|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
الهجرة المحمدية حدث غير وجه التاريخ
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، تفرَّد بالوحدانيَّة.
والصلاة والسلام على سيِّد الأنام، إمام الإنسانيَّة، وعلى آله وجنده وتابِعيه وصحبه الذين هم خير البريَّة. وبعد: فمنذ أشرقت الأرض بنور القرآن كان هذا بدء تحوُّل في تاريخ الإنسانيَّة كلها، وتغيُّر في حركة التاريخ، وإذا كان الإسلام أكمل منهج جعَلَه الله صلاحًا وإصلاحًا لأحوال البشر أجمعين، فإنَّ المنهج يحتاج إلى حركةٍ تُجسِّده: واقعًا ملموسًا، وحقًّا مشهودًا. ولقد كانت الهجرة المحمديَّة هي الحركة التي أسَّست (دولة العقيدة)، وأقامت (ملكوت الله على الأرض)، فعرفت البشريَّة (المجتمع الرباني) قائمًا بالحق والعدل، بعدما انقَضَتْ قُرُونٌ من عمر البشريَّة كان الحق فيها أمنية تطوف بأحلام المُستَضعَفين، والعدل فيها خُرافة في ميزان الظالمين. والصحائف القادمة: إشارات ضوئيَّة نلقيها على بعض أحداث الهجرة ومَعانِيها، ليكون ماضينا الخالد دروسًا رائدة، وعبرًا هاديةً، تقود خُطانا إلى عزَّة الحاضر، وإلى الآمال الواعدة في المستقبل. ومن الله المَدَد والإعانة، ومنه السداد والتوفيق، والتوفيق خير الأرزاق. الهجرة في اللغة: الهجر: الترك والابتعاد والاعتزال. والهجرة: ترك وطن ومغادرته إلى موطن آخر. لكل نبي هجرة: تَكاد تكون الهجرة سنَّة محتومة، وقاعدة شبه مُطَّرِدة في تاريخ دعوات الحق، وفي سير الدُّعاة إلى الله، وإذا كان المقام لا يتَّسِع للبسط والتفصيل، فإنَّ الإيجاز قد يُغنِي أحيانًا عن الإطناب. ونستَرعِي نظر القارئ إلى أنَّ الهجرة قد تكون تحرُّكًا بالدعوة، وقد تكون إنقاذًا لمجتمع المؤمنين، وهاك بعضَ الأمثلة: نوح عليه السلام: مكث نوح صلوات الله عليه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا يدعو قومَه إلى إسلام الوجهِ لله الواحد الأحد، ولكنَّهم أصرُّوا على العناد واستكبَرُوا استِكبارًا، حتى جاءه أمر الله؛ ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [هود: 36]، وأمر بصناعة السفينة، لتكون مركبًا للمؤمنين المهاجرين بإيمانهم، الناجين بتقواهم؛ كما قال سبحانه: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40]. وتظلُّ السفينة التي حملت المجتمع الجديد ﴿ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ﴾ حتى وصلت إلى المرفأ الأمين، ﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44]، وباستِواء السفينة انتهَتْ مرحلة من مراحل الصراع بين الحق والباطل في تاريخ البشريَّة، وآذَن الله - سبحانه - نوحًا بقِيام (مجتمع الإسلام) على البركات والسلام، ونص الإعلان الرباني إلى نوح هو: ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾[هود: 48]. إبراهيم عليه السلام: أمَّا إبراهيم عليه السلام الذي كانت دعوته إلى الله بأرض العراق فقد كانت له هجرات إلى الشام، وإلى مصر، وإلى أرض الحجاز، واسمع حديث القرآن عن هجرة إبراهيم إلى الشام بعد نجاته من محاولة تحريقه بالنار على يد نمروذ العراق وأبالسته؛ يقول سبحانه: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 68 - 71]، وهذه الأرض التي جعَل الله إليها هجرة إبراهيم ولوط ونجاتهما هي الأرض المقدَّسة بفلسطين. موسى عليه السلام: أمَّا كَلِيمُ الله موسى عليه السلام فقد كانت له كذلك هجرات قبل بعثته وبعدَها، هاجر قبل البعثة إلى أرض مدين، بعد أنْ خرَج من مصر خائفًا يترقَّب، وعاد إليها بعد الوحي إليه، ثم هاجَر منها بعد أنْ كذَّبَه فرعون، وأراد أنْ يبطش به وبِمَن آمَن معه فأمره الله بالهجرة؛ ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴾ [طه: 77 - 79]. لماذا الهجرة؟ قضَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثةَ عشر عامًا في مكَّة يدعو قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد، ونبذ عبادة الأوثان، والكفر بكلِّ ما على الأرض من طواغيت، وكانت وسيلته في الدعوة: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجِدال الرَّفيق بالتي هي أحسن، ومنهجه دائمًا هو: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256]. كان رسولنا يريد من المجتمع المكي أنْ يخلي بينه وبين الدعوة إلى الله، ولقد كان عظيم الرِّفق، طويل الصبر في البَلاغ، وسلَك إلى ذلك وسائل الإقناع الواضح الرشيد، ومن أروع هذه الوسائل أنْ يقول ما علَّمه له ربُّه أنْ يقوله ممَّا أنزله عليه من الكتاب: ﴿... وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24]، وليس هو إلاَّ على الحق المبين، لكنَّه أدب المحاورة في أسمى صوره. بل يعلِّمه أنْ يقول: ﴿ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [سبأ: 25]؛ أي: إن كانت الدعوة إلى تَخلِيصكم من عبادة البشر، والخضوع الذليل أمام الحجر جريمة - فليس عليكم شيءٌ من وِزر جريمة (التوحيد، التحريم)، فهل بعد هذا رِفقٌ في البَلاغ، وتواضعٌ في الخطاب؟ لكنَّ الجاهليَّة المكيَّة لم تتقبَّل دعوةَ الإسلام بالكِبر الأعمى، والكُفر الأصم، والعِناد الجاحد فقط، بل شنَّت عليها حربَ الإبادة في تبجُّح مستهتر، وأبَتْ عليها حقَّ الحياة. تعرَّض الداعية الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لصُنُوف شتَّى من السخرية والاستِهزاء، والإيذاء والإعنات؛ ليترك الدعوة إلى الله: فمرَّة يُلقِي عليه عقبة بن أبي معيط لعنه الله فرث جزورٍ (كرش جمل بما فيه من قذر)، ومرَّة يخنقه بثَوبِه وهو ساجدٌ عند الكعبة، ومرَّة يُحاوِل أبو جهل أنْ يُحطِّم رأسه بحجر وهو يُصلِّي، وأمَّا الحقد المحموم من عمه أبى لهب وسَفاهات امرأته حمالة الحطب، فهما ممَّا يخزي الشرك وأهله. وأصدق تصويرٍ لأحقاد الجاهلين ومكايدهم، ما قَصَّهُ ربُّنا سبحانه وتعالى في قوله لرسوله: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]. هكذا يكيدون ويتآمرون: 1- إمَّا لإثباته بحبسه ووضعه في القُيُود، أو وضع القيود حوله فلا يستَطِيع السعي إلى الناس لدعوتهم، فلا يملكون السعي لسماع دعوته وتدبُّر الوحي إليه؛ لأنَّه مسجونٌ مُبعَد عن الناس. 2- وإمَّا ل***ه بوسيلةٍ ماكرة غادرة تخلُّصًا منه ومن دعوته. 3- وإمَّا لإخراجه ونفيه من مكَّة. ولم يكن إيذاء المشركين قاصرًا على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحدَه، بل لقد تعرَّض أكثر المؤمنين في مكَّة لألوانٍ من الفِتَن والمِحَن صبَّها عليهم المشركون صبًّا: فالكلمات البذيئة النابية، والألفاظ الوقحة الجافية، والصَّفع واللَّطم والرَّكل، والتقييد في السلاسل، والحبس في الظُّلمات، وتعرية أجساد المؤمنين وطرحها على رمال الصحراء المتوقِّدة، ووَضْع الأحجار القاتلة على الصدور، وفَقء الأعين، والكي بالحديد المحمَّى، والرَّجم بالحجارة، ومنع الطعام، وحبس الشَّراب عن السُّجَناء من المُجاهِدين في سبيل الله، ووضعهم لل***** في مُستَنقَعات المياه، والجلد بالسِّياط، والتَّفرِيق بين الأزواج... كلُّ ذلك وغيره ممَّا يندى له جَبِينُ الإنسانيَّة، ويظلُّ عارُه يشين فاعِلِيه إلى يوم القيامة، وإنَّ نتَن ريحه ليُزكِم الأنوف، لكنَّهم أقدَمُوا عليه مُفاخِرين: نافَسوا الذِّئاب فكانوا أشرس منها، وتبارَوا مع السِّباع في التوحُّش والضراوة فكانت السِّباع أكرَم وأطهَر، وأعفَّ وأنبَل؛ لأنها لا تترصَّد للمؤمنين، ولا تختار فرائسها إلاَّ منهم كما فعل مع المشركين. كان العربي بقِيَمِه الموروثة يرى الاستِئساد على المرأة نَذالة وحطَّة، ويرى صيانتها والدفاع عنها شرفًا ومكرمة، لكنَّ الجاهليَّة المكيَّة حشدت أبطالها لحرب النِّساء والصِّبيان من الذين آمَنوا، واحتشدَتْ ذات يومٍ لمعركةٍ مع (سميَّة) أم عمار وزوجة ياسر، وخرَجت المرأة المؤمنة من المعركة ظافرة مُنتَصرة على كلِّ بطش قريش وإجرامها، وإنْ ظفرت منها قريش بجسدٍ من التراب، وإلى التراب قد عاد، نقول: إنَّ (سمية) قد انتصرت على قريش حين أرادت قريش أنْ تسلب هذه المرأة إيمانها، فما استطاعت - بكلِّ قوَّة كبرائها وصلف زُعَمائها - أنْ تَنال من يقين هذه المؤمنة المعتصمة بالله، وفي موكب غيبي باهر استَقبَلت الملائكة الكرام بالتجلية والترحاب روح سميَّة لتزفَّها إلى مكانها الموعود: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54 - 55]. واستمرَّت الجاهليَّة القرشيَّة في عتوِّها وصلَفِها وأثيم غُرورِها، حتى تواصَلتْ بصحيفةٍ ظالمة علَّقتها على جدران الكَعبة، وبها فرضت الحصار والمقاطعة والمَجاعة على المؤمنين في شِعب (حي) بني هاشم واستمرَّت هذه المقاطعة الآثِمة ثلاثة أعوام حسومًا، حتى أكَلت الأرضة صحيفةَ الظُّلم وهي معلَّقة. كل هذا وغيره كثيرٌ كان يُحتِّم على الدَّعوة أنْ يكون لها (محضن) في غير جوِّ مكَّة الخانق القاتل. (يتبع) الهجرة المحمدية حدث غير وجه التاريخ (2) الهجرة جاءت على قدر: لم تكن الهجرة قَرارًا مرتجلاً اتَّخَذه الرسول صلوات الله عليه ولم تكن مجرَّد ردِّ فعلٍ غريزي لِمُؤامَرة المشركين لاغتِيال الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم. إنَّ الهجرة قدرٌ مَقدورٌ في تاريخ الدعوة إلى الله. لقد عَلِمَ الرسول أنَّ الهجرة قدرٌ لا مردَّ له في أوَّل أيَّام الدعوة حين قال ورقة بن نوفل: "وليتني أكون معك يوم يُخرِجك قومك"، فقال الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أومُخرِجيَّ هم؟!))، فقال ورقة: "ما جاء رسولٌ بِمِثل الذي جئتَ به إلاَّ أُوذِي وأُخرِج". وإذًا فهذه هي الرسالة، وهذا هو الطريق، وهو طريقٌ محفوفٌ بالشدائد؛ لأنَّ الأمانة ثقيلة ثقيلة، غاصٌّ بالمكاره؛ لأنَّ الحقَّ تكرهه نفوسٌ قال الله عن أصحابها: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]. لذا؛ كانت وصاة القرآن له - بعد أمرِه بالبلاغ والرِّسالة - هي الصبر: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر: 1 - 7]. ولقد امتَثَل الرسول لما أُمِر به، وكان إمام الصابرين. هجرات قبل الهجرة الكبرى: إزاء ذلكم الاستِكبار الجاهلي من أهل مكة، وصدِّهم الناس عن سبيل الله، بحَث الرسول لأصحابه عن مهجر يهاجرون إليه؛ فرارًا إلى الله بدِينِهم ونَجاةً من آثام قومهم، فنصَحَهم بالهجرة، فكانت هذه الهجرات: 1- الهجرة الأولى إلى الحبشة: خرج إليها عشرة رجال، وخمس نسوة؛ منهم: عثمان بن عفان، وزوجه رقيَّة بنت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو سلمة وزوجته، وعبدالرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير، والزبير بن العوام، وغيرهم، وأمَّر عليهم عثمان بن مظعون، إلاَّ أنهم عادوا بعد ثلاثة أشهر، ظنًّا منهم أنَّ قلوب المكيين قد اهتَدَتْ للرشاد، ولكنَّ البلاء قد تَضاعَف، فنصَحَهم الرسولُ كرَّة أخرى بالهجرة، فكانت. 