مراد قنديل
01-07-2009, 05:17 PM
تُظلنا هذه الأيام ذكرى الإسراء والمعراج، إحدى معجزات النبوة وحقائق الرسالة، فيها أُسري فيها بالرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن هناك عُرج به إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، حيث التقى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء فتحقق الرباط الزماني والمكاني، وهناك رأى الرسول- صلى الله عليه وسلم- من آيات ربه الكبرى.
تمر علينا الذكرى والأمة من ضعف إلى هوان، والأقصى أسير تحت أيدي اليهود، والمقدسات يُعبث بها، وأرض الرسالات ومهد الأنبياء تدوسها أقدام المحتل، وتنتهك حرمات أهلها أيدي الغاصبين، تأتي ذكرى الإسراء والمعراج وقد أصبح الجهاد إرهابًا، والإرهاب والاحتلال الصهيوني مشروعًا، والتبس الحق بالباطل على كثير من الناس، كيف لنا أن نحيا هذه الذكرى في ظل هذا الواقع الأليم؟!!
بين يدي الاحتفال
جاء في (لسان العرب) لابن منظور عن مادة (ح. ف. ل): (حَفَل الماء واللبن يحِفل حَفْلاً وحُفُولاً وحَفيِلاً (اجتمع)، والقوم حَفْلاً: اجتمعوا واحتشدوا، والسماء: اشتدَّ مطرُها وجدَّ دفعها، والدمع: كثر، والشيء: جمعه، والوادي بالسيل: جاء بملء جنبيهِ.
واحتفل الماءُ: تجمَّع، والقومُ اجتمعوا، والشيء: انجلى، والطريقُ: بان وظهر، والفرَس: ظهر لفارسهِ، واحتفل فيهِ: بالغ، وبالأمور: أحسن القيام بها، والوادي بالسيل: جاء بملءِ جنبيهِ، وما احتفل بهِ: ما بالى، ورجلٌ ذو حَفْلةٍ: أي مبالغٌ فيما أخذ فيهِ.
وفي (القاموس المحيط)- وجَمْعٌ (حَفْلٌ وحَفيلٌ:) كثيرٌ.
وفي (الوسيط)- احْتَفَلَ الشيءُ: اجتمع.. يقال: احتفل القومُ في المكان واحتفل اللبن في الضُّرع/ وظهر واستبانَ.. يقال: احتفل الطريقُ/ والمرأَةُ: تزينتْ/ وبالأمر: عُني به/ وبفلان: أكرمَه واهتم به.
واحتفل يحتفل ومصدره الاحْتِفَالٌ، يقال احتفل الشعب أي أقام احتفالاً، وبقائده أي كرمه، واحتفل المجلس بالناس إذا امتلأ بهم، واحتفل بالأمر أي بالغ فيه وعُني به، ويقال احتفى فلان بفلان غايةَ الاحتفاء إذا بالغ في إكرامه واحتفى به أكرمه واهتم به.
و(الحَفْلَةُ): الزّينَةُ (يقال: هو ذو حفلة) والاحتفال (يقال: أَقام له حفلة استقبال) والمُبالغةُ في الأمر والاهتمامُ به.
وعليه فإن الاحتفال في معناه العام يعني الاجتماع والاحتشاد والاهتمام والاعتناء بالشيء، وفي الإسراء والمعراج يكون الاحتفال معناه الاجتماع والاحتشاد والاهتمام، والاعتناء بهذه الذكرى العطرة، وذلك بذكر الرحلتين وما رأى فيهما النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مشاهد ورؤى، وتلمُّس العظة والعبرة والدروس العملية المصطفاة التي تفيدنا في واقعنا المعاصر.
صحيح أنه لم يرِد ولم يشرع فيها قيامٌ ولا في صبيحتها صيامٌ، وليس واجبًا أو مندوبًا أن يأتي المسلمُ فيها أو في صبيحتها بأي عمل تكليفي، أي من شأنه أن يكون المسلم مكلَّفًا به، لكن كل ما في أمر الإسراء والمعراج هو أنه حادث تواترت الروايات على وقوعه وحدوثه وثبوته، ومن هنا فالإسراء والمعراج حقيقة متواترة.
