اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > مسك الكلام فى الاسلام > حى على الفلاح

حى على الفلاح موضوعات و حوارات و مقالات إسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-01-2015, 06:27 PM
abomokhtar abomokhtar غير متواجد حالياً
مشرف سوبر ركن مسك الكلام فى الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
المشاركات: 11,696
معدل تقييم المستوى: 28
abomokhtar is just really nice
New العمل سبيل العزة


العمل سبيل العزة

الحمد لله، أوجد الخلق فأحصاهم عددًا، وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، لا قابض لما بسط، ولا باسط لما قبض، ولا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، ولا مباعد لما قرب، ولا مقرب لما باعد، وكل شيء عنده بأجل مسمى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه؛ ﴿ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 14]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بُعث بالنور المبين، فأخرج الله به من الضلال إلى الهدى، وأنقذ العباد من سُبل الردى، سيد العاملين أوصى بالعمل ورفع من قيمته، فعن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أكل أحد طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده))؛رواه البخاري،فاللهم، صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أولي النهى، وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى، والتابعين لهم بإحسان، ومن تبعهم واقتفى وسلِّم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد:
فيا أيها المؤمنون، إن ارتفاع الأمم وهبوطها، وبقاءها واندثارها يرتبط ارتباطًا كبيرًا بعمل أبنائها وتطلعاتهم واهتماماتهم، فلن ترتقي أمة يميل أبناؤها إلى الدَّعة والراحة والسكون، ويؤثرونها على العمل الجاد الذي يسهم في بناء الأمة، وإننهضة الأمم والشعوب ورقيها وسيادتها وسعادتها تتوقف على تقدمها في مجال العلم والعمل، وبهما تبني الأمم أمجادها، فلا تُبنى الأمجاد على البطالة والجهل والفقر والمرض، ورحم الله من قال:
بالعلمِ والمالِ يَبني الناسُ مُلكَهُمُ
لم يُبْنَ مُلكٌ على جهلٍ وإقلالِ


وبالعمل والاحتراف المتقن تتبوأ الشعوب الصدارة بين الأمم، والله سبحانه وتعالى يحب اليد التي تعمل وتجتهد لتقدِّمَ الخير لنفسها ووطنها ودينها، والمؤمن المحترف يحبه الله ورسوله جزاء ما قدم، ومَن أحبه الله ورسوله هداه الله واجتباه وحفظه ووقاه وجعله من أوليائه، وأدخله في رحمته؛ فيسعد في الدنيا والآخرة.

لذلك كان حديثنا عن العمل والإنتاج سبيلَ نهضةِ الأمة، ويتناول الموضوع هذه العناصر الرئيسة:
1- نظرة الإسلام للعمل.
2- منهج الإسلام في عمارة الأوطان.
3- نماذج مشرقة ساهمت في عمارة الوطن.
4- أثر العمل علي الفرد والمجتمع.


العنصر الأول: نظرة الإسلام للعمل: لقد دعا الإسلام إلى العمل والاحتراف والاشتغال بالعلوم النافعة، وإن أطيب مال وأحلى كسب ما كان من عمل الإنسان؛ ولأن قضية العمل بالنسبة للإنسان قضيةُ مستقبل ومصير، اهتم القرآن الكريم اهتمامًا كبيرًا بها، وجاء لفظ العمل ومشتقاته في آيات كثيرة بلغت 359 آية، وردت هذه الآيات بأساليب متنوعة، مرة تأتي بلفظ الأمر الذي يفيد الوجوب فقال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105]، ومرة بأسلوب ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [العصر: 1 - 3].

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خيرَ ما يأكل الإنسان من كسب يده فقال: ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه))؛ رواه ابن ماجه.

فقد حث الإسلام المسلم على أن يكون ديدنُه في حياته كلها العملَ والعطاء وتعمير الأرض وبناء الحياة حتى يدركَه الموت أو الساعة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسَها فليغرسها))؛ رواه الإمام أحمد.


