اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > التنمية البشرية

التنمية البشرية يختص ببناء الانسان و توسيع قدراته التعليمية للارتقاء بنفسه و مجتمه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-06-2015, 03:09 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 4,135
معدل تقييم المستوى: 14
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي النظرة الخلدونية الإسلامية للعمران


النظرة الخلدونية الإسلامية للعمران

أ. د. عبدالحليم عويس





بما أن ابن خلدون قد أقام جسورًا قوية بين التاريخ وعلم الاجتماع؛ من حيث إنه جعل وظيفةَ المؤرخ رَصْدَ التاريخ الاجتماعي (علم العمران) بالدرجة الأولى، فإن تبادل التأثير بين العِلمين في المنهج أصبح قوي الوشائج، ومن هنا نراه يرفض في دراسة علم الاجتماع اتباعَ الطرق والمناهج المرفوضة في دراسة التاريخ، فيرفض اتباع الطريقة الوصفية التاريخية الخاصة، التي لا عمل لها إلا وصف الظواهر الاجتماعية، وما كانت عليه، دون استخلاص النتائج فيما يتعلق بطبيعة هذه الظاهرة، وقوانينها، ويرفض اعتماد الطريقة الوعظية الإرشادية المباشرة، التي تحث على التمسك بالمبادئ التي تقررها نُظُم المجتمع، كما أنه - أخيرًا - يرفض الاتجاه الفكري الذي يتحدث فيما ينبغي أن تكون عليه الظواهرُ الاجتماعية طبقًا للمنظور الذي ينظر من خلاله كل منهج إلى المجتمع[1].
وهكذا يرشح المنهج الاجتماعي على المنهج التاريخي، ويلتقيان دون برزخ، ويبدو المنهج التاريخي في الفكر الخلدوني محصورًا في رصد (تاريخ المجتمعات كما كانت فعلاً)، بطريقة علمية، تكشف قوانين حركتها الداخلية، التي تسير هي الأخرى في نشأتها وتطورها، ومختلف أحوالها، حسب قوانين ثابتة مطردة، مثل القوانين التي يخضع لها القمر في تزايده وتناقصه، والليل والنهار في اختلافهما باختلاف الفصول، كما هدَتْه تأمُّلاته العميقة لشؤون الاجتماع الإنساني إلى أن الظواهر الاجتماعية لا تشذ عن بقية الظواهر الكونية، وأنها محكومةٌ في مختلف جوانبها بقوانين تشبهُ القوانين التي تحكم ظواهرَ الفَلك، والطبيعة، والحيوان، والنبات، وما إلى ذلك[2].
لقد أصبح موضوع التاريخ هو تاريخ الاجتماع (العُمران)، وهو الأمر الذي لم يلتفت إليه المؤرخون عن قصد، وإن تطرقوا إليه عفوًا، كما أنه ليس تاريخ الاجتماع الوصفي، بل الاجتماع الذي يخضع لتحليل وتفكيك، يتعرف المؤرخُ من خلالهما على البناءِ الداخلي، الذي يتحرَّك المجتمع به - "كيفيات الوقائع" حسب مصطلح ابن خلدون - بعد أن يستخدم المؤرخ النظرَ في "باطن" المجتمع، ويعلل "تعليل" المكونات.
لقد اشترك العِلْمان إذًا في وظيفة واحدة؛ فالعمرانُ هو موضوعُ الاجتماع والمؤرخ، والبحث في الاجتماع (في شروطه وقوانينه) هو موضوع التاريخ.
إن منهجية علم التاريخ وموضوعه (العمران) عند ابن خلدون حضاريان شاملان، يخضعان لمنظورِه الإسلامي، وليسا (مادِّيين) أو (دُنيويين) بهذا الإسقاط غيرِ العلمي، الذي يُجهد أصحابُ التفسير المادي والدُّنيوي العَلْماني أنفسَهم لفَرْضه قسرًا وبهتانًا على فكر ابن خلدون.
