اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > حي على الفلاح

حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #16  
قديم 28-01-2010, 12:45 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب الرابع
الكمال البشري
لا شكّ أن البشر يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً كبيراً في الخَلْق والخُلُق ، والمواهب ، فمن البشر القبيح والجميل وبين ذلك ، ومنهم الأعمى والأعور والمبصر بعينه ، والمبصرون يتفاوتون في جمال عيونهم وفي قوة أبصارهم ، ومنهم الأصم والسميع وبين ذلك ، ومنهم ساقط المروءة ، ومنهم ذو المروءة والهمة العالية .
ولا شكّ أن الأنبياء والرسل يمثلون الكمال الإنساني في أرقى صوره ، ذلك أنّ الله اختارهم واصطفاهم لنفسه ، فلا بدّ أن يختار أطهر البشر قلوباً ، وأزكاهم أخلاقاً ، وأجودهم قريحة ، ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] .
والكمال البشري يتحقق فيما يأتي :
1- الكمال في الخلقة الظاهرة :
لقد حذرنا الله تعلى من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى ، ( يا أيَّها الَّذين آمنوا لا تكونوا كالَّذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا وكان عند الله وجيهاً ) [ الأحزاب : 69 ] .
وقد بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن إيذاء بني إسرائيل لموسى كان باتهامهم إياه بعيب خلقي في جسده ، ففي صحيح البخاري (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ موسى كان رجلاً حيياً ستَّيراً لا يرى من جلده شيء استحياءً منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يستتر هذا التستر إلاّ من عيب بجلده (2) : إما برص ، وإمّا أُدْرة (3) ، وإمّا آفة ، وإنّ الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى ، فخلا يوماً وحده ، فوضع ثيابه على الحجر ، ثمّ اغتسل ، فلمّا فرغ ، أقبل إلى ثيابه ليأخذها ، وإنّ الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملا من بني إسرائيل فرأوه عرياناً ، أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر ، فأخذ بثوبه فلبسه ، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه ، فوالله إنّ بالحجر لندباً من أثر ضربه ، ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً ، فذلك قوله : ( يا أيَّها الَّذين آمنوا لا تكونوا كالَّذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا وكان عند الله وجيهاً ) [ الأحزاب : 69 ] .
قال ابن حجر العسقلاني معقباً على الحديث : " وفيه أن الأنبياء في خَلقهم وخُلُقهم، على غاية الكمال ، وأن من نسب نبيّاً إلى نقص في خلقته فقد آذاه ، ويخشى على فاعله الكفر " (4) .
الصور الظاهرة مختلفة :
ليس معنى كون الرسل أكمل الناس أجساماً أنهم على صفة واحدة صورة واحدة ، فالكمال الذي يدهش ويعجـب متنوع وذلك من بديع صنع الواحد الأحد وكمال قدرته .
وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأنبياء والرسل ، يقول صلى الله عليه وسلم : (( ليلة أسري بي رأيت موسى ، وإذا هو رجل ضَرْبٌ من الرجال ، كأنه من رجال شَنوءة )) (5) .
وقال في عيسى : " ورأيت عيسى ، فإذا هو رجل ربعة أحمر ، كأنما خرج من ديماس " (6) .
وقال فيه أيضاً : " ليس بيني وبينه نبيٌّ ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، رجل مربوع ، إلى الحمرة والبياض ، ينزل بين ممصرتين ، كأن رأسه يقطر ، وإن لم يصبه بلل " (7) .
وقد وصف لنا الصحابة رسولنا صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قولهم : " كان ربعة من القوم ، ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير ، أزهر اللون ، ليس بالأبيض الأمهق ، ولا بالآدم ، ليس بجعد قَطِطٍ ، ولا سَبْطٍ رَجِلٍ " (8) ، وقالوا فيه : " كان أحسن الناس .. ربعة ، إلى الطول ما هو ، بعيد ما بين المنكبين ، أسيل الخدين ، شديد سواد الشعر ، أكحل العينين ، أهدب الأشفار ، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها ، ليس له أخمص ، إذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة " (9) .
وكان الرسول أشبه الناس بنبي الله إبراهيم كما أخبرنا عليه السلام بذلك (10) .
2- الكمال في الأخلاق :
لقد بلغ الأنبياء في هذا مبلغاً عظيماً ، وقد استحقوا أن يثني عليهم ربّ الكائنات فقد أثنى الله على خليله إبراهيم عليه السلام فقال : ( إنَّ إبراهيم لحليم أوَّاه مُّنيبٌ ) [هود : 75] .
وقالت ابنة العبد الصالح تصف موسى : ( يا أبت استأجره إنَّ خير من استأجرت القويُّ الأمين ) [ القصص : 26 ] .
وأثنى الله على إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد ، ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنَّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نَّبيَّاً ) [ مريم : 54 ] .
وأثنى الله – جلّ جلاله ، وتقدست أسماؤه – على خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثناءً عطراً ، فقال : ( وإنَّك لعلى خلقٍ عظيمٍ ) [ القلم : 4 ] .
فقد وصف الله – سبحانه – خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنّه عظيم ، وأكّد ذلك بثلاثة مؤكدات : أكّد ذلك بالإقسام عليه بنون والقلم وما يسطرون ، وتصديره بإنّ، وادخال اللام على الخبر .
ومن خلقه الكريم صلى الله عليه وسلم الذي نوَّه الله به ما جبله عليه من الرحمة والرأفة ( لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رَّحيمٌ ) [ التوبة : 128 ] .
وقد كان لهذه الأخلاق أثر كبير في هداية الناس وتربيتهم ، هذا صفوان ابن أميّة يقول : " والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض خلق الله إليّ ، فما زال يعطيني حتى إنّه من أحبِّ الناس إليّ " (11) .
وفي صحيح مسلم عن أنس أنّ رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين فأعطاه إياه ، فأتى قومه فقال : أي قوم ، أسلموا ، فوالله إن محمداً ليعطي عطاءً ، ما يخاف الفقر " (12) .
ولو لم يتصف الرسل بهذا الكمال الذي حباهم الله به لما انقاد الناس إليهم ، ذلك أن الناس لا ينقادون عن رضاً وطواعية لمن كثرت نقائصه ، وقلت فضائله .
3- خير الناس نسباً :
الرسل ذوو أنساب كريمة ، فجميع الرسل بعد نوح من ذريته ، وجميع الرسل بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم ، قال تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريَّتهما النُّبوَّة والكتاب .. ) [ الحديد : 26 ] .
ولذلك فإنّ الله – سبحانه – يصطفي لرسالته من كان خيار قومه في النسب ، وفي الحديث الذي يرويه البخاري ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً ، حتى كنت من القرن الذي كنت منه " (13) .
وفي مسند أحمد وسنن الترمذي عن الرسول ، صلى الله عليه وسلم قال : (( أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إنّ الله – تعالى – خلق الخلق فجعلني في خيرهم ، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ، ثمّ جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ، ثمّ جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً ، وخيركم نفساً )) (14) .
وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم )) (15) .
4- أحرار بعيدون عن الرق :
ومن صفات الكمال أنّ الأنبياء لا يكونون أرقاء . يقول السفاريني في هذا : " الرق وصف نقص لا يليق بمقام النبوة ، والني يكون داعياً للناس آناء الليل وأطراف النهار ، والرقيق لا يتيسر له ذلك ، وأيضاً الرقّيَّة وصف نقص يأنف الناس ويستنكفون من اتباع من اتصف بها ، وأن يكون إماماً لهم وقدوة ، وهي أثر الكفـر ، والأنبياء منزهون عن ذلك " (16) (17) .
5- التفرد في المواهب والقدرات :
الأنبياء أُعطوا العقول الراجحة ، والذكاء الفذ ، واللسان المبين ، والبديهة الحاضرة ، وغير ذلك من المواهب والقدرات التي لا بدّ منها لتحمل الرسالة ثم إبلاغها ومتابعة الذين تقبلوها بالتوجيه والتربية .
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ ما يُلقى إليه ولا ينسى منه كلمة ( سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] .
وقد كانوا يعرضون دين الله للمعارضين ويفحمونهم في معرض الحجاج ، وفي هذا المجال أسكت إبراهيم خصمه ( فبهت الَّذي كفر والله لا يهدي القوم الظَّالمين ) [ البقرة : 258 ] ، وقال الله معقباً على محاججة إبراهيم لقومه : ( وتلك حجَّتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ مَّن نَّشاء ) [ الأنعام : 83 ] .
وموسى كان يجيب فرعون على البديهة حتى انقطع ، فانتقل إلى التهديد بالقوة ( قال فرعون وما ربُّ العالمين – قال ربُّ السَّماوات والأرض وما بينهما إن كنتم مُّوقنين – قال لمن حوله ألا تستمعون – قال ربُّكم وربُّ آبائكم الأوَّلين – قال إنَّ رسولكم الَّذي أرسل إليكم لمجنون – قال ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون – قال لئن اتَّخذت إلهاً غيري لأجعلنَّك من المسجونين ) [ الشعراء : 23-29 ] .
6- الكمال في تحقيق العبودية :
بيّنا الكمال الذي حبا الله به رسله في صورهم الظاهرة ، وأخلاقهم الباطنة ، والمواهب والسجايا التي أعطاهم إياها في ذوات أنفسهم ، وهناك نوع آخر من الكمال وفق الله رسله وأنبياءه لتحصيله ، وهو تحقيق العبودية لله في أنفسهم .
فكلّما كان الإنسان أكثر تحقيقاً للعبودية لله تعالى ، كلَّما كان أكثر رقيّاً في سلّم الكمال الإنساني ، وكلما ابتعد عن تحقيق العبودية لله كلما هبط وانحدر .
والرسل حازوا السبق في هذا الميدان ، فقد كانت حياتهم انطلاقة جادة في تحقيق هذه العبودية ، وهذا خاتم الرسل وسيد المرسلين يثني عليه ربّه في أشرف المقامات بالعبودية ، فيصفه بها في مقام الوحي ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] ، وفي مقام إنزال الكتاب ( تبارك الَّذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ) [ الفرقان : 1 ] ، وفي مقام الدعوة ( وأنَّه لمَّا قام عبد الله يدعوه ) [ الجن : 19 ] ، وفي مقام الإسراء ( سبحان الَّذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الَّذي باركنا حوله .. ) [ الإسراء : 1 ] وبهذه العبودية التامة استحق صلوات الله وسلامه عليه التقديم على الناس في الدنيا والآخرة ، ولذلك فإن المسيح عليه السلام يقول للناس إذا طلبوا منه الشفاعة بعد طلبها من الرسل من قبله : " ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " (18) .
وإليك صورة من صور هذه العبودية ترويها لنا أمّنا عائشة – رضي الله عنها – قالت رضي الله عنها وعن أبيها : " قلت : يا رسول الله ، كُلْ – جعلني الله فداك – متكئاً ، فإنّه أهون عليك ، فأحنى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض ، وقال : بل آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد " رواه البغوي في شرح السنة ، وابن سعد ، والإمام أحمد في الزهد (19) .
7- الذكورة :
ومن الكمال الذي حباهم به أنه اختار جميع الرسل الذين أرسلهم من الرجال ، ولم يبعث الله رسولاً من النساء يدلُّ على ذلك صيغة الحصر التي وردت في قوله تعالى : ( وما أرسلنا قبلك إلاَّ رجالاً نُّوحي إليهم ) [ الأنبياء : 7 ] .
الحكمة من كون الرسل رجالاً :
كان الرسل من الرجال دون النساء لحكم يقتضيها المقام فمن ذلك :
1- أنّ الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة ، ومخاطبة الرجال والنساء ، ومقابلة الناس في السرّ والعلانية ، والتنقل في فجاج الأرض ، ومواجهة المكذبين ومحاججتهم ومخاصمتهم، وإعداد الجيوش وقيادتها ، والاصطلاء بنارها ، وكل هذا يناسب الرجال دون النساء .
2- الرسالة تقتضي قوامة الرسول على من يتابعه ، فهو في أتباعه الآمر الناهي ، وهو فيهم الحاكم والقاضي ، ولو كانت الموكلة بذلك امرأة لَمْ يتم ذلك لها على الوجه الأكمل ، ولا ستنكف أقوام من الاتباع والطاعة .
3- الذكورة أكمل كما بينا آنفاً ، ولذلك جعل الله القوامة للرجال على النساء ( الرجال قوَّامون على النساء ) [ النساء : 34 ] وأخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنّ النساء ناقصات عقل ودين .
4- المرأة يطرأ عليها ما يعطلها عن كثير من الوظائف والمهمات ، كالحيض والحمل والولادة والنفاس ، وتصاحب ذلك اضطرابات نفسية وآلام وأوجاع ، عدا ما يتطلبه الوليد من عناية ، وكل ذلك مانع من القيام بأعباء الرسالة وتكاليفها .
--------------------------------
(1)رواه البخاري : 3404 ، ومسلم : 339 .
(2) هذا يوحى بأن اغتسال بني إسرائيل عراة كان جائزاً في شريعتهم .
(3) الأدرة بضم الهمزة وسكون الدال : انتفاخ الخصية .
(4) فتح الباري : 6/438 .
(5) أخرجه أحمد في ((المسند)) : 16/484 (10830) ، والبخاري : (3394) ، ومسلم بنحوه : (172) (178) ، وشنوءة حي من اليمن . وضَرْبٌ من الرجال : هو الخفيف اللحم الممشوق المستدق .
(6) البخاري : 3394 ، والديماس : الحمام .
(7) رواه أبو داود وأحمد ( انظر صحيح الجامع : 5/90 ) وقوله ( ممصرتين ) الممصرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة . راجع لسان العرب : (3/493) مادة مصر .
(8) رواه البخاري : 3547 ، 3548 ، ومسلم : 2347 .
(9) رواه البيهقي ، انظر صحيح الجامع : (4-199) .
(10) صحيح البخاري : 3394 .
(11) صحيح مسلم : 2313 .
(12) صحيح مسلم : 2312 .
(13) رواه البخاري : 3557 .
(14) رواه أحمد والترمذي : ( صحيح الجامع : 2/22 ) . وقد حسنه الترمذي : 3607 .
(15) صحيح مسلم : 2276 .
(16) لوامع الأنوار البهية : ص2/265 .
(17) قد يعترض على هذا بأن رسول الله يوسف باعه الذين استنقذوه من البئر وبذلك أصبح عبداً ، والإجابة على ذلك أن العبودية هنا كانت نوعاً من الابتلاء ، وإلاّ فهو حر وقع عليه الظلم ، ولم تستمر هذه العبودية طويلاً ، وأبدله الله بها ملكاً .
(18) صحيح البخاري : 6565 .
(19) انظر صحيح جامع الصغير : (1/122) .
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 28-01-2010, 12:46 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

نبوّة النساء
ذهب بعض العلماء (1) إلى أنّ الله أنعم على بعض النساء بالنبوة ، فمن هؤلاء أبو الحسن الأشعري والقرطبي وابن حزم (2) .
والذين يقولون بنبوة النساء متفقون على نبوة مريم ، ومنهم من ينسب النبوة إلى غيرها ، ويعدّون من النساء النبيات : حواء وسارة وأمّ موسى وهاجر وآسية .
وهؤلاء عندما اعترض عليهم بالآية التي تحصر الرسالة في الرجال دون النساء ، قالوا: نحن لا نخالف في ذلك ، فالرسالة للرجال ، أمّا النبوة فلا يشملها النصُّ القرآني ، وليس في نبوة النساء تلك المحذورات التي عددتموها فيما لو كان من النساء رسول ، لأنَّ النبوة قد تكون قاصرة على صاحبها ، يعمل بها ، ولا يحتاج إلى أن يبلغها إلى الآخرين .
أدلتهم :
وحجّة هؤلاء أن القرآن أخبر بأن الله تعالى أوحى إلى بعض النساء ، فمن ذلك أنه أوحى إلى أمّ موسى : (
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادُّوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) [ القصص : 7 ] ، وأرسل جبريل إلى مريم فخاطبها ( فأرسلنا إليها روحنا فتمثَّل لها بشراً سويّاً – قالت إني أعوذ بالرَّحمن منك إن كنت تقيّاً – قال إنَّما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً .. ) [ مريم : 17-19 ] وخاطبتها الملائكة قائلة : ( يا مريم إنَّ الله اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين – يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الرَّاكعين .. ) [ آل عمران: 42-43 ] .
فأبو الحسن الأشعري يرى أنّ كلَّ من جاءه الملك عن الله – تعالى – بحكم من أمر أو نهي أو بإعلام فهو نبي
(3) ، وقد تحقق في أمّ موسى ومريم شيء من هذا ، وفي غيرهما أيضاً ، فقد تحقق في حواء وسارة وهاجر وآسية بنصّ القرآن .
واستدلوا أيضاً باصطفاء الله لمريم على العالمين (
واصطفاك على نساء العالمين ) [ آل عمران : 42 ] وبقوله صلى الله عليه وسلم : (( كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون )) (4) .
قالوا : الذي يبلغ مرتبة الكمال هم الأنبياء .
الردّ عليهم :
وهذا الذي ذكروه لا ينهض لإثبات نبوة النساء ، والرد عليهم من وجوه :
الأول : أنّا لا نسلم لهم أن النبيَّ غير مأمور بالتبليغ والتوجيه ومخالطة الناس ، والذي اخترناه أن لا فرق بين النبيّ والرسول في هذا ، وأنَّ الفرق واقع في كون النبي مرسل بتشريع رسول سابق .
وإذا كان الأمر كذلك فالمحذورات التي قيلت في إرسال رسول من النساء قائمة في بعث نبي من النساء ، وهي محذورات كثيرة تجعل المرأة لا تستطيع القيام بحقّ النبوة.
الثاني : قد يكون وحي الله إلى هؤلاء النسوة أم موسى وآسية .. إنّما وقع مناماً ، فقد علمنا أنّ من الوحي ما يكون مناماً ، وهذا يقع لغير الأنبياء .
