ! " و خفضت بصري نحو الأرض ... شعرت بثقل الصندوق فوق يدي ، فرفعته أكثر ، ثم اعتذرت ، و ذهبت إلى السيارة لأضعه فيها ... الفتاة تبعتني ، و أخذت تنظر إلى الصناديق الموضوعة في السيارة بتعجب ! قالت : " لم كلّفت نفسك عناء كل هذا !؟ لم يكن واجبا عليك ذلك ! " قلت : " بلى ... من واجبي و من دواعي سروري أيضا ! نديم كان صديقي الحميم في السجن ... ليتني أملك أكثر من هذا لأفعله من أجله ... و أجل عائلته " الفتا قالت بعد صمت قصير : " شكرا لك ... أنت رجل نبيل " و صمتت تارة أخرى ، ثم قالت : " لماذا دخلت السجن ؟؟ " و لما لم تجد مني جوابا ، قالت : " اعتذر ... تجاهل سؤالي إن كان يزعجك ... " أنا كنت في غاية الاضطراب ، هناك مواقف كثيرة في الحياة لا أعرف التصرف حيالها ، و هذا أحدها ! سرت إلى الصناديق و تابعت عملي بصمت و هدوء ، و إن كان داخلي متوترا مضطربا ، و الفتاة واقفة على مقربة ! متى تنقشعين !؟ يبدو أنها امرأة قوية و جريئة ! ربما لأن أمها ـ و كذلك خالها ـ من أصل بلدة أخرى ... ذات طباع و شخصيات أخرى ... غريبة و مختلفة عما تعودت أنا عليه ! بعد فراغي من نقل الصناديق ، قالت لي : " شكرا لك يا سيد وليد ... والدي يعرف كيف يختار أصدقاءه ... " قلت بخجل : " العفو ... سيدتي " ثم ابتعدت و أنا أقول : " مع السلامة " ~ ~ ~ ~ ~ " وقعت ِ أخيرا ! " صاحت نهلة بصوتها العالي و هي تشير بإصبعها نحوي ، و تضيق الحصار علي ! تلفت من حولي و قلت : " نهلة أرجوك ! اخفضي صوتك ! لابد أن أمي تسمعه في المطبخ ! " نهلة أقبلت نحوي و هي لا تزال تمد بسبابتها نحوي حتى تكاد تفقأ عيني ! قالت بحدة و مكر : " اعترفي يا رغد ... لن يجدي الإنكار أو المواراة ! أنت مهووسة بابن عمّك ! " مددت يدي و أمسكت بعنقها و ضغطت عليه ! " سأخنقك ِ يا نهلة ّ " نهلة الأخرى طوقت عنقي بيديها و قالت تمثل دور المخنوقة : " سأنطق بالحق حتى النفَس الأخير ... رغد تحب ابن عمّها وليد... دون أن تدرك اللهم إني بلّغت ، اللهم فاشهد ! " و بالفعل كدتُ أخنق هذه الفتاة ! طرقُ على الباب منع جريمتي من الوقوع ! تركت عنق ابن خالتي و مضيت ُ لفتح الباب ... كانت دانه ! " رغد ... وليد على الهاتف ! إن كنت ِ ترغبين بإلقاء التحية ! " حدّقت ُ بها لثوان شبة واعية لما قالت ، ثم انطلقت مسرعة إلى حيث كانت والدتي تمسك بسماعة الهاتف و تتحدث إلى وليد ... عندما رأتني أمي قالت له : " بني ... هذه رغد ترغب في التحدث معك " و مدت السماعة إلي ... أخذت السماعة و ألصقتها في إذني و فمي ! بقيت صامتة لثانيتين ، ثم قلت : " وليد ؟؟ " أستوثق من كونه هو من على الطرف الآخر ... صوت وليد وصلني خافتا مترددا و هو يقول : " مرحبا ... صغيرتي " بمجرد أن سمعت صوته ، انفجرت ! قلت بصرخة منطلقة مندفعة قوية حادة مجنونة : " كذّاااااااااااااب " و أعدت السماعة بسرعة إلى والدتي ، و جريت نحو غرفتي ، و صفعت الباب و أوصدته بانفعال ! نهلة أخذت تنظر إلي بذهول و استغراب ... " رغد !؟؟ " صرخت بانفعال ... " رغد تكره وليد .... أفهمت ِ ؟؟ تكرهه ... تكرهه ... تكرهه " و لم أتمالك منع دموعي من الانسياب بغزارة من محجري ... و مضيت إلى سريري فجلست و سحبت الوسادة ، و غمرت وجهي فيها ... حتى كدت اختنق ! بعد قليل ، نهلة ربتت على كتفي و قالت : " نعم ... مفهوم " تتمه أبعدت أنا الوسادة عن وجهي و تنفست الصعداء ... و سمحت لنظرات نهلة باختراقي مباشرة ... الدموع كانت تجري بانسياب مبللة كل ما تصادفه في طريقها ... " عزيزتي ... " ما أن قالت نهلة ذلك حتى انهرت تماما ... و رميت برأسي في حضنها و طوقتها بذراعي باستسلام و أسى ... قلت و أنا في غمرة الحزن ... في لحظة صدق و اعتراف " لماذا رحل دون وداعي ؟؟ لماذا كذب علي ؟؟ لماذا كذبوا كلهم علي ؟؟ أخبروني بأنه لن يعود ... لكنه عاد ... لكنه تركني ... لم يعد يهتم بي ... لأنني سأتزوج سامر ... لكني لا أحب سامر ... لا أحبه ... " و أبعدت ُ وجهي عن حضنها و نظرت إليها باستنجاد مرير ... " نهلة ... أنا ... لا أحب سامر ... أنا ... لا أريد أن أتزوج منه " نهلة وضعت يدها بسرعة على فمي لكتم كلماتي ، و تلفتت ، ثم عادت تنظر إلي ... قالت : " اخفضي صوتك ... " شعرت باليأس و فقدِ الأمل ... و طأطأت برأسي أرضا باستسلام لحكم القدر ... كيف لي أن أقول هذا ... و لا تفصلني عن موعد الزفاف غير أسابيع ؟؟ لا يحق لي حتى مجرد التفكير ... فقد قضي الأمر ... و انتهى كل شيء ... بعدما هدأت من نوبة بكائي ... و لزمت و نهلة الصمت لعدة دقائق ، قالت هي : " رغد ... لم يفت الأوان بعد ... دعي أمي تتدخل و توقف هذا الزواج في الحال " هززت رأسي نفيا و اعتراضا و قلت بعدها : " لا ... كلا كلا ... نهلة إياك و الإقدام على هذا ... " " لكن يا رغد ... " " أرجوك نهلة ... لا تفسدي علي الأمور ... لقد فات الأوان ... و انتهى كل شيء ... لا تضعيني في موقف كهذا مع أمي و سامر و الجميع ... " نهلة أمسكت بيدي و قالت : " لكن... أنت لا تحبين سامر ! إنك لا ترغبين في الزواج منه ! كيف تربطين مصيرك به ؟ " " قدري و نصيبي " " و وليد ؟؟ " وقفت ببطء ... و استسلام ... و أنا أتذكر تلك الليلة ، حين وعدني و أقسم بألا يرحل دون علمي ، ثم نقض الوعد و القسم ... مستغفلا إياي بعلبة بوضا ! قلت : " لم يعد له وجود ... أو داع للوجود " طُرق الباب مجددا ، فتوجهت لفتحه فإذا بها أمي ... أمي حملقت في عيني المحمرتين برهة ثم قالت : " رغد ... أهناك شيء ؟؟ " واريت أنظاري تحت الأرض ، و قلت : " لا ... لا شيء " و حين رفعت نظري إليها وجدتها تنظر إلي بتشكك ... هربت من نظراتها و نظرت إلى ابنة خالتي ... و التي بدورها قالت : " يجب أن أذهب الآن ... " و ذهبت إلى المرآة ترتب حجابها و عباءتها ... قلت : " نهلة ! كلا لن تذهبي الآن ! " قالت : " لدى سارة دروس تستصعبها و هي تنتظرني لتعليمها الآن ! ... " قالت أمي : " لا يزال الوقت مبكرا ... ابقي للعشاء معنا " ابتسمت نهلة و قالت و هي تحرك يدها عند نحرها : " ستذبحني سارة إن تأخرت أكثر ! " رافقتها إلى الباب الخارجي ، و قلت لها قبل أن تنصرف : " نهلة ... لا تذكري ما دار بيننا على مسمع من أحد ... أرجوك " نهلة ابتسمت ابتسامة مطمئنة ، ثم غادرت ... عندما عدت إلى غرفتي وجدت دانة هناك ! ما أن رأتني حتى بادرت بسؤالي : " بربك رغد ! ماذا تقصدين من تصرفك الأحمق هذا ؟؟ لقد كادت السماعة أن تتصدع من صرختك ! أخشى أن تكوني قد أحرقت الأسلاك بين المدينتين ! " لم يكن لدي مزاج مناسب للجدال مع دانة هذه الساعة ، قلت بنفس ٍ متضايقة: " أخرجي دانة ، أريد البقاء وحدي " دانة نظرت إلي باستنكار ، ثم قالت : " لا تطاقين يا رغد ! متى أتزوج و أتخلص منك ! " ثم مضت مغادرة ، و قبل أن تخرج قلت : " قريبا يا ابنة عمي ... ماذا بعد ؟؟ أهذا يكفي ؟؟ " و صفعتُ الباب خلفها ... اعتقد أن تصرفاتي لم تكن لائقة لهذا اليوم ، بل و منذ رحيل وليد و أنا في حالة عجيبة ... عصبية دائما ، حزينة دائما ، ضائقة الصدر ... منعزلة في غرفتي ... فاقدة الاهتمام بأي شيء من حولي حتى الرسم ... و مع مرور الأيام ازدادت حالتي سوءا ... و بدأ العد التنازلي لموعد الزفاف ... لموعد النهاية ... لموعد الحلقة الأخيرة من مسلسل حياتي التعيسة ... لو كان لي أم ... لو كان لي أم تخصني أنا ... لا تكون هي أم سامر ... لكنت أخبرتها بكل ما يختلج صدري من مشاعر ... لكنت أخبرتها بما أريد و ما لا أريد ... أمي هذه ، أم سامر خطيبي ... العريس المتلهف للزفاف ، و إن حاولتْ التحدث معي ، أتحاشاها و اخفي في صدري ما لم أعد قادرة على كتمانه ... كيف لي أن أخبرها بأنني لا أريد أن أتزوج من ابنها ، الذي خطبت ُ له منذ أربع سنين !؟ كيف سيكون موقفي من سامر ... و أبي ...و الجميع ... و لماذا أفعل هذا بهم ؟؟ أيكون هذا جزاء من آووني و رعوني كل هذه السنين ، التي لم أشعر فيها أبدا بأنني يتيمة الأبوين ...؟؟ عدا عن ذلك ... فأي رجل سأتزوج ما لم أتزوج سامر ؟؟ من سأعطيه ثقتي المطلقة مثله ... ؟ حسام الذي لا يختلف عنه كثيرا ؟؟ أم ... وليد ...الذي ... الذي ... لم أعد أعني له شيئا ...؟؟ وليد ... الكذاب ! ~ ~ ~ ~ كذاب ! كلمة قاسية هزتني و أربكتني حتى كدت معها أوقع هاتفي من يدي ... لها الحق بنعتي بهذه الصفة .. ألم أعدها ألا أرحل بدون علمها ثم رحلت ؟؟؟ لكن لماذا تأثرت ْ هي كثيرا من ذلك ؟؟ ماذا كان يفرق لديها ... بقائي من رحيلي ؟؟ أم تظنني سأبقى أرعاها و أدللها كما كنت في السابق ، فيما هي زوجة لأخي ! الخائنان ! كنت في سيارتي في طريقي إلى الشقة الصغيرة التي استأجرتها ، و دفعت مبلغا لا بأس به لأجل ذلك ، على الرغم من نقودي المحدودة التي تتضاءل يوما بعد يوم . بحثت جاهدا عن وظيفة في هذه البلدة ، و كلما صادفت أعلانا عن وظيفة شاغرة في الصحف بادرت بالاتصال ، رغم أنني لا استوفي شيئا من الشروط المطلوبة ... كانت أيام سبعة قد انقضت منذ وصولي إلى هذه البلدة ، و هي فترة قصيرة طبعا ، إلا أنني شعرت بملل و وحدة قاتلين ... و فكرت في العودة إلى مزرعة نديم ! إنني أشعر بأن أهل نديم هم أهلي ... و إن لهم حق واجب علي ... و علي تأديته ... لذا ، فإنني غادرت الشقة ، ذهبت إليهم ... في اليوم التالي . عندما وصلت ، كانت ابنة نديم هي أول من التقيت به ... الفتاة كانت جالسة بين مجموعة من الصناديق الخشبية ، منهمكة في إصلاح و تجبير كسورها بالمطرقة و المسامير ! ألقيت التحية فلم تسمعني ، فعدت أحيي بصوت مرتفع فانتبهت لي ... رمت الفتاة بالمطرقة جانبا و نهضت واقفة و قالت : " مرحبا بك أيها السيد النبيل ... " هبطت ببصري أرضا و قلت : " كيف أحوالكم ؟ " " الحمد لله . ماذا عنك ؟ " " بخير سيدتي . ... هل العم إلياس موجود ؟ " " خالي ذهب لجلب بعض الأشياء ... سيعود قريبا ... تفضل " و أرادت مني أن اتبعها إلى المنزل ، لكنني قلت : " سوف أنتظر العم ... إذا لم يكن في ذلك ما يزعجكما ؟ " قالت : " لا بأس ، أهلا بك ... سوف أخبر والدتي عن مقدمك " و ذهبت مسرعة إلى المنزل ... أنا جعلت أتأمل طابور الصناديق المكسورة التي تنتظر دورها في التجبير ! إنها مهمة شاقة لا تناسب المرأة ! أليس كذلك ؟؟ بعد قليل أتت السيدة الأم مع ابنتها ، ترحب بي بحرارة و كأنها تعرفني منذ زمن ! شعرت بالخجل من ذلك ، و لكن يبدو أنه وضع مألوف لدى هذه العائلة الغريبة ! قلت و أنا أنظر ناحية الصناديق : " دعاني أتولى ذلك " طبعا السيدتان اعترضتا ألا أنني قلت : " ريثما يعود العم إلياس " و رغم أنها المرة الأولى التي أقوم فيها باستخدام المطرقة و المسامير ، ألا أنني أتقنت العمل ! في الواقع ، شعرت بالخزي من نفسي ... فأنا عاطل عن العمل أتسكع في المدن و الشوارع ، بينما تقوم فتاة شابة في العشرينات بإصلاح كسور صناديق خشبية ، و قطف الثمار ، و حمل الصناديق الثقيلة ، و الحرث و الزرع و ما إلى ذلك ... أمر مخز بالفعل ! بعد قليل وصل العم إلياس و ما أن رآني حتى أسرع نحوي يريد أخذ المطرقة مني يدي ... قلت : " مرحبا أيها العم الطيب ! لا تقلق ... إنه عمل يسعدني كثيرا ! " اعتقد أنه شعر بالخجل ، و رحب بي بحرارة تفوق حرارة ترحيب الأخريين ، و تمتم بعبارات الشكر و بسيل من الدعوات و الأماني ! أنهيت عملي خلال ساعة ... أمطرني الجميع بكلمات الشكر اللانهائية ... شعرت حينها بأنني شخص ذو قيمة و أهمية و قدرة على العمل و إفادة الآخرين ... بعد شهور التفاهة و البطالة و التشتت التي قضيتها ... قال العجوز : " أعطاك الله القوة و الصحة يا بني ، آمل أن تكون قد وفقت في العثور على وظيفة تلائمك ؟؟ " قلت : " ليس بعد ! " قال : " إذن ؟؟ " قلت : " هل ... أجد عندكم عملا مقابل المأوى و الطعام فقط ، إلى أن أجد وظيفة ملائمة ؟؟ " ستة أسابيع مضت منذ أن اقتحمت عالم الفلاحة ، و أصبحت مزارعا ! شيء لم أكن أحلم به أو أتخيله حتى يمر ببالي مرورا عابرا ... فقد كنت أحلم بأن أصبح رجل أعمال مهم ... مثل صديقي سيف ... في كل صباح ، كنت أقوم بحرث الأرض ، و زرع البذور ، و قطف الثمار و تنظيف المزرعة ، و إصلاح كل مكسور ، الصناديق ... أنابيب المياه ، الأغصان ! و قبيل الظهيرة أذهب لبيع ثمار اليوم في سوق الفاكهة ، و حين أعود أتابع العمل في هذا الشيء أو ذاك ... عمل شبه مستمر حتى غروب الشمس ... وجباتي الثلاث كنت أتناولها إما مع العم إلياس أو في الغرفة الجانبية التي خصصت لي ، خارج المنزل ... رغم أنه كان عملا شاقا ألا أنني سررت به كثيرا بل و وجدت فيه ذاتي التائهة ... و تعلقت بعائلتي الجديدة كما تعلقت هي بي ... أما عن صحتي ، فقد تحسنت كثيرا مع تحسن نفسيتي ، و اختفت الآلام تقريبا و كسبت عدة أرطال من الوزن ! و أفضل ما في الأمر ... أنني تقريبا أقلعت ُ عن التدخين ! اليوم تلقيت اتصالا من والدي يخبرني فيه بأنه و أمي سيسافران لأداء الحج بعد الغد ، و يرغبان في رؤيتي ... أمر يتطلب مني العودة إلى المنزل رغما عني ... أمر ٌ و إن كان صعبا فإن علي تحمله من أجل رؤيتهما ... ليلة واحدة فقط ثم أرحل عن ذلك المنزل و من به ! هكذا كان تفكيري قبل أن يقول أبي : " و لأن سامر لا يستطيع أخذ إجازة لكونه حجز أجازته بعد عودتنا من أجل الزواج ، فلا بد من بقائك هنا حتى نعود ! " قلبت الأفكار في رأسي و وجدتها مهمة يصعب علي تحملها ، فقلت : " لا أستطيع ذلك يا أبتي ... سآتي من أجل تحيتكما فقط ... " قال : " و من يبقى لرعاية المنزل و الفتاتين إذن ؟؟ " أنا ؟؟ أ أعود أنا لأرعى تلك الخائنة من جديد ، و أعيش معها أيام استعدادها للزفاف ؟؟ لم تبق غير أسابيع ثلاثة عن ذلك الموعد المشؤوم ! إنني أفضل السفر إلى المريخ أو المشتري على العودة إليها ... ومشاهدتها عروسا تودع العزوبية ! " لا يمكنني ... يا أبي ... " " في حال كهذه ... لا أملك غير تأجيل حجي للعام المقبل ! " " أوه كلا أبي ... مادمتما قد عقدتما العزم ... فتوكلا على الله ! " " و الفتاتان ؟؟ أ أتركهما وحدهما في البيت ؟؟ مستحيل طبعا " أشياء كثيرة تبدو مستحيلة جدا ، ألا أنك حين توضع في وجه التيار ، تجد نفسك مضطرا لتنفيذها رغما عن أنفك ، مستقيما كان أو معقوفا ! خلاصة القول ، رضخت للأمر ... و وافقت على العودة إلى جهنم ... كنت أرتب أشيائي في حقيبة سيارتي حين أقبل العم و معه الآنسة أروى ، ابنة نديم و وقفا يراقباني ... قال العم : " نحن محزونون لفراقك ... أرجوك أن تعود إلينا من جديد فوجودك عنى الكثير " ابتسمت له بفرح ، و قلت : " بالطبع سأعود يا عمي ، إن شاء الله ... ما أن يعود والداي من الحج حتى أوافيكم من جديد ... هنا عملي و في أي قطر من أقطار الأرض لن أجد الراحة كما أجدها هنا " و هي حقيقة أدركها ... تماما قالت أروى : " نتمنى أن تحضر عائلتك لزيارتنا ذات يوم ! هلا ّ فعلت ؟؟ " قلت : " سأرى ما إذا كان ذلك ممكنا ... " قالت : " أ لديك شقيقات ؟؟ " قلت : " نعم ، واحدة فقط ، و شقيق واحد فقط أيضا " قالت : " أحضرها لزيارتنا ذات يوم ... سيعجبها المكان كثيرا " " أنا واثق من ذلك ... " و أغلقت حقيبة سيارتي ، ثم فتحت الباب و قلت مودعا : " نلتقي على خير إن شاء الله بعد أسبوعين ... دعوا الأعمال الشاقة لأنجزها حين أعود " و ابتسم العم ، و كذلك ابتسمت أروى ... ثم لوّحت بيدها مودعة ... ! أروى نديم ... فتاة قوية ... شخصية مميزة تستحق التقدير ... ! ~ ~ ~ ~ ~ ~ أجلس أمام التلفاز في غرفة الضيوف أشاهد برنامجا ترفيهيا ، عل ّ ذلك يفيد في طرد الأفكار التعيسة من رأسي ... تركت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون بشأن العرس ، و أنا أشاهد برنامجا سخيفا لا أهدف منه إلا شغل نفسي بشيء أبعد ما يكون عن ... وليد . في أي لحظة قد يصل ... لا لست أرتقب حضوره ، فلم يعد يهمني ذلك ، بل على العكس ، لازلت ألح على سامر ليبقى هو معنا خلال الأسبوعين اللذين سيغيبهما والداي ... في الحج ... أقبل سامر الآن يحمل كأس عصير برتقال ، يقدمه لي ! " عروسي ... تفضلي هذا " أخذت العصير و شكرته و قلت : " لم تحضره بنفسك ! ؟ " ابتسم و قال : " عروسي و أحب تدليلها ! لم تجلسين وحدك هنا ؟ إننا نشرب العصير في غرفة المعيشة و نتحدث بشأن الحفلة ! " ازدردت شيئا من العصير ، ثم وضعته على المنضدة التي بجانبي و عدت أتابع البرنامج متظاهرة بالاهتمام و الاندماج ... سامر جلس على المقعد المجاور و أخذ يشاهد البرنامج بضع دقائق ، و أظنه استسخفه ! قال : " لو كان باستطاعتي الحصول على إجازة أطول ، لكنت بقيت هذين الأسبوعين معك ... " قلت في نفسي : ألا يكفي أنني عشت منذ طفولتي معك ، و سأقضي بقية حياتي معك ... ؟؟ إنهما أسبوعان ليس إلا ! ألا تسأم منّي !!؟؟ الآن أمسك بيدي و قال : " ثلاثة أسابيع فقط ... كم أنا متلهف لذلك الحين ! " سحبت يدي من بين يديه و أمسكت بكأس العصير ، و رشفت رشفتين ، و أبقيته بين يدي حتى لا يعود لمسكي ! قال : " فيم تفكرين ؟؟ " التفت إليه أخيرا ... إذ أنني طوال الوقت كنت أتظاهر بمتابعة البرنامج ، قلت : " مندمجة مع التلفاز ! " سامر هز رأسه تكذيبا ، و قال : " بل أنت في مكان آخر ! " لم أستطع نفي الحقيقة ... فنظرت إلى كأس العصير ، و جعلت أهزه بعض الشيء ... قال سامر : " تختلفين عن دانة ... فهي متحمسة جدا للعرس ! أهناك ما يقلقك عزيزتي ؟؟ " التزمت الصمت ، ما عساي أن أقول ؟؟؟ نعم هناك ما يكاد يخنقني ! أنا لا أريد الزواج منك ! هلا ّ أعفيتني من هذه المهمة الأبدية لو سمحت ؟؟ سامر أمسك بيدي الممسكتين بكأس العصير و قال : " لا تقلقي ! كل شيء سيكون على ما يرام ! و ستكونين أجمل من دانه حتما ! " في هذه اللحظة سمعنا تنحنحا فالتفتنا ناحية الباب ، و رأينا دانة تقف و تراقبنا باستنكار ... ! بمجرد أن نظرنا إليها قالت بحنق : " سامر ! الويل لك ! من هي الأجمل مني ؟؟ سأريك ! " سامر ضحك و سحب يديه عن يدي و قال : " إنا أعني فتاة أخرى تدعى دانة ستتزوج في نفس ليلتنا ! " قالت دانة : " آه نعم صدّقتك ! أجل أعرفها ... و لها شقيق اسمه سامر ستقتله بعد دقيقتين ، و آخر اسمه وليد وصل إلى البيت قبل دقيقتين ! " جفلت ، و توجس فؤادي خيفة ... قال سأل سامر منفعلا : " هل وصل وليد حقا ؟؟ " قالت : " نعم وصل ! إنه في غرفة المعيشة ! " عادة ً ما أحس بالحرارة لدى ذكر وليد على مسمعي أو في خاطري ، إلا أنني الآن شعرت بالبرودة ! البرودة في رجلي بالتحديد ... لأن كأس العصير البارد انزلق من يدي المرتعشتين و انسكب محتواه على ملابسي و رجلي ! دانة لاحظت وقوع الكأس من يدي ، قالت : " ماذا فعلتِ ! أوه ... العصير الذي تعبت ُ في إعداده ! " وقفت أنا و وقف سامر و أخذت أحدق في البقعة التي ظهرت على ملابسي ! أهذا وقته ؟؟ سامر قال : " فداك ! " ثم التفت إلى دانة و قال ... " إلى وليد ! " و ذهب مسرعا ليحيي شقيقه ... دانة قالت و هي تنظر إلى ملابسي بشيء من السخرية : " ألن تأتي لتحيته ؟؟ " قلت : " سأبدل ملابسي ... " و مضيت نحو الباب فلما صرت قربها قلت : " أرجو أن تغلقي باب غرفة الضيوف فأنا لا أضع حجابي " دانة ذهبت إلى غرفة الضيوف ، فدخلت و أغلقت الباب ، بينما صعدت أنا ليس فقط لتبديل ملابسي ، بل و للاستحمام ، و غسل ملابسي ، و غسل عباءتي أيضا ، و عصرها ، و كيها كذلك ! شغلت نفسي بكل شيء و أي شيء يؤجل موعد اللقاء المحتوم ... من قال أنني أريد أن أذهب للقائه ؟؟ من قال أنني أتحرق شوقا لرؤيته ؟؟ أنا لا أريد رؤية وجهه ثانية ... أبدا ! مضت ساعة و نصف ، و أنا في غرفتي أؤدي كل ما تقاعست عن تأديته خلال الأسابيع الماضية ! ألست ُ عروسا على وشك الزواج ؟؟ لا ألام إذن إن أنا اعتنيت ببشرة وجهي ، و وضعت عليها الكريمات و المرطبات و المعالجات كلها واحدا تلو الآخر ! و بعدما فرغت منها ، و قفت أمام المرآة ... مصرة على تجريب علبة الماكياج الجديدة التي اقتنيتها مؤخرا ! أليس هذا من حقي ؟؟؟ طرق الباب و سمعت صوت دانة تناديني فأذنت لها بالدخول ... دخلت و فوجئت بما كنت أصنع ! نظرت إلي بتعجب ... و قالت : " بربك ! ما ذا تفعلين ؟؟ " قلت و أنا أمشط رموش عيني بدقة : " أتزين ! ما ترين !؟ " قالت : " تتزينين ! الآن ؟؟ " قلت : " ماذا في ذلك ؟؟ قالت : " ألن تأتي لإلقاء التحية على وليد ؟؟ إنه يسأل عنك ! " قلت : " و أنا هكذا ؟ لا طبعا ... بلغيه تحياتي ... " ثم انغمست في تلوين وجهي كما ألون لوحة أرسمها ... بمهارة ... دانة كانت تحدثني باستنكار ، إلا أنها في النهاية تركتني و انصرفت ، و بمجرد ذهابها أقفلت الباب ، و رميت بالفرشاة جانبا و ارتميت على سريري .... لماذا أتصرف بهذا الشكل الغبي ؟؟ لم أعد أفهم نفسي ... ألم أكن متلهفة لرؤيته ؟؟ ماذا جرى لي الآن ؟؟ جلست ، و نظرت من حولي فوجدت لوحات رسمي المتراكمة فوق بعضها البعض ... ذهبت إليها و استخرجت منها صورة وليد ... ذي العينين الحمراوين و الأنف المعقوف ... لماذا لا يزال هنا معي ؟؟ لمَ لمْ أتخلص من هذه الصورة ؟؟ لماذا لا أحس بالحرارة الآن ؟؟ كم كان شعورا جميلا ... رائعا ... و انتهى ... و إن ْ هربت كل تلك المدة لم يكن باستطاعتي البقاء حبيسة الغرفة دون أن يستغرب البقية ذلك و يقلقون ... أتت أمي إلي ، فتحت الباب لها فنظرتْ إلي ببعض الدهشة ! " رغد ... أتنوين استقبال أو زيارة إحدى صديقاتك ؟؟ " " أنا ؟؟ لا أبدا " " إذن ... لم هذه الزينة ! " حتى أنتِ يا أمي ؟؟ هل يجب أن أتزين فقط و فقط حين أقابل صديقاتي ؟؟ لماذا تبقى دانة بكامل زينتها معظم الأوقات ! أهي أفضل مني ؟؟ قلت : " هل هذا عيب !؟ أم ممنوع ؟؟ " قالت : " لا لم أقصد ، لكنك لا تفعلين هذا في العادة إلا لسبب ! " قلت " " كيف أبدو ؟؟ إنها ألوان الموضة ! " قالت : " جميلة طبعا ... لكن ... ألن تتناولي العشاء معنا ؟؟ " " كلا ، لا أشعر بأي رغبة في الطعام ... " " حسنا ... و لن تأتي للانضمام إلينا ؟؟ " " لا أشعر بمزاج جيد للحديث يا أمي " صمتت أمي قليلا ، ثم قالت : " و لن تأتي ... لتحية وليد ؟؟ " صمت أنا لبرهة ثم قلت : " لم يرغب في وداعي ... إذن ... لا أرغب في استقباله ... أنا ... لا أطيق مجالسة الكذابين "
__________________
لو صرخت الدنيا ف وشي اكيد هعلي حسي ... لو كان ده وقت الانهيار انا حاطه روحي ع كفي ... لو كان ده وقت الانفجار .. اكيد ملغمه نفسي ...!! * ** فى حياة كل منا ذكرى تمنى الا يمر بها ولكن لولا ألمها لارتكب المزيد من الاخطاء فى حق نفسه وفى حق الاخرين* ** الحمدلله ![]() ![]() |
#12
|
||||
|
||||
![]() الحلقةالواحدةوالعشرون ******** عندما اقتربت من المنزل اتصلت بهاتفه فأجابني والدي ، و أخبرته أنني قد وصلت ... والدي خرج لاستقبالي عند باب السور الخارجي للمنزل ، و طبعا استقبلني استقبالا شديد الحرارة ! بعدها ذهبت معه إلى غرفة المعيشة حيث وجدت أمي و أختي دانة ، و اللتين بدورهما رحبتا بي ترحيبا حميما ... ثم ذهبت دانة لإبلاغ البقية عن وصولي و البقية تعني : سامر + رغد ... قالت : " إنهما يختبئان في غرفة الضيوف ! سأفاجئهما ! " كانت مازحة ، أو ربما جادة ، في كلا الحالتين هذا يشعرني بالانزعاج ... من أول لحظة ! جلست مع والدي ّ و سكبت لي أمي عصير البرتقال الطازج في أحد الكؤوس و قدمته لي ... " تفضل بني ...هذا نصيبك " نصيبي ؟؟ هل كانوا يحسبون لي حسابا ؟؟ إني أرى أربعة كؤوس شُرب محتواها ، و هذا كأسي الخامس ... بعد قليل أقبل أخي سامر فاتحا ذراعيه ... قمت و عانقته ، و منها شعرت بأول آلام المعدة ! قال : " ما شاء الله ! ماذا كنت تأكل يا رجل ! إنك تنتفخ مرة بعد مرة ! " الجميع ضحك ، و تمتمت والدتي بعبارات التهليل و التكبير و الصلوات ! قلت : " هل أبدو سمينا لهذا الحد ؟؟ " قال سامر : " سمين ؟ لا ! بل عظيم البنية و مفتول العضلات ! يا رجل هل كنت تمارس رياضة حمل الأثقال أم ماذا ؟؟ " قلت : " كنت آكل بقرة مشوية كاملة كل يوم ! " و هنا أقبلت دانة فدخلت و أغلقت الباب من بعدها و قالت مداعبة و موجهة حديثها إلى أبي : " سيسبب لنا الإفلاس ! هات مصروفا آخر ! " أبي قال و هو يضحك : " أفلست ُ بسببك يا ابنتي ! أما كفاك كل ما أخذت ؟؟ " قالت و هي تضحك : " من قال لك أن تزوّج ثلاثة أبناء دفعة واحدة ! ؟ " قال سامر : " ما ذا لو انضم الكبير إلينا ! ؟ " يقصدني بذلك ! أمي ابتسمت و نظرت إلي و قالت : " دعوا الكبير لي ! لن أسلمه لامرأة ما و أنا لم أتهنى بعد به ! " و ضحكنا جميعا ... ربما هم يضحكون من قلوبهم لكنني أضحك مجاراة لهم ... و أدور بعيني فيما بينهم ... و أشعر بشيء ناقص ... طبعا تعرفون ما أعني ! الصغيرة المدللة لم تأت ِ لتحيتي و لا للعشاء معنا ، و الساعات تمر و هي في غرفتها و حين كررت سؤالي عنها لوالدتي بعد العشاء قالت : " إنها منزعجة منك ! " قلت : " مني أنا ؟؟ " " نعم ! فأنت على ما يبدو كنت قد وعدتها بألا تسافر دون وداعها ثم خرجت خلسة ! " قالت دانة : " دعك من هذه الفتاة المتدللة يا وليد ! لها ألف مزاج في اليوم الواحد ! يا إلهي كيف سأتحمل تصرفاتها وحدي طوال هاذين الأسبوعين ! " سامر قال : " حذار من القسوة على عروسي يا دانة ! و إلا حبستك في المطبخ ليلة زفافك ! " الجميع كان يضحك بمرح ، إلا أنني كنت أشعر برغبة في غرس الشوكة التي أمسك بها في صدر شقيقي ... توقفوا عن الحديث عن الزفاف المشؤوم هذا ... أفرغت الدنيا من المواضيع ؟؟ قلت مغيرا مسار الحديث الذي كان متمركزا حول الزواج المترقب : " متى ستعودان من رحلة الحج تحديدا ؟ " قال أبي : " ليلة السابع عشر من شهر الحج إن شاء الله " إنها فترة طويلة سأضطر لتمضيتها مع رغد تحت سقف واحد ! ليت الأيام تنقضي بسرعة ! رغد لم تظهر حتى الآن ... حقيقة هي أنني أنظر ناحية الباب بين الفينة و أختها و أرتقب طلوعها ... كم اشتقت إليها ... ! هكذا بدون أي تكلّف و ادعاء ، أنا اشتقت إليها ! مرت الساعات و لم تظهر فتملكني الضيق و الانزعاج ... و لولا الحياء و الحرج لذهبت بنفسي إليها ... أهي غاضبة مني لهذا الحد حقا ؟؟ و الشخص الذي ذهب إليها كان بطبيعة الحال شقيقي ... و بعد أن ذهب لم يعد ... على الأريكة الضيقة رميت بجسدي فغرقت في أعماقها ... في غرفة الضيافة . و للعجب نمت بسرعة لم أتوقعها ! و حين نهضت وجدت جسدي غارقا في العرق ! ساعات الصباح انقضت و الصغيرة لم تظهر ، أكاد أجن ... لم لا تأت لتحيتي و لو بشكل عابر ؟؟ على مائدة الغذاء انتظرت حضورها فلما لم أجدها سألت : " أين رغد ؟؟ ألن تشاركنا ؟؟ " دانة بدأت بالضحك ، قم قالت : " إنها تقلي البطاطا ، فأطباقنا اليوم لم تعجبها و ستأكل البطاطا المقلية كالعادة ! " نظرت نحو أمي و قلت : " أرجو ألا أكون السبب في ... " أمي هزّت رأسها نفيا و قالت : " لا أبدا بني ! إنها لا تحب السمك كما تعلم كما و أنها كثيرا ما تتغيب عن المائدة خصوصا في الفترة الأخيرة ! " قالت دانة بحدّة : " تتدلّل ! " قال أبي : " دعوها تفعل ما تشاء " قال سامر : " سأستدعيها " وقفت أنا و قلت : " أنا سأستدعيها " و تحركت فورا لأسبق سامر ... حين وصلت إلى المطبخ وجدت الباب شبه مغلق . طرقته و قلت : " أيمكنني الدخول ؟؟ " سمعت صوت رغد يرد علي ... " من أنت ! ؟ " عجبا ! من أنا ؟؟ من عساي أكون !؟ بالطبع وليد ! قلت : " وليد ! " قالت : " وليد ؟ لا ! " ثم إذا بي أرى الباب يغلق بدفعة قوية ! تراجعت ُ للخلف خطوة و بقيت محدقا في الباب ... هل تقصد أنها لا ترتدي الحجاب ؟ قلت : " هل أذهب ؟؟ " قالت : " ماذا تريد ؟ " " فقط ... أن ألقي التحية و ... أسأل عن الأحوال " " بخير و شكرا و اذهب " شعرت بالحرج من ردها هذا ، فقلت معتذرا : " سأذهب ، أنا آسف " و استدرت منصرفا ... فجأة سمعت الباب ينفتح من خلفي ، فالتفت إلى الوراء ... هناك عند الفتحة ، رأيت عيني رغد تطلان علي ! ظهرت رغد واقفة أمامي ... بحجمها الصغير و وجهها الطفولي و حجابها الطويل الذي يكاد يصل إلى ركبتيها ! لدى رؤيتي لها بعد كل تلك المدة من الغياب شعرت بأن قلبي قد تخدّر و أعصابي قد تبلّدت ... و عضلاتي استرخت لبرهة كادت تفقدني توازني . قلت بصوت خفيف و بابتسامة تفجرت على وجهي رغما عني : " كيف حالك صغيرتي ؟؟ " صغيرتي كانت تنظر إلي بنظرات ملؤها الغضب و الانزعاج ... كأنني أقرأ في وجهها كلمات اللوم و التأنيب و التوبيخ ... و الشتم أيضا ! قلت : " أنا آسف ! " رغد أشاحت بوجهها عني ، و استدارت و دخلت المطبخ ، تاركة الباب مفتوحا . توجهت رغد نحو الموقد ، تحرك أصابع البطاطا في المقلاة ... تجرأت و خطوت خطوة للداخل ، و خطوة أخرى فأخرى حتى صرت على مقربة من الوعاء الذي أعدته لوضع البطاطا المقلية فيه ... هاهي الآن تضع أول دفعة من البطاطا فيه ... دون أن تلتفت إلي ... قلت : " تبدو شهية ! " لم تعلّق ! قلت : " أتسمحين لي بتذوقها ؟؟ " قالت : " تفضل " طبعا دون أن تلتفت إلي ... و لأنني كنت مخدّر الإحساس فأنا لم أشعر بحرارة البطاطا المقلية لا بين أصابعي و لا في فمي ! بل حتى طعمها لم أشعر به ، إلا أنني قلت : " لذيذة ! " قالت : " خذها إن شئت " " شكرا ، سأتناول الغذاء الآن " بقيت صامتة و هي تخرج دفعات البطاطا واحدة بعد الأخرى حتى انتهت ... ثم رفعت الطبق و وضعته على المائدة و سحبت الكرسي استعدادا للجلوس ... قلت : " ألن تأتي معنا ؟؟ " قالت : " لن آكل من أطباقكم " قلت : " تعالي بطبقك " " لا داعي " و جلست على الكرسي ، و انتظرت مغادرتي ! و عوضا عن الانصراف اقتربت ُ من الطاولة قليلا و قلت : " صغيرتي ... هل أنتِ غاضبة مني ؟؟ " لم تجب ... قلت : " أنا آسف ... سامحيني " رغد الآن رفعت بصرها إلى و قالت بحنق : " أطلب السماح ممن استهنت بعظمته لخداعي ... يا كذّاب " كأنها خنجر مسموم طعنت كلماتها صدري بعنف ... لم يكن أمامي إلا الانسحاب مخذولا ... عدت وحيدا إلى من كانوا ينتظرون عودتي برغد ... و حين رأيت أعينهم جميعا تحدق بي بتساؤل ، قلت : " لا تود الحضور ... " و جلست على مقعدي و بدأنا تناول وجبتنا ... لم يكن مضغ الطعام و بلعه من السهولة بمكان ... لقد اشتد علي الألم، لا أدري أ بسبب الطعام الغير مهضوم ، أم بسبب الخناجر التي طعنت أحشائي ؟؟ ربما لاحظت والدتي شيئا فقد كانت تعلق : " كل يا وليد ! ما بك لا تأكل ؟؟ " من حين لآخر ... هل يطيب لي الطعام و صغيرتي متخذة مني هذا الموقف ؟؟ في وقت لاحق ، اجتمعنا كلنا في غرفة المعيشة ، عدا رغد ... والدي طلب من دانة استدعائها فهو يود قضاء الوقت معنا جميعا قبل السفر ... ذهبت دانة ثم عادت تقول : " لا تريد الحضور ! و عندما قلت لها أنها تتصرف كالأطفال صرخت في وجهي ثم بدأت بالبكاء ! أوه خذاها معكما و خلصاني من سخافتها يا والدي ! " جميعنا تبادلنا النظرات ... والدي قال : " دانة ... تحاشي الاصطدام بها يا بنيتي ، دعيها تفعل ما تشاء " دانة قالت : " كالعادة يا أبي ستقول لي ذلك ، حسنا، أنا لا شأن لي بهذه الطفلة الكبيرة ... أترك الأمر لوليد بالكامل حتى لا يتهمني أحد بأنني متعجرفة معها " همّ سامر بالنهوض إلا أن أمي استوقفته و قامت هي ، و ذهبت إلى رغد ... قال أبي موجها كلامه لي : " اعتني بشقيقتيك جيدا يا بني ، دانة لن تتعبك في شيء ، فهي معتمدة على نفسها في تصريف أمورها ، لكن رغد ... معتمدة علينا كثيرا ... و طلباتها لا تنتهي ! " قالت دانة معقبة : " هذا لأنك تدللها كثيرا يا أبي ! كما الأطفال تماما ! " والدي قال : " دانة إياك و تعمّد مضايقتها ... رجاءً " سامر قال : " إياك ! " دانة نقلت بصرها بين الاثنين ثم قالت : " لا تخشيا على مدللتكما الصغيرة ! " و التفتت نحوي و قالت : " ألقي عليك المسؤولية كاملة ! " أنا وجدت الثلاثة يحملقون بي بمختلف التعبيرات المتقلبة على أوجههم ... قلت بتردد : " لا تقلقوا ... سيسير كل شيء على ما يرام ... " بينما أنا في الداخل شديد القلق ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ أنا مستاءة بشكل لا يمكنكم تصوّره ! سأتزوج بعد ثلاثة أسابيع من سامر ، فيما يقف وليد إلى جانبي ليعتني بي أثناء ابتعاد أمي عني ... ثلاثة أمور جعلتني في غاية التوتر خصوصا هذا اليوم ، و آخر شيء كنت لأتقبله هو كلمات السخرية من دانة التي ترددها منتقدة إياي ... لم أحتمل كل ذلك و بدأت بالبكاء بشكل غريب ! هم يجلسون الآن معا يودعون بعضهم البعض و أنا قابعة هنا أبلل المناديل بالدموع المالحة المتدفقة بغزارة ... أريد أن أبقى مع والديّ قبل رحيلهما ! ليت وليد يختفي ! ليتني أنا من يختفي ! ليتكم أنتم أيضا تختفون ! سمعت صوت والدتي تناديني ، من خلف الباب المغلق ... " نعم أمي " والدتي فتحت الباب و دخلت قبل أن تدع لي الفرصة لمسح دموعي ، و التي و إن مسحتها لا أسهل عليها من أن ترى آثارها مطبوعة على وجهي ... أمي نظرت إلى بقلق و حيرة و قالت : " و بعد ؟؟ ما نهاية حكايتك هذه ؟؟ ما بك يا رغد أخبريني ؟؟ " " لا شيء أمي " " إذن ... لم تحبسين نفسك في غرفتك و تسبحين في بركة الدموع هذه ؟؟ " قلت بانفعال : " لا شيء أمي لا شيء ... لا شيء ... لا شيء ... " و انخرطت في البكاء باستسلام ... لم أقاوم أو أواري أي دمعة تحدتني بالظهور ... بكيت بحرقة ... لم أعهدها من قبل ... لم أكن أشعر بمثل هذه الأشياء تتحرك في صدري قبل الآن ... لكنني أشعر الآن بصرخة كبيرة تود الانطلاق رغما عني ... إنني منهارة و أريد من يواسيني ... من يسندني ... من يساعدني ... من ينقذني مما أنا مقبلة عليه ... من ؟ من ؟؟ أمي أقبلت نحوي ، و مسحت بيدها الحنونة على رأسي و ربتت على كتفي بلطف قالت : " بنيتي ... أخبريني ما بك ... إنني قلقة عليك و لا أريد السفر قبل أن أطمئن ... ما بك ؟؟ مم أنت مستاءة ؟ " أنظر إلى أمي ، فأرى في عينيها عالما كبيرا محيرا ... أرى فيها أكواما من القلق و الخوف ... و الخشية و الاضطراب ... ليتك يا أمي تدخلين إلى أعماقي و ترين بنفسك ... أترين يا أمي ؟؟ إنني لا أريد أن تسافري و تتركيني ... أيقلقك ذلك ؟؟ إنني لا أريد الزواج من سامر ... أيفجعك ذلك ؟؟ إنني أريد أن استعيد وليد ... أيذهلك ذلك ؟؟ إنني أريد أن تعود أمي للحياة ... أيقتلك ذلك ؟؟ إنني أموت ببطء يا والدتي ... أيرضيك ذلك ؟؟ أموت و أنا لم أحي َ بعد ... لم أولد بعد ! أترين كل ذلك يا أمي ؟؟ " لا شيء أمي ... لا شيء ... " برقت دموع في عيني والدتي لتأثرها بحالتي هذه ، و الدموع في عين أمي هي شيء لا أحتمله مطلقا... مطلقا مسحت دموعي بسرعة و قلت : " أمي ... لا شيء صدقيني ، أنا فقط متأثرة لسفركما ، فهي أول مرة في حياتي تبتعدان فيها عني ... لا أتصور حياتي بدونكما " والدتي ضمتني إلى صدرها و قالت : " ستعيشين حياتك بسعادة و راحة مرضية ... لا تقلقي ... فابني سيعتني بك جيدا كما نفعل نحن ... الله قسم هكذا " رفعت رأسي و نظرت إليها بشيء من الحيرة ... فكلماتها بدت غامضة ، فقالت هي: " و الآن عزيزتي ... ألن تأتي لمجالسة والدك ؟ إن هي إلا فترة قصيرة ثم نسافر ! " أجبت بإذعان : " بلى " و استدركت : " وليد معكم ؟؟ " قالت : " بالتأكيد ... " طبعا هو معهم ! أين يمكن أن يكون ؟؟ أخذت حجابي و سرت نحو المرآة لارتدائه ، و هالني منظر عيني الحمراوين و جفوني المتورمة ! تركت الحجاب جانبا و مضيت لأغسل وجهي ... عندما خرجت من دورة المياه وجدت أمي تنتظرني ... قالت : " هيا عزيزتي ... " ارتديت حجابي على عجل و أقبلت نحوها ... قالت : " سيسير كل شيء على ما يرام ، و إن احتجت شيئا لا تترددي في طلبه من دانة أو وليد أو سامر ... سنبقى على اتصال دائم " بعدها ذهبنا إلى غرفة المعيشة ... كانوا جميعهم مندمجين في الأحاديث المختلفة ، و ما أن رأونا حتى قال سامر : " تعالي رغد ! كنا نوصي الكبير و العروس بك خيرا ! " والدي قال موجها حديثه إلي و هو يبتسم بابتهاج : " أهلا بالعزيزة المدللة ! تعالي و اجلسي قرب أبيك ليرتوي منك قبل السفر " سرت ُ كالآلة نحو المقعد الذي يجلس عليه أبي و جلست إلى جواره ، ففتح ذراعه و أحاطني بها ... قال : " ما بك صغيرتي ؟ على الوجبات لست معنا ، و في الجلسات لا تشركينا ! ألن تشتاقي لشيبتي هذه ؟؟ " سامر ضحك ، و دانة نظرت إلى السقف باستنكار ... و أمي ابتسمت ، أما الكائن الأخير فلم ألتفت نحوه لأعرف ما فعل ! قلت : " بلى ... كثيرا جدا ! خذاني معكما ! " قال سامر مداعبا : " و أنا أيضا ! " قالت دانة : " ماذا عنّي ؟؟ " قلت : " نتركك مع المغرور ! " ضحك من ضحك ، أما صوت وليد ـ و الذي كان خفيفا و مع هذا تمكنت مجسات أذني من التقاطه ـ فجاء في الكلمتين التاليتين : " تقصدينني أنا ؟؟ " و أجبرني سؤاله على الالتفات إليه ... لقد كان ينظر إلي بغرابة ... لم أرد عليه ، بل التفت إلى أبي و دانة تولت الإيضاح بنفسها إذ قالت : " بل تقصد خطيبي ... فهي لا تطيقه و تنعته بالمغرور دوما " الآن أنا التفت إلى دانة و قلت بصوت حاد : " على الأقل ... خير من الكذابين " بعض الصمت خيم علينا لبعض الوقت ... و بعض الندم شعرت ُ به لبعض الوقت ! قال أبي : " و من الكذابون بعد يا ترى ؟؟ " قلت : " بعض معارفي يا أبي ! لا يطاقون ! ... " و الآن تكلم وليد و قال : " المغرورون ، و الكذابون ، و الخونة كذلك ... كلهم لا يطاقون ! " التفت إلى وليد و قلت : " من تقصد ؟؟ " قال : " بعض معارفي يا ابنة عمي ... لا يطاقون ! " بدا كل هذا سخف ! أليس كذلك ؟؟ قال سامر : " دعونا من هذا ... و لنعد إلى موضوعنا .. لدينا عروسان ، بالتالي موكبا زفاف ... أبي و وليد ، من سيقود موكب من ؟؟ دعونا نحدد الآن " قلت أنا بسرعة : " أنا أريد أبي " التفت سامر نحو دانة و قال : " إذن أنت مع وليد " دانة نظرت إلى وليد و قالت : " إذن يجب أن تستأجر سيارة فخمة من أجلي ! أفخم من سيارة سامر ! " والدتي ضحكت و قالت : " يا لتفكيركن العجيب يا فتيات هذا الزمن ! " قالت دانة : " لن أقبل بسيارة قديمة كهذه ! " و وجهت كلامها إلى وليد قائلة : " لم لا تستبدل سيارتك يا وليد ؟؟ لقد عثى عليها الدهر ! " قال وليد : " سأفعل ... عندما تتحسن الأحوال ! " الأحوال بالتأكيد يقصد بها الأحوال المادية ! و لكن هل ابن عمي هذا ضئيل المال ؟؟ ألم يذهب للدراسة في الخارج ؟ لا بد أن لديه شهادة عظيمة تمكنه من احتلال وظيفة مرموقة ... ذات دخل محترم ! مثل سامر ! لا أدري ما كان يقصد بتحسن الأحوال هذه ! وليد قال : " أ لديك دراسة هذه الفترة ؟ " طبعا كان يقصدني ! لكنني تظاهرت بأنني لم أنتبه ! لذا قال والدي : " نعم لمدة خمسة أيام قبل إجازة العيد ... ، ستأخذها للجامعة خلال هذه الأيام " قال وليد : " حسنا ، أهناك أي تغيير في مواعيدك ؟؟ " الكل ينظر إلي بانتظار جوابي ! قلت بنفور : " لا ، و لكنني أفكر في عدم الذهاب هذه الأيام " قال وليد : " لم ؟؟ " قلت باستياء : " ليس من شأنك " بعض الصمت سكن الغرفة تلاه صوت أبي : " لم لا تودين الذهاب رغد ؟؟ " قلت : " لا أريد ترك دانة وحيدة معظم النهار " دانة نظرت إلي بتشكك و قالت : " لا تكترثي بشأني ! سأقضي الوقت في إعداد الطعام و العناية بالمنزل ! " ثم أضافت بجرأة : " و التنزه مع نوّار ! " قالت أمي : " على ذكر الطعام ... ماذا عن كعكتك يا دانة ؟؟ " قامت دانة و قالت : " آه نعم ... سأحضرها لكم الآن ... " و ذهبت إلى المطبخ ، فقمت أنا و لحقت بها ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ عادت دانة و رغد بعد قليل تحملان الكعكة و كؤوس العصير ... و قامتا بتوزيعها علينا جميعا ... الذي آلمني هو أنها ـ أي صغيرتي رغد ـ كانت تعاملني بنفور شديد ... حتى أنها حين جاء دوري لأخذ كأس عصيري لم تدع لي المجال لأخذه ، بل أمسكت هي به و وضعته على المنضدة الماثلة أمامي بسرعة كادت تدلق محتوياته فوقها ! كانت الكعكة لذيذة جدا ... قلت : " ما ألذها ! سلمت يداك يا دانة ! أنت ماهرة " قالت دانة بزهو : " شكرا يا أخي ، سترى ! سأذيقك أصنافا لذيذة من الحلويات فأنا ماهرة في إعدادها ! " قلت : " عظيم ! فأنا أحب الحلويات ! " و التفت نحو رغد و قلت : " و أنت ؟؟ " رغد رفعت بصرها عن قطعة الكعك التي بين يديها ببطء ، و نظرت إلي بنفاذ صبر و قالت : " أنا لا أحب الحلويات " قلت : " أقصد ماذا ستذيقيننا من صنع يدك ؟؟" لم يبد على رغد أنها تريد تباديل الأحاديث معي ... قالت بضجر : " لا شيء ... " قالت دانة : " إنها كسولة ! لا تحب الطهو و لا تجيده ! لا أعرف كيف ستتولى مسؤولية بيتها المستقبلي ! مسكين سامر ! " ضحك سامر و قال : " سأعود لأمي كلما قرصني الجوع ! " و أخذ الجميع يضحكون عدانا أنا و هي ... قالت دانة و هي تضحك : " أو صبّر معدتك بالبطاطا المقلية المقرمشة ! " و استمروا في الضحك بمرح ... رغد وقفت الآن بغضب و قالت : " أنتم تسخرون مني " الجميع توقف عن الضحك ، و نظروا إليها باهتمام ... كانت منفعلة ... قال سامر : " لا عزيزتي نحن نمزح فقط ! " قالت : " بل تسخرون مني " و توجم وجهها بما يوحي بدموع على وشك الانهمار ... وقفت أنا و قلت : " معذرة ... صغيرتي " التفتت رغد نحوي بعصبية و قالت بحدة : " أنت أسكت ... آخر من يُسمح له بالكلام " صعقت بهذا الرد الجارح و علاني الصمت العميق ... الجو صار مشحونا بتيارات متعارضة متضاربة ، و النظرات أخذت تصطدم ببعضها محدثا فرقعة ! و الآن ؟؟ خرجت رغد مسرعة من الغرفة في غضب و استياء ... بقينا بعد خروجها بعض الوقت صامتين منصتين لفرقعة نظراتنا الحائرة ! وقف سامر هاما باللحاق بها ، ألا أن أمي طلبت منه أن يلتزم مكانه ... " دعوها فهي اليوم في مزاج شديد التعكر " قالت هذا أمي ، فعقبت دانة : " اليوم فقط ؟؟ بل كل يوم ! لا أدري ما ذا جرى لهذه الفتاة مؤخرا ! " كنت أنا لا أزال واقفا أنظر ناحية الباب ... قالت أمي : " اجلس بني ! " فجلست على طرف المعقد مشدود العضلات ... على أهبة النهوض ! تنهد أبي و قال أبي : " أمرها يقلقني " قالت أمي : " و أنا كذلك ، لست ُ مطمئنة للسفر و تركها ! " قالت دانة : " خذاها معكما ! أنا لا أطيق تصرفاتها هذه ! " أبي التفت إلي و قال : " احرص في التعامل معها ... كن حليما ... " قالت دانة : " إنها لا تزال غاضبة منك ! كان الله في عونك على مراسها هذا ! " بعد قليل آن أوان مغادرة والدي و سامر ، الذي سينقلهما إلى المطار ثم يذهب إلى شقته في المدينة الأخرى ... أخذت أحمل الحقائب و أنقلها إلى سيارة أخي ، و عندما انتهيت من وضع الحقيبة الأخيرة و دخلت المنزل وجدت والدتي تقف عند الباب الداخلي ... قالت : " أعطاك الله العافية يا بني " " عافاك الله أماه " هممت بالدخول إلا أن أمي أمسكت بذراعي و استوقفتني ... " وليد " نظرت إليها بحيرة ... قلت : " نعم أمي ؟؟ " أمي تحدثت بصوت منخفض ، و بنبرة جدية ... و تعبيرات قلقة ، قالت : " انتبه لرغد جيدا يا بني " تعجبت ! قلت : " بالطبع أمي ! " أمي بدا المزيد من القلق جليا على وجهها و قالت : " كنا سنؤجل حجنا للعام التالي لكن ... كتبه الله لنا هذا العام ... هكذا قضت الظروف يا بني " و هذا زادني حيرة ! قالت : " لو أن الظروف سارت على غير ذلك ... لكانت الأوضاع مختلفة الآن ... لكنه قضاء الله يا ولدي ... سأدعوه في بيته العظيم بأن يعوّضك خيرا مما فاتك ... فلنحمده على ما قسم و أعطى " قلت : " الـ ... حمد لله على كل شيء ... أمي أنت ِ تلمحين لشيء معين ؟؟ " قالت : " لم تتغير هي عمّا تركتها عليه قبل سنين ... كما لم تتغير أنت ... " ثم أضافت : " إلا أن الظروف هي التي تغيرت ... و أصبح لكل منكما طريقه ... " توهج وجهي منفعلا مع كلمات أمي و الحقيقة الصارخة أمامي ... لم أستطع البنس ببنت شفة أمام نظرات أمي التي كشفت بواطن نفسي ... قالت : " اعتن بها كما يعتني أي شقيق بشقيقته ... كما تعتني بدانة ، و ادع معي الله أن يسعدهم هم الثلاثة ، و أنت معهم " في هذه اللحظة فتح الباب و ظهر بقية أفراد عائلتي بما فيهم رغد ، و خرجوا واحدا تلو الآخر ... و اجتمعنا قرب بعضنا البعض في وداع مؤلم جدا ... بالنسبة لي ، فقد اعتدت فراق أحبتي و جمدت عيناي عن أي دموع أما البقية فقد كانت الدموع تغرق مشاعرهم ... كلمات أمي ... و كلمات أبي كذلك و توصيتهما الشديدة على الفتاتين و خصوصا رغد ، جعلتني أشعر بالخوف ... فهل أنا أهل لتحمل مسؤولية هذا البيت و من به في حين غياب والدي ّ ؟؟ و هل هي مسؤولية خطرة تقتضي منهما كل هذه التوصيات و التنبيهات ؟؟ خرج الثلاثة ، فعدنا نحن الثلاثة إلى الداخل ... و قضيت وقتا لا بأس أراقب دموع الفتاتين ... كنا نجلس في غرفة المعيشة ... و الحزن يخيم على الأجواء فشعرت بالضيق قمت بتشغيل التلفاز فرأيت مشهدا مريعا لآثار قصف تعرضت له إحدى المدن هذا اليوم ... فزاد ذلك ضيقي ... كم كنت مرتاحا هانئا في مزرعة نديم ! ليتني أعود إلى هناك ! قلت ـ في محاولة لتغيير الأجواء و طرد الكآبة ـ " ما رأيكما بالذهاب في نزهة بالسيارة ؟؟ " دانة تفهمت و قدّرت الأمر ، فقالت : " نعم يا ليت ! هيا بنا " نظرت إلى رغد أنتظر جوابها ، لكنها ظلت صامتة ... قلت : " ما رأيك ؟ " قالت بصوت حاد و نبرة جافة مزعجة : " لا أريد الذهاب لأي مكان " دانة قالت : " إذن سنذهب و أنت ابقي هنا " رغد بسرعة التفتت إلى دانة و قالت : " تتركاني وحدي ؟؟ " قالت دانة : " ما نصنع معك ؟؟ أنا بحاجة لبعض الهواء المنعش ... أما أن تأتي معنا أو ابقي مخنوقة وحدك " وقفت رغد منفعلة و قالت : " كان علي ّ أن أذهب معهما ... كم كنت غبية ... ليتني ألحق بهما الآن " وقفت أنا و حاولت تهدئة الوضع فقلت : " لا بأس ... سنؤجل نزهتنا لوقت لاحق ... لا تنزعجي هكذا صغيرتي " رغد التفتت نحوي بعصبية و قالت صارخة : " لا شأن لك أنت بي ... مفهوم ؟؟ لا تظن أنك أصبحت مسؤولا عني ... لا تزعج نفسك في تمثيل دور المعتني فهذا لم يعد يناسبك ... يا كذّاب " اللهم استعنا بك على الشقاء ! ذهبت الصغيرة الغاضبة إلى غرفتها ... و بقيت مع دانة التي بدت مستاءة جدا من تصرف رغد ... اقترحت عليها بعد ذلك الجلوس في الفناء الخارجي فرحبت بالفكرة خرجنا معا و جلسنا على المقاعد القريبة من الشجرة ... و بدأنا نتحدث عن أمور شتى ... أخبرت دانة عن مزرعة صديق لي قمت بزيارتها مؤخرا و أعجبتني ... و عن متفرقات من حياتي ... ألا أنني لم أشر إلى السجن ، و لا ما يتعلق به ... شقيقتي بدت متلهفة لمعرفة كل شيء عني ! و كأنها اكتشفت فجأة أن لديها شقيق يستحق الاهتمام و الفخر ! اعتقد أنها كانت تنظر إلي بإعجاب و فخر بالفعل ! بعد مدة حضرت رغد ... كانت عيناها حمراوين ... قالت : " دانة ، مكالمة لك " أجابت دانة : " من ؟؟ " قالت رغد : " من غيره ؟ خطيبك المبجل " دانة نهضت بسرور و استأذنت للدخول ... و لحقت بها رغد بعد ثوان ، و بقيت وحيدا إلى أن سمعت ُ الآذان يرفع ... دخلت ُ بعدها و استعددت للخروج لتأدية الصلاة في المسجد المجاور . كانت دانة في غرفتها أما رغد فأظنها في غرفة المعيشة ! خرجت إلى الفناء و فيما أنا أعبره نحو البوابة الخارجية سمعت صوت نافذة يفتح و نداء باسمي " وليد " التفت نحو الصوت فإذا بها رغد تطل من النافذة المشرفة على الفناء و تقول : " إلى أين تذهب ؟؟ " قلت : " إلى المسجد " قالت : " ستتركنا وحدنا ؟؟ " حرت في أمري ! قلت : " هل هناك مشكلة ؟؟ سأصلي و أعود فورا ... تعالي و أوصدي البابين ... " وافتني بعد قليل و وقفت عند البوابة و بيدها المفتاح . قالت : " لا تتأخر " قلت : " حسنا " و عندما عدت بعد أداء الصلاة كانت هي من فتح الباب لي ... قدّمت لي مفتاحين و قالت : " هذا لبوابة السور و هذا للباب الداخلي ، احتفظ بهما " " شكرا لك " تولت رغد قاصدة دخول المنزل فناديتها " رغد " التفتت إلي ، و قالت بنفس ضائقة : " نعم ؟؟ " قلت : " أما زلت ِ غاضبة مني ؟؟ كيف لي أن أكسب عفوك ؟؟ " قالت : " لا يفرق الأمر معي شيئا " و همّت بالانصراف ، قلت : " لكنه يفرق معي كثيرا " توقفت و قالت : " حقا ؟؟ " " نعم بالتأكيد ... " " هذا شأنك ... لا دخل لي به " و انصرفت ... الواضح أنني سألاقي وقتا عصيبا ... كان الله في عوني ... بعد ساعات ، أعدت دانة مائدة العشاء و لم تشاركنا رغد فيه ... لقد مضت الليلة الأولى من ليالي تولي ّ مسؤولية هذا المنزل على هذه الحال .. في الصباح التالي كنت أجلس مع دانة في المطبخ ، و رغد على ما يبدو لا تزال نائمة ... قلت : " أخبريني دانة ... كيف أقدم المساعدة ؟؟ فأنا أجهل الأمور المنزلية ! " ضحكت دانة و قالت : " لا تهتم ! أنا أستطيع تولي الأمور وحدي ! " " أرغب في المساعدة فأنا بلا شاغل ! أخبريني فقط بما علي فعله ! " و باشرت المساعدة في أعمال المنزل ! ليس الأمر سيئا كما قد يظنه البعض ، كما أنه ليس من تخصص النساء فقط ! كنت أرتب الأواني في أرففها الخاصة حين دخلت رغد إلى المطبخ ... كانت دانة آنذاك تفتش في محتويات الثلاجة ... قالت رغد : " صباح الخير " التفتنا لها و رددنا التحية . الحمد لله ، تبدو أكثر هدوءا هذا الصباح ! قالت دانة : " تناولنا فطورنا قبلك ! " قالت رغد : " غير مهم " قالت دانة و هي لا تزال تقلب بصرها في محتويات الثلاجة : " إنني حائرة ما أطهو للغذاء اليوم !؟ ماذا تودان ؟؟ " و نظرت باتجاهي ، فقلت : " أي شيء ! كما يحلو لك " ثم نظرت باتجاه رغد و سألتها : " ما ذا تقترحين ؟؟ " قالت رغد : " لا شيء " " لا شيء ؟؟ " " لا تعملي لي حسابا فأنا حين أرغب بشيء سأصنعه بنفسي " قالت دانة بعد تنهد : " أما زلت ِ على ذلك ! أف ٍ منك ! " رغد انسحبت فورا من المطبخ ... وضعت أنا الأواني في أماكنها و قلت لدانة : " دانة ... لا تكوني فظة معها ! " " أنا يا وليد ؟؟ ألا ترى كيف ترد علي بنفس مشمئزة ؟؟ " " لكن .. أرجوك لا تعامليها بخشونة .. لحين عودة والدي ّ .. " " لا تقلق . لن أتعمد إزعاجها .. تصرّف أنت معها " تتمه مضت ساعات و الفتاة حبيسة غرفتها ... الأمر ضايقني كثيرا ... و قبل ذهابي لتأدية صلاة الظهر في المسجد طلبت من دانة أن تذهب لتفقدها ، و عندما عادت سألتها عنها فقالت : " لم تفتح لي الباب ! عنيدة ! " الأمر زاد من قلقي و خوفي ... و بعدما عدت ، سألتها عنها فكررت الإجابة ذاتها ... " حسنا ... سوف ... سوف أحاول التحدث معها ... أيمكنني ذلك ؟؟ " " حاول وليد !علك تحرز نجاحا ! " ذهبت بعد تردد ، و طرقت باب غرفتها ... " هذا أنا وليد " لم ترد علي ... شعرت بخوف ... فعدت أطرق الباب طرقا أقوى و أنادي : " رغد ... صغيرتي هل أنت بخير ؟؟ " و لما لم تجب أصابني الجنون ... ماذا لو أن مكروها قد حل بها و نحن لا نعلم ؟؟ طرقته الآن بقوة و عصبية ... " رغد افتحي الباب أرجوك ... " كدت أفقد السيطرة على نفسي لو لم ينفتح الباب في اللحظة الأخيرة ! ظهرت رغد ... و راعني المظهر الذي كانت عليه ... كيف لي أن أتحمل رؤية ذلك ؟؟ صغيرتي أنا ... مدللتي الغالية ... تتبعثر دموعها الغالية سدى لتشربها المناديل ... و ينتهي مصيرها إلى سلة المهملات ؟؟ " ماذا تريد ؟ " قالت بصوت حزين مخنوق ... التف حول عنقي أنا و خنقني حتى الموت ... قلت : " ما بك صغيرتي ؟؟ " قالت و تعبيرات وجهها تزداد حزنا و كآبة : " ماذا تريد قل لي ؟؟ " قلت : " صغيرتي ... أريد أن تتوقفي عن البكاء و الحزن أرجوك ... أنا قلق عليك " قالت : " قلق علي ؟ " " نعم يا رغد ... " " و لم ؟ هل يهمك أمري ؟؟ " " و هل هذا سؤال ؟ طبعا يهمني ! لم أنا هنا الآن ؟؟ " " لأن والدي طلب منك ذلك ، و وجدت نفسك مضطرا للحضور . لم تكن لتحضر لأجل أحد ... خصوصا فتاة غبية تصدّق قسم الكذّابين و تُستغفل بعلبة بوضا يشتريه لها رجل مثلك ليلهيها بها قبل الرحيل " صعقت لسماعي كلماتها ... قفزت الدموع من عينيها قفزا و قالت و هي آخذه في البكاء بانفعال : " تسخر مني ؟؟ أتظنني تلك الطفلة اليتيمة الوحيدة التي تخليت عنها قبل سنين و هي في أحوج الأوقات إليك ؟؟ " " رغد " " أسكت ... ! " صمت ، و أنا في قلبي صرخة لو أطلقتها لحطمت زجاج المنزل ... " لا تدعي القلق علي يا كذاّب ... لا أريدك أن تعتني بي ... فلدي خطيب يهتم لأمري و يحرص علي ... أفضل منك .... أليس هذا هو كلامك ؟ يا ابن عمّي الكذّاب ؟؟ " لا إراديا رفعت يدي و ضربت الباب بقوة و انفعال من فرط الغضب ... عندها ، توقفت رغد عن الكلام و عن البكاء أيضا ... و نظرت إلي بفزع ... كانت النار تتأجج في صدري و لو لم أمسك أعصابي ، لكنت أحرقت المنزل بمن فيه قلت بعصبية لم أملك إخفاءها : " لا تتحدثي معي بهذه الطريقة ثانية يا رغد ... فهمت ؟؟ " رغد كانت تبدو مذعورة و تنظر إلي بدهشة ... قلت : " إنك لا تعرفين شيئا ... لا تقلبي علي ّ المواجع و دعي هذه الأيام تمر بسلام ... أتسمعين ؟؟ " و أوليتها ظهري و انصرفت عنها ... جلست في الردهة ... و جلست معي و تحديدا في رأسي كلمات رغد الأخيرة ... ( لدي خطيب يهتم لأمري و يحرص علي أفضل منك ) تبا لك يا سامر ! بعد نصف ساعة رأيت رغد تعبر الردهة ... في طريقها إلى المطبخ ... ألقت علي ّ نظرة غريبة ، ثم تابعت سيرها ... لحقت بها أنا بعد قليل ، فرأيتها تقشر البطاطا و تقطعها ... كانت دانة قد انتهت من إعداد المائدة ... قالت : " الغذاء جاهز ... تفضل وليد " رافقت دانة و أنا أسير ببطء و تردد ... إلى غرفة المائدة حيث الوجبة اللذيذة التي أعدتها ... " قل لي ما رأيك ؟؟ " " أنت ماهرة يا دانة ! محظوظ هو نوّار ! " ابتسمت بخجل و قالت : " شكرا لك ... " ثم قالت : " على فكرة دعاني للعشاء في مطعم هذه الليلة ! " " جميل ! " ثم استدركت و قلت : " ماذا قلت ؟؟ للعشاء في مطعم ؟؟ " " نعم " " و ... نحن ؟؟ " قالت : " هل تودان مرافقتنا ؟؟ " ابتسمت و قلت : " لا ، لا أقصد .. لكن .. " " آه فهمت ! لا تقلق ! سأعد لكما طعاما قبل انصرافي ! " " أوه لم أقصد هذا دانة ! إن ذهبت ستبقى رغد وحدها ! " دانه رفعت نظرها نحو السقف لتفكر ، ثم قالت : " لكن غدا السبت و سوف تنام مبكرة ! أنت من ستظل وحيدا ! " " لا يفرق الأمر معي كثيرا ... " فلطالما عشت وحيدا ... لا تشاركني أيامي سوى الهموم و الذكريات ... " فيم شردت أخي ؟ " سألتني دانة حين رأتني سارحا ... قلت : " دانة ... اذهبي و استدعي رغد لتجلس معنا " " لن تفعل ! أعرفها ! " " إذن ... دعينا نذهب نحن إليها ! " و قرنت القول بالعمل ! رفعت الطبق الرئيسي و حملته إلى المطبخ ، و وضعته وسط الطاولة ... بينما رغد تجلس على أحد المقاعد و تأكل أصابع البطاطا من طبق أمامها حين رأتني نظرت إلي بدهشة ، فقلت : " أنا أيضا أحب البطاطا المقلية ! هل لي بمشاركتك ؟؟ " و للمرة الأولى منذ عودتي للمنزل أرى ابتسامة على وجهها ـ و إن كانت ابتسامة سطحية ... جلست على أحد المقاعد ، فقرّبت هي طبق البطاطا مني و تناولت بعضها ... أقبلت دانة تحمل بقية الأطباق و ترتبها أمامنا واحدا بعد الآخر ... صحيح أن رغد لم تشاركنا طعامنا و لا حتى الحديث ألا أنها على الأقل شاركتنا المائدة ، و التنظيف أيضا ! بعد عدة ساعات حضر نوّار و جالسته بعض الوقت قبل أن يخرج هو و دانه للاستمتاع بسهرة خاصة ... نوّار شخص مغرور بالفعل و اتفق مع رغد في حكمها عليه ! بعدما خرجت دانة أدركت أنني أصبحت في البيت منفردا مع رغد ! هي كانت تجلس في غرفتها منذ ساعات ، و أنا أتجول في المنزل بملل لا أجد ما أفعله ... ! رن الهاتف فأسرعت إليه ... لأشغل نفسي به ... كنت انتظر اتصالا من والدي لكن الذي اتصل هو آخر شخص كنت أود سماع صوته ... أخي سامر ! سأل عن أحوالنا و ما إلى ذلك ، ثم طلب مني أن استدعي رغد ... ألكم أن تتصوروا ذلك ؟؟ أستدعي رغد لكي يتبادل الأحاديث معها هو ... رغد لم تكن تملك هاتفا في غرفتها لذلك حين أخبرتها أتت معي و جلست في نفس الغرفة تتحدث معه ! في وضع كهذا ، فإنه لمن اللياقة و الذوق أن أنصرف ... لكنني لم أرغب في الانصراف ... بل على العكس ... استرققت السمع عمدا لأعرف ما يدور بينهما من أحاديث ... " ذهبت مع خطيبها و تركتني وحدي ! لكنني كنت أدرس ، و بعد قليل سآوي للنوم ... لا تقلق علي عزيزي " عزيزي ؟؟ عزيزي ؟؟ لا يمكنني تحمل المزيد ... ألقيت بالصحيفة التي كنت أتظاهر بقراءتها و نهضت مستاءً و ذهبت إلى غرفة سامر ، و ذرعتها جيئة و ذهابا حتى صدّعت أرضها ! تناولت إحدى السجائر ـ و التي كنت على وشك الإقلاع عنها ـ و خرجت من الغرفة ، و من المنزل ، إلى الفناء الخارجي رغبة في التدخين ... إلى أن تنتهي الأيام المتبقية لي في هذا المنزل فإنني بالتأكيد سأتدهور و أعود إلى الصفر ... سمعت الباب يفتح بعد خروجي ببرهة ... و أتت رغد " إلى أين تذهب ؟؟ " التفت إليها و قلت : " ليس لأي مكان ... سأدخن هنا فقط " قالت : " لا تخرج وليد ، أنا وحدي " وحدك ؟ أليس ( عزيزك ) معك ؟؟ عودي إليه ! " أعرف " توقعت بعد ذلك أن تعود للداخل لإتمام مكالمتها ، لكنها على العكس من ذلك خرجت و وقفت قرب الباب ... تراقبني ! قالت : " يجب أن أخلد للنوم الآن ... أغادر عند السابعة و النصف صباحا " " حسنا . اطمئني ، سأنهض في الوقت المناسب " صمتت قليلا ، ثم قالت : " ألن تنام الآن ؟؟ " " لا ! لا يزال الوقت مبكرا بالنسبة لي ، كما و أنني سأنتظر دانة ... اذهبي أنت " و ظلت واقفة مكانها ... و حين رأت علامات التعجب فوق رأسي قالت : " ألن تأتي معي ؟؟ " " إلى أين ؟؟ " " إلى الداخل " " سأبقى هنا لبعض الوقت ! " و لم أر منها أي بادرة تشير إلى أنها تعتزم الدخول ! " ما المشكلة ؟؟ " " لا تخرج وليد رجاء ً " " لا أنوي الخروج أبدا ... " " إذن أدخل " يا لهذه الفتاة ! ألم تعد تصدقني أبدا ؟؟ أم تظن أنني سأرحل و أتركها و دانة هكذا ؟؟ تخلصت من سيجارتي ، و دخلت معها . هي ذهبت للنوم و أنا بقيت أشاهد التلفاز لساعتين ، حتى عادت دانة من سهرتها ! " وليد سأذهب و نوّار غدا لشراء بعض حاجيات منزلنا عصرا و قد أغيب حتى الليل " " و رغد ؟؟ تتركينها وحدها ؟؟ " " لا ! أتركها معك ! " في صباح اليوم التالي نهضت باكرا و استعددت لمرافقة رغد إلى الجامعة ... كنت في المطبخ و قد أعددت بعض الشاي و جعلت أحتسيه ببطء .. و أراقب عقربي الساعة اللذين يقتربان من السابعة و النصف ... و أخيرا ظهرت رغد ! أهناك أجمل من أن تستقبل صباحك برؤية وجوه من تحب ؟؟ قلت : " صباح الخير ... صغيرتي " ردت بشيء من الخجل ... ! قلت : " أأ ... أ نذهب الآن أم .. ترغبين بتناول الفطور ؟؟ " نظرت رغد نحو إبريق الشاي الذي أعددته ، و قالت : " هل من مزيد ؟؟ " قلت متوترا : " نعم ، أعتقد ، أجل ... تفضلي " و أنا في خشية من ألا يعجبها طعم الشاي البسيط الذي أعددته ! سكبت لها قليلا منه في أحد الأكواب و رشفت منه قليلا لم يظهر على وجهها أي استياء الحمد لله ! فشايي مقبول الطعم ! و بعدها شربت المقدار كاملا ، ثم غادرنا المنزل الجو كان منعشا جدا و من خلال نوافذ السيارة النصف مفتوحة تتسلل تيارات الهواء الباردة عابثة بشعري ! رغد كانت تجلس خلفي ملتزمة الصمت ... و رغم برودة الجو ، ألا أن مجرد وجودها في الصورة يكفي لجعل الحريق ينشب في داخلي .... في عصر ذلك اليوم و بعدما خرجت دانة مع خطيبها بقينا وحدنا في المنزل ، هي في غرفتها كالعادة ، و أنا لا أجد ما أفعله ! شعرت بملل شديد و أجريت عدة مكالمات مع بعض معارفي من أجل تمضية الوقت ألا أن الساعات مرت بطيئة جدا ... لم لا أخرج في نزهة بسيطة ... و آخذها معي ؟؟ أتراها ترحب بذلك ؟؟ أ أكون مجنونا إن طلبت ُ هذا ؟؟ لم لا أجرّب ؟! ذهبت إلى غرفتها و طرقت الباب ، و بعد قليل فتحته ... " هل أنت مشغولة ؟؟ " " أهناك شيء ؟؟ " " كنت ... أرغب بالخروج للتنزه لبعض الوقت و شراء بعض الحاجيات " و بدا على وجهها الاعتراض و قالت بسرعة : " و تتركني وحدي ؟؟ " قلت : " لا ، لا ... أصطحبك معي ... إن كنت لا تمانعين ؟ " ترددت رغد قليلا ثم قالت : " حسنا و لكن لفترة قصيرة فأنا أريد أن أذاكر " " نعم ، لساعة لا أكثر " و خرجنا معا ... حينما مررت قرب إحدى الصيدليات أوقفت سيارتي و هممت بالنزول قائلا : " سأشتري بعض الأشياء و أعود سريعا " رغد فتحت الباب مباشرة و هي تقول : " سآتي معك " قلت : " لن أتأخر ! " قالت : " ليكن ، سآتي معك " كنت أنوي شراء ما نفذ من أدويتي ، و بعض الأشياء الأخرى ... تجولت بالسيارة على الشوارع الداخلية للمدينة ... و مررنا بعدة محلات و متاجر ... سألتها بعد ذلك عما إذا كانت ترغب في شراء أي شيء ، أجابت بالنفي ، قلت : " و لا حتى ... بعض البوضا ؟؟ " قالت : " البوضا ثانية ؟؟ لم ؟ هل قررت الرحيل هذه الليلة ؟؟ " انزعجت من كلامها فقلت : " و هل أنا مجنون لأرحل و أترككما وحدكما ؟؟ " قالت : " لا ... لست مجنونا " ثم أضافت : " إنما كذاّب " عند هذه اللحظة قررت إنهاء جولتنا القصيرة ، و عدت إلى البيت . لم أنطق بكلمة بعد ، و دخلنا المنزل و ذهبت هي مباشرة إلى غرفتها و بقيت أنا في الردهة ، أكثر ضيقا مما كنت عليه قبل خروجي ... لماذا لا تتوقف عن نعتي بهذا ؟؟ ألا تدرك أنها تجرحني ؟؟ يجب أن أضع نهاية لهذا الموقف ... فيما بعد ... ذهبت لأسألها عما إذا كانت ترغب في أن نحضر عشاء ً من أحد المطاعم ، بما أن دانة ستتناول عشاءها مع خطيبها ... كان باب الغرفة مفتوحا و كانت هي تستعرض بعض لوحاتها ... " أيمكنني أن أتفرج عليها ؟؟ " " حسنا ... هذه الجديدة " كانت الرسومات جميلة و متقنة ... و فيما أنا أتفرج عليها واحدة تلو الأخرى رأيت شيئا أذهلني ! أتذكرون صورتي التي رسمتها رغد في السابق ! كانت ضمن المجموعة ... إلا أن شيئا قد تغير ! كانت العينان حمراوين ! عندما وقعت يدي و عيني على هذه الصورة ، أسرعت رغد بسحبها مني ! قلت : " دعيني أرى ! " قالت بارتباك : " هذه لا ! " قلت : " ماذا فعلت ِ بعيني ّ ؟؟ " قالت : " لا شيء ! " " لكن لم طليتهما باللون الأحمر ؟ " نظرت نحوي بحدة و قالت : " هكذا هي عيون الكذابين " اشتططت غضبا و رميت ببقية اللوحات على المكتب و خرجت من الغرفة ... و نسيت أمر العشاء و كل أمور الدنيا عدا موقف رغد المزعج مني ... و من حينها بدأت أعاملها بالمثل ... ببعض الجفاء . توالت الأيام ، و الأجواء بيننا متنافرة ، أقوم بواجباتي بمصمت و لا أتبادل أحاديث تذكر معها ... حتى أقبل يوم الأربعاء ، و هو اليوم الذي يأتي سامر فيه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معنا ... مع اقتراب موعد حضوره تعمدت ملازمة الغرفة فأنا لا أريد أن أشهد استقبالا حميما من النوع الذي يقرح المعدة ... بين الخطيبين .... و أول حديث دار بينه و بيني : " ألا يمكنك أخذ إجازة من الآن يا سامر ؟ " " لا أستطيع ! و لكن ... هل واجهت أي مشاكل ؟؟ " " لا ، غير أنني سئمت و أود المغادرة ! " و انتهزت فرصة تواجد سامر و قضيت معظم الوقت خارج المنزل ... ليس لأنني أرغب في الترويح عن نفسي بل لأنني لا أرغب في التواجد في مكان يجمعهما ... و مهما توهمت أنها عادت لي ، في النهاية ... استيقظ على الواقع المر ... أنها أصبحت له . ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ أخبرني سامر بأن وليد أبلغه عن سأمه من رعايتنا أنا و أختي دانة ! الأمر أزعجني كثيرا ... رغم أنني أعرف أنه لا يهتم بنا .. أو على الأقل لا يهتم بي . لم تكن بالفترة الهينة تلك التي قضيتُها مع وليد تحت سقف واحد ! كنت أجبر نفسي على التظاهر بالاستياء و الانزعاج منه لأكتم حقيقة تصرخ في داخلي ... أنا سعيدة بوجوده و أكاد أطير فرحا ... و فرحتي هذه تنتهي في الليل ببحر من الدموع و الآهات ، للمصير الذي ينتظرني ليت أحدا يشعر بي ! ليت أحدا ينقذني ! سامر كانت يتحدث معي بلهفة و شوق ... و كلما رأيت منه هذه المشاعر كرهت نفسي و كرهت الدنيا أكثر فأكثر ... لم يكن لدي سوى نهلة أبثها همومي ... و سأدعوها الليلة لقضاء بعض الوقت معي بعد أن يغادر سامر وليد كان قد خرج منذ الصباح و لم يعد حتى الآن ! إنها الرابعة عصرا و سامر يريد الذهاب ... ألهذا الحد هو ـ أي وليد ـ متضايق من وجوده معنا و لم يصدق أن جاء سامر ليخرج دون عودة ! " تأخر وليد ! سأتصل به " قال سامر ، فعقبت : " ربما رحل ! " نظر إلى سامر باستغراب و قال : " رحل ! مستحيل طبعا ! كيف يرحل هكذا ؟؟ " قلت : " إنه يرحل هكذا دون مقدمات ! أم نسيت ذلك ؟؟ " " لكن الآن مستحيل " و ذهب للاتصال به . عندما فرغ من مكالمته قال : " إنه في طريقه إلى هنا " و شعرت بالاطمئنان ... قلت ُ : " متى ينقضي هذا الأسبوع ... " كنت أعني أن تعود أمي و يعود أبي ، و تعود الأمور إلى أماكنها ، إلا أن سامر فهم حسب مزاجه ! ابتسم ابتسامة لطيفة و أمسك بيدي و قال بصوت حنون : " أنا أيضا أنتظر على نار ! متى يا رغد ! متى ينقضي ! " و لم ينقذني من نظراته تلك غير رنين الهاتف ... أسرعت إليه و كان والدي على الطرف الآخر ... كان والداي يتصلان من حين لآخر خلال الأيام المنصرمة ، و هذه المرة تعمدت الإطالة في الحديث معهما و استدعيت دانة من أجل وضع حواجز بيني و بين نظرات سامر ... أنا لم أعد أحتمل ... ليتني أستطيع قول شيء ... سامر ... سامحني ... لكني لا أحبك ... و لا أريد الزواج منك ! ألا تلاحظ ذلك ؟؟ بعد قليل وصل وليد ... قال سامر ممازحا : " ما هذا يا رجل ! أخبرني أين كنت تتسكع كل هذه الساعات !؟ " وليد لم يبد عليه أي علامات المرح ! بل كان عابسا ! قال سامر : " علي ّ أن أذهب الآن ... " ثم أضاف و هو ينقل بصره بيني و بين دانة : " اعتني بشقيقتي و عروسي جيدا ! " قال وليد بنبرة حادة تنم عن الاستياء : " لست ُ بحاجة لتوصية ، ماذا تظنني كنت ُ أفعل ؟ أتركهما و أتسكع في الشوارع ؟؟ " فوجئنا أنا و سامر و دانة بالنبرة الغريبة التي تحدث بها وليد ، و كلماته الجدية القوية ! سامر قال : " كنت أمزح يا رجل ما بك ! ؟؟ " لم يرد وليد ... بل جلس على المقعد ، و نزع ساعته و أخرج هاتفه المحمول و محفظته و مفاتيحه من جيبه و وضعها جميعا على المنضدة و أسند رأسه إلى المسند بشكل يفهم الناظر إليه بأنه مستاء جدا ... تبادلنا نحن الثلاثة النظرات ... المتعجبة قال سامر : " ما بك وليد ؟؟ " " لا شيء " " تبدو مستاء ً ... هل حدث شيء ما ؟؟ " " قلت ُ لك لا شيء ! ألا تسمع ؟؟ " صمت الاثنان قليلا ، ثم قال سامر : " إن كان البقاء هنا يزعجك لهذا الحد ... " و لم يتم إذ أن وليد قال مقاطعا : " أنا هنا الآن ... انصرف مطمئنا على عروسك و أختها ... إن هي إلا أيام فقط و ينتهي كل شيء " لم يجرؤ أحدنا على النطق بكلمة بعد ... رافقنا سامر إلى البوابة الخارجية و قبل انصرافه قال : " هل هناك شيء ؟؟ هل هو عصبي هكذا معكما ؟؟ " دانة قالت : " لا مطلقا ! على العكس تماما ، لكن ... اعتقد أن شيئا ما حدث معه و هو في الخارج ! " عندما عدنا للداخل ، وجدنا وليد و قد اضطجع على المقعد و غطى عينيه المغمضتين بذراعه ... شعرت ُ بالقلق الشديد عليه ... إذ يبدو من تصرفه و منظره الآن أن شيئا ما قد ضايقه كثيرا ... فهل هو مستاء من البقاء معنا ؟؟ قالت لي دانة : " سيمر نوّار لاصطحابي إلى السوق بعد قليل " " ماذا ؟؟ ستخرجين و تتركيني ؟؟ " " ألن تأتي نهلة لزيارتك الليلة ؟؟ " " بلى و لكن إلى ذلك الحين ، هل سأظل وحدي ؟؟ " " وحدك ؟؟ و معك كل هذا ؟؟ " و أشارت بيدها نحو وليد قلت ُ بقلق : " إنه يبدو مخيفا ! " ضحكت دانة و قالت : " حتى وليد !؟ أخشى أنك تشعرين بالخوف من زوجك أيضا ! " و انصرفت إلى غرفتها تستعد للخروج ... بقيت ُ أنا واقفة أراقب وليد الذي يبدو أنه نام ! خطوة خطوة ، بهدوء تام اقتربت ُ منه ! كان لدي فضول لألقي نظرة عن كثب على الأشياء التي وضعها على المنضدة ! يبدو شكل ميدالية المفاتيح جذابا ! مع أنه قديم ! مددت يدي بحذر حتى أمسكت ُ بالميدالية و حركتها ببطء فأصدرت صوتا خفيفا ، راقبت وليد بتمعن ، و لم ألحظ عليه أي حركة ... الآن الميدالية في يدي ! ما أكثر المفاتيح ! و الآن ، هل أستطيع أن ألقي نظرة على الهاتف أيضا ؟؟ إنه من طراز مختلف عن هاتفي سامر و أبي ! مددت يدي نحو الهاتف و لم أكد ألمسه ! " ماذا تفعلين !؟ " قال وليد فجأة وهو يزيح ذراعه عن عينيه و ينظر إلي ! جفلت ُ و أصبت ُ بالروع فانتفضت ُ فجأة ! وقعت المفاتيح من يدي على المنضدة هم وليد بالجلوس و رأيت وجهه شديد الإحمرار و زخات من العرق تلمع على جبينه ... شعرت ُ بارتباك ٍ شديد و قبل أن يستوي جالسا أطلقت ساقي للريح و فررت هاربة ! في غرفتي بعد ذلك تنفست الصعداء ! كم يبدو مخيفا هذا الرجل ! هل ظن أنني أحاول سرقته ؟؟ ما الذي دفع بي إلى حماقة كهذه ! عندما أخبرت ُ نهلة بالأمر لاحقا انفجرت ضاحكة كنت قد اصطحبت ُ نهلة إلى غرفتي كالعادة ، و تركت وليد في البداية مع حسام ثم وحيدا بعد انصرافه عادة ما تطول جلساتنا أنا و نهلة و بالتالي سيظل وليد وحيدا في المنزل ، و أخشى أن يخرج ... " سوف أذهب لأتأكد من وجوده ! " " هيا رغد ! لا أظنه سيغادر و هو يعلم أنك وحدك ! " " بل أنت ِ معي ! " قالت نهلة و هي تنفخ صدرها و تقطب حواجبها و ترفع كتفيها ـ كعادتها حين تتقمص شخصية رجل : " ما دمت ُ معك ِ فلسنا بحاجة لوجود أي وليد ! " خرجت ُ من الغرفة لهدفين : لجلب بعض العصير ، و لتفقد وليد ! و الهدفان وجدتهما في المطبخ ! واحد بارد و الثاني حار ! هو يجلس على المقعد يقلّب صفحات إحدى الصحف ، لكني متأكدة من أن عينيه تخترقان الأوراق ! تناولت ثلاثة كؤوس و ملأت اثنين منها بالعصير البارد الذي أعددته قبل ساعة و وضعتهما في صينية ... ثم قلت : " أترغب ببعض العصير ؟؟ " قال دون أن يرفع عينيه عن الصحيفة : " نعم ، شكرا " سكبتُ العصير في الكأس الثالث و حملته إليه ... وضعته قربه على المنضدة ، و سرعان ما أمسك به و دلق نصف محتواه في جوفه دفعة واحدة ! كان باردا جدا ، و يكاد يتجمد ! كيف استطاع شربه بهذا الشكل !؟؟ كل هذا و عيناه محدقتين في الصحيفة ! حملت ُ الصينية و سرت نحو الباب ... " رغد " نطق باسمي بغتة كدت معها أترنح و أسقط الصينية من يدي بما حوت ! التفت إليه فرأيته ينظر إلي ... قلت : " نعم ؟؟ " فجاء صوتي أشبه بصوت تلميذة نسيت حل الواجب و تقف بذعر أمام معلمتها ! قال : " هل أجلب لكما طعاما للعشاء من أحد المطاعم ؟؟ " قلت بسرعة : " ماذا ؟؟؟ لا ! " قال : " و لكن هل ستتركين ضيفتك دون عشاء ؟ " " لا تهتم ، إنها نهلة لا غير ! ... " " و لكن ... حسنا ... كما تشائين " و عاد يطالع الصحيفة... هممت أنا بالإنصراف ، ثم توقفت ُ و قلت : " لا تخرج وليد " فرأيت عينيه تنظران إلي من فوق الصحيفة ... بحدّه ! أسرعت ُ خطاي نحو غرفتي حيث نهلة ، دفعت إليها بالصينية فأمسكت بها و أنا تهالكت على السرير ! " حمدا لله على السلامة ! " ضحكت من تعليق نهلة رغم أنني لا أجد الوقت مناسبا للضحك ! قلت : " مرعب يا نهلة ! اليوم يبدو مخيفا جدا ! كالفهد الأسود ! " " صحيح ؟؟ دعيني أرى ! " " أوه نهلة ! توقفي عن ذلك ! " ضحكت نهلة و وضعت الصينية على المنضدة و أحضرت لي العصير و هي تقول : " خذي اشربي ، فأنت ِ تبدين كاللبؤة الحمراء ! " أخذت منها الكأس و رشفت رشفة صغيرة ... " بارد جدا ! " قالت نهلة : " أنت حارة جدا ! هيا اشربيه ! " بعدما فرغنا من شرب العصير ... قلت : " اليوم ... بدا مستاء ً من شيء ما ... عندما يكون مغتاظا فإنه يصبح ... يصبح ... جذابا جدا ! " نهلة كتفت يديها و قالت : " رغد ! عدنا للجنون ؟؟ ! " كلمتها هذه أيقظتني من غفوتي القصيرة في عالم الوهم ... و حين رأت نهلة تعبيرات الأسى تعود للظهور على وجهي قالت بعطف : " عزيزتي ... أنا قلقة بشأنك و أخشى ... أن تحطمي نفسك بهذا الشكل " وقفت كشخص يخرج من البحر ... و يرفع رأسه للأعلى محاولا الفرار من الأمواج التي لا شك مهلكة إياه ... و قلت : " إن كان علي أن أعيش مع شخص لا أحبه طوال عمري ، فهل كثير علي أن أسعد نفسي بأوهام عابرة قبل الغرق في بحر الواقع ؟؟ " وقفت نهلة ازائي و قالت : " لم يفت الأوان بعد ... إن أردت أن تتشبثي بطوق النجاة ... " طردت الأفكار السخيفة التي غزت رأسي لحظتها ، و هززت رأسي لأتأكد من نثرها خارجا ... ثم قلت : " دعينا من ذلك ، ما رأيك بالخروج معي إلى السوق غدا سأشتري ملابس للعيد !؟؟ " نهلة استجابت لرغبتي في محي الألم ، و قالت مشجعة : " فكرة رائعة ! " بعدما انصرفت نهلة ، و كان ذلك قرابة العاشرة مساء ً ، بحثت عن وليد فوجدته يشاهد التلفاز في غرفة الضيوف ... " وليد " لم يجب ، فقط نظر إلي ... " أنا آسفة لكنني أخشى البقاء في البيت مع ابنة خالتي وحدنا " لم يعلّق ! قلت : " دانة لم تعد " " أعرف " " أأ ... أردت أن أطلب منك شيئا ... إن سمحت " " تفضلي ؟؟ " " غدا أود الذهاب إلى بيت خالتي لأصطحب نهلة إلى السوق ... ممكن ؟؟ " " حسنا " و أبعد نظره عني ، إلى التلفاز ! قلت : " أترافقنا إلى السوق ؟ " قال بنفاذ صبر و ضيق : " ألم أقل حسنا ؟؟ إذن حسنا " لم تعجبني الطريقة التي تحدث بها ... و لكني أردت أن أوضح الأمر أكثر : " أعني أن تلازمنا أثناء التسوق ... أيمكنك ذلك ؟؟ " قال بنبرة ضايقتني كثيرا جدا : " نعم ، كما تأمرين يا ابنة عمي ... ألست ُ هنا لحراستك ؟ سأنفذ وصايا خطيبك و والديه بدقة ، ماذا بعد ؟؟ " وقفت مذهولة من جملته هذه ... فهل يظن هو أن وجوده يعني فقط مهمة حراسة و خدمة موكلة إليه سينتهي منها و يختفي من جديد ؟؟ هل أعني أنا له فقط مهمة مؤقتة مجبور على تنفيذها كارها ؟؟ قلت بانفعال : " انس الأمر ، لن أذهب معك لأي مكان " و خرجت من الغرفة بسرعة ، و إلى غرفتي ... و إلى دموعي ! دقائق و إذا به يقف عند الباب ... " أنا آسف رغد ! أرجوك لا تبكي بسببي " مسحت دموعي و قلت بعصبية: " أنا الآسفة لأنني حملتك ما لا ترغب في تحمله ! و لكن من كان ليرافقني و أبي و سامر غائبان ؟؟ من كان سيهتم لأمري و أنا لا أهل لي سواكم ؟؟ " قال : " لم أقصد ... أرجوك لا تسيئي فهمي " قلت : " حسام لا يوافق أبدا على مرافقتنا إلى السوق و إلا لكنا ذهبنا معه ... إن هي إلا أيام و تتخلص من هذا العبء الثقيل و مني " وليد قال بعصبية : " قلت لك لم أقصد هذا .. سأرافقكما إلى حيث تشاءان توقفي عن البكاء الآن " وليد كان مستاءا جدا كما ظهر من تعبيرات وجهه و انفعاله كتمت دموعي رغما عنها ، و أنهيت المشادة بسلام ... في اليوم التالي رافقنا إلى السوق و اشتريت الكثير من الحاجيات .. و الأسواق كانت مزدحمة جدا بالناس ! فغدا هو عيد الحجاج ! و كان من بين ما اشتريت هدية لدانة و أخرى لوليد ! طبعا لم أدعه يلحظهما ... كان يسير إلى جانبنا و يساعدنا في حمل الأكياس ! و نهلة بين حين و آخر تلقي بتعليقاتها المداعبة حوله ! اعتقد أنني بالغت كثيرا في تسوقي ! و بالتأكيد شعر وليد بالضجر ... إلا أن وجوم وجهه منعني من تقديم أي اعتذار ! عندما أوصلنا نهلة إلى بيتها دخلت معها لبعض الوقت لألقي تحياتي على العائلة ، و خرج حسام و تحدث مع وليد ... اخترت هدية لدانة هذه المرة علبة أنيقة لحفظ المجوهرات ، أما لوليد ـ و لأنني لا أفهم في هدايا الرجال و قلما أهدي أبي أ و سامر شيئا ـ فقد اشتريت له ميدالية مفاتيح أكثر جمالا و أناقة من ميداليته الحالية ! كنت سعيدة بما اشتريت ! هل ستعجبه هديتي ؟؟ عندما عدنا للبيت وجدنا دانة و قد دعت خطيبها لقضاء أمسية معها في المنزل ... ما أن علم وليد بوجود نوار حتى سأل دانة : " متى سيغادر ؟؟ " قالت : " منتصف الليل ! لم ؟؟ " قال : " مادام موجودا هنا إذن أستطيع الخروج قليلا ! " و نظر باتجاهي ... تتمه لم يكن باستطاعتي منعه ... لكنني اغتظت ُ من إثباته مرة بعد أخرى بأنه يفتش عن أقل فرصة ليغادر المنزل ... و يبتعد عني ... هذا أثار جنوني و سخطي الشديد ! و مرت الساعات و أنا وحيدة في غرفة المعيشة ... دانة تستمتع بوقتها مع خطيبها المغرور في ليلة العيد و وليد يتجول في مكان ما ... و أنا مرغمة على مشاهدة التلفاز وحيدة ! أُف ... متى يعود هذا ؟؟ و اقتربت الساعة من الثانية عشر منتصف الليل ... أنا أشعر بالنعاس و لكنني لا أستطيع النوم قبل أن يعود ! لماذا لم يعد حتى الآن ؟؟ هل فعلها و رحل ؟؟ طبعا مستحيل ... كنت ُ على وشك الاتصال به حين سمعت صوت الباب ينفتح ، فأسرعت نحو المدخل و رأيت وليد يدخل و يغلق الباب خلفه حين رآني قال : " ألا زلت ِ مستيقظة !؟ " قلت بتوتر : " لماذا تأخرت ؟؟ " قال : " هل حدث شيء ؟ " قلت : " و هل كنت تنتظر أن يحدث شيء حتى تعود ؟؟ لا تدعني وحيدة هكذا ثانية " و زادني حنقا البرود الذي قابلتني به نظراته ! و ببساطة قال : " حسنا " ثم سار ذاهبا إلى غرفة سامر ! لماذا يعاملني بهذا البرود ؟؟ أكاد أجن ... لم لا يدع لي فرصة لأعطيه هديته ؟؟ بعد نصف ساعة غادر نوّار ، و تعجبت دانة لدى رؤيتي ساهرة لهذا الوقت أمام التلفاز ! " متى ستنامين ؟؟ " " متى ما شعرت بالنعاس ! " و تركتني هي و أوت إلى فراشها ... ففكرت في إهدائها الهدية غدا ... الساعة الثانية عشر و النصف ، رأيت جاء وليد يقدم إلى غرفة المعيشة ... كان شعره مبللا ... لابد أنه كان يستحم ! قال : " ألم تنامي بعد ؟؟ " قلت : " لا أشعر بالنعاس ... أصابني الأرق و الإجهاد ! " لم يكترث لي ، بل ذهب إلى المطبخ ، ثم عاد و مر بي قبل ذهابه للنوم ... قال : " تصبحين على خير " و أولاني ظهره ... سيطر علي الغضب من إهماله لي ! قبل أن ينصرف ناديته بسرعة : " وليد " استدار إلي و لم يتكلم بل انتظر سماع ما سأقوله ... أنا فقدت شجاعتي التي كنت أتوهم امتلاكي لها ... و وقفت بخجل و ارتباك و أنا اخفي العلبة خلف ظهري ! وليد راقبني بحيرة و ضجر ! اقتربت منه شيئا فشيئا و أنا مطأطئة الرأس خجلا و بالتأكيد وجنتاي متوهجتان احمرارا ! رفعت بصري بحياء و قلت : " كل عام و أنت َ بخير " ثم أظهرت الهدية و قدّمتها إليه : " هذه ِ لك " لقد كانت يداي ترتجفان و أنا أقدمها نحوه ، و بالتأكيد لحظ هو ذلك ... نظراتنا الآن متشابكة ... كنت أبحث عن أي كلمة شكر أو إشارة سرور ... و أخيرا ابتسم وليد ابتسامة جميلة مذهلة و قال بارتباك ... " و ... أنت ِ بخير ! ... أأ ... شكرا ! " وليد مدّ يده و أمسك بالهدية ... قال : " هل أفتحها ؟؟ " غضضت ُ بصري حياء ً و قلت : " كما تشاء " و هم هو بفتحها ، بينما قلبي أنا يخفق بشدة ! لكن الصوت الذي سمعته ليس صوت انفتاح العلبة ، بل صوت انفتاح باب ... رفعت نظري إليه و حدقنا ببعضنا برهة ، و نحن نسمع صوت باب المدخل ينفتح ... شعرت بذعر ... قلت : " ما هذا ؟؟ " وليد سار ببطء و حذر ذاهبا ناحية الباب و تبعته أنا بخوف ... قال وليد قبل أن يصل إلى المدخل : " من هناك ؟؟ " أنا أردت أن أمسك بيد وليد من الذعر ... ربما يكون أحد اللصوص ... وليد أشار إلي أن ألزم مكاني ، و تقدم هو نحو المدخل ... أوشك قلبي على الوقوع أرضا ... و للمفاجأة المذهلة رأينا سامر يظهر أمامنا ! وقفنا متسمرين في مكانينا في ذهول ! قال وليد : " سامر !! " سامر نظر إلينا بدهشة هو الآخر ، و قال : " آه ! أنتم مستيقظون ؟ " قال وليد : " هل هناك شيء ؟؟ " قال سامر : " أردت ُ أن أفاجئكم بظهوري غدا ! لكن أُفسِدت ْ المفاجأة ! " الآن سامر نظر إلي و ابتسم ، و قال : " لم أشأ أن يمر العيد و أنا بعيد جئت أشارككم ! " و أقبل نحوي ، و أمسك بيدي و قال : " عروسي ... كل عام و أنت ِ بخير ! "