بل إن ابن خلدون كان يلح على أن ينتقل علمَا التاريخِ والاجتماع من مرحلة الوصف إلى مرحلة التحليل، ومن الظاهر إلى الباطن؛ من أجل اكتشاف سنن الله الاجتماعية، التي تتحرَّك بها الوقائع في بنائها الكلي وإطارها الحضاريِّ، وصولاً إلى التفاعل الإيجابي والشرعي مع هذه السنن، ليس لأن ذلك عبادةٌ شرعية، وتنفيذ لأوامر إلهية جاءت في القرآن فحسْبُ؛ بل لأن ابن خلدون وغيره من العلماء والمفكرين المسلمين لا يرون في معرفة قوانين الحركة الداخلية لأي كائنٍ ما يراه التفسيرُ غيرُ الإسلامي لأية أحداث، وما يراه المادِّيون والطبيعيون من استقلالية وإرادةٍ ووعيٍ، بل يرون فيها أسلوبَ النظام الإلهي في الإبداع، وهم مؤمنون بأن هذه الأساليبَ والأسباب لا تستطيع أن تكون المسبِّب، ولا أن هذه القوانين أغنت عن المقنِّن، بل يرون في دقتها وإبداعها أقوى الأدلة على عظمة الخالق المبدع، الذي أعطى كلَّ شيء خَلْقَه ثم هدى.
وهذا الفقيه المالكي العظيم، وهذا القاضي الشرعي المسلم، وهذا الفيلسوف والمنظِّر الاجتماعي والتاريخي (ابن خلدون)، لم يكن إلا نبتةً إسلامية، تجاوزت الواقعَ السياسيَّ المريض، واتصلت أوثقَ الاتصال بالقرآن الكريم، والسيرة النبوية، وعصور الازدهار الإسلامية؛ راشدية، وأموية، وعباسية؛ فربطت بين الحركة الداخلية والمحرك، والأسباب ومسبِّبها العظيم - سبحانه وتعالى.
والجدير بالذكر أن علماءَ الاجتماع المعاصرين المنصِفين يعتبرون النظرية الاجتماعية الخلدونية - بما انطوت عليه من عناصرَ تجديدية - هي نتيجة بارزة، ومَعْلمًا واضحًا في مسيرة الفكر الاجتماعي الإسلامي[3]، وهؤلاء العلماء الاجتماعيون المعاصرون يُبدون استياءهم من أن النص القرآني قد فسِّر وشُرح من وجهة نظرٍ لغوية وبلاغية وفقهية[4]، ولم يأخذ حقَّه من الدراسة باعتباره كتابًا لتربية المسلمين، وقد تم عزلُ الفكر الاجتماعي المبثوث فيه، والذي يهدف إلى تربية المسلمين، وتكوين عقائدهم، وأخلاقهم، وشريعتهم، وتوجيه سلوكهم[5]؛ وهو الأمر الذي يُستثنى منه ابن خلدون العظيم.
وكان من نتائج تركيز ابن خلدون على الجوانب الاجتماعية في منهجه التاريخي - ما ذهب إليه بعضُ المفكرين من أن ابن خلدون كان إلى الاجتماع (علم العمران) أقربَ منه إلى التاريخ والفلسفة، وإن كانت تتكئ على مقولات اجتماعية كثيرة، جعلت بعضهم يميل إلى تسميتها: (سوسيولوجيا التاريخ)[6].
مع أن الحضارة كيان (عام)، والدولة كيان (خاص)، وهذا ملحظ على النظرية، ومفتاح (الدولة) عنده - التي يكاد يساويها بالظاهرة الحضارية - هو (العصبية) التي تُعَد نظرية في البناء الاجتماعي، يفسَّر على ضوئها نشوءُ الدول وسقوطها، فبقدر قوة العصبية في الأجيال التالية المترفة تسقط الدولة أو تنحل.