الثالث : لا نسلم لهم قولهم : إن كل من خاطبته الملائكة فهو نبي ، ففي الحديث أن الله أرسل ملكاً لرجل يزور أخاً له في الله في قرية أخرى ، فسأله عن سبب زيارته له ، فلمّا أخبره أنه يحبّه في الله ، أعلمه أنَّ الله قد بعثه إليه ليخبره أنه يحبّه ، وقصة الأقرع والأبرص والأعمى معروفة ، وقد جاء جبريل يعلم الصحابة أمر دينهم بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يشاهدونه ويسمعونه (5) .
الرابع : أنّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – توقف في نبوة ذي القرنين مع إخبار القرآن بأنّ الله أوحى إليه ( قلنا يا ذا القرنين إمَّا أن تعذب وإمَّا أن تتَّخذ فيهم حسناً ) [الكهف : 86] .
الخامس : لا حجّة لهم في النصوص الدالة على اصطفاء الله لمريم ، فالله قد صرح بأنّه اصطفى غير الأنبياء : ( ثمَّ أورثنا الكتاب الَّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مُّقتصدٌ ومنهم سابق بالخيرات ) [ فاطر : 32 ] ، واصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، ومن آلهما من ليس بنبيّ جزماً ( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) [ آل عمران : 33 ] .
السادس : لا يلزم من لفظ الكمال الوارد في الحديث الذي احتجوا به النبوة ، لأنّه يطلق لتمام الشيء ، وتناهيه في بابه ، فالمراد بلوغ النساء الكاملات النهاية في جميع الفضائل التي للنساء ، وعلى ذلك فالكمال هنا غير كمال الأنبياء .
السابع : ورد في بعض الأحاديث النصّ على أن خديجة من الكاملات (6) وهذا يبين أن الكمال هنا ليس كمال النبوة .
الثامن :ورد في بعض الأحاديث أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلاّ ما كان من مريم ابنة عمران (7) ، وهذا يبطل القول بنبوة من عدا مريم كأم موسى وآسية ، لأنّ فاطمة ليست بنبيّة جزماً وقد نصَّ الحديث على أنها أفضل من غيرها ، فلو كانت أم موسى وآسية نبيتان لكانتا أفضل من فاطمة .
التاسع :وصف مريم بأنها صديقة في مقام الثناء عليها والإخبار بفضلها ، قال تعالى: ( مَّا المسيح ابن مريم إلاَّ رسولٌ قد خلت من قبله الرُّسل وأمُّه صديقةٌ كانا يأكلان الطَّعام ) [ المائدة : 75 ] فلو كان هناك وصفاً أعلى من ذلك لوصفها به ، ولم يأت في نصّ قرآني ولا في حديث نبويّ صحيح إخبار بنبوة واحدة من النساء .
وقد نقل القاضي عياض عن جمهور الفقهاء أنّ مريم ليست بنبيّة ، وذكر النووي في الأذكار عن إمام الحرمين أنّه نقل الإجماع على أنّ مريم ليست نبيّة
(8) ، ونسبه في (( شرح المهذب )) لجماعة ، وجاء عن الحسن البصري : ليس في النساء نبيّة ولا في الجنّ (9) .
--------------------------------
(1) يزعم اليهود أن مريم أخت موسى وهارون كانت نبيّة ( لوامع الأنوار البهية : 6/266 ) .
(2) انظر فتح الباري : 6/447 – 448 ، 6/473 ، وانظر لوامع الأنوار البهية : 2/266 .
(3) فتح الباري : 6/447 .
(4) صحيح البخاري : 3769 . وصحيح مسلم : 2431 .
(5) ارجع في هذه النصوص ، والنصوص المشابهة لها إلى الجزء الثاني من سلسلة مجموعة عقيدة المسلم للأستاذ .د . عمر الأشقر : ( عالم الملائكة الأبرار ) .
(6) الحديث أخرجه ابن مردويه ، انظر البداية والنهاية : (2/61) .
(7) رواه أحمد وإسناده جيد ، ( فتح الباري : 6/477 ) .
(8) الإجماع لا يتم بعد معرفة من خالف في ذلك من العلماء إلا أن يكون إجماعاً سابقاً على هذا الخلاف .
(9) فتح الباري : 6/471 ، 473 .
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 28-01-2010, 12:47 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

أمور تفرّد بها الأنبياء
تفرد الأنبياء والرسل على غيرهم من البشر بالأمور التالية :
1- الوحي :
خصّ الله الأنبياء دون سائر البشر بوحيه إليهم ، قال تعالى : ( قل إنَّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ أنَّما إلهكم إله واحد ) [ الكهف : 110 ] .
وهذا الوحي يقتضي عدة أمور يفارقون بها الناس ، فمن ذلك تكليم الله بعضهم ، واتصالهم ببعض الملائكة ، وتعريف الله لهم شيئاً من الغيوب الماضية أو الآتية ، وإطلاع الله لهم على شيء من عالم الغيب .
فمن ذلك الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، والعروج به إلى السماوات العُلى ، ورؤيته للملائكة والأنبياء ، وإطلاعه على الجنّة والنار ، ومن ذلك سماعه للمعذبين في قبورهم ، وفي الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر )) (1) .
وعن أيوب قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس فسمع صوتاً ، فقال : " يهود تعذب في قبورها " (2) .
2- العصمة :
وقد خصصنا لهذا الأمر فصلاً مستقلاً .
3- الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم :
ومما اختصهم الله تعالى به أنّ أعينهم تنام وقلوبهم لا تنام ، فعن أنس في حديث الإسراء : " والنبيُّ نائمة عيناه ، ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبيـاء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم " رواه البخاري في صحيحه (3) ، وهذا وإن كان من قول أنس إلا أن مثله لا يقال من قبل الرأي كما يقول ابن حجر (4) ، وقد ورد هذا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد صحّ عنه أنّه قال : " إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا " ، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه : " إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي " (5) .
4- تخيير الأنبياء عند الموت :
مما تفرد به الأنبياء أنّهم يخيَّرون بين الدنيا والآخرة ، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من نبي يمرض إلاّ خيّر بين الدنيا والآخرة " ، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحّة شديدة ، فسمعته يقول : ( مع الَّذين أنعم الله عليهم من النَّبيين والصديقين والشُّهداء والصَّالحين ) [ النساء : 69 ] فعلمت أنه خيَّر (6) .
وقد سبق أن أوردنا حديث تخيير ملك الموت لموسى وضرب موسى لملك الموت وقلع عينه (7) .
5- لا يقبر نبي إلا حيث يموت :
ممّا خص به الأنبياء بعد موتهم أمور تتعلق بهم في القبر ، منها :
الأول : أنّه لا يقبر نبيٌّ إلاّ في الموضع الذي مات فيه ، ففي الحديث : " لم يقبرني نبيٌّ إلا حيث يموت " (8) ولهذا فإنّ الصحابة – رضوان الله عليهم – دفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة حيث قبض .
6- لا تأكل الأرض أجسادهم :
ومن إكرام الله لأنبيائه ورسله أنّ الأرض لا تأكل أجسادهم ، فمهما طال الزمان وتقادم العهد تبقى أجسادهم محفوظة من البلى ، ففي الحديث " إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " (9) .
ويذكر أهل التاريخ قصة فيها عجب وغرابة ، روى ابن كثير في البداية والنهاية (10) عن يونس بن بكير قال : لما فتحنا تستر [ مدينة في فارس ] وجدنا في مال بيت الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف ، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر ، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية ، فأنا أوّل رجل من العرب قرأه ، قرأته مثل ما اقرأ القرآن هذا .
فقلت لأبي العالية : ما كان فيه ؟ قال : سيركم وأموركم ولحون كلامكم ، وما هو كائن بعد .
قلت : فما صنعتم بالرجل ؟ قال حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة ، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلّها ، لنعميه على الناس فلا ينبشونه (11) .
قلت : فما يرجون منه ؟ قال : كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون .
قلت : من كنتم تظنون بالرجل ؟ قال : رجل يقال له دانيال .
قلت : مذ كم وجدتموه ؟ قال : قد مات منذ ثلاثمائة سنة .
قلت : ما تغير منه شيء ؟ قال : لا إلاّ شعرات من قفاه ، إن لحوم الأنبياء لا يبليها الأرض ، ولا تأكلها السباع .
قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية .
ويبدو أن هذا من أنبياء بني إسرائيل ، وقد ظنَّ الصحابة أنّه دانيال ، لأنّ دانيال أخذه ملك الفرس ، فأقام عنده مسجوناً ، ويبدو أنَّ تقدير الذين وجدوه لم يكن صواباً ، فإنّ دانيال كان قبل الإسلام بثمانمائة سنة ، فإن كان تقديرهم صواباً فليس بنبي ؛ لأنّه لا نبي بين عيسى ورسولنا محمد عليهما الصلاة والسلام ، فيكون عبداً صالحاً ليس بنبي ، وكونه نبياً أرجح ، لأنّ الذين تحفظ أجسادهم هم الأنبياء دون غيرهم ، ويرجح هذا أيضاً ذلك الكتاب الذي وجد عند رأسه ، لا شكّ أنه كتاب نبيّ ، فالأمور الغيبيّة التي تضمنها لا تكون إلا وحياً سماوياً ، وترجيحنا لكونه من بني إسرائيل لأمرين :
الأول :ظن الصحابة أنّه دانيال ، ويكونون قد علموا ذلك من قرائن لم تذكر .
والثاني : الكتاب الذي وجد عند رأسه ، ويبدو أنه كان مكتوباً بالعبرانية ، لأنّ الذي ترجمه هو أبيّ بن كعب ، وقد كان قبل إسلامه يهودياً .
7- أحياء في قبورهم :
صحَّ عن النبيَّ أنّ " الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون " (12) ، وروي أيضاً أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " مررت على موسى ليلة أسري به عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره " (13) .
وروى مسلم عن أبي هريرة في قصة الإسراء : " وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلي .. ، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي " (14) .
--------------------------------
(1) صحيح مسلم : 2868 .
(2) صحيح البخاري : 1375 ، وصحيح مسلم: 2689 ، واللفظ لمسلم .
(3) صحيح البخاري : 3570 .
(4) فتح الباري : 6/579 .
(5) رواه ابن سعد وابن حبان : ( انظر صحيح الجامع الصغير : 3/55) .
(6) رواه البخاري : 4586 .
(7) انظر كتاب أ.د. عمر الأشقر : عالم الملائكة من هذه السلسلة .
(8) رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح : ( انظر صحيح الجامع الصغير : 5/46 ) .
(9) رواه أبو داود : (1531) وعزاه ابن حجر أيضاً إلى النسائي وصححه ابن خزيمة وغيره ( انظر فتح الباري : 6/488 ) .
(10) البداية والنهاية : (2/40) .
(11) وهذا يدل على فقه المسلمين في ذلك الوقت ، فإنّ إكرام الميت دفنه ، سواء أكان نبياً أم غير نبي ، وحفرهم القبور الكثيرة لتعمية أمره على الناس حتى لا ينبشوا قبره ، وفي ذلك إيذاء لهذا النبي الكريم، وقد يتخذون قبره عيداً ، ويقيمون عليه مسجداً ، ويقصدونه بالدعاء والتبرك كما يفعل كثير من الذين ضلوا عن سواء الصراط في كثير من ديار الإسلام .
(12) رواه الجماعة عن أنس ( انظر صحيح الجامع 2/414 ) .
(13) صحيح مسلم : 2375 .
(14) صحيح مسلم : 172 .
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 28-01-2010, 12:47 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

عِصمَة الرّسُل
هل الرسل معصومون عن الخطأ والمعصية ، وهل هي عصمة عامّة شاملة ؟ هذا ما سنحاول بيانه في هذا الفصل .
المبحث الأول
العِصمة في التحمّل وفي التبليغ
اتفقت الأمة على أنَّ الرسل معصومون في تحمّل الرسالة (1) ، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم إلاّ شيئاً قد نُسخ ، وقد تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقرئه فلا ينسى شيئاً مما أوحاه إليه ، إلا شيئاً أراد الله أن ينسيه إياه : ( سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى – إلاَّ ما شاء الله ) [ الأعلى : 6-7 ] ، وتكفل له بأن يجمعه في صدره : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به – إنَّ علينا جمعه وَقُرْآنَهُ – فإذا قَرَأْنَاهُ فاتَّبع قُرْآنَهُ ) [ القيامة : 16-18 ] .
وهم معصومون في التبليغ ، فالرسل لا يكتمون شيئاً ممّا أوحاه الله إليهم ، ذلك أن الكتمان خيانة ، والرسل يستحيل أن يكونوا كذلك ، قال تعالى : ( يا أيُّها الرَّسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لَّم تفعل فما بلَّغت رسالته ) [ المائدة : 67 ] ولو حدث شيء من الكتمان أو التغيير لما أوحاه الله ، فإن عقاب الله يحلّ بذلك الكاتم المغيّر ( ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل – لأخذنا منه باليمين – ثمَّ لقطعنا منه الوتين ) [ الحاقة : 44-46 ] .
ومن العصمة ألاّ ينسوا شيئاً مما أوحاه الله إليهم ، وبذلك لا يضيع شيء من الوحي، وعدم النسيان في التبليغ داخل في قوله تعالى : ( سَنُقْرِؤُكَ فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] وما يدل على عصمته في التبليغ قوله تعالى : ( وما ينطق عن الهوى – إن هو إلاَّ وحي يوحى ) [ النجم : 3-4 ] .
عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من القتل :
عصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من القتل حتى يبلغ رسالة ربه ، قال تعالى : ( يا أيُّها الرَّسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لَّم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس ) [ المائدة : 67 ] ، قال سفيان الثوري فيما نقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية : " بلغ أنت رسالتي ، وأنا حافظك ، وناصرك ومؤيدك على أعدائك ، ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن ، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك " (2). وقد أورد ابن كثير في تفسيره هذه الآية الأحاديث التي تفيد أنّ الصحابة كانوا يحرسون الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية ، فلما نزلت ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس (3) .
وقد جعل اليهود في شاة مصلية أهدتها يهودية لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمّاً لتقتله ، فلما سألهم عما حملهم على ذلك قالوا : " أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك ، وإن كنت صادقاً لم يضرك " رواه البخاري (4) .
ولما سأل المرأة قالت : " أردت قتلك " فقال : ما كان الله ليسلطك على ذلك " رواه البخاري ومسلم وأبو داود (5) .
فقد عصم الله رسوله أن يقتله السم ، وأكل معه بعض أصحابه فماتوا كما أفادته بعض الأحاديث التي روت الواقعة .
عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من الشيطان :
وعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الشيطان ، وقد أعان الله رسوله على قرينه الشيطان فأسلم ، فلا يأمره إلا بخير ، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن ، قالوا : وإياك ؟ قال : وإياي ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير " (6) وفي حديث عائشة أنه سمى القرين شيطاناً (7) .
--------------------------------
(1)نقل الإجماع على العصمة في هذا أكثر من واحد انظر : مجموع الفتاوى 10/291 ، ولوامع الأنوار البهية : (2/304) .
(2) تفسير ابن كثير : 3/1205 .
(3) المصدر السابق : 3/1206 .
(4) جامع الأصول : 11/326 . ورقمه فيه : 1886 .
(5) جامع الأصول : 11/327 ، ورقمه فيه : 327 .
(6) صحيح مسلم : (2814) .
(7) صحيح مسلم: (2815) .
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 28-01-2010, 12:47 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المبحث الثاني
عدم العصمة من الأعراض البشريّة كالخوف والنسيان
الأعراض البشرية كالخوف والغضب والنسيان تقع من الرسل والأنبياء ، وهي لا تنافي عصمتهم والأمثلة على ذلك في الكتاب والسنة كثيرة ، فمن ذلك :
1- خوف إبراهيم عليه السلام من ضيوفه :
أوجس إبراهيم عليه السلام في نفسه خيفة عندما رأى أيدي ضيوفه لا تمتد إلى الطعام الذي قدمه لهم ، ولم يكن يعلم أنّهم ملائكة تشكلوا في صور البشر ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ) [ هود : 70 ] .
2- عدم صبر موسى عليه السلام على تصرفات العبد الصالح :
وموسى وعد الخضر بأن يصبر في صحبته له ، فلا يسأله عن أمر يفعله العبد الصالح حتى يحدث له منه ذكراً ، ولكنه لم يتمالك نفسه ، إذ رأى تصرفات غريبة ، فكان في كل مرّة يسأل أو يعترض أو يوجه (1) ، وفي كل مرّة يذكّره العبد الصالح ويقول له : ( قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا ) [ الكهف : 75 ] . وعندما كشف له عن سر أفعاله قال له: ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) [ الكهف : 82 ] .
3- تصرفات موسى عليه السلام عندما رأى قومه يعبدون العجل :
وغضب موسى غضباً شديداً ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى الألواح وفي نسختها هدى – عندما عاد إلى قومه بعد أن تمّ ميقات ربه ، فوجدهم يعبدون العجل ، ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) [ الأعراف : 150 ] وفي الحديث : " ليس الخبر كالمعاينة ، إنَّ الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل ، فلم يلق الألواح ، فلمّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت " (2) .
4- نسيان آدم وجحوده :
ومن ذلك نسيان آدم عليه السلام وجحوده ، فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كلٍّ منهم وبيصاً من نور ، ثمّ عرضهم على آدم ، فقال : أي ربِّ مَن هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي ربّ من هذا ؟ فقال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك ، يقال له داود ، فقال : ربِّ كم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة ، قال : أي ربِّ زده من عمري أربعين سنة ، فلما انقضى عمر آدم ، جاءه ملك الموت ، فقال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة ، قال : أو لم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد آدم ، فجحدت ذريته ، ونسي آدم ، فنسيت ذريته ، وخطئ آدم فخطئت ذريته " (3) .
5- نبي يحرق قرية النمل :
ومن ذلك ما وقع من نبي من الأنبياء غضب إذ قرصته نملة ، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فعاتبه الله على ذلك ، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة ، فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ، ثمّ أمر ببيتها فأحرق بالنار ، فأوحى الله إليه : فهلاّ نملة واحدة " (4) .