2- الهجرة الثانية إلى الحبشة: ولقد رغَّبهم الرسول في هذه الهجرة بقوله: ((لو خرَجتُم إلى أرض الحبشة؛ فإنَّ بها ملكًا لا يُظلَم عنده أحدٌ، وهى أرضُ صدقٍ، حتى يجعَل الله لكم فرجًا ممَّا أنتم فيه...))، وبلغت عدة من هاجر هذه الهجرة من المسلمين بضعة وثمانين. 3- الهجرة إلى الطائف: ومع اشتِداد سفَه قُرَيش وإعراضها، فكَّر الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في عرض دعوَتِه على غيرها، فخَرَج من مكَّة قاصدًا مدينة الطائف في الجنوب الشرقي من مكَّة، ولَمَّا وصَلَها التَقَى بمسعود وحبيب ابني عمرو بن عمير، وبعبد ياليل، وهم زُعَماء قبيلة ثقيف، وعرَض عليهم دعوةَ الحقِّ، لكنَّ قبيلة ثقيف كانت هي الأُخرَى في حلفٍ مع الشيطان فأخرَجَتْ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم شرَّ إخراج، ومع ما كان العرب يَتفاخَرون به في الجاهليَّة من إكرام الضَّيف، وإجارة المستجير، فإنَّ الحميَّة للشِّرك، وعبادة الهَوَى طمست أعيُن المشركين في مكة والطائف، فلم يَعرِفوا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حرمةً، ولا جوارًا، ولا قرابة، ولا ضِيافة، ولا ذمَّة! مقدمات الهجرة الكبرى وبشائرها: 1- الرؤى الصادقة: وسط الرياح الهوجاء، وإبَّان الساعات الحرجة العصيبة، يُطلِق الرسول البشرى الصحابة بالهجرة فيقول: ((أُرِيتُ دارَ هجرتكم أرضًا سبخة بين لابتين))، (واللابة: هي الحجارة، والأرض السبخة أصلح للزراعة من غيرها، وهذا الوصف يَصدُق على (يثرب) التي سُمِّيت بالمدينة بعد هجرة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم إليها). 2- عرض الدعوة على أهل المدينة: بدَأ رسول الله - بإلهامٍ وتوفيقٍ من ربِّه - يرنو ببَصِيرَته نحو المدينة، عسى أنْ تجد (دعوة الحق) فيها من (المستقرِّ الآمِن) ما لم تجده في مكة أو الطائف، فاغتَنَم موسم الحج الذي يشهده حجيج العرب من كلِّ صوب وحدب، وعرض الدعوة على نفرٍ من الأوس والخزرج، ووجَد منهم آذانًا واعِيَة، وقلوبًا مُصغِية، وعادوا إلى قومهم يُحدِّثونهم بما سمعوا. 3- بَيْعة العقبة الأولى: ولما وافَى موسم الحج التالي، قَدِمَ من المدينة اثنا عشر رجلاً، والتَقوا بالرسول صلَّى الله عليه وسلَّم عند العقبة (مكان رمي الجمرات بمنى)، وبايَعُوه بَيْعة سُمِّيت (بيعة النساء)؛ لأنها خَلَتْ من التعاهُد على الحرب التي لم تكن قد افتُرِضت بعدُ، ومن أهميَّة الجهاد في الإسلام أنْ تُشبَّه البَيْعة التي خلتْ من التعاهُد عليه ببيعة النساء، التي ورَد ذكرُها في الآية الثانية عشرة من سورة الممتحنة. وعن هذه البَيْعة يقول عبادة بن الصامت - رضِي الله عنه -: "بايَعنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلةَ العقبة الأولى على: ألاَّ نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا ن*** أولادنا، ولا نأتي ببهتانٍ نفتَرِيه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإنْ وفيتم فلكم الجنَّة، وإنْ غشيتُم من ذلك شيئًا فأخذتُم بحدِّه في الدنيا فهو كفَّارة له، وإنْ سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمرُكُم إلى الله - عزَّ وجلَّ - إنْ شاء عذَّب وإنْ شاء غفر". 4- الدعوة داخل المدينة: أراد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يعدَّ المدينة إعدادًا دينيًّا روحيًّا لتحسن استقبال الدعوة، فلم يكتفِ بِمَن آمَن من الأنصار (كمبعوثين محليِّين دائِمين) يُبشِّرون بالدعوة، بل أرسَلَ (سفيرًا خاصًّا) على أعلى مستوى من الكفاءة في المهمَّة الموكولة إليه وهى: أنْ يُقرِئهم القرآن الكريم (دستور الدولة الإسلاميَّة) التي أقامَها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بأمر ربِّه - تعالى - في المدينة، وأنْ يُربِّيهم (التربية الإسلاميَّة) بتَفقِيههم في أحكام الدِّين، وهذا السفير الداعية هو: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبدمناف. 5- الاستجابة العملية: أخَذت (الطليعة المؤمنة) في المدينة طريقَها إلى تطبيق الإسلام، وجعله حياتها وسلوكها، وذلك حتى قبل أنْ يُهاجِر الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ومن أدلَّة ذلك أنَّ أبا أمامة أسعد بن زرارة جمَع أربعين رجلاً من الأنصار، وصلَّى بهم صلاة الجمعة لأوَّل مرَّة في تاريخ الدعوة الإسلاميَّة، وكان هذا في مكانٍ بالمدينة يُقال له: (نقيع الخضمات بهزم النبيت من حرة بنى بياضة). هذا، مع أنَّ المسلمين في مكَّة لم يتمكَّنوا من إقامة صلاة الجمعة؛ إذ كان المجتمع الجاهلي يملك أَزِمَّةَ الأمور فيها، ويتربَّص بالحق وأهلِه الدوائر، وهذا يلفت نظرنا إلى ملحظَيْن مهمَّين وهما: أ- أنَّ العقيدة الحقَّة لا تُثمِر ثمرتها المُبارَكة إلاَّ في جوِّ الحريَّة الآمِن كالذي توفَّر في المدينة. ب- إنَّ قيام الجمعة وجماعة الصلوات مُرتَهن بوجود المجتمع الإسلامي الذي أقامَتْه الدولة الإسلاميَّة في المدينة. 