ولقد شابت رؤيةَ ابن خلدون الاجتماعية نظرةٌ تشاؤمية، فرضتْها عليه الأوضاعُ الفاسدة التي كانت تَسُود عصرَه؛ فنظريته لا تخلو من تعبيرٍ عن واقع الأمة الإسلامية المفكك خلال القرنين السابع (سقوط الموحدين) والثامن (تداعي الأندلس ولا سيما غرناطة)، كما أن نظريته اتكأت على التجربةِ التاريخية الإسلامية بالدرجة الأولى.
ويعزو كثير من علماء الاجتماع المخلصين ضَعْفَ النهضة الاجتماعية في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر إلى سيطرة الفكرة الخاطئة التي اعتنقها مدبِّرو الأمر فيهم، وقادة ثقافتهم (من العَلْمانيين)، وهي فكرة التفرقة بين الدِّين والاجتماع الإنساني، تلك التي برزت بين المسلمين لا جهلاً بحقيقة الدين؛ وإنما انحرافًا مقصودًا لتشويهه، وصَرْف الناس عن التمسك به، وتقليدًا لقوم قصَروا معنى الدِّين على ما يريدون[7].
وكان من نتيجة هذه الفكرة - كما يرى هؤلاء الاجتماعيون - أنْ تصدَّى للإصلاح الاجتماعي دعاةٌ لم يعتمدوا في دعوتهم على تلقين الناس رسومَ العبادات، وكيفيتها الظاهرة، وأحكام صحتها وفسادها، ومن هنا استقر في تصوُّر كثير من الناس أن الدين بأحكامه وإرشاداته شيء، وأن الاجتماع بمقتضياته وشؤونه شيء آخر، وصِرْنا نسمع في المسألة الواحدة أن رأيَ الدين كذا، ورأي علم الاجتماع كذا (!)، وبذلك نام الرقيبُ القلبيُّ، أو التنظيم الاجتماعي القيمي في صُوَر الإجرام، وهانت الأعراضُ وتفشَّت الموبقات[8].
كان ابن خلدون - إذًا - اجتماعيًّا واعيًا بأصول العمران من منظور إسلامي، وكان ابنًا شرعيًّا للثقافة الإسلامية الأصيلة، ولم تكن منهجيتُه الجديدة في كتابة التاريخ وفي دراسة علم الاجتماع (العمران)، الذي هو علم جديد جدًّا تمتزجُ فيه علوم السياسة، وفلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع بالمعنى الحديث - كما يقول الدكتور عبدالرحمن بدوي[9] - لم تكن هذه المنهجية الجديدة إلا تعبيرًا عن القرآن الذي ينظر للإنسان ككل في مستوى الفرد وللمجتمع ككلٍّ تتعاون فيه النواحي السياسية مع النواحي الاقتصادية مع النواحي الاجتماعية والثقافية، أو بتعبير وجيز (الجوانب الحضارية) الكاملة المتكاملة، وكان مزج ابن خلدون بين منهجَي علم الاجتماع والتاريخ صورةً من صور هذه الشمولية الحضارية، ويخطئ هؤلاء الذين يحاولون أن يوجِّهوا فكر ابن خلدون توجيهًا أحاديَّ النظرة، ماديًّا كان أو اجتماعيًّا؛ فمقدمة ابن خلدون مزيج متناغم من فلسفة التاريخ ومنهجه، وعلم الاجتماع والسياسة، وإذا كان لا بد من إدراجها تحت عِلم واحد فلنسمِّه: "علم العمران البشري" بالمعنى الواسع الذي أراده ابن خلدون لهذه التسمية[10].
وهذا المعنى الواسع مستقًى من النظرة القرآنية للاجتماع والحضارة، تلك التي لا تؤمِن بالتمزيق ولا بالتشقيق، وترى المجتمع نفسَه سفينةً واحدة، وجسدًا واحدًا، وعناصرَ مادية ومعنوية متكافلة، وثنائيات متعاونة لا متضادة.