6- نسيان نبينا صلى الله عليه وسلم وصلاته الظهر ركعتين :
ومن ذلك نسيان الرسول صلى الله عليه وسلم في غير البلاغ ، وفي غير أمور التشريع ، فمن ذلك ما رواه ابن سيرين عن أبي هريرة قال : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إحدى صلاتي العشيّ (5) ، فصلى ركعتين ، ثمّ سلّم ، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد ، فاتكأ عليها كأنّه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبّك بين أصابعه ، ووضع خدّه الأيمن على ظهر كفه اليسرى ، وخرجت السرعان من أبواب المسجد ، فقالوا : قصرت الصلاة ، وفي القوم أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه .
وفي القوم رجل يقال له ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال : لم أنس ، ولم تقصر ، فقال : أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم . فتقدم فصلّى ما ترك ، ثمّ سلّم ، ثمّ كبّر ، وسجد مثل سجود أو أطول ، ثمّ رفع رأسه وكبّر ، وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثمّ رفع رأسه وكبّر ، فربما سألوه ، ثمّ سلّم ، فيقول : أنبئت أنّ عمران بن حصين ، قال : ثمّ سلّم " متفق عليه ، وليس لمسلم فيه وضع اليد على اليد ولا التشبيك .
وفي رواية ، قال : " بينما أنا أصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر سلّم من ركعتين ، فقام رجل من بني سليم ، فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ " وساق الحديث ، رواه أحمد ومسلم .
وهذا يدل على أنّ القصة كانت بحضرته وبعد إسلامه .
وفي رواية متفق عليها لما قال : " لم أنس ولم تقصر ، قال : بلى ، قد نسيت " وهذا يدل على أن ذا اليدين تكّلم بعدما علم عدم النسخ كلاماً ليس بجواب سؤال (6) .
وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بطروء النسيان عليه كعادة البشر ، ففي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ولكنّي إنّما أنا بشر ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني " (7) قال هذا بعد نسيانه في إحدى الصلوات .
أمّا الحديث الذي يروى بلفظ : " إني لا أنسى ، ولكن أُنسَّى لأسنّ " فلا يجوز أن يعارض به الحديث السابق ، لأنّ هذا الحديث – كما يقول ابن حجر – لا أصل له ، فإنّه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد (8) .
--------------------------------
(1) كانت المرة الأولى من موسى نسياناً ، أمّا الثانية والثالثة فكان متعمداً .
(2) رواه أحمد في مسنده ، والطبراني في الأوسط ، بإسناد صحيح : ( انظر صحيح الجامع الصغير : 5/87 ) .
(3) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، ورواه الحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرط مسلم : ( البداية والنهاية 1/87 ) .
(4) صحيح البخاري : 3319 . وصحيح مسلم : 2241 .
(5) قال الأزهري : العشى عند العرب ما بين زوال الشمس وغروبها ، فيكون المراد بهما الظهر أو العصر ، ( نيل الأوطار : 3/115 ) ، وقد حصل الجزم بأنها الظهر في إحدى الروايات .
(6) نص الحديث برواياته كما نقلها من منتقي الأخبار للمجد ابن تيمية انظر شرحه نيل الأوطار : 3/114 .
(7) رواه الجماعة إلاّ الترمذي ( نيل الأوطار : 3/125 ) .
(8) نيل الأوطار : 3/117 .
رد مع اقتباس
  #21  
قديم 28-01-2010, 12:48 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المبحث الثالث
مدى العصمة في إصابة الحق في القضاء
الأنبياء والرسل يجتهدون في حكم ما يعرض عليهم من وقائع ، ويحكمون وفق ما يبدو لهم ، فهم لا يعلمون الغيب ، وقد يخطئون في إصابة الحق ، فمن ذلك عدم إصابة نبي الله داود في الحكم ، وتوفيق الله لابنه سليمان في تلك المسألة .
فعن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت صاحبتها : إنّما ذهب بابنك ، وقالت الأخرى : إنّما ذهب بابنك ، فتحاكمنا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود ، فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقّه بينهما ، فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله ، هو ابنها ، فقضى به للصغرى " (1) .
وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القضية وجلاّها ، فقد روت أمُّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم ، فقال : " إنّما أنا بشر ، وإنّه يأتيني الخصم ، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه صدق ، فأقضى له بذلك ، فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من النار ، فليأخذها أو ليتركها " (2) .
الذين ينفون عن الرسل والأنبياء هذه الأعراض مخالفون للنصوص :
ذهبت الشيعة الإمامية الاثنا عشرية (3) إلى أن العصمة تقتضي ألا يقع من الأنبياء سهو ولا نسيان ولا خطأ ، ولا خوف ولا غير ذلك من الأعراض البشرية ، وقد سقنا لك النصوص من الكتاب والسنة الدالة على خلاف ذلك ، وهي نصوص لا تقبل تحويلاً ولا تأويلاً ، فعليك بالكتاب والسنة ففيهما الهداية .
--------------------------------
(1) صحيح البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قوله تعالى : ( ووهبنا لداوود سليمان ) [ ص : 30 ] حديث رقم : 2428 .
(2) رواه البخاري ، كتاب المظالم ، باب إثم من خاصم في الباطل ورقمه : 2458 ، ورواه مسلم : 1713 .
(3) انظر عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر : ص79 .
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 28-01-2010, 12:49 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

العصمة من الشرك والمعاصي والذّنوب
المطلب الأول
العصمة من الكبائر
الأمة الإسلامية مجمعة على عصمة الأنبياء والرسل من الكبائر من الذنوب وقبائح العيوب ، كالزنى والسرقة والمخادعة ، وصناعة الأصنام وعبادتها ، والسحر ، ونحو ذلك ، وقد برأ كتاب الله وسنة رسوله أنبياء الله ورسله مما افتراه عليهم اليهود والنصارى في المحرف من كتبهم ، وإليك بعض ما نسبوه إليهم :
أولاً : ما نسب اليهود إلى الأنبياء والمرسلين من القبائح :
1- زعموا أن نبيّ الله هارون صنع عجلاً ، وعبده مع بني إسرائيل ، [ إصحاح (32) عدد (1) من سفر الخروج ] .
وقد بيّن ضلالهم هذا القرآن عندما حدثنا أنّ الذي صنع لهم عجلاً جسداً له خوار هو السامري ، وأن هارون قد أنكر عليهم إنكاراً شديداً .
2- أن إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قدّم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها . [ إصحاح (12) عدد (14) من سفر التكوين ] .
وقد كذبوا على خليل الرحمن ، وقد قص علينا الرسول صلى الله عليه وسلم قصة إبراهيم هذه عند دخوله لمصر ، وفيها أن ملك مصر كان طاغية ، وكان إذا وجد امرأة جميلة ذات زوج قتل زوجها وحازها لنفسه ، فلما سئل إبراهيم عنها قال هي أخته ، يعني أخته في الإسلام ، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله حفظ سارة عندما ذهبت إلى الطاغية ، فلم يمسها بأذى .
3- ومن ذلك أن لوطاً عليه السلام شرب خمراً حتى سكر ، ثمّ قام على ابنتيه فزنى بهما الواحدة بعد الأخرى .. [ سفر التكوين ، إصحاح (19) عدد (30) ] ومعاذ الله أن يفعل لوط ذلك ، وهو الذي دعا إلى الفضيلة طيلة عمره ، وحارب الرذيلة ، ولكنّه الحقد اليهودي يمتد إلى الكملة من البشر ، فلعنة الله على الظالمين .
4- وأن يعقوب عليه السلام سرق مواشٍ من حميّه ، وخرج بأهله خلسة دون أن يُعلمه .. [ سفر التكوين ، إصحاح (31) عدد (17) ] .
5- وأن روابين زنى بزوجة أبيه يعقوب ، وأن يعقوب عليه السلام ، علم بهذا الفعل القبيح وسكت .. [ سفر التكوين ، إصحاح (35) عدد (32) ] .
6- وأن داود عليه السلام زنى بزوجة رجل من قواد جيشه ، ثم دبر حيلة لقتل الرجل ، فقتل ، وبعدئذ أخذ داود الزوجة وضمها إلى نسائه ، فولدت له سليمان . [ سفر صموئيل الثاني إصحاح (11) عدد (1) ] .
7- وأن سليمان ارتد في آخر عمره ، وعبد الأصنام ، وبنى لها المعابد .. [ سفر الملوك الأول ، إصحاح (11) عدد (5) ] .
هذه بعض المخازي والقبائح والكبائر التي نسبتها هذه الأمة المغضوب عليها إلى أنبياء الله الأطهار ، وحاشاهم مما وصفوهم به ، ولكنها النفوس المريضة تنسب إلى خيرة الله من خلقه القبائح ، ليسهل عليهم تدبير ذنوبهم ومعايبهم عندما ينكر عليهم منكر ، ويعترض عليهم معترض .
ثانياً : ما نسبه النصارى من القبائح إلى الأنبياء :
والنصارى ليسوا بأفضل من اليهود في هذا ، فقد نسبوا إلى الأنبياء والرسل القبائح ، وذلك بتصديقهم بالتوراة المحرفة المغيرة الموجودة اليوم والتي فيها ما ذكرنا ، بالإضافة إلى ما في الإنجيل المحرف ومما فيه :
1- ورد في إنجيل (متى) أن عيسى من نسل سليمان بن داود ، وأن جدهم فارض الذي هو من نسل الزنى من يهوذا بن يعقوب .. [ إصحاح متى الأول ، عدد (10) ] .
2- وفي إنجيل [ يوحنا إصحاح (2) عدد (4) ] أن يسوع أهان أمَّه في وسط جمع من الناس ، فأين هذا مما وصفه به القرآن ( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ) [ مريم : 32 ] .
3- وأن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سراق ولصوص .. [ إنجيل يوحنا ، إصحاح (10) عدد (8) ] .
هذا غيض من فيض مما تطفح به تلك الأناجيل المحرفة من وصف الأنبياء والرسل بما هم بريئون منه (1) ، إن الأنبياء والرسل أزكى الناس وأطهرهم وأفضلهم ، ووالله إن هؤلاء لضالون فيما وصفوا به أنبياء الله الأبرار الأطهار .
ولذا فإن الأمة الإسلامية هي المدافعة عن الأنبياء والرسل ، المشيدة بمآثرهم ، فهي وراثة الأنبياء ، المقيمة لدينهم ، بخلاف ما عليه اليهود والنصارى تجاه أنبيائهم .
المطلب الثاني
العصمة من الصغائر
ذهب أكثر علماء الإسلام إلى أن الأنبياء ليسوا معصومين من الصغائر ، وقال ابن تيمية : " القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام ، وجميع الطوائف ، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام ، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أنّ هذا قول أكثر الأشعرية ، وهو أيضاً قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلاّ ما يوافق هذا القول .." (2) .
الأدلة :
وقد استدل جماهير العلماء على دعواهم بأدلة :
1- معصية آدم بأكله من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها ، ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى - فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى - إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى - فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى - فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) [ طه : 116-121 ] .
والآية في غاية الوضوح والدلالة على المراد ، فقد صرحت بعصيان آدم ربه .
2- ونوح دعا ربه في ابنه الكافر ( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) [ هود : 45 ] ، فلامه ربه على مقالته هذه ، وأعلمه أنّه ليس من أهله ، وأن هذا منه عمل غير صالح ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [هود : 46] فاستغفر ربّه من ذنبه وتاب وأناب ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) [ هود : 47 ] .
والآية صريحة في كون ما وقع منه كان ذنباً يحتاج إلى مغفرة ( وإلاَّ تغفر لي وترحمني .. ) .
3- وموسى أراد نصرة الذي من شيعته ، فوكز خصمه فقضى عليه ( قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ - قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [ القصص : 15-16 ] ، فقد اعترف موسى بظلمه لنفسه ، وطلب من الله أن يغفر له ، وأخبر الله بأنه غفر له .
4- وداود عليه السلام تسّرع في الحكم قبل سماع قول الخصم الثاني ، فأسرع إلى التوبة فغفر الله له ذنبه ( فاستغفر ربَّه وخرَّ راكعاً وأناب – فغفرنا له ذلك ) [ ص : 24-25 ] .
5- ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم عاتبه ربه في أمور ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [ التحريم : 1 ] نزلت بسبب تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم العسل على نفسه ، أو تحريم مارية القبطية .
وعاتبه ربه بسبب عبوسه في وجه الأعمى ابن أم مكتوم ، وانشغاله عنه بطواغيت الكفر يدعوهم إلى الله ، والإقبال على الأعمى الراغب فيما عند الله هو الذي كان ينبغي أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم : (عَبَسَ وَتَوَلَّى - أَن جَاءهُ الْأَعْمَى - وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى - أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى .. ) [ عبس : 1-4 ] .
وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر الفدية فأنزل الله تعالى : ( لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ الأنفال : 68 ] .
هذه أمثلة اكتفينا بذكرها عن غيرها ، وإلاّ فقد ورد في القرآن مغاضبة يونس لقومه، وخروجه من قومه من غير إذن من ربه ، وما صنعه أولاد يعقوب بأخيهم يوسف في إلقائه في غيابة الجبِّ ، ثم أوحى الله إليهم وجعلهم أنبياء .
القائلون بعصمة الأنبياء من الصغائر :
يستعظم بعض الباحثين أن ينسب إلى الأنبياء صغائر الذنوب (3) التي أخبرت نصوص الكتاب والسنة بوقوعها منهم ، ويذهب هؤلاء إلى تهويل الأمر ، ويزعمون أنّ القول بوقوع مثل هذا منهم فيه طعن بالرسل والأنبياء ، ثم يتحملون في تأويل النصوص ، وهو تأويل يصل إلى درجة تحريف آيات الكتاب كما يقول ابن تيمية (4) ، وكان الأحرى بهم تفهم الأمر على حقيقته ، وتقديس نصوص الكتاب والسنة ، واستمداد العقيدة في هذا الأمر وفي كل أمر من القرآن وأحاديث الرسول ، وبذلك نحكمها في كل أمر ، وهذا هو الذي أمرنا به ، أمّا هذا التأويل ، والتحريف بعد تصريح الكتاب بوقوع مثل ذلك منهم فإنّه تحكيم للهوى ، ونعوذ بالله من ذلك .
وقد انتشرت هذه التأويلات عند الكتاب المحدثين ، وهي تأويلات فاسدة من جنس تأويلات الباطنية والجهمية ، كما يقول ابن تيمية (5) .
شبهتان (6) :
الذين منعوا من وقوع الصغائر من الأنبياء أوردوا شبهتين :
الأولى : أن الله أمر باتباع الرسل والتأسي بهم ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) [ الأحزاب : 21 ] ، وهذا شأن كل رسول ، والأمر باتباع الرسول يستلزم أن تكون اعتقاداته وأفعاله وأقواله جميعها طاعات لا محالة ، لأنه لو جاز أن يقع من الرسول معصية لله تعالى لحصل تناقض في واقع الحال ، إذ يقتضي أن يجتمع في هذه المعصية التي وقعت من الرسول الأمر باتباعها وفعلها من حيث كوننا مأمورين بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم ، والنهي عن موافقتها من حيث كونها معصية منهي عنها ، وهذا تناقض ، فلا يمكن أن يأمر الله عبداً بشيء في حال أنه ينهاه عنه .
وقولهم هذا يكون صحيحاً ، لو بقيت معصية الرسول خافية غير ظاهرة ، بحيث تختلط علينا الطاعة بالمعصية ، أمّا وأنّ الله ينبه رسله وأنبياؤه إلى ما وقع منهم من مخالفات ويوفقهم إلى التوبة منها ، من غير تأخير فإنّ ما أوردوه لا يصلح دليلاً بل يكون التأسي بهم في هذا منصباً على الإسراع في التوبة عند وقوع المعصية ، وعدم التسويف في هذا ، تأسياً بالرسل والأنبياء الكرام في مبادرتهم بالتوبة من غير تأخير .
الثانية :أنّ هؤلاء توهموا أن الذنوب تنافي الكمال ، وأنها تكون نقصاً وإن تاب التائب منها ، وهذا غير صحيح ، فإنّ التوبة تغفر الحوبة ، ولا تنافي الكمال ، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم ، بل إنّ العبد في كثير من الأحيان يكون بعد توبته من معصيته خيراً منه قبل وقوع المعصية ، وذلك لما يكون في قلبه من الندم والخوف والخشية من الله تعالى ، ولما يجهد به نفسه من الاستغفار والدعاء ، ولما يقوم به من صالح الأعمال ، يرجو بذلك أن تمحو الصالحات السيئات ، وقد قال بعض السلف : " كان داود عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة " ، وقال آخر : " لو لم تكن التوبة أحبّ الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه " .
وقد ثبت في الصحاح " أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلته ناقته بأرض فلاة ، وعليها طعامه وشرابه ، فنام نومة فقام فوجد راحلته فوق رأسه فقال : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح " (7) .
وفي الكتاب الكريم : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) [البقرة : 222] وقال تعالى مبيناً مثوبة التائبين : ( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ... ) [ الفرقان : 70 ] .
وفي يوم القيامة " يدني الله المؤمن ، فيضع عليه كنفه ويستره ، فيقول : أتعرف ذنب كذا ، أتعرف ذنب كذا ، فيقول : نعم ، أي رب ، حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه هلك ، قال : سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " (8) .
ومعلوم أنه لم يقع ذنب من نبي إلا وقد سارع إلى التوبة والاستغفار منه ، يدلنا على هذا أن القرآن لم يذكر ذنوب الأنبياء إلا مقرونة بالتوبة والاستغفار ، فأدم وزوجه عصيا فبادرا إلى التوبة قائلين : ( ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ الأعراف : 23 ] وما كادت ضربة موسى تسقط القبطي قتيلاً حتى سارع طالباً الغفران والرحمة قائلاً : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) [ القصص : 16 ] . وداود ما كاد يشعر بخطيئته حتى خرّ راكعاً مستغفراً ( فاستغفر ربَّه وخرَّ راكعاً وأناب ) [ص : 24] .
فالأنبياء لا يقرون على الذنب ، ولا يؤخرون التوبة ، فالله عصمهم من ذلك ، وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها .
وبذلك انهارت هاتان الشبهتان ، ولم يثبتا في مجال الحجاج والنقاش ، وحسبنا بالأدلة الواضحة البينة التي تهدي للتي هي أقوم .