لقد عمل الشرع الحنيف على القضاء على مظاهر العوز والفقر؛ وذلك بالحث على السعي لطلب الرزق، فنهى الله تعالى الصحابة الكرام عن المكث في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الطعام الذي دعوا إليه، ودعاهم إلى الانتشار في الأرض، ومثله قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، وقوله سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ [الروم: 23]، فالنوم يكون بالليل، ويكون - أيضًا - بالنهار لمن تستدعي طبيعة عمله أن يعمل بالليل.

حث الإسلام على الهجرة، وشجعهم على الغربة، وبيَّن لهم أن أرض الله واسعة، وأن رزق الله غير محدد بمكان ولا محصور في جهة، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ﴾ [النساء: 100]، وقال تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20].

وعن عبدالله بن عمرو قال: تُوفِّي رجل بالمدينة ممن ولدوا فيها، فصلى عليه رسول الله وقال: ((ليته مات في غير مولده))، فقال رجل: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: ((إن الرجل إذا مات غريبًا قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة))؛ رواه الترمذي. ويقول الإمام الشافعي في السفر:
سافِرْ تجدْ عوضًا عمَّن تفارقُه
وانصبْ؛ فإن لذيذَ العيشِ في النَّصَبِ
إنِّي رأيتُ وقوفَ الماءِ يُفسدُه
إن ساحَ طاب، وإن لم يجرِ لم يَطِبِ
والأُسْدُ لولا فراقُ الأرضِ ما افتَرَسَتْ
والسهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يُصِبِ
والشمسُ لو وقفَتْ في الفلكِ دائمةً
لملَّها الناسُ مِن عُجمٍ ومن عرَبِ
والتِّبْرُ كالتُّرْبِ مُلقًى في أماكنه
والعودُ في أرضِهِ نوعٌ من الحَطَبِ
فإن تغرَّبَ هذا عزَّ مطلبُهُ
وإن تغرَّبَ ذلك عزَّ كالذَّهَبِ

وقد انطلق المسلمون الأوائل على هدى هذه الأحاديث في فجاج الأرض؛ ينشرون الدين، ويلتمسون الرزق، ويطلبون العلم، ويجاهدون في سبيل الله.

ولقد ذكر القرآن الكريم الإيمان مقرونًا بالعمل في أكثر من سبعين آية من آياته، ولم يكتفِ بمجرد العمل، ولكنه يطلب عمل "الصالحات" وهي كلمة جامعة من جوامع القرآن تشمل كلَّ ما تصلح به الدنيا والدين، وما يصلح به الفرد والمجتمع، وما تصلح به الحياة الروحية والمادية معًا.

والإيمان هو تقديم الأعمال بأمانة، وإتقان العمل بجد واجتهاد وصدق، ومنع أي أذًى قد يصيب الآلة التي أعمل عليها، وحمايتها من التلف والضياع وصيانتها دوريًّا.

وقد اقترن العمل بالإيمان في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30]، وأوضح القرآن الكريم الفرقَ بين من يحسن ويتقي ويصلح، وبين من أساء إلى دينه ووطنه وأهله قال تعالى: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص: 28]، وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، إن الإيمان بالله واليوم الآخر أعظم دافع للعمل والإنتاج.


العنصر الثاني: منهج الإسلام في عمارة الأوطان: إن البَطالة من أخطر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تتفاقم يومًا بعد يوم على المستوى العالمي، وخاصة في الدول الفقيرة والنامية، ولا شكَّ أن للكسل والبطالة والقعود عن العمل أضرارًا وأمراضًا خطيرة تُهدِّد المجتمع بالخراب والدمار، فالإنسان الذي يركن إلى البطالة ويُضرِبُ عن العمل - مع توفِّر فرصه - يضيع نفسه ويضيع ذويه، ويصبح عالة على غيره، وعضوًا مشلولاً يعوق حركة المجتمع وتقدمه، ثم نجده يعرض نفسه ومن يعول للذل والهوان، ولا يَلقى من الناس إلا الاحتقار والسخرية، ويجني من كل ذلك ضياع الدين والخلق والكرامة.