__________________
لو صرخت الدنيا ف وشي اكيد هعلي حسي ... لو كان ده وقت الانهيار انا حاطه روحي ع كفي ... لو كان ده وقت الانفجار .. اكيد ملغمه نفسي ...!! * ** فى حياة كل منا ذكرى تمنى الا يمر بها ولكن لولا ألمها لارتكب المزيد من الاخطاء فى حق نفسه وفى حق الاخرين* ** الحمدلله ![]() ![]() |
#13
|
||||
|
||||
![]() الحلقةالثانيةوالعشرون
******** لم تمر ليلتي بسلام ... و رغم أنني نمت متأخرة على غير العادة إلا أنني نهضت باكرا ... لم يكن أحدهم قد نهض آنذاك ، و بعد قليل نهضت دانة و ذهبنا للمطبخ لإعداد كعكة العيد ! دانة كانت مفعمة بالحيوية و النشاط أما أنا فكنت في غاية الكسل و الملل و الكآبة أيضا ... بعد مدة اجتمعنا نحن الأربعة حول مائدة الفطور ... و تناولنا حصصنا من الكعكة ... سامر كان متحمسا جدا و منفعلا ، و يتحدث عن النزهات التي ينوي القيام بها هذا اليوم ... قالت دانة : " أنا لن أشارككم فأنا سأخرج مع خطيبي ! " قال وليد : " و أنا سأخرج الآن " و نهض مباشرة ... سامر قال : " إلى أين ؟؟ " " سأتجول في المنطقة " و سرعان ما غادر قال سامر : " ما به ؟ لا يبدو طبيعيا ! " قلت : " إنه يريد الرحيل " قال : " لن يغادر قبل زفافنا على أية حال ! " ثم ابتسم ابتسامته التي تزعجني و هو يقول : " بعد أيام فقط ... " أهداني سامر زوجا من الأقراط الذهبية ، أما أنا فأهديته إحدى لوحاتي ! لم تكن لدي فكرة عن شيء جديد أهديه إليه ! قضينا نهار العيد ، أنا و سامر نتجول من مكان لآخر ... و عند العصر ، و نحن في الطريق إلى البيت قال سامر : " حصلت على هذا اليوم بصعوبة ، لا زال أمامي مشوار العودة الطويل " قلت : " أنت تكلف نفسك مشقة ! ما كان يجدر بك الحضور ! " سامر التفت إلي باستغراب و قال : " لا أحضر ؟؟ في يوم مميز كهذا ؟؟ " قلت : " أقصد .. مشقة السفر ... حضورا و ذهابا ... " قال : " لأجلك أنت ِ " صمت ، و أخذت أراقب الأشياء المتحركة من حولي من خلال النافذة ... بعد قليل ، قال سامر : " لم كنت ساهرة لذلك الوقت المتأخر ... البارحة ؟؟ " التفت نحوه بتعجب ! قلت : " لم أشعر بالنعاس قبلها ... " و أضفت : " كما و أن ... وليد كان قد عاد قبل ذلك بقليل من الخارج ، و لم أشعر بارتياح للنوم و هو خارج المنزل " قال : " هل ... يسهر بعيدا كل ليلة ؟؟ " " لا ! أبدا ... فقط البارحة ، ربما حضر أحد احتفالات العيد ! " عندما عندنا للمنزل كنا أول الواصلين تجازوت الساعة السادسة و لم يعد لا وليد و لا دانة ... سامر بدأ يلقي بنظرة بين حين و آخر عليها في اضطراب ... " تأخرا ! يجب أن أغادر الآن فأمامي مشوار طويل " و المشوار بين المدينتين يستغرق ساعات يقضيها سامر في قيادة السيارة لابد أنه متعب الآن ! فقد قضينا ساعات أيضا في السيارة ... قام سامر و اتصل بوليد ، و يبدو أن هذا الأخير أخبره بأنه لن يعود قريبا لذا أتى سامر و قال : " أ آخذك إلى بيت خالتك ؟؟ " لم أحبذ الفكرة و مع ذلك اتصلت بهم ، و لم أجد أحدا ... لابد أنهم ذهبوا أيضا للتمتع بيوم العيد ... قلت : " أين هو وليد ؟؟ " " يقول أنه في مكان بعيد ، و قد يتأخر في الحضور ... " و تنهد سامر باستياء ! إنها المرة الأولى التي يكون فيها معي و يرغب في الذهاب ! قبيل الثامنة ، خرجنا مجددا و اشترينا عشاء خفيفا من مطعم قريب و عندنا للمنزل و أيضا لم نجد أحدا هناك ... عاود سامر الاتصال بوليد بعد العشاء ... " إن علي ّ الذهاب الآن ... فمتى ستعود ؟؟ " و من خلال تعابير سامر المستاءة استنتجت رد وليد ! قال سامر : " و الآن هل لا حضرت ؟؟ " بعد أقل من ساعة من المكالمة وصل وليد ... بادره سامر بالعتاب : " تأخرت يا وليد كثيرا .. متى سأصل إلى شقتي ؟؟ " قال : " شاركت الآخرين مهرجانات العيد ... لا أحد يبقى في المنزل في يوم كهذا " فهمت أنه يقصد أن وجودي يعيقه عن الترفيه عن نفسه في يوم مميز ... التزمت الصمت ... قال سامر : " سأذهب الآن ... " و صافحني ، ثم صافح وليد و قال : " تصبحان على خير " بقيت مع وليد ... وحيدين في المنزل ... حينما رأيت الضجر باد عليه قلت : " إن كنت تود الذهاب لمتابعة سهرتك في مكان ما ... فخذني إلى بيت إحدى صديقاتي ثم اذهب " و ببساطة تجاهلني ! قلت بغضب : " وليد أنا أتحدث معك ! " الفت إلي و قال : " أسمعك ، لكنني لست أبلها لأفعل ذلك " صمت قليلا ، ثم قلت : " أنا آسفة ... للتسبب بإزعاجك طوال هذه المدة ... بقيت بضع أيام " لم يرد ... قلت : " أنا أستطيع المكوث في بيت خالتي ، لكن المشكلة مع دانة ... و إلا لكنا وفرنا عليك عناء البقاء معنا " رماني وليد بنظرة مخيفة أخرست لساني ! لم أشأ أن أتركه وحيدا و أنعزل في غرفتي ... أحضرت كراستي و عدّة الرسم إلى غرفة المعيشة ، حيث يجلس هو ، و بدأت أرسم ! وليد كان يتصفح قنوات التلفاز و لا يجد فيها من يجذبه للمتابعة لكنه مهووس على ما يبدو بالأخبار ... بعد قليل ، أوقف وليد التلفاز و أخذ الهاتف ، و طلب أحد الأرقام ... أنا لم أكن أرسم بقدر ما كنت أراقب تحركاته ... و هاهو يتحدّث إلى الطرف الآخر : " مرحبا ، أنا وليد شاكر " ( .................. ) " أهلا بك آنسة أروى ، كل عام و أنتم بخير ، كيف هي أموركم ؟؟ " تركت ُ القلم من يدي و أصغيت ُ باهتمام ... " ماذا ؟؟ متى حدث ذلك ؟؟ " ( .................... ) " أوه ... أنا آسف ... و كيف حالتها الآن ؟؟ أهي أفضل ؟؟ " ( .................... ) " لا تقلقي ، بلغيها و العم سلامي ... و أخبريهما بأنني سأعود في أقرب فرصة إن شاء الله " ( .................. ) " شكرا لك ِ ، وافوني بأخباركم أولا بأول ، تصبحين على خير " و أنهى المكالمة ... و عاد و شغّل التلفاز ، إلا أنه كان شاردا ... من تكون أروى هذه ؟؟ تركت ُ اللوحة جانبا ، و قلت ُ بعد تردد قصير ضعيف غلبه الفضول الشديد : " وليد " " نعم ؟؟ " " من كنت تحدّث ؟؟ " بدا عليه الاستغراب ، ثم قال : " لم السؤال ؟؟ " " لاحظت ... استياءك من خبر وصلك من الطرف الآخر ... خيرا ؟؟ " قال : " زوجة صديقي رحمه الله تعرضت لنوبة قلبية و ترقد في المستشفى " صمت ّ قليلا ثم سألته : " و هي من كنت تتحدّث معها ؟؟ " " كلا . هذه ابنتها " ابنة صديقه ؟ إذن لابد أنها مجرد طفلة ! بعد قليل أوقف وليد التلفاز و نهض هاما بالمغادرة قلت : " إلى أين ؟؟ " التفت إلي بانزعاج و قال : " سأذهب للنوم ، إلا إذا كنت ِ تريدين من حارسك البقاء ساهرا لحين نومك ؟ " لم أجب ، فأنا لم أجد الكلمات المناسبة ... و هو لا يدرك كم هي جارحة كلماته و قاسية معاملته ... ليته يعرف ! استدار ليخرج فعدت ُ أناديه : " وليد " تنهّد و هو يلتفت نحوي قائلا : " ماذا الآن ؟؟ " تقدمت نحوه قليلا ، و فتشت في وجهه عن أي ملامح تشجعني على سؤالي ، لكنني لم أجد ... فبقيت صامتة ... " نعم ؟؟ ماذا لديك ؟؟ " توترت ، لكني بعدها جمعت غبار شجاعتي و قلت : " هل أعجبَتـْـك ؟؟ " " ما هي ؟؟ " " الهدية ! " وليد بعثر نظره هنا و هناك ، ثم قال : " لا أذكر أين تركتها ... آسف ! " هنا عند هذه اللحظة تمزّقت أوهامي ... فإن كان قد أضاع هدية أعطيتها له مساء الأمس ...قبل أن يفتحها ... فكيف بماض ولى منذ تسع سنين ؟؟ و إدراكي لحقيقة أن وليد لم يعد وليد ... قتل كل رغبة في الحياة و السعادة لدي ... الأيام التالية قضيتها حبيسة الغرفة في أنهار من الدموع ... حتى أن دانة و التي عادة ما تتهمني بأنني أتدلل بدموعي هذه بدأت تقلق بشأني و صارت تحضر لي الطعام إلى غرفتي ... زارتني نهلة ، و خالتي ... الجميع يحاول التحدث ليعرف سبب حزني إلا أنني لم أكن أدع الفرصة لهم ... و عندما تتصل أمي أكتفي بكلمات بسيطة معها أو مع أبي ، و أعود إلى غرفتي ... أما سامر ، فقد كنت أتحاشى الحديث معه قدر الإمكان ... في إحدى الليالي ، جاءتني دانة و قالت بمرح ـ محاولة بث البهجة في قلبي ـ " رغد ! أنت مدعوّة على العشاء معي و مع وليد في أرقى مطاعم المدينة ! هيا بسرعة وليد ينتظرنا " هي نظرة عابرة ألقيتها على دانة ثم أشحت بوجهي عنها و قلت : " لن أذهب " " ماذا رغد ! هيا لا تدعي الفرصة تفوتنا ! " " لا أريد دانة رجاء ً دعيني وحدي " دانة اقتربت مني ... و قد غطت وجهها تعبيرات القلق و قالت : " هيا رغد ! " هززت رأسي اعتراضا ، فقالت : " إذن سنذهب و نتركك وحدك ! " كانت تعرف أن نقطة ضعفي هي الوحدة ... و أتت تستخدمها كسلاح لجبري على الذهاب معهما ... حدقت بها لبرهة ثم قلت : " افعلا ما تشاءان " رفعت حاجبيها دهشة و قالت : " رغد ! معقول ! هل تخلّصت من الخوف ! " قلت بعصبية : " اذهبا و اتركاني وحدي ... دعيني وحدي يا دانة ... دعيني وحدي ... " و انخرطت في بكاء مرير ... دانة خرجت ... و بعد قليل عادت مع وليد ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ أحوال صغيرتي كانت غريبة ، و أصبحت مقلقة آخر الأيام ... في الواقع هي كانت مستاءة جدا منذ أن قدمت ، إلا أن استياءها ازداد مؤخرا ... كانت تحبس نفسها في الغرفة ، و لا تشاركنا لا الطعام و لا الكلام . قررت أن نخرج معها لتناول العشاء في أحد المطاعم و من ثم التنزه فعلّ ذلك ينعشها ... إلا أن دانة أخبرتني بأنها رفضت القدوم معنا و قالت لها ( اذهبا و دعوني وحدي ) في السابق كانت دانة تترجم تصرفات رغد على أنها تدلل ، فهي متدللة جدا ... إلا أنها الآن قالت : " أنا قلقة يا وليد ... هناك شيء تخفيه عنا ... لا أعرف ما الذي يحزنها هكذا " كنت خلال الفترة الأخيرة أتحاشى اللقاء بها ، فلا قلبي و لا معدتي بقادرين على تحمل المزيد ... إلا أنني هذه اللحظة لم أتمالك نفسي و ذهبت مع دانة إلى رغد ... الأخيرة كانت في غرفتها تبكي بغزارة تفطر قلب الحجر ... فكيف بقلبي أنا ؟؟ حاولت التحدث معها إلا أنها لم تستجب لي ، و قالت بعصبية : " اخرجا و دعاني و شأني " بقيت أيام على موعد عودة والدي ّ من رحلة الحج ... ربما يعود كل شيء على ما كان بعد عودتهما ... و لكن إلى ذلك الحين يجب أن أفعل شيئا ! صبرت ساعة أو ما شابه ، ثم عدت إليها بمفردي ... و للأسى وجدتها لا تزال تبكي ... " رغد ... انهضي ... دعينا نذهب لأي مكان تحبين ! " ما وصلني منها أي جواب ... كانت تجلس على السرير و تضع الوسادة في حضنها ... " رغد ... ما بك ؟؟ أخبريني ؟؟ " " لا شيء " " إذن لم تبكين ؟ " " لا لسبب " " أرجوك ... أبلغيني بما يزعجك ؟؟ " " قلت لا شيء " " ربما أنا ؟؟ " حين قلت ذلك نظرت إلي رغد نظرة غريبة مليئة بالمعاني ... " إن ... كنتِ منزعجة بسببي ... فأنا آسف ... ما هي إلا أيام معدودة و يعود والداي و سامر ... " عندها أغمضت رغد عينيها و ارتفع صوت بكائها المرير ... كيف لي أن أحتمل رؤيتها هكذا ؟؟ بصعوبة بالغة منعت ُ يدي من التربيت على كتفيها ... و لكنني لم أستطع منع نفسي من قول : " صغيرتي الغالية كفى أرجوك ... لا أحتمل دموعك " رغد قالت : " أخرج " و كررت الكلمة مرتين ، فغادرت الغرفة و أنا في قعر التعاسة و الكآبة ... عند الفجر كنت في طريقي للخروج من المنزل قاصدا المسجد ... فيما أنا أمر من غرفة المعيشة سمعت صوتا يصدر من هناك ... سرت بحذر حتى دخلت الغرفة ، و أذهلتني رؤية رغد تبكي و تنحب هناك " رغد ! " التفتت إلي رغد بذعر إذ يبدو أنها لم تنتبه لقدومي ... ثم نهضت واقفة بارتباك ... تقدمت منها ، و قلت : " بالله عليك أخبريني ... ما بك ؟؟ " رغد أرادت الخروج لكنني وقفت سادا فتحة الباب مانعا إياها من الخروج " أخبريني ما بك أولا " " دعني و شأني " " لن أدعك حتى تخبريني " " و لم َ تود أن تعرف ؟؟ ماذا يهمك أنت ؟؟ " " يهمني كل شيء يتعلق بك ... كل شيء " " كذّاب " انقبضت عضلاتي استياء ً ... و استدرت للمغادرة ... خطوت خطوتين ، و توقعت أن تخرج رغد من بعدي ، إلا أنها لم تخرج ... عدت إلى الغرفة فرأيتها جاثية على الأرض باستسلام تام للدموع ... نفس الجلسة التي كانت تجلسها و هي طفلة ، حين يعتصرها الألم ... دنوت ُ منها حتى صرت ازاءها مباشرة ، و انحنيت و قلت بصوت أجش : " أرجوك يا رغد .. أرجوك توقفي عن هذا و أخبريني بما يزعجك ، و أيا كان ... أنا سأزيحه عنك نهائيا " رغد رفعت نظرها ... كأنها تطلب التأكيد ... قلت : " أي شيء يضايقك و يحزنك لهذا الحد ... أبلغيني و أنا أبعده عنك .. " " صحيح ؟؟ " " نعم يا رغد ، لا تظني أنني فقط أكذب و أدعي ... لا تعرفين كم هي غالية دموعك عندي ... " " مهما كانت غالية ... هناك ما هو أغلى ... و هناك ما لا يمكن فعله أبدا" " أخبريني أنت فقط ، و سترين " رغد هزت رأسها نفيا ... و قالت : " لا لن تفعل ! لن تستطيع شيئا ! " " أخبريني ماذا تريدين ؟؟ " " أريد أمي " قلت بتعجب : " تريدين أمي !؟؟ " هزت رغد رأسها اعتراضا و قالت في صيحة قاتلة : " أريد أمي أنا ... لا أمك أنت ... أنا أريد أمي ... فهي من يستطيع مساعدتي ... لو بقيت حية ... لا أحد منكم يستطيع ... هل يمكنك إحضارها إلي ؟؟ " فوجئت بقولها هذا و شعرت بشرايين قلبي تتفجر بعنف ... أيعقل أنها لا تزل تفكر في أمها ـ التي لم تعرفها يوما ـ حتى الآن ؟؟ أتقصّر أمي في شيء للحد الذي يجعل رغد تبحث عن المساعدة من أمها الراحلة منذ 15 عاما ؟؟ بعدما انتهت من نوبة بكائها قالت بتحد ٍ : " هل تستطيع إحضار أمي إلي ؟؟ " وجدت نفسي أقول : " اعتبريني أنا أمك ... " ثم أضفت : " ألم أكن كذلك ذات يوم ؟؟ " نظرت إلي رغد بيأس ... قلت : " لطالما كنت ِ تعتمدين علي و تثقين بي ... " و لما لم أجد منها تفاعلا ... نهضت و أنا أقول : " سأذهب لتأدية الصلاة " عدت ُ من الخارج بعد قليل ، و لم أجدها ... ذهبت إلى غرفة سامر و اضطجعت على سريره و أخذتني دوامة الأفكار إلى عالم من المتاهات و الدهاليز ... تذكرت ... يوما كنت فيه في غرفتي بمنزلنا القديم ، و سمعت طرقا خفيفا على الباب ... و حين فتحته ، وجدت رغد تبكي بألم ... مليئة بالخدوش و الكدمات ... أعتقد أنني تعلقت بها ابتداء ً من ذلك اليوم ... و لا أعلم انتهاء ً بأي يوم ؟؟ فجأة ... سمعت ُ طرقات خفيفة بالكاد التقطتها أذناي ، ما يدل على تردد اليد الطارقة ... قمت و فتحت الباب ... و وجدت رغد تقف عنده ... كانت عيناها شديدتي التورم و الاحمرار ، و وجهها شديد الحزن و الكآبة ... قلت : " صغيرتي ... " ما أن نطقت بذلك حتى قفزت الدموع من عينيها ... حاولت ُ تهدئتها ... فمسحت ْ الدموع و لملمت ْ شيئا من شتات قوتها و همت بالكلام ... لكن التردد كان مسيطرا عليها ... قلت مشجعا : " نعم صغيرتي ... قولي ما تودين ؟ " ازدردت ريقها و سحبت عدة أنفاس ... ثم نظرت إلي نظرة مريرة ... تراجعت ، و خطت خطوة للوراء لكنني استوقفتها : " هيا رغد ... أنا أسمعك " " لن تستطيع مساعدتي " " بلى سأفعل ... قولي ماذا يحزنك ؟؟ " هنا انفجرت بالبكاء و غطت وجهها بيديها و قالت بصوت متقطع : "أنا ... أنا ... لا أريد أن ... أتزوج سامر " لقد كان ذلك هو آخر شيء أتوقعه على الإطلاق ... الذهول الذي أصابني و هول المفاجأة لم يدعا لي فرصة للتفكير ... أو حتى استيعاب الموقف إلا أن الألم و المرارة التي رأيتها في عيني رغد وهي تستنجد ... و تبحث بيأس عن شخص ينقذها رغم كل اعتبار ... و القنوط الذي دفعها للتفكير في أمها المتوفاة منذ إن كانت هي طفلة صغيرة ... و شعوري بالمسؤولية عليها ... كلها أمور امتزجت مع بعضها البعض و دفعتني في النهاية لقول : " اطمئني ، لن يكون لك إلا ما تريدين " الآن ، دخلتُ مرحلة جديدة ... و بدأت الحلقة الأولى من سلسلة المصاعب التي واجهتها فيما بعد ... حين سألتها ساعتها : " تقصدين ... تأجيل الزفاف ؟؟ " قالت و هي تنفي : " لا أريده ... أنا لا أريده " و عندما سألتني قبل انصرافها : " أحقا ؟ تستطيع فعل شيء لأجلي ؟ " أجبتها : " أي شيء ... مهما كان .. ثقي بي " فأي شيء أغلى و أهم عندي من راحة و سعادة رغد ؟؟ في النهار التالي بدت هي أكثر راحة و ابتهاجا ، و خرجت من عزلتها و بدأت تعود للحياة ... شاركتنا الوجبات و الجلسات ، و النزهات ... و بدت لحد ما راضية ... حتى أن دانة قالت لي تعليقا على تقلب أحوال رغد : " أ رأيت ! قلت لك ! سبحان مقلّب الأحوال ! " في يوم الأربعاء التالي ، يوم حضور سامر للزيارة ، بدت في غاية التوتر و القلق ... طلبت منها أن تذهب إلى بيت خالتها ، كما صرفت ُ دانة مع خطيبها بشكل ما ، و بقيت وحدي في البيت أنتظر ... عندما حضر سامر استقبلته استقبالا طبيعيا ، و حين سأل عن الاثنتين أبلغته عن أمرهما ... تركت له فرصة ليرتاح من عناء السفر ... و بعدها أخبرته بأن هناك ما يجب أن يعرفه ... التوتر تملكه بطبيعة الحال ... أما أنا فتظاهرت بالبرود بينما النيران تأكل أحشائي ... أخي لم يكن يتحدث عن شيء غير الزواج المرتقب ... إنني أدرك كم هو مولع برغد و يحبها بشغف ... و أدرك معنى أن يجد المرء نفسه فجأة محروما ممن يحب و يتمنى ... كيف لي ألا أدرك هذا و أنا صاحب التجربة المرة القاسية ... ؟ لكن ... بالنسبة لي أنا ... فلا شيء يهم بعد رغد ... و كل شيء يهون من أجل رغد ... و إن كنت ُ ارتكبت ُ جريمة من أجلها ... فهل سيصعب علي تحطيم قلب أخي في سبيل راحتها ؟؟ " خيرا يا وليد ؟؟ " خير !؟ أتظنه خيرا يا سامر ! سامحني يا أخي فأنا ... أنا كنت ُ و لا زلت ُ مجرما ... قلت بدون مقدمات : " إنه بشأن زواجك " " ماذا بشأن زواجي ؟؟ " نظرت إليه بجدية و قلت بصوت قوي و ثابت : " يجب تأجيله " نظر إلي ببلاهة و عدم استيعاب : " تأجيله ؟؟ " " أنا جاد يا سامر . ركّز معي . زواجك سيتأجل إلى أجل غير مسمى " " وليد ... هل لك أن تتحدّث بوضوح أكثر ؟؟ " " بوضوح أكثر يا أخي ... العروس لا ترغب في الزواج الآن و إلى أن تحدد هي الوقت الملائم سيتم تأجيل كل شيء " كانت هذه الجرعة الأولى التي لم استطع سقيه أكثر منها ... سامر هاج و ماج و غضب و ثار و تخبط بجمل متعارضة متناقضة ... ثم قرر الذهاب لإحضارها من بيت خالتها قلت له : " ليس الآن ... سأحضرها أنا بعد قليل " حدثت بيننا مشادة قال فيها سامر : " أريد التحدّث معها مباشرة : قلت : " أنا أتحدّث نيابة عنها " قال : " بل سأتحدّث إليها هي ، فهي صاحبة الشأن " قلت : " و أنا المسؤول عنها الآن " قال بعصبية : " مسؤول عنها في حال غيابي لكنني موجود و أنا زوجها ... فلماذا تخبرك أنت و لم تخبرني ؟؟ " قلت : " كيف ستخبرك بشيء كهذا !؟ إنها مرعوبة من الفكرة فهي تدرك أن الأوان قد فات للتراجع ... و الزفاف بعد أيام ... " " و ما الذي جعلها تغير رأيها هكذا فجأة ؟؟؟ إننا كنا معا يوم العيد و لم تأت بذكر شيء عن هذا مطلقا " " بل كان الموضوع يشغلها منذ فترة ... و أنتم من ضغط عليها ... لكن الفتاة بحالة سيئة تزداد يوما بعد يوم بسبب اقتراب الموعد ... ألم تلاحظ ذلك ؟؟ قال سامر : " تبا " و سار بانفعال نحو المخل يريد الذهاب لإحضارها ... " انتظر يا سامر " لم يكن يصغي إلي ، و لكنه و بمجرد أن فتح الباب وقف متسمرا في مكانه ... و ظل ممسكا بالباب المفتوح و ينظر إلى الخارج ... ثوان ٍ و إذا بي أرى رغد تدخل المنزل ، يتبعها ابن خالتها حسام ! أول ما نظرت ، نظرت إلي ... تود استنباط مكنون ما حصل ... ثم نظرت إلى سامر و من التعبيرات الكاسية لوجهه المكفهر أدركت أنني تحدّثت معه ... حسام كان أول من تحدّث إذ ألقى التحية ... فرددناها ، و دعوته للدخول ... قال : " أوصلت ُ ابنة خالتي و أردت ُ أن القي التحية ... " رحبت به ، و دعوته للدخول إلى غرفة الضيافة ، و حدّثت رغد قائلا : " اذهبي إلى غرفتك " سامر قال : " انتظري رغد " فقلت مقاطعا : " فيما بعد ، رغد اذهبي إلى غرفتك " دخلت مع الضيف إلى غرفة الضيوف . قال حسام ، و هو يلحظ شحنات غريبة في الجو : " أهناك شيء ؟؟ " قلت : " كلا ! " ثم فتحت موضوعا للحديث ... بالي كان مشغولا هناك مع رغد ... دقائق و استأذنت الضيف و ذهبت أبحث عنها ... وجدتها و سامر في الردهة ، و هي مطأطئة الرأس و تبكي ، فيما سامر يتحدث بعصبية ، بل بصراخ ... قلت : " كفى سامر ، لنؤجل ذلك قليلا " " لا تتدخل أنت ! دعنا نناقش أمرنا وحدنا " نظرت إلى رغد فرأيت الاستنجاد و الخوف يملأان عينيها ... سامر كان منفعلا جدا ... قال : " و الآن يا رغد أخبريني ما الذي جعلك تغيرين رأيك بعدما رتبنا كل شيء ؟؟ هل أنا أجبرتك على هذا ؟؟ ألم أترك تحديد الموعد لك ؟؟ ألستِ من قرر الزواج مع دانة في النهاية ؟؟ " رغد لم تتكلم ، بل انحنت برأسها على ذراعها و استرسلت في البكاء ... سامر قال : " سيتم كل شيء كما خططنا له تماما " رفعت رغد رأسها و تنقلت ببصرها بيننا و حاولت النطق : " لكن ... " قاطعها سامر صارخا : " كما خططنا يا رغد ... فلا مجال للتراجع الآن " قلت ُ بعصبية و غضب : " سامر كفى ... كيف تجرؤ على الصراخ عليها ؟؟ " زمجر سامر بغيظ : " وليد لو سمحت لا تتدخل أنت " قلت : " بل سأتدخّل ... لا أسمح لأحد بمخاطبة رغد بهذا الشكل " قال : " و من ينتظر الإذن منك ؟ من تظن نفسك ؟ انسحب رجاء ً " لكني بقيت واقفا في مكاني ... سامر تقدم من رغد و أمسك بذراعها يحثها على السير قاصدا الذهاب إلى غرفتها ... رغد حاولت التملص ، إلا أن سامر أطبق عليها بقوة قائلا : " تعالي إلى الداخل " قلت بانفعال : " أتركها يا سامر " نظر إلي بانزعاج و سار معها خطوتين نحو الغرفة ... قلت : " اتركها يا سامر قبل أن أفقد أعصابي " زمجر بصوت عال : "قلت ُ انصرف أنت " و في هذه اللحظة ... فقدت بالفعل السيطرة على أعصابي ، و التي كنت كابحا إياها منذ زمن ... اندفعت نحو سامر بلا تفكير و أمسكت بذراعه و سحبته بعنف حتى تحررت رغد من قبضة يده ، و قلت : " قلت دعها و شأنها أيها الجبان " و سددت إلى بطنه لكمة قوية من قبضي جعلته يترنح ... و يهوي ... و يتلوى ... انقضضت عليه و هو على الأرض و أمسكت ُ بكتفيه و جعلت أهزهما بعنف و عصبية و أقول : " حين تقول أنها لا تريد الزواج الآن فهذا يعني أنها لن تتزوج الآن ... أفهمت ؟؟ ... " نهضت ، و قلت لرغد : " اذهبي إلى غرفتك " رغد نظرت إلى سامر ... فقلت لها : " هيا ... " في نفس اللحظة ، حضر حسام و الذي على ما يبدو أنه سمع شجارنا فأقبل متعجبا ... " ماذا يحدث ؟؟ " رغد حين رأت حسام أقبلت نحوه و هو تقول : " أعدني إلى خالتي ... " نهض سامر ... و نادى : " رغد " رغد و هي مذعورة و تبكي قالت لحسام : " أعدني إلى خالتي ... لا أريد العيش هنا " سامر الآن يسير نحو رغد ، و حسام ينظر إليها و يسأل : " ماذا حدث رغد ؟؟ " سامر قال بحدة : " الأمر لا يعنيك يا هذا " حسام قال بانفعال : " إذن فهي حقيقة ... أنتم من تجبرونها على هذا الزواج ... " سامر وقف مصعوقا يحدق برغد ... و أنا مصعوق أحدّق بحسام ... قال حسام موجها الحديث إلى رغد : " أليس كذلك ؟؟ " رغد قالت بانهيار : " دعوني و شأني ... دعوني و شأني ... " و ركضت نحو غرفتها و أغلقت الباب ... سامر همّ باللحاق بها إلا أنني اعترضته و قلت : " دعها وحدها ... لا تضطرني لفقد أعصابي من جديد " سامر حينها غير اتجاهه و دخل غرفته و صفع الباب بقوة بقينا أنا و حسام ... قال : " ماذا حصل ؟؟ " لم أجبه ... لذا قال : " أنا استأذن ... " و هم بالمغادرة ... استوقفته و سألته : " حسام ... لم استنتجت أن هناك من يجبر رغد على الزواج ؟؟ " قال : " أنا لم أستنتج ، أنا أعرف ذلك " دهشت لقوله ، فسألته : " و من أخبرك ؟؟ " تردد قليلا ، ثم قال : " شقيقتي " بعدما غادر ، صبرت قليلا ثم ذهبت إلى رغد ... كانت غارقة في الدموع ... قالت : " أ رأيت ؟؟ لقد قضي الأمر ... لن تستطيع شيئا " قلت : " لماذا لم تخبريني بذلك قبل الآن ؟؟ " رغد نظرت إلي بألم و قالت : " ما الفرق ؟؟ النتيجة واحدة ... إنه نصيبي " قلت بإصرار : " لا أحد سيستطيع إرغامك على ما لا تريدين ... و أنا على قيد الحياة ... و بمجرد أن يعود والداي ... هذا الزواج سيلغى تماما "
__________________
لو صرخت الدنيا ف وشي اكيد هعلي حسي ... لو كان ده وقت الانهيار انا حاطه روحي ع كفي ... لو كان ده وقت الانفجار .. اكيد ملغمه نفسي ...!! * ** فى حياة كل منا ذكرى تمنى الا يمر بها ولكن لولا ألمها لارتكب المزيد من الاخطاء فى حق نفسه وفى حق الاخرين* ** الحمدلله ![]() ![]() |
#14
|
||||
|
||||
![]()
اظن ان اروى سوف يكون لها دور فى هذه العلاقات المتشابكه
سوف ننتظر ونرى ما سيحدث فى الحقلت القادمة منتظرين ..... متابعين ..... صااااااااااااااابرين ................شكرا ....................
__________________
![]() |
#15
|
||||
|
||||
![]()
هو مافيش حد دخل هنا من امبارح والا ايه؟؟؟
وفين تعيين اليوم ؟؟
__________________
![]() |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|