السبب في عصمة الأنبياء مما عصموا منه وعدم عصمتهم مما لم يعصموا منه :
الرسل والأنبياء بشر من البشر ، عصمهم الله في تحمل الرسالة وتبليغها ، فلا ينسون شيئاً ، ولا ينقصون شيئاً ، وبذلك يصل الوحي الذي أنزله الله إلى الذين أرسلوا إليهم كاملاً وافياً ، كما أراده الله جلّ وعلا ، وهذه العصمة لا تلازمهم في كلّ أمورهم فقد تقع منهم المخالفة الصغيرة ، بحكم كونهم بشراً ، ولكنّ رحمة الله تتداركهم ، فينبههم الله إلى خطئهم ، ويوفقهم للتوبة والأوبة إليه .
يقول الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر : " إنّ الوحي لا يلازم الأنبياء في كلّ عمل يصدر عنهم ، وفي كلِّ قول يبدر منهم ، فهم عرضة للخطأ ، يمتازون عن سائر البشر بأنّ الله لا يقرّهم على الخطأ بعد صدوره ، ويعاتبهم عليه أحياناً " (9) .
تكريم الأنبياء وتوقيرهم :
هذه الصغائر التي تقع من الأنبياء لا يجوز أن تتخذ سبيلاً للطعن فيهم ، والإزراء عليهم ، فهي أمور صغيرة ومعدودة غفرها الله لهم ، وتجاوز عنها ، وطهرهم منها ، وعلى المسلم أن يأخذ العبرة والعظة لنفسه من هذه ، فإذا كان الرسل الكرام الذين اختارهم الله واصطفاهم عاتبهم الله ولامهم على أمور كهذه ، فإنّه يجب أن نكون على حذر وتخوف من ذنوبنا وآثامنا ، وعلينا أن نتأسى بالرسل والأنبياء في المسارعة إلى التوبة والأوبة إلى الله، وكثرة التوجه إليه واستغفاره .
--------------------------------
(1) راجع لمزيد من الأمثلة كتاب : ( محمد نبي الإسلام ) ص146 .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 4/319 .
(3) الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مجمعون على عدم وقوع صغائر الذنوب من الأنبياء والأئمة ، راجع عقائد الإمامية لمحمد رضا ص 80 ، 95 وعقائد الإمامية الاثني عشرية لإبراهيم الموسوي الزنجاني ص157 .
(4) مجموع الفتاوى : (10/313) .
(5) المصدق السابق .
(6) ممن أشبع الكلام على هاتين الشبهتين والإجابة عليهما شيخ الإسلام ابن تيمية ، انظر مجموع الفتاوى : 10/293 – 313 ، 15/150 .
(7) انظر روايات الحديث في صحيح البخاري : 6308 ، 6309 ، وفي صحيح مسلم كتاب التوبة ، باب في الحض على التوبة والفرح بها الأحاديث : 2744 – 2747 .
(8) صحيح البخاري : 2441 ، وصحيح مسلم : 2768 .
(9) حياة محمد لهيكل ، انظر مقدمة الكتاب بقلم الشيخ المراغي ص 11 .
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 28-01-2010, 12:49 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

عصمَة غير الأنبيَاء
أهل السنة والجماعة لا ينسبون العصمة لغير الأنبياء والمرسلين ، حتى أفضل هذه الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة – رضوان الله عليهم – وفيهم أبو بكر وعمر ليسوا بمعصومين ، وقد قال الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق في أولّ خطبة يخطبها بعد توليه الخلافة : " أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أخطأت فقوِّموني " . وعندما اعترضت امرأة على عمر بن الخطاب وجاءت بالدليل قال : أصابت امرأة وأخطأ عمر .
وقد نسب أقوام العصمة لغير الأنبياء من غير دليل ولا برهان ، افتراء على الله ، وسنعرض لبعض من ادعيت فيهم هذه الدعوى .
عصمة المُعِزّ الفاطمي ( العُبيدي ) :
يزعم أتباع (( المعز معد بن إسماعيل ، أبو تميم )) وهو الذي يسميه بعض الناس : المعزّ لدين الله الفاطمي – أنّه معصوم هو وأولاده عن الذنوب والأخطاء .
وهذا الزعم زعم باطل ، أرادوا به إضلال الناس بتنصيب هذا الطاغية في مقام النبوة، لتكون كلمته ديناً يتبع ، وإلاّ فإن هذا الذي يسمونه المعزّ ، وأولئك الذين كانوا يسمّون بالفاطميين ليسوا من سلالة فاطمة ، وإنما هم من سلالة عبيد الله القداح ، كانوا يقولون بمثل هذه العصمة لأئمتهم ونحوهم ، مع كونهم كما قال فيهم أبو حامد الغزالي في كتابه الذي صنعه في الردّ عليهم : " ظاهر مذهبهم الرفض ، وباطنه الكفر المحض " (1) .
عصمة أئمة الشيعة الاثني عشرية :
يزعم الشيعة أن أئمتهم الاثني عشر معصومون عن الخطأ ، والعصمة التي ينسبونها لهم هي العصمة التي ينسبونها للأنبياء ، يقول أحد مُقدَّمي الشيعة المعاصرين مبيناً مفهوم عصمة الأئمة عندهم : " الأئمة لا نتصور فيهم السهو أو الغفلة ، ونعتقد فيهم الإحاطة بكلّ ما فيه مصلحة للمسلمين " (2) وينقل إبراهيم الموسوي الزنجاني عن الصدوق قوله : " اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة أنهم معصومون مطهرون من كل دنس ، وأنهم لا يذنبون ذنباً لا صغيراً ولا كبيراً ، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون " (3) .
وهو يكفِّر الذين لا يقولون بعصمة الأئمة ، يقول بعد كلامه السابق مباشرة : " ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهَّلهم ، ومن جهلهم فهو كافر " (4) ، ثمّ قال : " واعتقادنا فيهم أنهم معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم وأواخرها لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان " (5) .
وقال المجلسي : " أصحابنا الإمامية أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة من الذنوب الصغيرة والكبيرة عمداً وخطأً ونسياناً ، قبل النبوة والإمامة وبعدهما ، بل من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله تعالى ، ولم يخالف في ذلك إلا الصدوق محمد ابن بابويه وشيخه ابن الوليد ، فإنهما جوزا الإسهاء من الله تعالى لا السهو الذي يكون من الشيطان في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام " (6) ، وعصمة الأئمة عندهم مسألة اعتقادية رئيسة ، ولذا فإنهم يكفرون مخالفيهم فيها ، ويترتب عليها أمور كثيرة منها : أنّ الكلام المنسوب إلى الأئمة يعتبرونه دليلاً شرعياً كالقرآن والسنة ، ولذا فإن التشريع لم ينته عندهم بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو مستمر إلى حين غيبة إمامهم الثاني عشر، بل يرون أنّه يمكن أن يتلقوا رسائل من الإمام الغائب بواسطة نوابّه .
ومن ذلك أنهم أحقّ بالخلافة من غيرهم ، فهم أحقّ من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة .
السر في دعوى العصمة (7) :
الأنبياء والرسل معصومون بالوحي ، ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) [ النجم : 3-4 ] . فما سر عصمة الأئمة ؟ يقول علماء الشيعة الإمامية : إنّ الله جعل في الأئمة أرواحاً يسددهم بها ، فقد عنون الكليني في كتابه أصول الكافي لهذا الموضوع بقوله : " باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة " (1/271-272) و " باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة " (1/273-274) ، وفي هذا الباب ستة أخبار منها عن أبي عبد الله قال في الروح الذي في هذه الآية ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) [الشورى : 52] خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله – عز وجل – أعظم من جبريل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ، ويسدده ، وهو مع الأئمة من بعد .
وفي الباب الأسبق ذكر عن الإمام الصادق أن روح القدس خاصة بالأنبياء ، فإذا قبض النبي انتقل روح القدس فصار مع الإمام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو ، والإمام يرى به (8) ، وفسر في الحاشية الرؤية بقوله : يعني ما غاب عنه في أقطار الأرض ، وما في عنان السماء ، وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى .
وفي كتاب بحار الأنوار للمولى محمد باقر المجلسي (25/47-99) " باب الأرواح التي فيهم " " أي في الأئمة " وأنهم مؤيدون بروح القدس وقال ابن بابوية القمي في " رسالة للصدوق في الاعتقادات " (ص108-109) .. " اعتقادنا في الأخبار الصحيحة عن الأئمة أنها موافقة لكتاب الله ، متفقة المعاني ، غير مختلفة ، لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه " وهذا لقمي صاحب كتاب " فقيه من لا يحضره الفقيه " أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية يقول : " ويرى علماء الشيعة أنّ النبي إذا لم يوص فإنّه ناقص النبوة والرسالة ، وأنه قد ضيع أمته " (9) .
ومما يدلُّ على بطلان مدعاهم في الأئمة أنّ المعصوم يجب اتباعه من غير دليل ، ومخالفة غير المعصوم جائزة ، بل تكون واجبة إذا علمنا أنّه خالف النصَ ، وقد أمرنا الله بطاعته وطاعة رسوله ، وغير رسوله يطاع إن أمر بطاعة رسوله ، فإن تنازعنا رددنا الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [ النساء : 59 ] فلو كان الأئمة معصومين لكان أوجب الرد إلى الله وإلى الرسول والأئمة ، فدلّ عدم إيجاب الرد عليهم حال التنازع على عدم عصمتهم .
وقد كان عليّ وابناه وغيرهم يخالف بعضهم بعضاً في العلم والفتيا ، كما يخالف سائر أهل العلم بعضهم بعضاً ، ولو كانوا معصومين لكان مخالفة المعصوم للمعصوم ممتنعة، ولقد كان الحسن في أمر القتال يخالف أباه ، ويكره كثيراً مما يفعله ، ويرجع علي في آخر الأمر إلى رأيه ، وتبين له في آخر الأمر أنّه لو فعل غير الذي فعله لكان الصواب ، وله فتاوى رجع ببعضها عن بعض ، والمعصوم لا يكون له قولان متناقضان ، إلا أن يكون أحدهما ناسخاً للآخر . وقد وصى الحسن أخاه الحسين بأن لا يطيع أهل العراق ، ولا يطلب هذا الأمر ، ولو كان معصوماً لما جاز للحسين مخالفته (10) .
--------------------------------
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 4/320 .
(2) الحكومة الإسلامية للخميني : ص91 .
(3) عقائد الإمامية الاثني عشرية : ص157 .
(4) المصدر السابق .
(5) المصدر السابق .
(6) بحار الأنوار للمولى محمد باقر المجلسي : (25/350-351) (انظر الإمامة للسالوس : ص21) .
(7) النقول المثبتة هما بمصادرها أخذناها من كتاب الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة د. علي أحمد السالوس : (ص20) .
(8) انظر عقائد الإمامية الاثني عشرية لإبراهيم الموسوي الزنجاني: ص161 .
(9) المصدر السابق : ص171 .
(10) راجع مجموع فتاوى : 35/120 ، 126 .
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 28-01-2010, 12:50 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

دلائل النّبّوة
تمهيد :
الأنبياء الذين ابتعثهم الله إلى عباده يقولون للناس : نحن مرسلون من عند الله ، وعليكم أن تصدقونا فيما نخبركم به ، كما يجب عليكم أن تطيعونا بفعل ما نأمركم به ، وترك ما ننهاكم عنه ، وقد أخبر الله في سورة الشعراء أن نوحاً خاطب قومه قائلاً : ( أَلَا تَتَّقُونَ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) [ الشعراء : 106-108 ] . وبهذا القول نفسه خاطب رسل الله : هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، أقوامهم ، بل هي مقالة ودعوة كل رسول لقومه .
فإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ أن يقيم الله الدلائل والحجج والبراهين المبينة صدق الرسل في دعواهم أنهم رسل الله كي تقوم الحجة على الناس ، ولا يبقى لأحد عذر في عدم تصديقهم وطاعتهم ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) [ الحديد : 25 ] أي : بالدلائل والآيات البينات التي تدلُّ على صدقهم .
تنوع الدلائل :
أفراد الأدلة الدالة على صدق كل رسول كثيرة متنوعة ، وقد عدّ الذين ألّفوا في دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أدلة صدقه ، فنافت على الألف عند بعضهم ، ويمكننا أن نقسم هذه الأدلة إلى أقسام ، يضمُّ كل قسم منها مجموعة متشابهة ، وقد أرجعنا أفراد الأدلة إلى خمسة أمور :
الأول : الآيات والمعجزات التي يجريها الله تصديقاً لرسله .
الثاني : بشارة الأنبياء السابقين بالأنبياء اللاحقين .
الثالث : النظر في أحوال الأنبياء .
الرابع : النظر في دعوة الرسل .
الخامس : نصر الله وتأييده لهم .
وسنتناول كلَّ واحد من هذه الخمسة بشيء من الإيضاح والتفصيل في خمسة مباحث .

المبحث الأول
الآيات والمعجزات
المطلب الأول
تعريف الآية والمعجزة
الآية – في لغة العرب – العلامة الدالة على الشيء ، والمراد بها هنا : ما يجريه الله على أيدي رسله وأنبيائه من أمور خارقة للسنن الكونية المعتادة التي لا قدرة للبشر على الإتيان بمثلها ، كتحويل العصا إلى أفعى تتحرك وتسعى ، فتكون هذه الآية الخارقة للسنة الكونية المعتادة دليلاً غير قابل للنقض والإبطال ، يدلُّ على صدقهم فيما جاؤوا به .
وقد تتابع العلماء على تسمية هذه الآيات بالمعجزات ، والمعجزة – في اللغة – اسم فاعل مأخوذ من العجز الذي هو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأي أو تدبير (1) .
ويعرّف الفخر الرازي المعجزة في العرف : بأنّها أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة (2) .
ويعرفها ابن حمدان الحنبلي بأنَّها ما خرق العادة من قول أو فعل إذا وافق دعوى الرسالة وقارنها وطابقها على جهة التحدي ابتداءً بحيث لا يقدر أحدٌ على مثلها ، ولا على ما يقاربها (3) .
وعلى ذلك فإنّ الأمور التالية لا تعدّ من باب المعجزات :
1- الخوارق التي تعطى للأنبياء وليس مقصوداً بها التحدي ، كنبع الماء من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتكثيره الطعام القليل ، وتسبيح الحصا في كفّه ، وإتيان الشجر إليه ، وحنين الجذع إليه ، وما أشبه ذلك .
2- الخوارق التي أعطاها الله لغير الأنبياء ويسميها المتأخرون كرامات .
والذين فرقوا هذا التفريق هم العلماء المتأخرون ، أمّا المعجزة في اللغة وفي عرف العلماء المتقدمين كالإمام أحمد فإنّها تشمل ذلك كله (4) .
وقد أطلقنا عليها اسم ( الآية ) كما جاء بذلك القرآن الكريم ، وهو اسم شامل لكل ما أعطاه الله لأنبيائه للدلالة على صدقهم سواءً أقصد به التحدي أم لم يقصد .
--------------------------------
(1) بصائر ذوي التمييز : 1/65 .
(2) لوامع الأنوار البهية : 2/289-290 .
(3) المصدر السابق .
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 11/311 ، ولوامع الأنوار البهية : 2/290 .
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 28-01-2010, 12:50 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب الثاني
أنواع الآيات ( الجزء الأول )
إذا استقرأنا الآيات والمعجزات التي أعطاها الله لرسله وأنبيائه نجدها تندرج تحت ثلاثة أمور : العلم ، والقدرة ، والغنى (1) .
فالإخبار بالمغيبات الماضية والآتية ، كإخبار عيسى قومه بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم ، وإخبار رسولنا صلى الله عليه وسلم بأخبار الأمم السابقة ، وإخباره بالفتن وأشراط الساعة التي ستأتي في المستقبل – كل ذلك من باب العلم .
وتحويل العصا أفعى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وشقّ القمر وما أشبه هذا – من باب القدرة .
وعصمة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الناس ، وحمايته له ممن أراد به سوءاً ، ومواصلته للصيام مع عدم تأثير ذلك على حيويته ونشاطه من باب الغنى .
وهذه الأمور الثلاثة : العلم ، والقدرة ، والغنى ، التي ترجع إليها المعجزات لا ينبغي أن تكون على وجه الكمال إلاّ لله تعالى ، ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من دعوى هذه الأمور ( قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) [ الأنعام : 50 ] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يبرأ من دعوى علم الغيب ، وملك خزائن الأرض ، ومن كونه مَلَكاً مستغنياً عن الطعام والشراب والمال . والرسل ينالون من هذه الثلاثة المخالفة للعادة المطردة ، أو لعادة أغلب الناس بقدر ما يعطيهم الله تعالى ، فيعلمون من الله ما علمهم إيّاه ، ويقدرون على ما أقدرهم عليه ، ويستغنون بما أغناهم به .
أمثلة من آيات الرُّسُلِ :
أولاً : آية نبي الله صالح :
دعا صالح قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) [ النمل : 45 ] ، فكذبوه وطلبوا منه آية تدل على صدقه ( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ - مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) [الشعراء : 153-154] .
يقول ابن كثير : " ذكر المفسرون أنّ ثمود اجتمعوا يوماً في ناديهم ، فجاءهم رسول الله صالح ، فدعاهم إلى الله ، وذكرهم ، وحذّرهم ، ووعظهم ، وأمرهم ، فقالوا له : إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة – وأشاروا إلى صخرة هناك – ناقة ، من صفتها كيت وكيت ، وذكروا أوصافاً سموها ، ونعتوها ، وتعنتوا فيها ، وأن تكون عشراء طويلة ، من صفتها كذا وكذا .
فقال لهم نبيهم صالح عليه السلام : أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئت به ، وتصدقوني بما أرسلت به ؟ قالوا : نعم ، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك ، ثمّ قام إلى مصلاه فصلّى لله – عز وجل – ما قدّر له ، ثم دعا ربّه – عزّ وجل – أن يجيبهم إلى ما طلبوا ، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه الذي طلبوا ، أو على الصفة التي نعتوا .