وهذا العاطل عن العمل قد يدفعه تعطله وبطالته إلى أحد أمرين: إما: أن يتكفف الناس ويتسول، وإما: أن يتجه إلى ارتكاب الجرائم والمنكرات للحصول على الأموال.


فأما التسول: فهو من أخطر الأمراض التي تضر المجتمع، وتشوِّهُ صورتَه، والمتسول - وخاصة إذا كان من القادرين على العمل- إنسان حقَّر نفسه، وأراق ماء وجهه، وخلع حياءه وكرامته، وفقَد إنسانيته، وبدأ يمدُّ يده للناس أعطوه أو منعوه، أما غير القادر على العمل فهذا له عذره في الحاجة إلى غيره، ومن أجله كانت فريضة الزكاة التي تغنيه عن الحاجة والمسألة.

ولكن الشيء الغريب أن التسوُّل أصبح اليوم مهنة لبعض الناس، وانتشر في بعض الدول الإسلامية انتشارًا سرطانيًّا مدمرًا، حتى إن بعض القادرين على العمل من الكسالى قد استسهلوا التسوُّل وانطلقوا في الشوارع والمركبات العامة يمدون أيديهم للناس بغير حياء.


وأما الأثر الثاني للبطالة والتعطل عن العمل بعد التسول فهو: الاتجاه إلى الجريمة طلبًا للمال، وهذا الأثر أخطر بكثير من التسول؛ لأنه إن كان المتسول يأخذ من مال الإنسان بمحض إرادته وبطيب نفس منه، فإن السارق يأخذ المال عنوة، وقد يعتدي على صاحب المال إذا ما اعترضه وهو يسرق، ويرتكب جريمة أخرى غير السرقة وهي: ال***، ومن هنا تنتشر الجرائم وتصبح حياة الإنسان وماله وعرضه في خطر من هؤلاء المجرمين المتعطلين، وقد أثبتت الدراسات والبحوث أن أكثر الذين يرتكبون الجرائم في هذه الأيام هم من العاطلين الذين أخفقوا في عملهم أو في دراستهم وعجزوا عن أن يشغلوا أنفسهم بالحق فشغلتهم هي بالباطل.

ومن هنا تتضح عظمة الإسلام حين حض على العمل، ورغَّب الناس فيه، وجعل بعض الأعمال تصل إلى منزلة الجهاد في سبيل الله.

وهذه بعض الخطوات التي اتبعها الإسلام في عمارة الأرض:
1- التحفيز إلى عمارة الأرض في كل المجالات:
من العوامل التي تساعد على المُضيِّ قُدمًا في زيادة الإنتاج وتوفيره تحفيزُ النبي صلى الله عليه وسلم على إعمار الأرض الخَرِبة، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له))؛ أخرجه أحمد.

وأخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أعمر أرضًا ليست لأحدٍ فهو أحقُّ))، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحيا أرضًا ميتة فله منها - يعني: أجرًا - وما أكلت العوافي منها - يعني: الطير والسباع - فهو له صدقة))، والإعمار والإحياء إما بالزرع أو حفر الآبار، أو بالبناء عليها، كبناء المصانع، والشركات المنتجة لما يلزم للناس، ونحو ذلك.

ولقد حفز النبي صلي الله عليه وسلم علي العمل مهما كان حجمه إذا نوى صاحبه: إطعام الجائع، وكساء العاري، وشفاء المريض، وإغناء الفقير، كان له بذلك صدقة جارية، وأجر غير ممنون - ما انتفع الناس والحيوان بثمرة عمله - قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن بني بنيانًا من غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرسًا في غير ظلم ولا اعتداء، كان له أجرٌ جارٍ ما انتفع به خلق الله تبارك وتعالى))؛ رواه أحمد، وقال أيضًا: ((ما من رجل يغرس غرسًا إلا كتب الله عز وجل له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغراس))، وقال أيضا: ((ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة))؛ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.