6- بَيْعة العقبة الثانية: كانت (بَيْعة العقبة الثانية) من ثمرات الجهود المُخلِصة التي قامَتْ بها الطَّلِيعة المُؤمِنة في (يثرب)؛ ففي العام الذي تلا بَيْعة العقبة الأولى، وعند مكان العقبة، وفى جوف ليلة من ليالي التشريق التَقَى برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثةٌ وسبعون رجلاً وامرأتان من نسائهم، وحضَر هذا الاجتماع العبَّاس بن عبدالمطلب عم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان لا يَزال مشركًا - ولكنَّه حمايةً لابن أخيه، ودِفاعًا عنه، أراد أنْ يستَوثِق من نُصرَة الأنصار للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ولقد قال الأنصار للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: خُذْ لنفسك ولربِّك ما أحببتَ. وتكلَّم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فتَلا القرآنَ، ودعا إلى الله، ورغَّب في الإسلام، ثم قال: ((أُبايِعكم على أنْ تمنَعُوني ممَّا تمنَعُون منه نساءَكم وأبناءَكم)). فأخَذ البراء بن معرور بيَدِه ثم قال: نعم، والذي بعَثَك بالحق لنمنعنَّك ممَّا نمنع منه أُزُرَنا (يعنى: أعراضنا) فبايِعنا يا رسول الله؛ فنحن أهلُ الحرب، وأهل الحلقة (درع الحرب)، ورِثناها كابرًا عن كابر (عظيمًا عن عظيم). ثم أخَذ أبو الهيثم بن التيِّهان (رجل من الأنصار) بطرفٍ من الحديث قائلاً: "يا رسول الله، إنَّ بيننا وبين الرجال (يعنى: يهود يثرب) حبالاً (عهودًا) نحن قاطِعُوها، فهل عصَيْت إنْ نحن فعلنا ذلك، ثم أظهَرَك (نصَرَك) الله أنْ ترجع إلى قومك وتدعنا؟"، فأجابه رسول الله مبتسمًا: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنتم منِّي وأنا منكم، أُحارِب مَن حارَبتُم، وأُسالِم مَن سالَمتُم)). (الهدم: ضَياع دم القتيل هدرًا، والمعنى: أنَّ المعاهدة بيننا وثيقة وثيقة، حيث إنَّ مَن أراد دماءكم فقد أرادني، ومَن أهدَرَها فقد أطل دمي). ثم تناول الحديث العباس بن عبادة من الأنصار فقال: "يا معشر الخزرج، أتعلَمُون عَلامَ تُبايِعون هذا الرجل؟! إنَّكم تُبايِعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإنْ كنتم ترَوْن أنَّكم إذا نهكت أموالكم مصيبةً، وأشرافكم ***اً أسلمتُموه، فمن الآن فدَعُوه، فهو والله إنْ فعلتُم خزي الدنيا والآخِرة، وإنْ كنتُم ترَوْن أنَّكم وافون له بما دعَوْتموه إليه على نهكة الأموال، و*** الأشراف - فخُذوه؛ فهو والله خير الدنيا والآخِرة". فقالت الأنصار: إنَّا نأخُذه على مصيبة الأموال و*** الأشراف، فما لنا يا رسول الله إنْ نحن وفينا بذلك؟ فأجابهم الرسول: ((الجنة)). وكانت هذه البيعة في العام الثاني عشر من بعثته صلَّى الله عليه وسلَّم. (يتبع) الهجرة المحمدية حدث غير وجه التاريخ (3) لماذا المدينة؟ وهذا سؤالٌ يُراوِد الأذهان، وهو: لماذا اختار رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه - المدينةَ مكانًا لهجرته؟ إنَّ بعض المستشرقين ومَن ورَد آبارهم الآسِنة السامَّة، يُدلُون بأسباب لا تتَّسع هذه العجالة لأنْ نُعاسِرهم الحسابَ عليها، فالقول بجودة تربة المدينة ووَفرة ثمارها، ليس مُبرِّرًا للهجرة إليها، فقد يكون الغِنَى والترف صارِفين عن سبيل الله، كما بيَّن القرآن في غير موضعٍ، والقول بوجود قَرابَة للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المدينة يُجاب عليه بأنهم لن يكونوا أمسَّ رحمًا، ولا أقوى آصرةً من ذوي قرابته بمكة، وقد كان من عمِّه أبي لهب وأمثاله ما هو معروفٌ مشتهر. لكنَّنا قبلَ أنْ نستمرَّ في سرد مثل هذه الأقوال وتفنيدها، ونُعاوِد النظر في السؤال القائل: لماذا اختار الرسول المدينة؟ ونقطة البدء في الإجابة: إنَّ اختيار المدينة ليس من عند الرسول - صلوات الله عليه - بدايةً، وليس استجابةً لطلب نفرٍ من أصحابه، وليس رأيًا اقتَرَحه عليه إنسان، ولو أنَّ أهل مكَّة جميعًا أرادوا إخراجه، وقام أهلُ المدينة أجمعون بأسيافهم حرَّاسًا له وحماةً على طريقٍ ذلَّلوها تذليلاً، وفرَشُوها له بُسُطًا وورودًا - ما تحرَّك من مكانه شبرًا واحدًا، ما لم يَأذَن له ربُّ العالمين. وإذًا؛ فإنَّ السُّؤال يجبُ أنْ يكون: لماذا اختارَ أحكَمُ الحاكمين المدينةَ مَهجرًا لخاتم أنبيائه ورسله؟ وكلُّ فعلٍ لله له حِكَم بالغات: منها ما يُدرَك بَداهةً، ومنها ما تَتفاوَت العقول في طلبه، ومنها ما تقصر عقول الخلائق عن إدراكه. ومن بعض ما تُدرِكه عقولُنا في أسباب اختِيار المدينة ما يلي: 1- كلُّ ما ذكَرناه من (مقدمات الهِجرة وبَشائِرها) كانت أسبابًا صنَعَها الله لنبيِّه؛ لتكون المدينة دار هجرته، ومهجرًا لأصحابه. 2- كان من تقدير العليم لهذه الدعوة أنْ جعَل أعداءَها ألسنةً تُهيِّئ البيئة لها، وتفصيل ذلك: أنَّ اليهود كان إذا وقَع بينهم وبين أهل (يثرب) خِصام أو قتال كانوا يقولون لهم: "إنَّ نبيًّا مبعوثًا قد ظلَّ زمانه، سنتبعه ون***كم معه ***َ عاد وإرم". 