فلما عاينوها كذلك رأوا أمراً عظيماً ، ومنظراً هائلاً ، وقدرة باهرة ، ودليلاً قاطعاً ، وبرهاناً ساطعاً ، فآمن كثير منهم ، واستمرَّ أكثرهم على كفرهم (2) ، وقد ذكر الله استجابته لطلبهم الآية ( قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ) [ الشعراء : 155 ] ، ( قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ ) [ الأعراف : 73 ] ، وقد أخبر الله أنها كانت آية واضحة بينة لا خفاء فيها ، ولذا سماها مبصرة ( وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ) [الإسراء : 59] .
ثانياً : معجزة إبراهيم عليه السلام :
حطّم إبراهيم آلهة قومه التي كانوا يعبدونها ، فأشعلوا له النار ، ورموه فيها ، فأمر الله – جل وعلا – النار ألا تصيبه بأذى وأن تكون عليه برداً وسلاماً ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ - قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ - وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ) [ الأنبياء : 68-70 ] .
ومن الآيات التي أجراها على يد إبراهيم إحيـاء الموتى ، وقد قصّ الله علينا خبر ذلك : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) [ البقرة : 260 ] .
فأمره بذبح هذه الطيور ، ثم تقطيعها ، وتفريقها على عدة جبال ، ثم دعاها فلبت النداء ، واجتمعت الأجزاء المتفرقة ، والتحمت كما كانت من قبل ، ودبت فيها الحياة ، وطارت محلقة في الفضاء ، فسبحان الله ما أعظم شأنه ، وأجلَّ قدرته .
ثالثاً : آيات نبي الله موسى عليه السلام :
أعطى الله موسى تسع آيات بينات ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) [الإسراء : 101 ] .
1- وأعظم هذه الآيات وأكبرها العصا التي كانت تتحول إلى حيّة عظيمة عندما يلقيها على الأرض ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى - قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى - فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى - قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ) [ طه : 17-21 ] .
وكان من شأن هذه العصا أن ابتلعت عشرات من الحبال والعصي التي جاء بها فرعون ليغالبوا موسى ، ( قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى - قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى - فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى - قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى - وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) [ طه : 65-69 ] .
وعندما عاين السحرة ما فعلته حيَّة موسى ، علموا أنَّ هذا ليس من صنع البشر ، إنما هو من صنع الله خالق البشر ، فلم يتمالكوا أن خروا أمام الجموع ساجدين لله ربِّ العالمين ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) [ طه : 70 ] .
2- ومن الآيات التي أرسل بها موسى ما ذكره الله في قوله : ( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى ) [ طه : 22 ] ، كان يدخل يده في جيبه ( درع قميصه ) ، ثم ينزعها ، فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء ، أي : من غير برص ، ولا بهق .
وذكر الله سبع آيات في سورة الأعراف ، فقد ذكر الله أنه أصابهم :
3- بالسنين ، وهي ما أصابهم من الجدب والقحط ، بسبب قلة مياه النيل ، وانحباس المطر عن أرض مصر .
4- نقص الثمرات ذلك أن الأرض تمنع خيرهـا ، وما يخرج يصاب بالآفات والجوائح .
5- الطوفان الذي يتلف المزارع ويهدم المدن والقرى .
6- الجراد الذي لا يدع خضراء ولا يابسة .
7- القمّل ، وهي حشرة تؤذي الناس في أجسادهم .
8- الضفادع التي نغصت عليهم عيشتهم لكثرتها .
9- الدم الذي يصيب طعامهم وشرابهم .
( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ - فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ - وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) [ الأعراف : 130-133 ] .
آيات أخرى :
هذه الآيات التسع التي أرسل بها موسى إلى فرعون ، وإلاّ فالآيات التي أجراها الله على يد موسى أكثر من ذلك ، فمن ذلك ضرب موسى البحر بعصاه وانفلاقه ، ومن هذا ضربه الحجر فينفلق عن اثنتي عشرة عيناً ، وإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل في صحراء سيناء ، وغير ذلك من الآيات .
رابعاً : معجزات نبي الله عيسى عليه السلام :
من معجزاته التي أخبرنا الله بها أنّه كان يصنع من الطين ما يشبه الطيور ثمَّ ينفخ فيها فتصبح طيوراً بإذن الله وقدرته ، ويمسح الأكمه فيبرأ بإذن الله ، ويمسح الأبرص فيذهب الله عنه برصه ، ويمرُّ على الموتى فيناديهم فيحييهم الله تعالى ، وقد حكى القرآن لنا هذا في قوله تعالى مخاطباً عيسى : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي ) [المائدة : 110] .
ومن آياته تلك المائدة التي أنزلها الله من السماء عندما طلب الحواريون من عيسى إنزالها ، وكانت على الحال التي طلبها عيسى عيداً لأولهم وآخرهم ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ - قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ - قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ - قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ) [المائدة : 112-115] .
--------------------------------
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 11/312-313 .
(2) البداية والنهاية : 1/134 .
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 28-01-2010, 01:15 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب الثاني
أنواع الآيات ( الجزء الثاني )
خامساً : آيات خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه :
أجرى الله على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معجزات باهرات ، وآيات مبصرات ، إذا نظر فيها مريد الحقّ ، دلتّه على أنها شهادة صادقة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد عدّها بعض العلماء فنافت على ألف معجزة ، وقد ألفت فيها مؤلفات، وتناولها علماء التوحيد والتفسير والحديث والتاريخ بالشرح والبيان .
1- الآية العظمى :
وأعظم الآيات التي أعطيها رسولنا صلى الله عليه وسلم ، بل أعظم آيات الرسل كلّهم القرآن الكريم ، والكتاب المبين ، وهو آية تخاطب النفوس والعقول ، آية باقية دائمة إلى يوم الدين ، لا يطرأ عليها التغيير ولا التبديل ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) [فصلت: 41-42] .
وقد تحدى الله بهذا الكتاب فصحاء العرب ، وقد كانت الفصاحة والبلاغة وجودة القول هي بضاعة العرب التي نبغت بها ، وقد عادى العرب دعوة الإسلام ورسول الإسلام، وكان مقتل هذه الدعوى أن يعارض فصحاؤهم هذا الكتاب ، ويأتوا بشيء من مثله ، ولكنهم عجزوا عن ذلك ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 23-24 ] .
نمط فريد من المعجزات :
شاء الله تعالى أن تكون معجزة محمد صلى الله عليه وسلم نمطاً مخالفاً لمعجزات الرسل ، وكان الله قادراً على أن ينزل معجزة حِِسيّة تذهل من يراها : ( إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) [ الشعراء : 4 ] . فلو شاء الله تعالى لأنزل من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالاً ، ولا انصرافاً عن الإيمان ، ويصور خضوعهم لهذه الآية في صورة حسية : ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) [الشعراء :4] ملوية محنية ، حتى لكأنَّ هذه هيئة لهم لا تفارقهم ، فهم عليها مقيمون . ولكنه – سبحانه – شاء أن يجعل معجزة هذه الرسالة الأخيرة آية غير قاهرة ، لقد جعل آيتها القرآن ، منهاج حياة كاملة ، معجزاً في كلِّ ناحية :
معجزاً في بنائه التعبيري ، وتنسيقه الفني ، باستقامته على خصائص واحدة ، في مستوى واحد ، لا يختلف ولا يتفاوت ، ولا تتخلف خصائصه ، كما هي الحال في أعمال البشر ، إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد ، المتغير الحالات ، بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد ، ومستوى واحد ، ثابت لا يتخلف ، يدلّ على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال .
معجزاً في بنائه الداخلي ، وتناسق أجزائه وتكاملها ، فلا فلتة فيه ولا مصادفة ، كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل ، وتحيط بالحياة البشرية ، وتستوعبها ، وتلبيها وتدفعها ، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهج الشامل الضخم مع جزئية أخرى ، ودون أن تصطدم واحـدة منها بالفطرة الإنسانية ، إذ تقصر عـن تلبيتها .. ، وكلها مشدودة إلى محور واحد ، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة ، ولا بد أن يكون هناك علم مطلق ، غير مقيد بقيود الزمان والمكان ، هو الذي أحاط به هذه الإحاطة ، ونظمه هذا التنظيم .
معجزاً في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس ، ولمس مفاتيحها ، وفتح مغاليقها ، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها ، وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين ، وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات ، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة .
لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة – ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم – ذلك أنّ هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة إلى الأمم كلّها ، وللأجيال كلها ، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان وأهل مكان ، فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب ، لكل أمة ولكل جيل ، والخوارق القاهرة لا تلوي إلاّ أعناق من يشاهدونها ، ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى ، لا واقعاً يشهد .. ، فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً كتاب مفتوح ومنهج مرسوم ، يستمدُّ منه أهل هذا الزمان ما يقوِّم حياتهم – لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم – ويلبي حاجاتهم كاملة ، ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل ، وأفق أعلى ، ومصير أمثل ، وسيجد فيه من بعدنا كثيراً مما لم نجده نحن ، ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته ، ويبقى رصيده لا ينفد ، بل يتجدد (1) .
2- الإسراء والمعراج :
من الآيات البينات والمعجزات الخارقات إسراء الله بنبيه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حيث جمع الله له الأنبياء فصلّى بهم إماماً ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا .. ) [الإسراء : 1] ، ومن هناك عرج به إلى السماوات العُلى ، وهناك رأى من آيات ربّه الكبرى ، رأى جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها ، وصعد به إلى سدرة المنتهى ، وجاوز السبع الطباق وكلّمه الرحمن وقربه ( أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى - عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى - إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى - مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى - لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) [ النجم : 12-18 ] .
وقد استعظمت قريش دعوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت القوافل تمضي الأسابيع في الذهاب إلى بيت المقدس والعودة منها ، فكيف يتسنى لرجل أن يمضي ويعود في جزء من ليلة ! ذلك أمر عجيب ، وهو حقاً عجيب ، ولكن العجب يتلاشى إذا علمنا أنَّ الذي أسرى به هو الله تعالى ، والله على كلّ شيء قدير .
وقد أرانا الله في هذه الأيام الوسائل التي تنقل الناس فوق ظهر هذه الأرض من مكان إلى مكان بسرعة هائلة ، كان يعدها الناس قديماً ضرباً من الخيال .
3- انشقاق القمر :
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر ، فقد سأل أهلُ مكة الرسولَ صلى الله عليه وسلم آية ، فانشق القمر شقين ، حتى رأوا حراء بينهما ، وقد كان القمر عند انشقاقه بدراً .
وقد سجّل الله ذكر هذه الآية في كتابه ، قال ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ - وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) [ القمر : 1-2 ] .
وينقل ابن كثير إجماع المسلمين على وقوع هذه الآية ، كما يذكر أنَّه قد وردت الأحاديث بذكر انشقاق القمر متواترة من طرق متعددة تفيد القطع (2) .
وقد شاهد هذه المعجزة الناس في أنحاء الجزيرة العربية ، فإنَّ أهل مكة لم يصدقوا ، وقالوا : سحرنا محمد ، ثمَّ استدركوا قائلين : انظروا ما يأتيكم به السفار ، فإنَّ محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلَّهم ، وفي اليوم التالي سألوا من وفد إليهم ، من خارج مكة ، فأخبروا أنَّهم قد رأوه .
وقد شاهد الناس انشقاقه في خارج الجزيرة العربية ، يقول ابن كثير : " شوهد انشقاقه في كثير من بقاع الأرض ، ويقال : إنّه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند ، وبني بناء في تلك الليلة ، وأرخ بليلة انشقاق القمر " (3) .
قد يقال : " إن انشقاق القمر ليس شيئاً مستحيلاً ، فالعلم قد شاهد انشقاق مذنب بروكس " شقين سنة 1889م ، وكذلك انقسام مذنب ((بيلا)) إلى جزءين سنة 1846م ، كما ذكر الفلكي (( سبنسر جونز )) في فصل المذنبات والشهب من كتاب (( عوالم بلا نهاية )) .
وفي الإجابة يقال :" الفرق بين انشقاق القمر وانشقاق هذين المذنبين أنهما لم يلتئما بعد الانشقاق ، والقمر التأم ، وهو الفرق المنتظر بين الظاهرة الفلكية في الفطرة ، والمعجزة الفلكية على يد رسول ، لأنَّ المعجزة مؤقتة تزول بزوال وقتها وتحقق الغرض منها ، ولو استمرت لكانت ظاهرة طبيعية صرفة ، ولخرجت عن دائرة المعجزات " .
4- تكثيره الطعام صلوات الله وسلامه عليه :
وقد وقع هذا منه صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة ، فمن ذلك ما رواه أنس ، قال : قال أبو طلحة لأمَّ سُلَيم ، لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً ، أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء ؟ قالت : نعم ، فأخرجت أقراصاً من شعير ، ثمَّ أخرجت خماراً لها ، فلفت الخبز ببعضه ، ثمّ دسته تحت يدي ، ولاثتني (4) ببعضه ، ثمَّ أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فذهبت به ، فوجدت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسلك أبو طلحة ؟ " فقلت : نعم ، قال : " بطعام ؟ " قلت : نعم ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمن معه : " قوموا " فانطلق ، وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة ، فأخبرته ، فقال أبو طلحة ، يا أمَّ سليم ، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، وليس عندنا ما نطعمهم ، فقالت : الله ورسوله أعلم .
فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هلمي يا أم سليم ، ما عندك ؟ " فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففت، وعصرت أم سليمة عكة ، فأدَمَتهُ ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول ، ثمَّ قال : " ائذن لعشرة " ، فأذن لهم ، فأكلوا ، حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثمَّ قال : " ائذن لعشرة " فأذن لهم ، فأكلوا ، حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثمَّ قال : " ائذن لعشرة " فأذن لهم ، فأكلوا ، حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثم قال : " ائذن لعشرة " فأكل القوم كلهم ، وشبعوا ، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً " (5) .
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " لما حُفِر الخندقُ رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خَمَصاً شديداً ، فانكفَيتُ إلى امرأتي فقلتُ : هل عندك شيء ؟ فإني رأيت برسول اللهِ صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً . فأخرجتْ إليَّ جِراباً فيه صاعٌ من شعير ، ولنا بُهيمةٌ داجن فذبحتها ، وطحنت الشعير ، ففرغت إلى فراغي ، وقطعتها في برمتها ، ثم ولَّيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معهُ . فجئتُهُ فساررتهُ فقلت : يا رسول الله ذبحنا ُبهيمة لنا وطحنّا صاعاً من شعير كان عندنا ، فتعال أنت ونفر معك ، فصاحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : يا أهل الخندق ، إن جابراً قد صنع سُوراً ، فحيَّ هلا بكم فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : لا تُنزلُنَّ برمتكم ، ولا تخبزُنَّ عجينكم حتى أجيء . فجئتُ وجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقدُمُ الناس ، حتى جئتُ امرأتي فقالت : بكَ وبك . فقلت : قد فعلتُ الذي قلتِ. فأخرجَتْ له عجيناً ، فبصقَ فيه وبارك ، ثم عمدَ إلى بُرمَتِنا فبصق وبارك . ثم قال : ادعُ خابزةً فلتخبز معي . واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها ، وهم ألف ، فأقسم باللهِ لقد أكلوا حتى تركوهُ وانحرفوا ، وإن بُرْمَتَنا لتغِطُّ كما هي : وإن عجيننا ليُخبَز كما هو " (6) .
5- تكثيره الماء ونبعه من بين أصابعه الشريفة :
وقد وقع من هذا شيء كثير من الرسول صلى الله عليه وسلم ، نذكر طرفاً منه ، فمن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله ، قال : عطش الناس يوم الحديبية ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة ( ظرف للماء ) فتوضأ منها ، ثمَّ أقبل الناس نحوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما لكم " ؟ قالوا : ليس عندنا ماء نتوضأ به ، ونشرب إلا ما في ركوتك ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون ، قال : فشربنا ، وتوضأنا ، قيل لجابر : كم كنتم يومئذ ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة " (7) .
ومن ذلك تكثيره ماء بئر الحديبية في يوم الحديبية ، فقد روى البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : " كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر ، فنزحناها ، حتى لم نترك فيها قطرة ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير البئر ، (طرفها) ، فدعا بماء فمضمض ، ومجّ في البئر ، فمكثنا غير بعيد ، ثم استقينا حتى رَوِينا ، ورَوَت أو صَدَرت ركائبنا " (8) .
وعن عبد الله بن مسعود قال : كنّا نعدُّ الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفاً ، كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ الماء ، فقال : " اطلبوا فضلة من ماء " فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل ، فأدخل يده في الإناء ، ثم قال : " حيَّ على الطَّهور المبارك ، والبركة من الله " فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنّا نسمع تسبيح الطعام وهو يأكل " (9) .
6- كف الأعداء عنه :
ومن ذلك استجابة الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم عندما كان مهاجراً ، وأدركه سراقة ابن مالك ، فارتطمت بسراقة فرسه إلى بطنها في أرض صلبة ، فقال سراقة : إني أراكما قد دعوتما عليَّ ، فادعوا لي ، فالله لكما أن أردّ عنكما الطلب ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا ، فجعل لا يلقى أحداً إلاّ قال : كفيتم ، ما هاهنا ، فلا يلقى أحداً إلاّ ردّه . متفق عليه (10) .
وفي معركة حنين انهزم المسلمون وثبت الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلّة من المؤمنين أولئك الذين بايعوا تحت الشجرة ، فلّما حمى الوطيس ، أخذ صلوات الله وسلامه عليه حصيات ، فرمى بهنَّ وجوه الكفار ، ثم قال : " انهزموا وربِّ محمد " يقول العباس راوي الحديث : فوالله ما هو إلاّ أن رماهم بحصياته ، فما زلت أرى حدّهم كليلاً ، وأمرهم مدبراً (11) .
وفي رواية سلمة بن الأكوع ، قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً ، فولّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ، ثمَّ قبض قبضة من تراب الأرض ، ثمَّ استقبل به وجوههم ، فقال : " شاهت الوجوه " ، فما خلق الله منهم إنساناً إلاّ ملأ الله عينيه تراباً بتلك القبضة ، فولوا مدبرين ، فهزمهم الله ، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين " (12) .