ولقد أخبرنا النبي صلي الله عليه وسلم أن العمل الجاد يسبب محبة الله تعالى لتلك الأيادي، منها يد الفلاح في حقله، والعامل في مصنعه، والعالم في محرابه، والمعلم في معهده، والطبيب في عيادته، وغيرهم من رجال يسهرون على راحتنا، وهؤلاء لهم ثواب عظيم؛ لأن ((من بات كالاًّ من عمل يده بات مغفورًا له))؛ رواه الطبراني. والعمل الجاد مكفر للذنوب ومطهر للآثام فقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن بات كالاًّ من عمله بات مغفورًا له))، وقال: ((مَن بات وانيًا من عمله بات والله عنه راضٍ))، وبالإضافة إلى ذلك حثَّ ورغَّب في إتقان العمل وإحسانه فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)) إن كلمة "عملا" في الحديث جاءت مطلقة من غير تحديد لنوع معين من الأعمال يجب الاهتمام به والإحسان فيه دون غيره؛ لتشمل أعمال الدنيا والآخرة.

2- ذم التسول والمتسولين:
ولقد حارب الإسلام هذه العادة السيئة، وبالغ في النهي عن مُساءلة الناس؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((ما يزال الرجل يسأل الناسَ حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعةُ لحم))؛ وروى الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله قال: ((لا يفتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر))، وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى)).

ولقد ذم السلف العاطلين، إن المتابع لهدي السلف الصالحين يجدهم عُمَّالاً متكسبين، وليسوا كسالى ولا متسولين، قال صلى الله عليه وسلم: ((اليد العليا خير من اليد السفلى))؛ أخرجه البخاري ومسلم.

وقد حذر النبي صلي الله عليه وسلم من سؤال الناس؛ فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه - خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه))؛ رواه البخاري.

3- قطع الطريق أمام المتسولين والبطَّالين:
ولقد قطع الإسلام كل الطرق أمام المتسول؛ حتى لا يركن لشيء مثل أن يركن بحجة العبادة، أو يركن معتمدًا على مال الزكاة.

لقد رأى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قومًا قابعين في ركن المسجد بعد صلاة الجمعة، فسألهم: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون على الله، فعلاهم عمر رضي الله عنه بدِّرته ونهرَهم، وقال: لا يقعدنَّ أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم، ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن الله يقول: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10]، وروى ابن أبي الدنيا في "التوكل" بسنده عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب، لَقِي ناسًا من أهل اليمن، فقال: مَن أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المُتَّكلون، إنما المتوكل الذي يُلقي حبَّه في الأرض، ويتوكل على الله.

وكان سفيان الثوري رحمه الله يمرُّ ببعض الناس وهم جلوس بالمسجد الحرام، فيقول: ما يجلسُكم؟ قالوا: فما نصنع؟! قال: اطلبوا من فضل الله، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.

فالمؤمنون ليسوا عالةً على غيرهم، تشغلهم عبادتهم عن العمل والكسب، وليسوا طلاب دنيا، وعبيد مال تحجزهم مصالحهم وتلهيهم تجارتهم عن أداء حقوق الله تعالى، ﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77]، ودخل عبدالله بن عمر رضي الله عنه السوقَ، فأقيمت الصلاة فأغلق التجار حوانيتهم، ودخلوا المسجد فقال: فيهم نزلت: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [النور: 37]، وقال مطرَّف الورَّاق: "كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة"، وأيضا لم يجعل النبي صلي الله عليه وسلم لمتبطل كسول حقًّا في الصدقات؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحلُّ الصدقةُ لغني، ولا لذي مِرَّة سويٍّ))؛ أخرجه أبو داود والترمذي، ولكنه قد تجوز المسألة عند الحاجة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مُدقعٍ، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع))؛ أخرجه أحمد وابن ماجة.