3- لما قدم بعض اليثربيِّين إلى مكَّة في موسم الحج قبلَ بَيْعة العقبة الأُولى، وسمعوا من الرسول ما يحدث من وحي الله إليه، التَفَت بعضُهم إلى بعضٍ وقالوا: "وتعلمون والله إنَّه لَلنبيُّ الذي توعَّدَكم به يهود فلا يسبقنكم إليه". وأجابوا الرَّسولَ إلى ما دَعاهُم إليه من الإسلام، وقالوا: "إنَّا ترَكنا قومَنا، والقوم بينهم من العداوَة والشرِّ ما بينهم، فعسى أنْ يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فنَدعُوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدِّين، فإنْ يجمَعهم الله عليك فلا رجل أعز منك..."، وتتابعت الأسباب. وما دمنا قد علمنا أنَّ الهجرة إلى المدينة كانت أمرًا من الله ووحيًا، فعلينا أنْ نتدبَّر قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، وقوله - سبحانه -: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ... ﴾ [القصص: 68]. الهجرة بين أسبابها الحقيقيَّة وسببها المباشر يظنُّ بعض الناس أنَّ مُؤامَرة قريش على الرسول - صلوات الله عليه - كانَتْ هي الباعث الوحيد والسبب الفريد لهجرة الرسول نَجاةً بنفسه من كيد قريش ومكرها، ونحن نرفُض هذا للأسباب الآتية: 1- أنَّ المؤامرة المعروفة على حَياة الرسول لم تكن هي الأُولى طوال ثلاثة عشر عامًا، بل سبقَتْها مؤامرات ومُحاوَلات: لِخَنْقِه ساجدًا، ولتَحطِيم رأسه مصليًا، ول***ه في داره أو دار الأرقَم بن أبى الأرقَم كما حاوَل عمر بن الخطاب قبل أنْ يُسلِم، فلو كانت الهجرة نجاة بشخصه لنجا بنفسه بعد فشل محاولةٍ من هذه المحاولات. 2- أنَّ أقرب الناس إليه - وهو عمُّه أبو لهب - عالَنَه بالوعيد والتهديد في أوَّل سنوات الدعوة بقوله: "تبًّا لك - أي: هلاكًا لك - يا محمد، ألهذا جمعتنا؟!"، ولم يفتَّ هذا في عضده - صلَّى الله عليه وسلَّم. 3- كانت سنوات الحِصار الذي ضربَتْه قريش على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأتباعه وعشيرته أنسَبَ السنوات للهجرة، لو أنَّ أمرَ الهجرة كان بيده - صلَّى الله عليه وسلَّم. 4- أنَّ الله - سبحانه - قد أخبره بأنَّ كلَّ مُؤامَرات المشرِكين في خُسران؛ لأنَّهم حين يَمكُرون به فإنَّ الله يَمكُر له ويَمكُر بهم، كما بيَّنَتْ ذلك فيما بعدُ آية الأنفال المدنية: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]. 5- أنَّ حياة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - رغم كلِّ المخاطر التي كانت تُحِيط به - لم تكن مُهدَّدة ألبتَّة لشيءٍ واحد جعَلَه في منعة منيعة، وعزَّةٍ كاثرة كاثرة، وثقةٍ ثابتة ثابتة، وأمنةٍ لا يأتيها الفزَع من بين يديها ولا من خلفها، هذا الشيء هو الذي جاءَ بيانُه في قول الله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67]. ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 32- 33]. ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]. هذه الآيات وغيرها لا أقول: تتضمَّن فقط الوعدَ من الله - سبحانه - لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالنصر والتأييد، بل إنَّ هذه الآيات قد نزَلت في المدينة وقد شاهَد من نصر الله له ما يجلُّ عن الوصف، وشاهد من خزي الله لأعدائه ما يَنشَرح له صدرُه، وهذه الآيات لو تدبَّرتها مليًّا لوجدتَ نفسَك أمام فتحٍ من الهداية، وكنوزٍ من الإيمان. 6- إنَّ المؤامرات، ومُحاوَلات قتْل الرسول لم تتوقَّف بعد الهجرة؛ فقد حاوَل يهود بنى النضير ***َه بحجرٍ، ودسَّت له يهوديَّة من خيبر السم في شاة، ولم تكن جراحاته في (أحد) إلاَّ محاولة فاشلة ل***ه - صلوات الله عليه، فدَتْه كلُّ نفس مؤمنة - إلى غير ذلك من المحاولات، فلو كان يُفكِّر في النجاة بشخصه لَهاجَر من المدينة أيضًا. 7- أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لأصحابه: ((قد أُخبِرت بدار هجرتكم وهى يثرب، فمَن أراد الخروجَ فليخرج إليها))، وهذا القول منه - صلوات الله وسلامه عليه -: ((قد أُخبِرت...)) يَقطَع لنا بأنَّ أمرَ المسلمين بالهجرة أمرٌ ربانيٌّ وتقديرٌ رحمانيٌّ. 8- بعد هذا الإذن السابق خرَج المسلمون إلى المدينة مُهاجِرين، وكان أكثرهم يكتم هجرته خوفًا من أذى المشركين، وهاجَر عمر - رضِي الله عنه - علانيةً، في مشهدٍ أرغَمَ الله به أنوف المشركين، ولم يَبْقَ في مكة إلاَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر وعلي، أو معذَّب يمنَعُه السجن، أو مريض أثقَلَه مرضُه عن الخروج. أمَّا أصحاب الأعذار فإنَّ أعذارهم منعَتْهم من الهجرة. وأمَّا (أبو بكر) فاستَأذَن رسول الله فلم يأذَن له؛ لأنَّه يدَّخره لصحبته، كما قال له: ((لا تَعجَل؛ لعلَّ الله يجعل لك صاحبًا)). وأمَّا (علي) فقد استَبقَاه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمهمَّة. وأمَّا الرسول - صلوات الله عليه - فقد علم أنَّه - ولا شكَّ - مهاجرٌ من أوَّل أيَّام الدعوة.. ولكن متى اليوم؟ لا بُدَّ من الأمر الذي يأتي به الوحي. (يتبع) الهجرة المحمدية حدث غير وجه التاريخ الحلقة الرابعة المؤامرة كانَتْ بَيْعة العقبة الثانية تتضمَّن عهدًا من الأنصار بنُصرَة رسول الله ومُظاهَرته، حتى لقد قال العبَّاس بن عبادة الأنصاري للرسول بعد أنْ أتَمَّ البيعة: "والله الذي بعَثَك بالحق إنْ شِئتَ لنَمِيلنَّ على أهل مِنى غدًا بأسيافنا"، فأجابهم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائلاً: ((لم نُؤمَر بعدُ، ولكن ارجِعُوا إلى رِحالكم)). ونَمَتْ أخبارُ هذه المعاهدة إلى قريش، وكانت أوَّل الأمر في شكٍّ منها، ولكنَّها استَوثَقَتْ وبانَتْ لها جلية الأمر، فطارَ صَوابها وداخَلَها من الأمر هَمٌّ عظيم، وأضحَتْ أمامَ مرحلةٍ خطيرةٍ من مراحل صِراعِها مع النبيِّ وأصحابه. واجتمع القرشيون يُفكِّرون في كيفيَّة التخلُّص من (صاحبهم) الذي يُرِيد أنْ يطمس على وثنيَّتهم، وأنْ يُجلِّي - بمدد الله - آيةَ الحق مبصرة. ووَجدَتْ قريش أنَّ سجنَ الرسول أو نفيَه من الأرض، لا يَحُول دون خطَرِه الذي إنْ تُرِك دون مقاومةٍ استَأصَل شأفةَ باطلهم. وقادَهم الهوى الأعمى والشيطان الغَرُور إلى أنْ يختاروا من كلِّ قبيلة شابًّا فتيًّا جلدًا، وأنْ يمنحوهم سيوفًا باترة ليَضرِبوا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضربةَ رجلٍ واحدٍ فيتفرَّق دمُه في القبائل، ثم لا يقدر بنو هاشم على حرب قومهم جميعًا قصاصًا ل*** الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيرضون بالدية فتُعطَى لهم. وأحاط الفتية المأجورون بدار رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَرقُبونه، وينتظرون خروجه... وخرج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مارًّا بينهم، وهم قِيامٌ يَنظُرون، ولكنَّ الله أغشاهم فهم لا يُبصِرون، وذهَب إلى دار أبي بكرٍ، وكان قد أعلَمَه قبل ذلك بساعاتٍ بما سيَكُون من أمرهما، وأَوْصاه بالكتمان. الأمانة... والساعات الحالكة: كان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَثَلاً أعلى للأمانة، فكان بعض المكيِّين يجعَلُونه أمينَ ودائعهم ومستودع أموالهم، ولم يتزَحزَح رسولُ الله رغمَ الأخطار التي كانَتْ تَحُوطُه عن القِيام بهذا الواجب الإنساني النبيل. وأُذِن للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالهجرة، وعندَه هذه الودائع، ولا بُدَّ من أداء هذه الأمانات إلى أصحابها، وبعضُهم من المشركين، ولكنها الأمانة، ومكَّة آذَتْه وأخرجَتْه، وأصحابه قد تركوا خلفَهم ديارَهم، وأمتعتَهم، وأموالَهم، ولكنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أرفَع من الحِقد، وأنزَه من أنْ ينتَقِم إلاَّ بالحق والعدل. ولكن مَن يُؤدِّي هذه الأمانات إلى المكيِّين؟ إنَّه ربيبُه، وحبيبُه، وابنُ عمِّه علي رضِي الله عنه. الفدائيَّة... والموت متربِّص: نامَ الفتى (علي) على فراش النبيِّ المُفتَدى، وتسجَّى ببُردِ النبيِّ الحضرمي الأخضر، وأحاطَتْ به تسعةُ سيوف صقيلة بَتَّارَة يدفَعُها هوس حاقد، ويحضُّها كفرٌ أعمى، وكلَّما مرَّت بهم برهة نظَرُوا إلى سيوفهم الظامئة إلى الدم، واستبطَؤُوا خروجَ النبي، ويتقدَّم أحدُهم في تُؤدَة مُصطَنعة ليَنظُر من فرجةٍ، فيرى الراقد المسجَّى في بُردِه الأخضر، ويَتراجَع ليطمئن أصحابه أنهم لم يخطئُوا بُغيَتهم، ويمرُّ وقتٌ آخَر، وتتكرَّر مراجعة النَّظر، ومعاودة الأمل، النائم هانئٌ قرير العَيْن، والقتَلَة في اضطرابٍ وقلق، وأمَّا بُغيَتهم فما إلى نَيْلها من سبيل! وطلَع الفجر، وساءَ صَباح المشركين، وأنعِم بصَباح المؤمنين! وكان فجرًا يَحمِل بشائر الخير للأرض كلِّها. وأمَّا (علي) الذي باتَ المشركون يحرسونه وهم لا يَشعُرون، فقد أدَّى الودائع وبلَّغ الأمانات، ثم أخَذ طريقَه ليَلحَق بمجتمع الخير والهدى والرشاد. الرحلة: ذهَب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى دار أبي بكرٍ، وكان أبو بكرٍ قد أعدَّ راحلتَيْن ارتِقابًا لهذا الأمر، فاشتَرَى رسول الله من أبي بكرٍ إحدى الراحلتين بالثمن، وأبى أنْ يتقبَّلها هديةً من أبي بكرٍ ليكون له أجرُ الهجرة بنفسه وماله، وخرَج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من بابٍ صغيرٍ خلف دار أبي بكرٍ، ومعه أبو بكر؛ إمعانًا في السرِّيَّة والتكتُّم. حنين ووفاء: ورغم كلِّ ما نالَتْ به مكَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أذًى وتضييق، وانتَهَى بها الحقدُ إلى التآمُر على حياته، رغم ذلك وقَف عند مغادرته لها متَّجهًا إلى البيت الحرام، مُخاطِبًا مكة: ((والله إنَّك لأحبُّ بلاد الله إلى الله، وإنَّك لأحبُّ أرض الله إلَيَّ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني لما خرجتُ)). هكذا، وفي هذه اللحظة التي هي من أحرَجِ لحظات الحياة لم يتكلَّم إلا بالخير، وما تكلَّم بغيره قط، ولم يعرف إلا الوفاء، وهو خُلقُه الدائم، تنزَّه عن الحِقد في لحظةٍ يُعذَر فيها إذا حقد، وترفَّع عن التعبير الأليم، والألم مُفتَرض في هذا الموقف وأشباهه. الثقة بالله لا تُنافِي الحيطة: مع أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبه كانا في ثقةٍ واثقةٍ ومعيَّة كاملة لله ربِّ العالمين، إلاَّ أنَّ ذلك لم يمنَع من أخذ الأُهبَة الكاملة، والحيطة البصيرة، وتتمثَّل فيما يلي: 1- الخروج سرًّا، وفي جُنح الظلام. 2- الخروج من خوخة في بابٍ خلفي لدار أبي بكر. 3- سلوك طريقٍ غير مألوفة للسائرين. 4- القصد إلى غارٍ بجبل ثورٍ، والمكوث به ثلاثةَ أيَّام للتعمية، ولتحيير أهل الشِّرك، وحتى تفتر حدَّة الطلب. 5- أخْذ الطعام والزاد قبل الهجرة. 6- تَأمِين وصول الزاد يوميًّا بما كان يَفعَله عامر بن أبي فُهَيرة، من رعي الغنم وحلب ألبانها قُرب الغار مع تَعمِية الأثر. 