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أن أبا جهل حلف باللات والعزى أنه لو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد حيث مجامع قريش أن يطأ على رقبته ، أو ليعفرن وجهه في التراب ، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ساجداً ، أراد أن يفعل ما أقسم عليه ، فلما اقترب منه " ما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ، ويتقي يديه ، فقيل له: مالك ؟ فقال : إنَّ بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة " .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو دنا مني لاختطفتـه الملائكة عضواً عضواً " (13) .
--------------------------------
(1) راجع في ضلال القرآن : 19-2584 بتصرف يسير .
(2) البداية والنهاية : 3/118 .
(3) البداية والنهاية : 3/120 .
(4) لاثتني ، أي : لفت علي بعض الخمار عمامة .
(5) صحيح البخاري : 3578 . وصحيح مسلم : 2040 .
(6) صحيح البخاري : 4102 . وصحيح مسلم : 2039 .
(7) صحيح البخاري : 4152 .
(8) صحيح البخاري : 3577 .
(9) صحيح البخاري : 3579 .
(10) مشكاة المصابيح : (3-166) .
(11) صحيح مسلم : 1775 .
(12) صحيح مسلم : 1777 بشيء من الاختصار .
(13) صحيح مسلم : 2797 .
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 28-01-2010, 01:18 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب الثاني
أنواع الآيات ( الجزء الثالث )
يتبع آيات خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه :
7- إجابة دعوته :
أ- اهتداء أم أبي هريرة بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
عن أبي هريرة قال : كنت أدعو أميَّ إلى الإسلام وهي مشركة ، فدعوتها يوماً ، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي ، قلت : يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام ، فتأبى عليَّ ، فدعوتها اليوم ، فأسمعتني فيك ما أكره ، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة ، فقال : " اللهمَّ اهد أم أبي هريرة " فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما جئت ، فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف [ مردود ] فسمعَتْ أمي خشف قدمي ، فقالت : مكانك يا أبا هريرة ، وسمعتُ خضخضة [ تحريك ] الماء ، قال : فاغتسلَتْ ، ولبسَتْ درعها ، وعجلت عن خمارها ، ففتحت الباب ، ثم قالت : يا أبا هريرة : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فرجعت إلى رسول الله فأتيته ، وأنا أبكي من الفرح ، قال : قلت : يا رسول الله ، أبشر ، قد استجاب الله دعوتك ، وهدى أم أبي هريرة ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وقال خيراً " (1) .
ب- أصبح بدعوته فارساً :
عن جرير بن عبد الله ، قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تُريحني من ذي الخلَصةِ ؟ فقلت : بلى . فانطلقتُ في خمسين ومائة فارسٍ من أحمسَ ، وكانوا أصحابَ خيل وكنتُ لا أثبُتُ على الخيل ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري ، وقال : " اللهم ثبته ، واجعلهُ هادياً مهدياً . قال : فما وقعتُ عن فرس بعدُ . قال : وكان ذو الخلَصة بيتاً باليمن لخَثْعَم وبجيلة فيه نُصُبٌ تُعبَد ، يقال له : الكعبة . قال : فأتاها فحرَّقها بالنار وكسرها " (2) .
ج- إغاثة الله الناس بدعائه :
وعن أنس بن مالك قال : أصابت الناس سنةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ في يوم الجمعة ، قام أعرابيٌ فقالَ : يا رسول الله هَلَكَ المالُ ، وجاعَ العيالُ ، فادعُ الله لنا . فرفعَ يديه ، وما نرى في السماء قَزَعةً ، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثارَ السحابُ أمثالَ الجبالِ ، ثم لم ينزلْ عن منبره حتى رأيتُ المطرَ يتحادرُ على لحيته ، فمُطِرنا يومنا ذلك ، ومن الغدِ ، والذي يليه حتى الجمعةِ الأخرى ، وقام ذلك الأعرابي – أو قال غيره – فقال : يا رسول الله تهدَّمَ البناء وغرقَ المالُ ، فادعُ الله لنا . فرفعَ يديه فقال : " اللهم حوالينا ولا علينا " فما يُشيرُ بيده إلى ناحيةٍ من السحاب إلا انفرجت ، وصارت المدينةُ مثلَ الجوبة ، وسال الوادي قناةُ شهراً ، ولم يجئ أحدٌ من ناحيةٍ إلا حدّث بالجود (3) .
وفي رواية قال : " اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام ، والجبال ، والآجام ، والظراب ، والأودية ومنابت الشجر " قال : فأقلعَتْ وخرجنا نمشي في الشمس (4) .
أصابت الدعوة يد مستكبر :
وعن سلمة بن الأكوع أنَّ رجلاً أكل عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال : " كُل بيمينك " قال : لا أستطيع . قال : " لا استطعت " ما مَنَعَه إلا الكبرُ . قال: فما رفعها إلى فيه (5) .
د- بركة دعوة الرسول الله صلى الله عليه وسلم تصيب بعير جابر :
وعن جابر قال : غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاحق بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على ناضحٍ لنا قد أعيا ، فلا يكادُ يسيرُ فقال لي : " ما لبعيرك ؟ " قال: قلت : عيي ، قال : فتخلف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فزجره ودعا له ، فما زال بين يدي الإبلِ قدّامها يسيرُ . فقال لي : " كيف ترى بعيرك ؟ " قلت : بخير ، قد أصابته بركتُك . قال : " أَفتبيعُنيه ؟ " قال : فاستحييت ، ولم يكن لنا ناضحٌ غيره ، قال : فقلت : نعم ، قال : " فبعنيه " فبعته إياه على أن لي فقار ظهره إلى المدينة ، .. قال : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، غدوت عليه بالبعير ، فأعطاني ثمنه وردَّه عليَّ " (6) .
8- إبراء المرضى :
أ- إبراؤه من كسرت رجله :
عن البراء بن عازب قال : بعثَ النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً إلى أبي رافعٍ (7) ، فدخل عليه عبد الله بن عتيك ليلاً وهو نائم فقتله (8) ، فقال عبد الله بن عتيكٍ : فوضعتُ السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتحُ الأبواب باباً فباباً ، حتى انتهيتُ إلى درجة له فوضعت رجلي ، وأنا أرى أني انتهيت إلى الأرض ، فوقعت في ليلة مقمرة ، فانكسرت ساقي ، فعصبتها بعمامةٍ فانطلقت إلى أصحابي ، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال : ابسط رجلك فبسطت رجلي ، فمسحها فكأنها لم أشتكِها قطُّ (9) .
ب- إبراؤه عين علي بن أبي طالب :
وعن سهل بن سعدٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : " لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتحُ الله على يديه ، يحبُّ الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله " فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبح الناسُ غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها فقال : " أين عليُّ بنُ أبي طالب ؟ " فقالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه ، قال : " فأرسلوا إليه " ، فأُتي به ، فبصق رسول الله في عينيه ، ودعا له ، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجعٌ ، فأعطاه الراية ، فقال عليٌّ : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ قال : " انفُذْ على رسلك (10) حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعُهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجبُ عليهم من حقِّ الله فيه ، فوالله لأن يهدي اللهُ بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من أن يكون لكَ حمرُ النعم " (11) .
ج- ساق سلمة بن الأكوع :
وعن يزيد بن أبي عبيد قال : رأيت أثر ضربةٍ في ساق سلمة فقلت : يا أبا مسلم ما هذه الضربة ؟ قال : هذه ضربةٌ أصابتني يوم خيبر ، فقال الناسُ : أصيب سلمة ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات ، فما اشتكيتها حتى الساعة (12) .
د- إخراجه الجن من المصروع :
وعن يعلى بن مرة الثقفي قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا بماءٍ، فأتتهُ امرأةٌ بابن لها به جنةٌ ، فأخذَ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخرِهِ ثم قال : " اخرج فإني محمد رسول الله " ثم سرنا ، فلما رجعنا مررنا بذلك الماء ، فسألها عن الصبي ، فقالت : والذي بَعَثَك بالحقِّ ما رأينا منه ريباً بعدك (13) .
9- إخباره بالأمور الغيبية :
فمن ذلك إخباره عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وإخباره عن الملائكة وصفاتهم ، وإخباره عن عالم الجن ، وعن الجنة والنار ، ومن ذلك إخباره عن الحوادث التي وقعت ، كما أخبر عن آدم ونوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والرسل ، وما جرى بينهم وبين أقوامهم ، وهو حديث فيه تفصيل وبيان ، ومثل هذا لا يتأتى من رجل أمي لم يكن كاتباً ولا قارئاً ، ولم يخالط الذين درسوا تاريخ الأمم وعرفوا أخبارها ، ثم هو يأتي بأخبار لم يبلغها علم الأمم ، وأخبار يكتمها علماء أهل الكتاب ، ويصحح لهم كثيراً مما عندهم ، وكل ذلك دليل على أنه إنما جاء بهذه العلوم من العليم الخبير ، ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ ) [ هود : 49 ] .
وقد أشار القرآن إلى هذا الدليل في عدة مواضع ، فمن ذلك قوله في سياق قصة مريم : ( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) [ آل عمران : 44 ] .
وفي سياق قصة موسى ، قال : ( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) [ القصص : 46 ] .
وقد كان يخبر الأخبار المغيبة التي وقعت في حينها ، فقد أخبر باستشهاد قادة المسلمين الثلاثة في معركة مؤتة ، وباستلام خالد بن الوليد الراية من بعدهم في اليوم الذي وقع فيه الحدث ، رواه البخاري (14) .
وعندما توفي النجاشي أخبر بوفاته في اليوم نفسه الذي توفي فيه ، وكذلك عندما توفي كسرى .
جزيرة العرب كانت جنات وأنهاراً وحضارة عاد إرم ذات العماد :
أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه " أن أرض العرب ستعود جنات وأنهاراً " (15) وهذا يفيد أن جزيرة العرب كانت في الماضي جناناً وارفة الظلال ، تجري من تحتها الأنهار ، وهذا يدل على وجود حضارات قامت في تلك الجنان ، وعلى شطآن تلك الأنهار ، وقد أخبرنا القرآن عن حضارة قوم عاد ، وهي مدينة (( إرم )) التي لم يخلق مثلها في البلاد .
وقوم عاد أصحاب مدينة (( إرم )) ليس لهم ذكر في كتب أهل الكتاب لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في غيرهما ، وقد شكك كثير من علماء التاريخ بوجود عاد كما شككوا بوجود حاضرتهم (( إرم )) .
واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر صدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن أرض العرب كانت جنات وأنهاراً ، وصدق ما أخبر به القرآن عن عاد وحاضرتها (( إرم )) ففي رحلة من رحلات الفضاء . زود مكوك الفضاء بجهاز رادار له قدرة اختراق التربة إلى عشرة أمتار ، وحين مر المكوك بصحراء الربع الخالي ، صور مجرى لنهرين جافين يندفع أحدهما من الغرب إلى الشرق والآخر من الجنوب إلى الشمال ، فانبهر الأمريكيون لهذا الاكتشاف الذي لا يوجد عند علمائهم علم به .
وفي رحلة ثانية زودوا المكوك بجهاز رادار له قدرة اختراق أكبر ، فصور مجرى النهرين وأنهما يصبان في بحيرة قطرها يزيد على أربعين كيلومتراً في جنوب شرق الربع الخالي ، وصور المكوك بين مصبي النهرين وعلى ضفاف البحيرة عمراناً لا تعرف البشرية نظيراً له في ضخامته ، فجمعوا علماء التاريخ وعلماء الآثار وعلماء الأديان ، وقالوا ماذا يمكن أن يكون هذا العمران ؟ فأجمعوا على أنه قصور إرم التي وصفها القرآن الكريم بقول الحق تبارك وتعالى : ( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ - الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ )[الفجر : 7-8].
وقالوا في تقريرهم : إن البشرية لم تعرف في تاريخها الطويل عمراناً في ضخامة هذا العمران . واكتشفوا حينما بدأوا في إزالة الرمال عن هذه المدينة قلعة ثمانية الأضلاع على أسوار المدينة ، مقامة على أعمدة ضخمة عديدة يصفها ربنا – تبارك وتعالى – بقوله عز من قائل : ( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ - الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ )[الفجر : 7-8] .
وذكر التقرير أن هذه الحضارة التي لم يكن يدانيها في زمانها حضارة أخرى قد طمرتها عاصفة رملية غير عادية ، وقد أطال القرآن القول في عاد وحاضرتهم (( إرم )) وتكذيبهم لرسولهم هود ، وكيف حل بهم العذاب ، إذ أرسل الله عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات ، استمرت تضرب ديارهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً ، وقد أبقى الله مساكنهم قائمة ليأتي الباحثون عن الخافي في باطن الأرض ، فتظهر آلاتهم ما حدّث به القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام ، على النحو الذي أخبر به ، يقول الحق تبارك وتعالى وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ - مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) [ الذاريات : 41-42 ] .
ويقول عز من قائل فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ - فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ) [فصلت : 15-16] .
ويقول وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ - قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ - قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ - فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ - وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون )[ الأحقاف : 21-26 ] .
ويقول كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ - تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ - فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) [ القمر : 18-22 ] .
ويقول : ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ - سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ - فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ) [ الحاقة : 6-8 ] .
ويقول : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ - إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ - الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) [ الفجر : 6-8 ] (16) .
ومن ذلك إخباره بالغيوب الآتية ، وبعض هذه الأخبار كان يقع ويتحقق في الحال أو بعد فترة وجيزة .
فمن ذلك أنه أخبر بالمواضع التي سيصرع فيها صناديد الكفر قبل وقوع معركة بدر، عن أنس رضي الله عنه ، قال : فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا مصرع فلان " ويضع يده هاهنا هاهنا ، قال : فما ماط [ أي ما بعد ، وما تجاوز ] أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه مسلم (17) .
ومن هذه الغيوب التي أخبر بها ما وقع بعد وفاته ، فمن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعـده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " (18) . وقد وقع الأمر كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه .
وقد أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخبار مما سيقع في مقبل الزمان ، قال حذيفة بن اليمان ، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً ، فما ترك شيئاً يكون من قيامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدّثه ، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه ، قد علمه أصحابي هؤلاء ، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته ، فأراه فأذكره ، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ، ثم إذا رآه عرفه " رواه البخاري ومسلم وأبو داود (19) .
ومن ذلك ما أخبر به من الفتن وأشراط الساعة وغير ذلك ، وقد تكفلت بذكرها كتب الحديث .
10- حنين الجذع :
في صحيح البخاري وغيره " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحوّل إليه ، فحن الجذع ، فأتاه فمسح عليه " وفي رواية عند البخاري أيضاً: " فلما وضع المنبر : سمعنا للجذع مثل صوت العشار ، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه " (20) .
11- انقياد الشجر وتسليمه وكلامه :
عن جابر قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفيح [واسعاً]، فذهب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فلم ير شيئاً يستَتِرُ به ، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي ، فانطلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها ، فقال : " انقادي عليَّ بإذن الله " فانقادت معه كالبعير المخشوش (21) ، الذي يصانع قائدَه ، حتى أتى الشجرة الأخرى ، فأخذ بغصنٍ من أغصانها ، فقال : " انقادي عليَّ بإذن الله " فانقادت معه كذلك ، حتى إذا كان بالمنصف [الوسط] مما بينهما قال : " التئما علي بإذن الله " فالتأمتا ، فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتةٌ ، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً ، وإذا بالشجرتين قد افترقتا فقامت كل واحدةٍ منهما على ساقٍ " (22) .
وعن يعلى بن مُرة الثقفي قال : سِرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا منزلاً ، فنام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت شجرةٌ تشقُّ الأرض حتى غشيته ، ثم رجعت إلى مكانها ، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرتُ له فقال : هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُذن لها (23) .
وعن أنس قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزينٌ ، قد تخضب بالدم من فعل أهل مكة ، فقال : يا رسول الله ، هل تحبُّ أن نريك آية ؟ قال : نعم . فنظر إلى شجرةٍ من ورائه فقال : ادعُ بها . فدعا بها فجاءت فقامت بين يديه ، فقال : مرها فلترجع فأمرها فرجعت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسبي حسبي " (24) .
وعن ابن عباس قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بمَ أعرفُ أنك نبيٌّ ؟ قال : " إن دعوت هذا العذقَ (25) من هذه النخلة يشهدُ أني رسول الله " فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزلُ من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : " ارجع " فعاد ، فأسلم الأعرابي (26) .
وعن معن بن عبد الرحمن قال سمعت أبي قال : سألتُ مسروقاً : من آذن (27) النبي صلى الله عليه وسلم بالجنِّ ليلة استمعوا القرآن قال : حدثني أبوك – يعني عبد الله بن مسعود – أنه قال : آذنت بهم شجرةٌ (28) .
وعن ابن عمر قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأقبل أعرابي ، فلما دنا قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : تشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأنَ محمداً عبدهُ ورسوله ؟ قال : ومَن يشهدُ على ما تقولُ ؟ قال : هذه السَّلَمة (29) ، فدعاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو بشاطئ الوادي ، فأقبلت تخدُّ (30) الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فشهدت ثلاثاً أنه كما قال ، ثم رجعت إلى منبتها (31) .
12- تسليم الحجر :
عن جابر بن سَمُرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا أعرفُ حجراً بمكةَ كان يسلمُ عليَّ قبل أن أبعثَ إني لأعرفُهُ الآن (32) .
13- شكوى البعير :
عن يعلى بن مرة الثقفي قال : " بينما نحنُ نسيرُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مررنا ببعيرٍ يُسنَى (33) عليه ، فلما رآه البعيرُ جرجَرَ (34) ، فوضع جرانه (35) ، فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أين صاحبُ هذا البعير ؟ فجاءه فقال : " بِعْنِيهِ " فقال : بل نهبُهُ لكَ يا رسول الله ، وإنه لأهلِ بيتٍ ما لهم معيشةٌ غيرُهُ .