4- توفير فرص العمل للقادرين عليه:
وهناك حديث معبر أتمَّ تعبير عن أن المسلم يجب أن يعمل، ويصون نفسه من مذلة السؤال، فإنه ما دام قادرًا على العمل، فلا بد أن يجد وسيلة للعمل؛ فعن أنس رضي الله عنه: أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أَمَا في بيتك شيء؟))، قال الرجل: بلى، حلس [كساء يلبس، ويفرش على الأرض، ويجلس عليه] نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب[الإناء] نشرب فيه من الماء، قال صلى الله عليه وسلم: ((ائتني بهما)، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: ((مَن يشتري هذين؟)، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن يزيد على درهم؟) مرتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: ((اشتر بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قدومًا فأتني به))، فأتاه به، فشد فيه رسول صلى الله عليه وسلم عودًا بيده، ثم قال له: ((اذهب فاحتطب وبِع، ولا أرينَّك خمسةَ عشرَ يومًا))، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة؛ إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع))؛ رواه أبو داود، واللفظ له،، وابن ماجه، والنسائي، وأحمد.

فكانت معالجته معالجة عملية؛ استخدم فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم كل الطاقات والإمكانات المتوفرة لدى الشخص الفقير - وإن تضاءلت - حيث علَّمه رسول الله صلي الله عليه وسلم كيف يجلب الرزق الحلال من خلال عمل شريف.

5- تشجيع المشاريع الاقتصادية:
شجَّع رسول الله المشاريع الاقتصادية بين المسلمين، وحثَّهم على المزارعة، كما فعل الأنصار مع إخوانهم المهاجرين الفقراء، الذين قدموا على المدينة بلا أدني مال، فعن أبي هريرة أنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، فقال: ((لا))، فقالوا: تكفونا المؤنة، ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا.(رواه البخاري).

6- تحريم الربا:
وحرم الإسلام الربا لما له من مضار على فقراء المجتمع؛ فهو يعوق التنمية، ويسبب التخلف، ويزيد الفقير فقرًا؛ مما يؤدي إلى الهلاك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، و*** النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات))؛ متفق عليه.

7- ترسيخ قيمة التكافل:
أما إذا ضاق الحال، ولم يجد الإنسان عملاً، وأصبح فقيرًا محتاجًا، فعلاج الإسلام حينئذ لهذه المشكلة هو أن يكفل الأغنياء الموسرون أقاربهم الفقراء، وذلك لما بينهم من الرحم والقرابة، وقد وصفه الله بأنه حق من الحقوق الواجبة بين الأقارب، فقال تعالى: ﴿ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ﴾ [الروم: 38]. وإذا عجز الأقارب الأغنياء عن سد حاجة الفقراء جاء دور المجتمع ككل؛ متمثلاً في الزكاة التي فرضها الله للفقراء من أموال الأغنياء، ولكن رسول الله جعلها مقصورة على الفقير الذي لا يستطيع العمل والكسب؛ لذلك قال رسول الله: ((لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّةٍ سوي))؛ أخرجه أبو داود والترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص.

بهذا لم يجعل رسول الله لمتبطل كسول حقًّا في الصدقات؛ ليدفع القادرين إلى العمل والكسب.

وإذا بقي في المجتمع فقير لا يستطيع العمل؛ وجب على المجتمع كله أن يخرج الصدقات ابتغاء مرضاة الله وثوابه، وهذه مزية تميز بها الإسلام عن غيره من المعالجات البشرية للمشكلة، فها هو ذا النبي يعلم أصحابه الإنفاق، فعن جرير بن عبدالله أنه قال: خطبنا رسول الله فحثنا على الصدقة، فأبطؤوا حتى رُئِي في وجهه الغضب، ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصُرة، فأعطاها له، فتتابع الناس حتى رئي في وجهه السرور، فقال رسول الله: ((من سنَّ سنة حسنة كان له أجرها، ومثل أجر من عمل بها، من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها، ومثل وزر من عمل بها، من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء))؛ أخرجه مسلم في صحيحه).

وبهذه القيم يظل المجتمع متماسك البنيان، ومتوازن الأركان، ولا تنهشه أمراض الحقد والحسد، والنظر إلى ما في يد الآخرين، فتمتلئ بطون بعضهم، بينما غيرهم لا يجد ما يَسد رَمَقه، أو يبقي على حياته، فكان الإسلام ناجحًا في إيجاد الحلول العملية والواقعية لمشكلتي الفقر والبطالة، ولعل هذه الطريقة الفريدة الفذة في علاج مثل هذه المشكلة لَمِن أبلغ الأدلة على نبوته، وعلى أن المنهج الذي أتى به ليس منهجًا بشريًّا بحال، إنما هو من وحي الله العليم الخبير.