7- وصول أخبار مكَّة يوميًّا إلى الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجمَعُها عبدالله بن أبي بكرٍ، ويُبلِّغها ليلاً في حيطةٍ وسريَّة. 8- قِيام أبي بكرٍ بتفقُّد الغار، وتفتيشه قبل أنْ يدخله الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم. 9- استِئجار عبدالله بن أُرَيقط، وكان رجلاً عليمًا بالدُّروب والمسالك بين مكَّة والمدينة؛ أي: كان - كما قيل -: (هاديًا خرِّيتًا)، وهذا من تَوسِيد الأمور إلى أهلها، والعجيب في الأمر أنَّ ابن أُرَيقط هذا كان مُشرِكًا، وكان عَطاء قريش لِمَن يدلُّها على الرسول مائة ناقة، ومع هذا فإنَّ (شرف المهنة) وما بقي عند العربي من قِيَمٍ أبَيَا عليه أنْ يتَّصِف بوصمة الخيانة. 10- كان أبو بكرٍ يَسِير خلفَ الرسول تارةً، ومن أمامه تارةً، وعن يمينه تارة، وعن شماله تارة، فسأله الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن سرِّ ذلك، فقال: يا رسول الله، أتَذكَّر الرصد فأكونُ من أمامك، وأخشى الطَّلب فأكون من خلفك، وأخاف الكمين فأكون عن يمينك وعن يسارك. من حديث الغار: آوَى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع صاحبه إلى (غار ثور) حتى تفتر شراسة الطلب، وخرَج المشركون في طلبه، يتقدَّمهم الفتية الذين كانوا يُحاصِرون الدار، وغادَرَها الرسولُ أثناء الحِصار، فجعَلَهم أضحوكةً لأهل مكة، وجعَل من كفاءتهم ملهاة للساخِرين، كان الحقد على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يغلي في صُدورهم كغلي الحميم، وكانت الرغبة في تَعوِيض الفشل تستعر في أعماقهم. وأعلنَتْ قريش عن عطاءٍ قوامه مائة ناقة لِمَن يدلُّها على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتفرَّقت في الطُّرقات المؤدِّية إلى المدينة - المأهولة وغير المأهولة - تَطلُبه، واستَعمَلت وسائل عَصرِها في البحث عنه؛ ومنها: (قصاص الأثر)، ووصَل المتربصون الآثِمون إلى الغار، وكانت كلُّ الدلائل البشريَّة تَقطَع بأنَّ محمدًا وصاحبه في الغار، وكانت كلُّ الدواعي تقضي - وهم جمع غفير - أنْ يتقدَّم بعضهم إلى دخول الغار، وتقدَّموا جميعًا وأحاطُوا بالغار حتى قال أبو بكر: "والله يا رسول الله لو نظَرُوا تحت أقدامهم لرأونا". قالها أبو بكرٍ في خوفٍ، فمَن الذي منَعَهم أنْ يَنظُروا؟ وما الذي صرَف أبصارَهم؟ وبماذا أجابَ الرسول صاحبَه؟ فأمَّا روايات لا يَثبُت سندها فنقول: إنَّ المشركين وجَدُوا شجرةً ذات ثمرٍ أبيض يستَخدم في حشو الوسائد، قد مالَتْ بأغصانها البيض على فتحة الغار، ونسَج العنكبوت خيوطه وباضت حمامتان عند فوهة الغار - وتزعم الرواية أنَّ حمام الحرمين كلَّه من نسل هاتين الحمامتين - وأنَّ هذا المَنظَر هو الذي صرَف المشركين عن دخول الغار، قائلين: "إنَّ هذا العنكبوت أقدم من ميلاد محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم". ونظرتنا إلى هذه الرواية أنها لم تَثبُت في المصادر التي يُعوَّل عليها، ولو ثبتَتْ لتلقَّيناها مؤمنين بأنَّ "قدرة الله فوق الشك والتُّهَم"، قائلين: "آمنا به، كل من عند ربنا"، أما وإنها لم تَثبُت فنحن منها في حلٍّ، وعلينا أنْ نلتَمِس إجابات الأسئلة التي طرَحناها - منذ قليل - من كتاب الله، في قوله - تعالى -: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]. فانظر إلى درجة اليَقِين التي كان عليها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ﴾ وتأمَّل حالة الثقة والطمأنينة: ﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾ وقِفْ طويلاً متدبرًا متمعنًا: كيف يكون الجنودُ من عالم الغيب؟ ﴿ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾. وصدَق مَن قال: لَوْلاَ يَدُ اللهِ بِالْجَارَيْنَ مَا سَلِمَا ** وَعَيْنُهُ حَوْلَ رُكْنِ الدِّينِ لَمْ يَقُمِ (يتبع) الهجرة المحمدية حدث غير وجه التاريخ الحلقة الخامسة والأخيرة نهاية الرحلة ثم وصَل الرَّكب العظيم إلى المدينة تَحُوطُه عناية الله، وتَحمِيه معيَّته، وتُؤيِّده جنود (لم تروها) فقُوبِل بأكرَمِ ترحاب. وكان أوَّل عملٍ قام به الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَوْرَ وصولِه أنْ أقام المسجد، ليكون مثابةً للمؤمنين، ومعقلاً للحق، ومنارةً للهداية. وآخَى بين المهاجرين والأنصار مُؤاخاةً لم يُعرَف مثلها في التاريخ قطُّ حتى قام على أساسها الميراث، إلاَّ أنَّه نسخه القرآن بقوله - سبحانه -: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ [الأحزاب: 6]. نتائج الهجرة: 1- إذا كان يوم المبعث بدْء (الدعوة الإسلاميَّة)، فإنَّ يوم الهجرة هو بدء قِيام (الدولة الإسلاميَّة). 2- كانت الهجرة بدء تحوُّل فاصل في تاريخ الإسلام، فأصبح للمسلمين (وطن)، وقد كانوا من قبل - كما وصفهم القرآن - ﴿ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ... ﴾ [الأنفال: 26]. 3- شُرِع الجهاد بعد الهجرة، ولم يعد المسلمون مُستَضعَفِين في الأرض، بل أصبح عليهم أنْ يردُّوا الصاع تأديبًا للمُجرِمين كما أمَرَهم - سبحانه -: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ [التوبة: 123]. 4- لم تكن المدينة وطَنًا للمسلمين فقط، بل صارت قاعدةَ انطلاقٍ ضد أعداء الله في مكة وغيرها. 