وفي ضوء هذا النظر، فإن العواملَ الفاعلة في التجربة الحضارية الإسلامية إنما هي عواملُ مشتركة في النهوض والسقوط؛ فالدين في عصر النهوض (العامل الأيديولوجي) كان روحًا وثَّابة إيجابية، ولكنه في عصر السقوط يصبح - على يد المخرِّفين - صوفيةً سكونية، وبالتالي يلزم - لتحقيق النهوض - إعادةُ الإسلام الصحيح الإيجابي إلى دوره، ومع ذلك فالدين من غير عصبية (عاقلة يحكمها الإسلام أولاً) لا تقوم له دولةٌ؛ فهذه العصبية هي (العامل الاجتماعي) الثاني والضروري بعد (العامل الأيديولوجي)، أما العامل الثالث، فهو (العامل الاقتصادي)، الذي يمزج فيه ابن خلدون بين النشاط الاقتصادي البشري، والعامل الجغرافي الطبيعي، دون أن يركز بالقدر الكافي على قيمة (العمل) كعصبٍ للاقتصاد، بل يركِّز على عامل خارجي اقتصادي في عصره هو (الغزو)[11].
ويلاحظ ضرورة التزام الترتيب في وضع العوامل المؤثرة؛ لأن الترتيب هنا هو مقصود وليس مجرد الجمع، وهو يعكس مدى أولوية العامل وحجمه.
ومن هذا المنطلق الحضاري الشامل، عالجت مقدمة ابن خلدون قضايا تبدو للقارئ السطحي موضوعاتٍ مجزأة، لكنها للباحث المتعمق موضوعاتٌ منسَّقة ومرتبة تغذِّي الروافد الثلاثة (السياسة - التاريخ - الاجتماع)، وتُخضِعها لقوانينَ يصل بها ابن خلدون إلى المستوى العضوي البيولوجي، لكنه يعود فيعطيها بُعْدَها الاجتماعي البشري، الذي يبتعد بها قليلاً عن الحتمية والجبرية.
وفي إطار هذا تعالج المقدمة الأجزاء والموضوعات التالية:
الديباجة: وفيها يذكر ابن خلدون أنه طالَعَ كتب المؤرخين فوجدهم: "لم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال، ولم يراعوا ولا رفضوا ترَّهات الأحاديث ولا دفعوها؛ فالتحقيق قليل، وطرْفُ التنقيح في الغالب كليل"، فوضَعَ هذا الكتاب الذي يصف منهجه فيه[12] قائلاً: "وسلكت في ترتيبه وتبويبه واختراعه من بين المناحي مذهبًا عجيبًا، وطريقة مبتدعة وأسلوبًا، وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يَعْرِض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتِّعك بعللِ الكوائن وأسبابها، ويعرِّفُك كيف دخل أهلُ هذه الدول من أبوابها؛ حتى تَنْزِعَ من التقليد يدَك، وتقفَ على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك".
وهذه الديباجة لا تعدو أن تكونَ (مقدمة) للمقدمة بالمعنى المعروف للمقدمات؛ من شرح المنهج، ومن بيان الجديد الذي يعتقد الكاتبُ أنه يضيفه، وأسباب التأليف، ومنهجه الجديد.
1- الكتاب الأول: ويتكون من:
مقدمة: في فضل علم التاريخ، وتحقيق مذاهبه، والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام، وذكر شيء من أسبابها.
الباب الأول: في العمران البشري على الجملة، وفيه ست مقدمات:
الأولى: في أن الاجتماع الإنساني ضروري.
الثانية والثالثة والرابعة والخامسة: في قسط العمران من الأرض، وفي الأقاليم، وتأثير الهواء في ألوان البشر، وأخلاقهم، وشؤون معاشهم.
والسادسة: في الوحي والرؤيا، وفي أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو الرياضة، وفي حقيقة النبوة والكهانة والعرافة.
الباب الثاني: في العمران البدوي، والأمم الوحشية والقبائل، وما يعرض في ذلك من الأحوال.