العنصر الثالث: نماذج مشرقة ساهمت في عمارة الوطن:
1- الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: تقول عنه عائشة رضي الله عنها كان أبو بكر أتجرَ قريش، حتى دخل في الإمارة، والأثر رواه الخلَّال بسند صحيح، نعم، كان تاجرًا حتى دخل في الإمارة فافتقر، وليس العكس!

كان أتجر قريش؛ لأنه يشتغل بالبز، وبالتجارة، وكان يذهب إلى الشام وإلى غيرها، ويسبق في الأسواق، فلما تولَّى الخلافة رضي الله عنه افتقر، وأصبح ليس عنده إلا ما يقوم ببيته من المال الذي جعله له المسلمون، ولأبي بكر أمر الخلافة، وجعلت الأمة كلها أمرها في عنق أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيا تُرى، ماذا فعل هذا الخليفة رضي الله عنه، الذي يفاخر به المسلمون عبر التاريخ؟

روى ابن سعد بسند موصول بالرجال الثقات أن أبا بكر لما استخلف، أصبح غاديًا إلى السوق، وعلى رأسه أثوابٌ يتاجر بها كالعادة، حمل الأثواب والبضائع وغدا إلى السوق، يبيع ويشتري، فلقيه في الطريق عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما فقالا له: كيف تصنع هذا؛ وقد وليت أمر المسلمين؟! قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: فمن أين أُطعِمُ عيالي؟! قالا له: نفرض لك، ونجعل لك مرتبًا يوميًّا، أو أسبوعيًّا، أو شهريًّا، تستغني به عن التجارة.

فماذا يا ترى فرضوا له؟ فقط نصفَ شاة يوميًّا، هذا راتب الخليفة رضي الله عنه وهو مقابل أموال ضخمة كان يكسبها من التجارة، حتى إنه كان أغنى أغنياء قريش قبل أن يلي أمر الخلافة.


2- عثمان بن عفان مجهز جيش العسرة: الرجل الثاني: عثمان بن عفان ذو النورين رضي الله عنه، رجل سخَّر ماله لخدمة الإسلام والمسلمين يجهز جيش المسلمين في وقت عصيب وهو وقت العسرة، وهذا الأمر يوضح على ما لديه من المال؛ فقد روى الترمذي عن عبدالرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان رضي الله عنه يوم العسرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار، وذلك حين جهَّز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر عثمان إليه، ثم قال: ((ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم))، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال.

الأثر الثاني: عن عبدالرحمن بن خباب رضي الله عنه وهو عند الترمذي - أيضًا - قال: لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تجهيز جيش العسرة، قال عثمان: يا رسول الله، عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشاركة، فقال: يا رسول الله، عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثالثة، فقال: يا رسول الله، عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها. هذا ما أنفقه عثمان في مناسبة واحدة، فما بالك بمجموع ما أنفقه طيلة عمره؟! وما بالك بمجموع أموال الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.


3 - طلحة بن عبيدالله ( طلحة الفياض ): أما طلحة بن عبيدالله طلحة الفياض، فقد كان كريما جوادًا وسمي بالفياض، وغلة طلحة يوميًّا ألف دينار، هذه أرباحه يوميًّا في مثل ذلك العصر، الذي لم يكن يعرف الملايين والمليارات، ولما مات طلحة رضي الله عنه خلف من الأموال الشيء الكثير، سأل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه موسى بن طلحة - ولده - فقال له: كم ترك أبو محمد-أي: كم خلف من الأموال-؟ فقال له: ترك ألفي ألف درهم، ومائتي ألف درهم، هذا من الفضة، أما من الذهب فخلف مائتي ألف دينار، فقال معاوية رضي الله عنه: عاش حميدًا سخيًّا شريفًا، ومات شهيدًا.