قال : أما إذ ذكرتَ هذا من أمره ، فإنه شكا كثرةَ العمل ، وقلةَ العلفِ ، فأحسنوا إليه " (36) .
وعن عبد الله بن جعفر قال : أردفني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم ، فأسرَّ إليَّ حديثاً لا أُحدثُ به أحداً من الناس ، وكان أحبَّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجتِهِ (37) هدفٌ أو حائشُ (38) نخلٍ . فدخلَ حائطاً لرجلٍ من الأنصار فإذا جملٌ ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته (39) إلى سنامه وذفراه (40) . فسَكَنَ فقال : مَن ربُّ هذا الجمل ؟ لمن هذا الجمل ؟ فجاءه فتىً من الأنصار فقال : لي يا رسول الله . فقال : أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ الله إياها ؟ فإنه شكا إليَّ أنك تُجعيه وتُدئبُهُ " (41) .
14- خاتم النبوة :
من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة بين كتفيه ، ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال : " رأيت خاتماً في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام " .
وفي رواية عنه أيضاً : " ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه ، مل زر الحجلة " .
وروى مسلم أيضاً عن عبد الله بن سرجس قال : " ثم درت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، عند ناغض كتفه اليسرى ، جُمعاً عليه خيلان ، كأمثال الثآليل " (42) .
--------------------------------
(1)صحيح مسلم : 4491 .
(2) صحيح البخاري : 4356 ، 4357 . وصحيح مسلم : 2476 وذو الخلصة كما في الحديث بيت للأصنام ، كان في اليمن ، وأحمس كما يقول ابن حجر : على وزن أحمر ، وهم رهط جرير ينسبون إلى أحمس بن الغوث بن أنمار ، فتح الباري : (8/91) طبعة الرسالة . الأردن .
(3) صحيح البخاري : 933 ، ومسلم : 897 ، واللفظ للبخاري .
(4) صحيح البخاري : 1013 .
(5) رواه مسلم : 2021 .
(6) صحيح البخاري : 2967 .
(7) اليهودي وكان أعدى أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نبذ عهده وتعرض له بالهجاء .
(8) رواه البخاري : 4038 .
(9) صحيح البخاري مختصراً : 4039 .
(10) أي : امضِ على رفقك ولينك .
(11) صحيح البخاري : 4210 . وصحيح مسلم : 2406 .
(12) رواه البخاري : 4206 .
(13) رواه في شرح السنة ، ورواه الإمام أحمد في مسنده : (4/172) بسند صحيح كما في المشكاة (3/188) ، بتحقيق شيخنا محمد ناصر الدين الألباني .
(14) صحيح البخاري : 4262 .
(15) صحيح مسلم : (157) (60) بعد الحديث رقم (1012) (59) .
(16) راجع : الإعجاز العلمي في القرآن للدكتور زغلول النجار : 1/66-68. نشر مكتبة الشروق الدولية . القاهرة . الثالثة . 1423 هـ - 2002م .
(17) مشكاة المصابيح : (3/167) وانظر صحيح مسلم : 1779 .
(18) صحيح البخاري : 3120 . وصحيح مسلم : 2918 واللفظ للبخاري .
(19) جامع الأصول : (12/63) .
(20) جامع الأصول : (12/68) .
(21) هو الذي في أنفه الخشاش ، وهو عويدة تجعل في أنف البعير ليكون أسرع انقياداً .
(22) رواه مسلم : 3012 .
(23) رواه في شرح السنة ، ورواه أيضاً أحمد وسنده ضعيف ، لكن له شاهد من حديث جابر رواه الدارمي (1/10) ، فالقصة صحيحة كما قال شيخنا الألباني في التعليق على المشكاة : (3/188) .
(24) رواه الدارمي ، وإسناده صحيح كما في المشكاة : (3/188) .
(25) العنقود .
(26) رواه الترمذي وصححه .
(27) أي : اعلم .
(28) متفق عليه . البخاري (3859) ، ومسلم (450) .
(29) شجرة من أشجار البادية .
(30) تشق .
(31) رواه الدارمي ، وإسناده صحيح كما قال شيخنا محمد ناصر الدين الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح (3/189) .
(32) رواه مسلم والترمذي .
(33) أي : يستقي عليه .
(34) صاح وردد صوته في حلقه .
(35) مقدم عنقه وقيل : باطن عنقه .
(36) رواه في شرح السنة ، ورواه أحمد وسنده ضعيف لكن له شاهد من حديث جابر رواه الدارمي : (1/10) فالقصة صحيحـة كما قال شيخنا الألباني في المشكاة : (3/188) .
(37) كجدار وشجرة .
(38) أشجار مجتمعة .
(39) السراة : الظهر .
(40) عظم خلف الأذن .
(41) أي : تتعبه ، والحديث رواه أبو داود والحاكم وأحمد وابن عساكر واللفظ له وإسناده صحيح على شرط مسلم فقد أخرجه بهذا الإسناد دون قصة الجمل ( وراجع الأحاديث الصحيحة لشيخنا الألباني : 1/28) .
(42) صحيح مسلم : 2345 ، 2346 . وحديث السائب رواه البخاري : 190 ، 3541 . وناغض الكتف : طرف العظم العريض ، الذي في أعلى طرفه ، والخيلان : جمع خال ، وهو الشامة .
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 28-01-2010, 01:18 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب الثالث
الخوارق من غير الأنبياء
كرامات الأولياء :
من أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات (1) الأولياء ، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات ، وأنواع القدرة والتأثيرات (2) .
وقد أنكر طوائف من المسلمين كرامات الأولياء ، ومن هؤلاء المعتزلة وحجتهم في دعواهم أنَّ خرق العادة لو صحَّ من غير الأنبياء لالتبس النبي بالولي ، ولم تكن المعجزة دليلاً على صدق الأنبياء (3) .
وقولهم هذا مردود ، لأن من كرامات الأولياء ما حدّث به القرآن وصحَّ ذكره في الأحاديث الصحيحة ، وتواتر النقل به ، والناس يشاهدون شيئاً منه في كل عصر ومصر .
والشبهة التي جاؤوا بها إنما تصحُّ إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدَّعي النبوة ، وهذا لا يقع ، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً بل كان متنبئاً كذاباً (4) ، وقد أنكر الإمام أحمد على الذين نفوا كرامات الأنبياء ، ولم يصدفوا بها ، وضلَّلَهم (5) .
حكمة إعطاء الكرامة للولي :
يعطي الله بعض عباده أموراً خارقة للعادة إكراماً لهم لصلاحهم وقوة إيمانهم ، وقد يكون ذلك سداً لحاجتهم ، كالحاجة للطعام والشراب والأمن ، وقد يعطيهم ذلك لنصرة دينه ، ورفعة كلمته ، إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل (6) .
فمن ذلك ما حدثنا به القرآن الكريم من شأن مريم ، فقد كان يوجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ آل عمران : 37 ] .
ومن ذلك ما جرى لأصحاب الكهف حيث ضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً ، وحفظ الله أجسادهم تلك الدهور المتطاولة على النحو الذي حدثنا عنه في سورة الكهف .
ومن ذلك ما وقع لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك :
أمثلة من كرامات الأنبياء :
1- نور في العصا :
فمن هؤلاء أسيد بن حُضير ، وعباد بن بشر تحدثا عند النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما ، حتى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة مظلمة ، ثم خرجا من عند رسول الله ينقلبان ، وبيد كل واحد منهما عصيّة ، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها ، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه ، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله (7) .
2- الطعام المبارك :
وهذا أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – يأتي معه بثلاثة أضياف من أهل الصفة ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين أن يضيّفوا هؤلاء ، وتركهم أبو بكر في منزله كي يضيفهم أهله ، وذهب هو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجاء في ساعة متأخرة ، فقالت له امرأته : ما حبسك عن أضيافك ؟ قال : أو ما عشيتهم ؟ قالت: أبوا حتى تجيء ، فغضب ، وقال : والله لا أطعمه أبداً ، فحلفت المرأة أن لا تطعمه، وحلف الأضياف أن لا يطعموه ، قال أبو بكر : هذا من الشيطان ، فدعا بالطعام ، فأكل وأكلوا ، فجعلوا لا يرفعون لقمة إلا ربت أسفلها أكثر منها ، فقال لامرأته : يا أخت بن فراس ! ما هذا ؟ قالت : وقرة عيني إنها الآن لأكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكلوا ، وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر أنَّه أكل منها . متفق عليه (8) .
فقد كان هذا إكراماً من الله لأبي بكر لفضله ، ولأنَّه لم يشتط في غضبه إذ حلف أن لا يأكل من الطعام ، وراغم الشيطان ، فأكرمه الله بذلك .
3- سفينة والأسد :
وهذا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ جيش المسلمين بأرض الروم أو أسر ، فانطلق هارباً يلتمس الجيش ، فإذا هو بالأسد ، فقال : يا أبا الحارث ( كنية للأسد ) أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان من أمري كيت وكيت . فأقبل الأسد له بصبصة ( أي : تحريك بالذنب ) حتى قام إلى جنبه ، كلّما سمع صوتاً أهوى إليه، ثمَّ أقبل يمشي إلى جنبه حتى بلغ الجيش ، ثم رجع الأسد (9) .
صرخة في المدينة تدوي في الشام :
وهذا عمر بن الخطاب يبعث جيشاً ، ويؤمر عليهم رجلاً يدعى سارية ، وبينما عمر يخطب ، فجعل يصيح يا ساري الجبل ، فقدم رسول من الجيش ، فقال : يا أمير المؤمنين، لقد لقينا عدونا فهزمونا ، فإذا بصائح يصيح : يا ساري الجبل ، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل ، فهزمهم الله تعالى (10) .
4- جملة من كرامات الأولياء :
وقد ذكر ابن تيمية جملة من هذه الكرامات غير ما تقدم نسوق إليك بعضها (11) :
فمن ذلك أن خبيب بن عدي كان أسيراً عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى ، وكان يؤتى بعنب يأكله ، وليس بمكة عنبة .
وأم أيمن خرجت مهاجرة ، وليس معها زاد ولا ماء ، فكادت تموت من العطش ، فلما كان وقت الفطر ، وكانت صائمة سمعت حسّأً على رأسها فرفعته ، فإذا دلو معلق ، فشربت منه ، حتى رويت ، وما عطشت بقية عمرها .
والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله تعالى أبرَّ قسمه ، وكان الحرب إذا اشتدَّ على المسلمين في الجهاد يقولون : يا براء ، أقسم على ربّك ، فيقول : يا ربّ ، أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم ، فيعزم العدو ، فلما كان يوم القادسية ، قال : أقسمت عليك يا ربّ لما منحتنا أكتافهم ، وجعلتني أول شهيد ، فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيداً .
وخالد بن الوليد حاصر حصناً منيعاً ، فقالوا : لا نسلم حتى تشرب السمّ ، فشربه فلم يضره .
ولما عذبت (( الزبيرة )) على الإسلام في الله ، فأبت إلاّ الإسلام ، وذهب بصرها ، قال المشركون : أصاب بصرها اللات والعزى ، قالت : كلا والله ، فردّ الله عليهـا بصرها .
وتغيب الحسن البصري عن الحجاج ، فدخلوا عليه ست مرات ، فدعا الله – عز وجل – فلم يروه ، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتاً . ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفاناً لم تكن معه قبل ، ووجدوا له قبراً محفوراً فيه لحد في صخرة، فدفنوه فيه ، بعد أن كفنوه في تلك الأثواب .
الاستقامة أعظم كرامة :
ليست الكرامة دليلاً على تفضيل هذا المعطى على غيره ، فقد يعطي الله الكرامة ضعيف الإيمان لتقوية إيمانه ، ومحتاجاً لسدّ حاجته ، ويكون الذي لم يعط مثل ذلك أكمل إيماناً وأعظم ولاية ، وهو لذلك مستغن عن مثل ما أعطي غيره ، ولذلك كانت الأمور الخارقة في التابعين أكثر منها في الصحابة ، وعلى هذا فلا ينبغي أن يشغل المرء نفسه بالتطلع إلى الكرامة ، ولا ينبغي له أن يحزن إذا لم يعطها ، وقد صدق أبو علي الجوزجاني وبرّ حين قال : " كن طالباً للاستقامة " ، لا طالباً للكرامة ، فإنَّ نفسك منجبلة على طلب الكرامة ، وربّك يطلب منك الاستقامة ، قال بعض من فهم قوله : وهذا أصل عظيم كبير في الباب ، وسرّ غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب " (12) .
الخوارق والأحوال الشيطانية (13) :
ضلَّ كثير من الناس عندما ظنوا أن كلَّ من جرت على يديه خوارق العادات فهو من أولياء الله الصالحين ، فبعض الناس يطيرون في الهواء ، ويمشون على الماء ، ونحو ذلك ، وهم من أفجر خلق الله ، بل قد يدَّعون النبوة ، مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان ، وادعى النبوة ، وقد أظهر أموراً خارقة للعادة ، فقد كانوا يضعون القيود في رجليه فيخرجها ، ويضرب بالسلاح فلا يؤثر فيه ، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده ، وكان يُري الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء ، ويقول : هي الملائكة ، وهذا وأمثاله من فعل الشياطين ، ولذلك إذا حضر بعض الصالحين هذه الأحوال الشيطانية وذكر الله وقرأ آية الكرسي أو شيئاً من القرآن بطلت أحوالهم هذه ، فهذا الحارث الدمشقي الكذاب لما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه طاعن بالرمح ، فلم ينفذ فيه ، فقال له عبد الملك : إنّك لم تسمّ الله ، فسمّي الله ، فطعنه فقتله (14) .
والمسيح الدجال تجري على يديه أمور خارقة للعادة تذهل من يراها وهو مع ذلك يدعى الألوهية .
فالخوارق ليست دليلاً على أن صاحبها ولي لله تعالى ، فالكرامة سببها الإيمان والتقوى والاستقامة على طاعة الله تعالى ، فإذا كانت الخارقة بسبب الكفر والشرك والطغيان والظلم والفسق فهي من الأحوال الشيطانية ، لا من الكرامات الرحمانية .
--------------------------------
(1) يعرف علماء التوحيد الكرامة بأنها أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ، ولا هو مقدمة لها ، يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم لمتابعة نبي مكلف بشريعته ، مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح ، علم بها ذلك العبد أم لم يعلم ( لوامع الأنوار البهية : 2/393 ) .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 3/156 .
(3) شرح العقيدة الطحاوية : ص563 .
(4) المصدر السابق .
(5) لوامع الأنوار البهية : 2/393 .
(6) كثير من أهل الكلام لا يثبتون خوارق العادة إلا للأنبياء ، ولا يثبتونها لأحد غيرهم ( شرح الطحاوية ص 158) .
(7) مشكاة المصابيح : (3/197) ، وأخرجه أحمد في ((المسند)): 19/396 (12404) ، وأخرجه بنحوه البخاري : (465) و (3639) و(3805) .
(8) مشكاة المصابيح : (3/198) .
(9) قال التبريزي في مشكاة المصابيح : رواه في شرح السنة ، وقال المحقق : ورواه الحاكم بنحوه ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي وهو كما قالا ( مشكاة المصابيح : 3/199 ) .
(10) قال التبريزي : رواه البيهقي في دلائل النبوة وقال محقق المشكاة : ورواه ابن عساكر بإسناد حسن نحوه .
(11) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 11/276-281 .
(12) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (11/320) .
(13) ارجع في هذا المبحث إلى كتاب أ.د. عمر الأشقر : عالم الجن والشياطين .
(14) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (11/284-285) .
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 28-01-2010, 01:20 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

بشارات الأمم السّابقة
قال تعالى أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ) [الشعراء : 197] فالآية تبين أنَّ من الآيات البينات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصدق ما جاء به – علم بني إسرائيل بذلك ، وهو علم مسجل محفوظ مكتوب في كتبهم التي يتداولونها ، كما قال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ) [ الشعراء : 196 ] .
المطلب الأول
القرآن يتحدث عن بشارات الأنبياء السابقين بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
القرآن المنزل إلينا من ربنا العليم الخبير يحدثنا أن ذكر محمد وأمته موجود في الكتب السماوية السابقة ، وأنَّ الأنبياء السابقين بشروا به ، وقد فهم جمع من المفسرين من قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) [ آل عمران :81 ] – أنّ الله أخذ العهد والميثاق على كلّ نبي لئن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم في حياته ليؤمنن به ويترك شرعه لشرعه، وعلى ذلك فإن ذكره موجود عند كل الأنبياء السابقين .
1- دعوة إبراهيم :
عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : " إني عند الله مكتوب خاتم النبيين ، وإنَّ آدم لمنجدل في طينته ، وسأخبركم بأول أمري ، دعوةُ إبراهيم، وبشارة عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني ، أنه خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام " رواه في شرح السنة (1) .
وقد أخبرنا الله أنَّ خليل الرحمن إبراهيم وابنه إسماعيل كان يبنيان البيت الحرام ويدعوان ، ومن دعائهما ما قصه علينا في سورة البقرة ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ - رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) [ البقرة : 127-129 ] .
وقد استجاب الله دعاء خليله إبراهيم وابنه نبيّ الله إسماعيل ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم هو تأويل تلك الاستجابة . ولا تزال التوراة الموجودة اليوم – على الرغم مما أصابها من تحريف – تحمل شيئاً من هذه البشارة ، فنجد فيها أنَّ الله استجاب دعاء إبراهيم في إسماعيل ، فقد ورد في التوراة في سفر التكوين في الإصحاح السابع عشر فقرة (20) : " وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيراً جداً ، اثني عشر رئيساً يلد ، وأجعله أمّة عظيمة كبيرة " .
وهذا النصُّ ورد في التوراة السامرية بألفاظ قريبة جداً مما أثبتناه هنا ، والترجمة الحرفية للتوراة العبرانية لهذا النص : " وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأكثره (( بمأد مأد )) (2). وقد ذكر ابن القيم أنَّ بعض نسخ التوراة القديمة أوردت النص كما أثبتناه هنا .
ودلالة هذه البشارة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه :
الأول : أنَّ الأمة العظيمة عند الله لا بدَّ أن تكون مسلمة ، ولم توجد هذه الأمّة من نسل إسماعيل إلاّ بعد بعثة الرسول وانتشار المسلمين في المشارق والمغارب .