2- الكتاب الثاني: ويتكون من:
الباب الثالث: وهو في الدولة العامة، والملك والخلافة، والمراتب السلطانية، وفيه كلام عن نشأة الدول، وتطورها قوة ثم ضعفًا، مع بيان أنه "إذا تحكمت طبيعةُ الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدَّعة، أقبلت الدولةُ على الهرم؛ وذلك أن للدول أعمارًا طبيعية كما للأشخاص، وعمر الدولة "لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال؛ لأن الجيل الأول لم يزالوا على خُلق البداوة وخشونتها وتوحُّشها؛ من شظف العيش، والبسالة، والافتراس، والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سَوْرة العصبية محفوظةً فيهم؛ فحسُّهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون... والجيل الثاني تحوَّل حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به، وكسل الباقين عن السعي فيه... وأما الجيل الثالث، فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من مَلَكة القهر، ويبلغ منهم الترف غايته، فيصيرون عيالاً على الدولة، وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة.
الباب الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران، وما يعرض في ذلك من الأحوال.
الباب الخامس: في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع، وما يعرض في ذلك كله من الأحوال.
3- الكتاب الثالث: ويتكوَّن من:
الباب السادس: في العلوم وأصنافها، والتعليم وطُرقه وسائر وجوهه، وفيه يصف العلم والتعليم بأنهما شيء طبيعي في العمران البشري، وأن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران، وتعظم الحضارة، ويضرب لذلك مثلاً بحال "بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، لما كثُر عمرانها في صدر الإسلام، واستوت فيها الحضارةُ، كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم، واستنباط المسائل والفنون، حتى أربوا على المتقدمين، وفاتوا المتأخِّرين، ولما تناقص عمرانُها وابذعرَّ سكانُها، انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفُقِد العلمُ بها والتعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام"[13].
إن هذه المقدمة إنشاء لعلم جديد، سماه ابن خلدون: "العمران"، وأطلق عليه بعضهم تجاوزًا: "الاجتماع"، وهم كثيرون جدًّا، وبعضهم حاول ربطه بفلسفة التاريخ، وهم كثيرون، وحاول بعضهم، مثل الدكتور (محمد محمود ربيع) صاحب كتاب: "النظرية السياسية لابن خلدون"، وبدرجة ما (محمد عابد الجابري) وغيرهما؛ حاولوا ربطه بعلم السياسة.
والحق أن العلم الذي يمكن أن تكون المقدمة تعبيرًا عنه بدرجة أكبرَ من كل هذه العلوم هو علم (الحضارة)، أو فلسفة الحضارة، وإنه ذلك العلم الذي ينظم العلوم السابقة وغيرها بطريقته الخاصة، وأسلوبه المتميز، وهو العلم الذي سماه ابن خلدون: (العمران).
إننا إذا حاولنا القيام بعمل تركيبي لمفردات المقدمة التي أوردناها سلفًا، فإننا لن نستطيع الوصول إلى قواعدَ كليةٍ تنتظم هذه المفردات خارج نطاق (علم الحضارة) الجامع لكل هذه المنظومة، كما أننا لو حاولنا توظيفَ هذه المفردات وَفْق منهجية علمية وصولاً للأهداف التي حدَّدها لنا ابن خلدون نفسه، فإننا سننتهي إلى النتيجةِ السابقة نفسِها؛ فوظيفةُ علم العمران عند ابن خلدون تتجاوز (التاريخ)؛ لأن التاريخ يقتصر على ذِكْر ما حدث، أما علم العمران، فيبين لنا: كيف ولماذا حدث؟ بوجه برهاني لا مدخلَ للشك فيه، وهو علم يشرح من أحوال العمران التمدن، وما يَعْرِض في الاجتماع الإنساني؛ ليعرِّفك كيف دخل أهل الدولة من أبوابها، ويعطيك لحوادث الدول عللاً وأسبابًا، وكذلك في المقابل عرَّفك بخروج أهل الدولة من التاريخ، ويعرِّفك على كل واقع منتظر؛ أي: الصيرورة التاريخية والشروط التي توجبها، والعوامل الفاعلة فيها[14].
وتكاد صورة هذا العلم تتماثل مع علم الحضارة بقدر ما تبتعد عن علم التاريخ التقليدي، أو عن علمَي الاجتماع والسياسة بالمنهجية والتركيز المعروفين في عصرنا.