5- حقَّقت الهجرة عالميَّة الدعوة؛ فقد كان الحصار المضروب حول الدعوة في مكَّة حائلاً دون ذلك، فمن المدينة أرسل الرسول رسلَه وكتبَه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. 6- جعَل الله التناصُر في الدِّين على أساس الهجرة؛ كما قال - سبحانه -: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ﴾ [الأنفال: 72]. 7- في المدينة نزَلت الشريعة وطُبِّقت، ولم يكن ذلك مُستَطاعًا في مكَّة؛ إذ كيف كان يستطاع في مكة قطع يد السارق، أو رجم الزاني أو جلد القاذف أو الشارب؟! 8- عرف المسلمون في المدينة حريَّة العقيدة والعبادة لأنفسهم، ولغيرهم، كما كان من معاملة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لليهود معاملة سمحة، لكنهم عبَّروا بتصرُّفاتهم كلها مع المسلمين عن لؤم الطباع وخسَّة النفوس. هذه بعض نتائج الهجرة، سُقناها في إيجاز عَجُول، وهي آثار ونتائج لم تكن ذات أثَر في تغيير تاريخ الجزيرة العربيَّة أو منطقة الشرق الأوسط وحدَها، بل كانت لها الآثار التي غيَّرت وجهَ التاريخ الإنساني كلِّه، حين قامَتْ للمسلمين دولةٌ واحدة حكمت جُلَّ المعمورة، وبسَطَتْ سلطان الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. التاريخ بالهجرة: امتنَّ الله على عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - بنفسيَّة الرائد الوثَّاب، وعقليَّة المِقدام الطُّلَعة، ورأى الإمام حولَ المسلمين كل أمَّة لها تاريخ تُؤرِّخ به أعوامها، وتاريخ هذه الأمَّة يرتبط بحادثةٍ لصيقة بهذه الأمَّة أو يتعلَّق بمعنى خاص بهذا الشعب، وعمر يُدرِك أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة لا تَقتات من مَوائِد الآخَرين، ولا تَسِير على دروب غيرها، فلا بُدَّ لها من تاريخٍ تُنظِّم به أوقات أعمالها، ولا بُدَّ أنْ يكون هذا التاريخ مُعبِّرًا عن أصالة الأمَّة الإسلاميَّة، صادرًا من مَنابِعها العَذبة. ومرَّت أحداثٌ بعمر جعلَتْه يعجل بما يدور في خلده، وما طمحت إليه خواطره. فهذا دائنٌ يشكو إليه مُماطَلة غريمة في دينٍ له عليه، ودفع الدائن إلى عمر بالوثيقة المثبتة لهذا الدين، وفيها أنَّ أداءه يحين إلى فلان في شعبان، فقال عمر: أيّ شعبان: الذي مضى، أم الذي نحن فيه، أم شعبان الذي هو آتٍ؟ وروى أبو موسى الأشعري شكاية عمَّال عمر إليه حول هذا الأمر فقال: "كتب إلى عمر عمَّاله أنَّه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ..."، إزاء هذه المشكلة جمَع عمر أصحابَ الرأي من المسلمين وعرَض عليهم الأمر، "فقال بعضهم: أرِّخ بالمبعث، وقال بعضهم: أرِّخ بالهجرة"، فقال عمر - رضِي الله عنه -: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل"، فأرَّخوا بها. وفي ذلك يقول السهيلى (من كبار شرَّاح السيرة النبوية): "فاتَّفَق رأيُهم أنْ يكون التاريخ من عام الهجرة؛ لأنَّه الوقتُ الذي عَزَّ فيه الإسلام، والذي أمر فيه النبي (أي: عزَّ أمره)، وأسس المساجد، وعبَد اللَّه آمِنًا". وهنا مَلحَظٌ عظيم يجب أنْ نلتفت إليه، وهو أنَّ المقترحات دارَتْ حول التاريخ بالمبعث أو بالهجرة، وهذا يَهدِينا إلى أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة أمَّة عقيدة ورسالة ومبدأ. فما من جيلٍ أحبَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما أحبَّه أصحابه، لكنَّه حبُّ الراشدين، لقد كان الواحد منهم يحبُّ رسول الله أكثر من والده وولده ونفسه التي بين جنبَيْه، وكان افتِداؤهم للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنفسهم وأموالهم أحبَّ إليهم ممَّا طلعتْ عليه الشمس. لكنَّهم لم يطروه كما أطرَت النصارى المسيح ابن مريم، ولم يُؤرِّخوا بمولده، بل أرَّخوا باليوم الذي أعزَّ فيه رسالته، وذلك هو الفَهم السديد والرَّشاد الأرشد. فهموا أنَّ رسول الله ما جاء يَدعُوهم إلى نفسه، بل إلى عبادة ربِّه، ولم يدعهم إلى إقامة ملكٍ له، وإنما إلى إقامة دين الله القيِّم في أرض الله كلها، كما هو وعد الله لهم: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]. وكان التفكير في التاريخ بالهجرة بعد سبعة عشر عامًا من هِجرة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في خلافة عمر، والهجرة كانت في ربيع، فاتَّفقت الكلمة أنْ يكون البدء بالمحرم؛ لأنَّه أوَّل السنة، وأنْ يكون عام هجرة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوَّل أعوام التاريخ الإسلامي. هذه خُلاصةٌ لأحداث هِجرة سيِّد ولد آدم - صلوات الله وسلامُه عليه - نسأل الله العليَّ القدير أنْ يجعَلَنا ممَّن يهتَدُون بهديِه، ويستنُّون بسنَّته، ويُحشَرون تحت لوائه، وأنْ يُرِينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، وأنْ يريَنا الباطلَ باطلاً ويرزقنا اجتنابه. وآخِر دَعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________________
اصنع المعروف .. واخدم الآخرين و اعلم ان حاجة الناس إليك نعمة .. وأن أحسن أيامك يوم تكون مقصوداً لا قاصداً .. ومحبة الخير للآخرين كما تحبه لنفسك .. |
#2
|
|||
|
|||
جزاك الله خيرا
|
العلامات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|