4- عبدالرحمن بن عوف (ودُلَّني علي السوق): أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضى الله عنه قال قدم عبدالرحمن بن عوف، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفَه أهله وماله، فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلَّني على السوق.

فربح شيئًا من أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مهيم يا عبدالرحمن!))، قال يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار، قال: ((فما سقت فيها؟)) فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أُولِمْ ولو بشاة))؛ أخرجه البخاري، وفي رواية عند البخاري - أيضًا - عن أنس رضي الله عنه، أنه قال: قدم علينا عبدالرحمن بن عوف وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها؛ حتى إذا حلت تزوجتَها؛ فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك، فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئًا من سمن وأقط، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه وضر من صفرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مهيم)) قال: تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: ((ما سقت فيها؟)) قال: وزن نواة من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال: ((أُولِمْ ولو بشاة))؛ أخرجه البخاري.

استطاع سيدنا عبدالرحمن بن عوف أن يُكوِّن ثروة واسعة، بعد أن ترك دياره وأرضه وأمواله، وكان يقول: لو رفعتن حجرا لوجدت تحتَه ذهبًا، وقال عنه بعض المؤرخين: كان تاجرًا مجدودًا في التجارة، وكسب مالاً كثيرًا وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس تُرعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا فكان يدخل منه قوت أهله سنة.

وكان له دور بارز في تأسيس الاقتصاد الاسلامي، وإطلاق أسواق تنهي احتكار اليهود للتجارة.

كان له دور في بناء الوطن فأنشأ سوقًا للمسلمين في المدينة؛ إذ كان اليهود قبل الهجرة يحتكرون التجارة فيها، ويسيطرون على معظم الموارد، وقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم إنهاء هذا الاحتكار والهيمنة، وتشجيع أثرياء المسلمين على مزاولة النشاط الاقتصادي، من أبرز المسلمين الذين كان لهم فضل في إنشاء سوق في المدينة المنورة الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف.

وملكاته التجارية لم تظهر في المدينة فحسب، بل كان له نشاط تجاري كبير في مكة قبل الهجرة، كان عبدالرحمن بن عوف من أوائل الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وساهمت إمكاناته المالية في مساندة الدعوة وفقراء المسلمين، فأين أصحاب رؤوس الأموال اليوم من عبدالرحمن بن عوف ومعاناة الكثير من فقراء المسلمين. وقد كان المهاجرون والأنصار، يعملون في الزراعة، أوفي التجارة أو في الحطب، أو في الاستيراد، أو في غير ذلك، وكلهم كانوا مثلَ عبدالرحمن بن عوف، حتى نتج عن ذلك نشاط اقتصادي واسع النطاق.

العنصر الرابع: أثر العمل على الفرد والمجتمع: إن الأمة التي تعمل تقود ولا تُقاد، تسود ولا تُساد، تتكلم فيُسمَع لها، تأمر بأمر الله فتُطاع، وتنهى بنهي الله فلا تُعصى، تذل لها الأمم وتدين لها الدول، وكانت مضرب المثل بين الأمم، ويشار إليها بالبَنان، ويتحقق لها النجاح، والهيبة والمنعة، ورحم الله الشيخ الشعراوي حين قال: حتى تكون كلمتُك من رأسك، لابد أن تكون لقمتُك من فأسك.

وهذه بعض الآثار المترتبة على نتيجة العمل الجاد:
1- النجاح مرتبط بالعمل: لا يذهب الظن أو الوهم بأحد، فيحسب أن ارتباط السعادة والفوز بالعمل مقصور على الآخرة وحدها، فإن قوانين الله في الجزاء واحدة، ورب الدنيا والآخرة واحد، فالله تعالى يقول: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30]، ﴿ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر: 74]، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].

وسنة الله - التي أخبرنا القرآن أنها لا تتبدل ولا تتحول - لا تسمح لفارغ أو قاعد أو كسول أن يظفر بما يريد، أو يحقق ما يأمل، بل إن سنن الله في الدنيا لا تفرق في الجزاء على العمل بين مؤمن وكافر... فمن عَمِلَ أُجِر، ومن قعد حُرِم، مهما كان دينه أو اعتقاده.