وهذه الخصائص ذات الطابع الشمولي أو الحضاري للمقدمة، التي لا تخلو من معالجة قضايا تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية وإنثروبولوجية ونفسية في سياق مترابط ذي نسيج حضاري يعطي للمقدمة أصالتَها الإسلامية –تجعلنا ندرك أن النظرة الإسلامية بعامة - والقرآنية بخاصة - تعالج الإنسان الفرد والمجتمع والحضارة بهذا الشمول وبهذا الترابط العضوي.
ومع أن كثيرًا ممن تأثروا بأيديولوجيات وافدة قد حاولوا إخضاع المقدمة لعقائدهم المذهبية أو العنصرية، إلا أن الدكتور "عبدالرحمن بدوي" قد شذ عن هؤلاء، فتحدث عن أصالة مقدمة ابن خلدون في عدد كبير من الجوانب، ثم انتهى إلى أن المميز الأكبر بين ابن خلدون وبين فلاسفة الحضارة والاجتماع أن فلسفةَ الحضارة عند ابن خلدون تتلون باللون الدينيِّ على عادته في كل المقدمة، كما أن المميز الأكبر أيضًا عنده - كما يقول بدوي - هو غلبة الرُّوح الدينية على اتجاه التفسير والتعليل، وهو أمر مفهوم بطبعه لدى مفكرٍ ينتسب بكل رُوحه إلى الحضارة الإسلامية وإلى العصر الوسيط، ومن العسير أن نعثر في تأويلاته وتعليلاته على نزعة عقلية صريحة، وأنى لنا أن نظفر بها عند رجل - حسب رأي الدكتور عبدالرحمن بدوي - يؤمن بالكهانة والرؤيا والسِّحر، ويسمح للخوارق بأن تدخل عوامل توجيه الأحداث التاريخية[15]!
ومع اختلافنا مع الدكتور (بدوي) في بعض عباراته ونظراته، ومع إيماننا بأن تحليل ابن خلدون لهذه القضايا يبقى في إطار النظرة القرآنية ولا يشذ عنها، إلا أننا - مع ذلك - نوافقه على جوهر القضية، وهو الأصالة الإسلامية (والقرآنية بخاصة) لمقدمة ابن خلدون.
[1] زيدان عبدالباقي: علم الاجتماع الإسلامي، ص: 45، 46، مطبعة السعادة بمصر، طـ1.
[2] المكان السابق نفسه.
[3] د. زيدان عبدالباقي: علم الاجتماع الإسلامي، ص 40، طـ1، مطبعة السعادة، القاهرة.
[4] المرجع السابق، ص 21.
[5] المرجع السابق، المكان نفسه.
[6] د. محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة، طـ 3، بيروت، ص 197.
[7] د. زيدان عبدالباقي، علم الاجتماع الإسلامي، ص 33.
[8] المرجع السابق، ص 33.
[9] مؤلفات ابن خلدون، ص 29، دار المعارف، بمصر، 1962.
[10] المرجع السابق، ص 30.
[11] انظر في معالم النظرية الخلدونية: د. محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية والدولة، 385 - 431.
[12] انظر: د. عفت الشرقاوي: أدب التاريخ عند العرب، ص 333، وما بعدها، وقد اعتمدنا عليه وعلى المقدمة تحقيق الدكتور علي عبدالواحد وافي في كتابة الملخص.
[13] انظر المقدمة، وانظر د. عفت الشرقاوي: أدب التاريخ، ص 333 وما بعدها.
[14] د. محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، طـ3، بيروت، دار الطليعة، 1982م.
[15] المرجع السابق نفسه.





رد مع اقتباس
  #2  
قديم 06-10-2015, 03:40 PM
taher_silkroad taher_silkroad غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 31
معدل تقييم المستوى: 0
taher_silkroad is on a distinguished road
افتراضي

من كتاب بن خلدون
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 12:19 AM.