الثاني : النصّ العبراني (( مأد مأد )) صريح في اسم الرسول صلى الله عليه وسلم فالمترجمون ترجموه (( جداً جداً أو كثيراً كثيراً )) والصواب هو : محمد ، لأنها تلفظ بالعبراني (( مؤد مؤد )) واللفظ العبراني قريب من العربي .
الثالث : قوله : اثني عشر رئيساً يلد ، هذا موافق لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيلي أمر هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش .
2- بشارة موسى :
لقد جاء بني إسرائيل الخبرُ اليقين الأميّ ، على يد نبي الله موسى منذ أمد بعيد ، جاءهم الخبر اليقين ببعثه ، وبصفاته ، ونهج رسالته ، وبخصائص ملته ، فهو النبي الأمي ، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحلُّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، يضع عن من يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبيُّ الأمي حين يؤمنون به ، وأتباع هذا النبي يتقون ربهم ، ويخرجون زكاة أموالهم ويؤمنون بآيات الله .. وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي ، ويعظمونه ويوقرونه وينصرونه ويؤيدونه ويتبعون النور الذي أنزل معه (( أولئك هم المفلحون )) .
قال تعالى : ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الأعراف : 156-157] .
بقية هذه البشارة في التوراة :
وقد بقي من هذه البشارة بقية في التوراة ، ففي سفر التثنية ، الإصحاح (18) فقرة 18-19 قال الله لموسى : " أقيم لهم [ أي لبني إسرائيل ] نبياً من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه ، فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع كلامي الذي يتكلّم به باسمي أنا أطالبه " .
ودلالة هذه البشارة على رسولنا صلى الله عليه وسلم بيَّنه ، ذلك أنّه من بني إسماعيل وهم إخوة بني إسرائيل ، فجدُّهم هو إسحاق ، وإسماعيل وإسحاق أخوان ، ثم هو أوسط العرب نسباً ، وقوله : مثلك ، أي : صاحب شريعة مثل موسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الله كلامه في فمه حيث كان أميّاً لا يقرأ من الصحف ، ولكنَّ الله يوحي إليه كلامه ، فيحفظه ويرتله ، وهو الرسول المرسل إلى الناس كافة ، وبنو إسرائيل مطالبون باتباعه وترك شريعتهم لشريعته ، ومن لم يفعل فإنَّ الله معذبه (( ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه )) .
ومما يعرفنا أنَّ هذه البشارة هي بقية البشارة العظيمة التي أوحى الله بها إلى موسى ، وأخبرنا بها القرآن الكريم ، أن هذه البشارة وردت في موقف معين ، فعندما اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات الله أخذتهم الرجفة ، وذلك بسبب طلبهم رؤية الله جلَّ وعلا ، فدعا موسى ربَّه وتوسل إليه ، فبعثهم الله من بعد موتهم ، قال الله بعد توسل موسى ودعائه ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ .. ) الآيات .
وإذا رجعت إلى التوراة في سفر الخروج تجد أنَّ هذه البشارة إنما أوحى الله بها إلى موسى بعد ذهابه لميقات الله ، وتتحدث التوراة عن شيء قريب من الرجفة (( وكل الشعب سمع الأصوات وصوت البوق ، ونظروا الشهب والجبل دخاناً ونظر كل القوم وتشردوا ووقفوا من بعد ..)) سفر الخروج ، الإصحاح (20) فقرة : 18 . (( وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق ، وصوت البوق والجبل يدخن ، ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد .. )) .
3- بشارة عيسى :
وأخبرنا الله – سبحانه – أن عيسى بشر برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) [الصف : 6] .
وأحمد من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ لي أسماء ، أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " (3) .
مثلان في التوراة والإنجيل :
ضرب الله في التوراة والإنجيل مثلين لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا )[ الفتح : 29 ] .
--------------------------------
(1)مشكاة المصابيح للتبريزي : 3/127 وقال الشيخ ناصر الدين الألباني : حديث صحيح وانظره في صحيح موارد الظمآن للشيخ ناصر الدين الألباني : 1756 ، 2093 ، وانظره في سلسلة الصحيحة : 1546 ، 1925 .
(2) نبوة محمد من الشك إلى اليقين : ص250 ، محمد نبي الإسلام : ص3 .
(3) صحيح البخاري : 4896 ، وصحيح مسلم : 2354 .
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 28-01-2010, 01:20 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

المطلب الثاني
بشائر التوراة وأسفار الأنبياء
التوراة التي بين أيدي الناس اليوم محرَّفة مغيرة يدلك على ذلك هذا الاختلاف الذي تجده في أمور كثيرة بين نسخها وطبعاتها ، فهناك ثلاث نسخ للتوراة : العبرانية ، واليونانية، والسامرية ، وكلُّ قوم يدَّعون أن نسختهم هي الصحيحة ، وهناك فروق واضحة بين طبعات التوراة وترجماتها . وقد أدى هذا التحريف إلى ذهاب كثير من البشارات أو طمس معالمها ، ومع ذلك فقد بقي من هذه البشارات شيء كثير ، ولا تخفى هذه البشارات على من يتأملها ، ويعرضها على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم متجرداً من الهوى .
1- ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في التوراة :
لقد صرح بعض هذه البشارات باسم محمد صلى الله عليه وسلم وقد اطلع بعض علماء المسلمين على هذه النصوص ، ولكنَّ التحريف المستمر لهذا الكتاب أتى على هذه النصوص ، فمن ذلك ما ورد في سفر أشعيا (1) : " إني جعلت أمرك محمداً ، يا محمد يا قدوس الربّ ، اسمك موجود من الأبد " (2) .
وقوله إن اسم محمد موجود من الأبد موافق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إني مكتوب عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته " (3) .
وفي التوراة العبرانية في الإصحاح الثالث من سفر حبقوق : " وامتلأت الأرض من تحميد أحمد ، ملك بيمينه رقاب الأمم " .
وفي النسخة المطبوعة في لندن قديماً سنة 1848 ، والأخرى المطبوعة في بيروت سنة 1884 ، والنسخ القديمة تجد في سفر حبقوق النص في غاية الصراحة والوضوح : " لقد أضاءت السماء من بهاء محمد ، امتلأت الأرض من حمده ، .. زجرك في الأنهار ، واحتدام صوتك في البحار ، يا محمد ادن ، لقد رأتك الجبال فارتاعت " .
2- ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر يتعلق به :
وفي بعض الأحيان يذكر مكان مبعثه ، ففي سفر التثنية الإصحاح الثالث والثلاثون ، فقرة : (2) : " جاء الربّ من سيناء ، وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران " وسيناء هي الموضع الذي كلّم الله فيه موسى ، وساعير الموضع الذي أوحى الله فيه لعيسى، وفاران هي جبال مكة ، حيث أوحى الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكون جبال فاران هي مكة ، دلت عليه نصوص من التوراة . وقد جمع الله هذه الأماكن المقدسة في قوله : ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ - وَطُورِ سِينِينَ - وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) [ التين : 1-3 ] .
وذكرت التوراة مكان الوحي إليه ، ففي سفر أشعيا الإصحاح (21) فقرة : (13)" وحي من جهة بلاد العرب في الوعر " . وقد كان بدء الوحي في بلاد العرب في الوعر في غار حراء .
وفي هذا الموضع من التوراة فقرة : (14) حديث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى الجهة التي هاجر إليها " هاتوا ماءً لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء ، وافوا الهارب بخبزة ، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا ، من أمام السيف المسلول ، ومن أمام القوس المشدودة ، ومن أمام شدة الحرب " وتيماء من أعمال المدينة المنورة ، وإذا نظرت في النص ظهر لك بوضوح أنه يتحدث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وتكملة النص السابق فقرة : (16) يقول : " فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار ، وبقية قسى أبطال بني قيدار تقلّ ، لأنَّ الربّ إله إسرائيل قد تكلم " .
وهذا النص يتحدث عن معركة بدر ، فإنّه بعد سنة كسنة الأجير من الهجرة كانت وقعة بدر ، وفنى مجد قيدار ، وقيدار من أولاد إسماعيل ، وأبناؤه أهل مكة ، وقد قلت قسى أبناء قيدار بعد غزوة بدر .
3- إشارة التوراة إلى معلم من معالم مهاجر الرسول :
وأشارت بعض نصوص التوراة إلى مكان هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي سفر أشعيا الإصحاح (42) فقرة : (11) " لترفع البريّة ومدنها صوتها ، الديار التي سكنها قيدار ، لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا ، ليعطوا الربَّ مجداً .. " .
وقيدار أحد أبناء إسماعيل كما جاء في سفر التكوين إصحاح (25) عدد (13) .
وسالع جبل سلع في المدينة المنورة .
والترنم والهتاف ذلك الأذان الذي كان ولا يزال يشقُّ أجواز الفضاء كلّ يوم خمس مرات ، وذلك التكبير والتحميد في الأعياد وفي أطراف النهار وآناء الليل كانت تهتف به الأفواه الطاهرة من أهل المدينة الطيبة الرابضة بجانب سلع .
4- إشارة التوراة إلى أمور جرت على يديه صلى الله عليه وسلم :
وقد تذكر النصوص انتشار دعوته وبعض ما يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي سفر حبقوق الإصحاح الثالث فقرة : (3-6) : " الله جاء من تيمان ، والقدوس من جبال فاران ، سلاه جلاله غطى السماوات والأرض ، امتلأت من تسبيحه ، وكان لمعان كالنور ، له من يده شعاع ، وهناك استنارت قدرته ، قدامه ذهب الوبا ، وعند رجليه خرجت الحمّى ، وقف وقاس الأرض ، نظر ، فرجفت الأمم ، ودكت الجبال الدهرية ، وخسفت آكام القدم " .
ففي هذه البشارة إخبار بالنصر العظيم الذي حازه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، وإخبار بانتشار دعوته في شتى بقاع الأرض ، وبأن الجبال الدهرية وهي الدول القويّة ذات المجد القديم ستدك ، وآكام القدم وهي الدول الأقل ستخسف ، وقد تحقق ذلك كله ، وأشارت هذه البشارة إلى أمرين يدركهما من كان عليماً بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره ، وهما : لمعان كالنور له من يده ، وذهاب الوبا من قدامه ، وخروج الحمّى من عند رجليه .
5- اللمعان والنور الذي شعَّ من يده :
يقول النص : " وكان لمعان كالنور ، له من يده ، وشعـاع ، وهناك استنارت قدرته " ثم يقول : " وقف وقاس الأرض نظر ، فرجفت الأمم .. " والذي يبدو لي أنَّ هذا النص يتحدث عن حادثة بعينها ، وهي ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق ، عندما أعجزت صخرة الصحابة أثناء حفر الخندق ، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فضربها ضربة عظيمة أسقطت ثلثها ، وخرج منها نور فكبر الرسول صلى الله عليه وسلم فكبر أصحابه ، ثمَّ الثانية فالثالثة ، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى بالنور الأول قصور الشام ، وبالنور الثاني قصور فارس ، وبالنور الثالث أبواب صنعاء .
وروى النسائي وأحمد بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال : لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول ، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء فأخذ المعقول فقال : " باسم الله " ، فضرب ضربة فكسر ثلثها ، وقال : " الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة " ، ثمَّ ضرب الثانية فقطع الثالث الآخر ، فقال : الله أكبر ، أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض ، ثمَّ ضرب الثالثة ، وقال : باسم الله ، فقطع بقية الحجر ، فقال : " الله أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة " (4) .
وفي رواية الطبراني : " فضرب الصخرة وبرق منها برقة فكبّر ، وكبّر ، المسلمون "، وفيه " إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام ، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم .. " (5) .
تأمل النص الذي أوردناه مرة أخرى " لمعان كالنور له من يده ، وشعاع ، وهناك استنارت قدرته .. وقف وقاس الأرض نظر .. " .
وتأمل في الأحاديث التي أوردناها أليست هذه الواقعة تأويل لتلك البشارة ؟
6- ذهاب الوبا وخروج الحمى :
تقول هذه البشارة : " قدامه ذهب الوبا ، وعند رجليه خرجت الحمّى " ، وهذه – والله – بشارة صريحة لا تحتمل تأويلاً ، فالمدينة قبل مجيء الرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت معروفة بالحمّى ، وفي الحديث عن ابن عباس أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما قدموا مكة للعمرة – وهي العمرة المعروفة بعمرة القضاء – قال المشركون : " إنّه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمّى يثرب " رواه البخاري (6) .
وقد أصابت هذه الحمّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول قدومهم المدينة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه كي يذهب الحمّى .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وعُك أبو بكر وبلال . قالت : فدخلت عليهما (7) ، فقلت : يا أبت كيف تَجِدُك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت : فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :
كلُّ امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ××× والموتُ أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمّى يرفع رأسه ويقول :
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة ××× بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ
وهل أرِدَنْ يوماً مياهَ مَجَنَّةٍ ××× وهل يَبدُوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ
قالت عائشة : فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " اللَّهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ ، وصَحِّحْها ، وبارك لنا في صاعها ومدِّها ، وانقل حمّاها ، فاجعلها في الجحفة " رواه البخاري (8) وزاد البخاري في آخر كتاب الحج : " ثم يقول بلال : اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء " (9) .
إذن كانت يثرب موبُوْءَة بالحمى ، لا يكاد يدخلها أحد إلاّ أصابته .
وقد استجاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فنقل عنها الحمى ، وصحَّحَها ، ومنع عن المدينة الطاعون ، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني جبريل عليه السلام بالحمّى والطاعون ، فأمسكت الحمّى بالمدينة ، وأرسلت الطاعون إلى الشام " (10) .
وإمساكه الحمّى بالمدينة لعله في بداية الأمر ، ثمَّ أمر بإرسالها إلى الجحفة ، أو أن المراد بإمساكها بالمدينة المنطقة التي فيها المدينة ، ذلك أن الجحفة تقع قرب المدينة ، وعلى كلّ فالبشارة واضحة وقعت كما أخبرت التوراة .
7- بشارات جامعة :
وفي بعض الأحيان تكون البشارات جامعة تذكر صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ووحي الله إليه ، وأخبار أمته ، وما ينزل إليه عليهم من نصره ، وإمدادهم بالملائكة، وشيئاً مما يعطيه الله لرسوله كالعروج به إلى السماء ونحو ذلك ، فمن ذلك ما ورد في بشائر دانيال .
قال دانيال (11) يهدد اليهود ، ويصف لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم : " إن الله يظهرهم عليكم ، وباعث فيهم نبياً ، ومنزل عليهم كتاباً ، ومملكهم رقابكم ، يقهرونكم ويذلونكم بالحق ، ويخرج رجال قيدار في جماعات الشعوب ، معهم الملائكة على خيل بيض ، فيحيطون بكم ، وتكون عاقبتكم النار ، نعوذ بالله من النار " .
وأبناء قيدار بن إسماعيل ، قد انتشروا في الأرض ، واستولوا على الشام والجزيرة ومصر والعراق ، وقد تواترت الآثار أن الملائكة كانت تنزل على الخيل البيض كما نزلت يوم بدر والأحزاب ، وقال دانيال مصرحاً باسم محمد صلى الله عليه وسلم : " ستنزع في قسيّك إغراقاً ، وترتوي السهام بأمرك يا محمد " .
وقال دانيال أيضاً : " سألت الله وتضرعت إليه أن يبيّن لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم ، ويردّ إليهم ملكهم ، ويبعث فيهم الأنبياء ، أو يجعل ذلك في غيرهم ؟ فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه ، فقال : السلام عليكم يا دانيال ، إن الله يقول : إنّ بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي ، وعبدوا من دوني آلهة أخرى ، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل ، ومن بعد الصدق إلى الكذب . فصلَّت عليهم بخت نصّر ، فقتل رجالهم ، وسبى ذراريهم ، وهدم مساجدهم ، وحرق كتبهم ، وكذلك فعل من بعده بهم ، وأنا غير راض عنهم ، ولا مقيلهم عثرات ، فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول ، وأختم ذلك عليهم باللعن والسخط ، فلا يزالون ملعونين ، عليهم الذلة والمسكنة ، حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر ، وأرسلت إليها ملاكي وبشرها ، وأوحي إلى ذلك النبي ، وأعلمه الأسماء ، وأزينه بالتقوى ، وأجعل البرَّ شعاره ، والتقوى ضميره ، والصدق قوله ، والوفاء طبيعته ، والقصد سيرته ، والرشد سنته ، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب ، وناسخ لبعض ما فيها ، أسري به إلي ، وأرقيه من سماء إلى سماء ، حتى يعلو ، فأدنيه ، وأسلِّم عليه ، وأوحي إليه ، ثمَّ أردّه إلى عبادي بالسرور والغبطة ، حافظاً لما استودع ، صادقاً فيما أخبر ، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة ، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ، رؤوف بمن والاه ، رحيم بمن عاداه ، فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي ، ويخبرهم بما رأى من آياتي ، فيكذبونه ، ويؤذونه " .
يقول ابن تيمية : " ثمَّ سرد دانيال قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أمته بالنفخة ، وانقضاء الدنيا " .
ثم قال : " وهذه البشارة الآن عند اليهود والنصارى يقرؤونها ، ويقولون : لم يظهر صاحبها بعد " .
--------------------------------
(1)الجواب الصحيح : 3/326 .
(2) محمد نبي الإسلام : ص18 .
(3) صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان : 1756 ، 2093 وهو مخرج في سلسلة الصحيحة للشيخ ناصر : 1546 ، 1925 .
(4) فتح الباري : 7/397 .
(5) المصدر السابق .
(6) انظر فتح الباري : 3/469 .
(7) دخولها على بلال كان قبل نزول آية الحجاب .
(8) انظر فتح الباري : 7/262 (3926) .
(9) فتح الباري : 7/263 ، وانظر البخاري (1889) .
(10) مسند الإمام أحمد : (5/81) .
(11) انظر الجواب الصحيح : (3/331 ، 4/3) .
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 12:37 PM.