وبهذا يندفع المؤمن إلى العمل دائمًا؛ حتى لا يُصادِم سنن الله في الكون فتصدمه؛ فيكون من الهالكين.


2- حفظ الهيبة: فالعمل مهما كان قدره ومهما كان ربحه وعائده فهو يمنع صاحبه من التبذل وسقوط ماء الوجه، وضياع هيبته بالسؤال وبذلك ينال العامل توقير المجتمع، واحترامه ويحيى عزيزًا كريمًا ويموت جليلاً حميدًا، واليد العليا خير من اليد السفلى وفي حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((لأَنْ يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه)).

والمسلم عزيز النفس كريم الخلق عفيف الطبع، يكره ما يُسيئه ويشينه بعد أن أعزه الله بالإسلام، فبدلاً من أن يقعد عن العمل ويمد يده للناس سائلاً منهم المال فليعمل ليتكسب، فروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزعة لحم)). وفي هذا يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أله حرفةٌ؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني"، وكان إبراهيم بن أدهم إذا قيل له: كيف أنت؟ قال: بخير ما لم يتحمَّل مؤنتي غيري، ورحم الله الخليفة الراشد علي بن أبي طالب؛ حين قال:
لنقل الصخر من تلك الجبال
أخفُّ عليَّ من مِنَنِ الرجالِ
يقول الناسُ: كسبٌ فيه عارٌ
فقلت: العارُ في ذلِّ السؤالِ


3- مَنَعة الأمة: إن الأمة المنتجة قوية، ولها مَنَعة ويَهابُها أعداؤها، والأمة المستهلكة ضعيفة وتكون أُلعوبة في أيد أعدائها.

لقد زار سيدنا عمر بن الخطاب بلدة فرأى أكثر الفعاليات الاقتصادية بيد غير المسلمين، فعنَّفهم أشدَّ التعنيف، فقالوا: لقد سخَّرهم الله لنا، فقال لهم - قبل ألف وأربعمائة وست وثلاثين عامًا -: كيف بكم إذا أصبحتم عبيدًا عندهم؟ لقد أدرك الخليفة العملاق قبل ألف وأربعمائة وست وثلاثين عامًا أن المنتج قوي والمستهلك ضعيف، أصبحنا الآن نستورد كلَّ شيء من الإبرة حتي الصاروخ، لذلك يجب أن نعمل، كل إنسان منا يجب أن يفكر بعمل يخدم به أمته؛ لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((اللهم، إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات))؛ متفق عليه عن زيد بن أرقم.


إن تقدم الأمة في الصناعات المختلفة وريادتها في الأعمال المبتكرة يحقق لها المَنَعة من الأعداء المتربصين بها والطامعين في ثرواتها وكنوزها.


وأخيرًا: إن الإسلام الحنيف رغَّب في الكدِّ والعمل والتحصيل، وذمَّ البطالة بشتى صورها، وحذَّر منها لما فيها من الجمود والاتكالية، فبقاء الفرد عاطلاً دون عمل معتمدًا على غيره يجعله ذليلاً مكسور الجناح، واضعًا نفسه تحت رحمة الخلق وشفقتهم، يرجو برَّهم وعطفهم، ويخاف شرهم وعقابهم، فهو إن لم يسايرهم منعوا عنه العطاء، ومخرجه من ذلك أن يكون عاقلاً منتجًا، وأن يوجد لنفسه مهنة، يكتسب من خلالها، وأن يكون في عداد المثمرين المنتجين، حتى لا يبقى عالة على نفسه ومجتمعه.

نسأل الله العظيم أن يحفظ علينا ماء وجوهنا، وأن يجعلنا من العاملين المخلصين المنتجين، إنه ولي ذلك ومولاه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.




السيد طه أحمد

__________________
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-01-2015, 11:42 PM
flick flick غير متواجد حالياً
عضو مجتهد
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 53
معدل تقييم المستوى: 10
flick is on a distinguished road
افتراضي

جزاك الله خيرا
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 10:46 AM.