فهو حدث نبوي إسلامي وقع للنبي- صلى الله عليه وسلم- فشأنه لنا أن نأخذ منه العظة والعبرة والأسوة الحسنة ومدارسة حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- لننهل منها ما يعيننا على لأواء الحياة، وكيف كان الصبر رفيق النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان اليسر رفيق العسر، والفرج رفيق الكرب، وكيف أن هذا الحدث جاء بعد عام الحزن وبعد أن أصيب صلى الله عليه وسلم في قومه، وكيف أن الله أراد أن يسرِّي عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يكرِّمه بعد أن أعرض عنه الناس في الأرض وأعرضت عنه قريش وأعرضت عنه ثقيف بعد رحلته إلى ثقيف ولقي منهم ما لقي، كل هذا وهو يتفانى في تبليغ ما كلِّف به ابتغاء وجه ربه، بعد هذا أراد الله أن يكرِّمه فيصلي بالأنبياء إمامًا ويستقبله الملائكة ويستقبله النبيون والمرسلون في السماوات، ويعرج به إلى العلا، إلى مكان لم يصل إليه أحد من قبله.
يستوي أخذ العبرة من هذه الذكرى كما في مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما في هجرته، فالهدف مدارسة حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ العبرة والعظة والهدي الحسن..
من ثمرات الإسراء والمعراج
لم يرِد حديثٌ صحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا قولٌ صحيح لأحد الصحابة رضي الله عنهم يقول إن الإسراء والمعراج كان في شهر رجب، أقرَّ هذا الكلامَ خاتمةُ الحفَّاظ الحافظ بن حجر العسقلاني شارح البخاري، ولكنه قول اشتهر وقال به بعض أهل العلم ونُسِب إلى الإمام النووي؛ حيث اختاره في فتاواه، ومن هنا اشتُهر أن الإسراء والمعراج كان في شهر رجب، ومنهم من يقول إنه- أي الإسراء والمعراج- كان في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول.
كما قلنا فإن العبرة من سرد أو عرض أي حدث تاريخي- ولا سيما في تاريخ الإسلام، وبالأخص فيما هو من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم- هي استخلاص العبرة الحقيقية وأخذ العظة والعبرة واستخلاص ما يكون رصيدًا لما هو آتٍ في مستقبلنا.
وتتجلى ثمرات الإسراء العظيمة وتزدهي ولا تخلَق ولا تتبدَّد، فكثيرة وعظيمة تلك الفوائد والثمرات التي نجنيها من ذكرى الإسراء والمعراج والتي منها:
أولاً: الأقصى محور ريادة الأمة الإسلامية
لقد انتهى الإسراء أفقيًّا ببيت الله المقدَّس في أرض فلسطين، ثم ابتدأت منه رحلة المعراج، فكان المسجد الأقصى محورَ الرحلة المباركة مكانًا ومحورَها مكانةً كما سيأتي، ومع الأسف الذي يندى له الجبين انشغل الناس بكل القضايا على صغرها وضعف أثرها ونسوا أو تناسوا أهم القضايا وأُولى القضايا قضية المسلمين الأولى في هذا العصر، وهي قضية فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، الأرض المباركة، ولو لم يكن من ذكرى الإسراء والمعراج إلا تذكير الناس بالأقصى ومحاولة وضع الحلول العملية لاسترداده إلى ديار المسلمين لكفى.
ولعل من جلال أهمية هذا البيت المقدَّس أنه أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، ثالث ثلاثةِ مساجد تشد إليها الرحال، والذي صلى إليه المسلمون مدةً طويلةً من الزمن، ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ولم يكن من ضرب العبث أن يعرج الله بنبيه من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى دون أن يكون لهذا جدواه؛ حيث إن انتهاء الإسراء بالقدس في هذه الرحلة مقصودٌ، وابتداءَ المعراج به كذلك مقصودٌ فالعلاقة وثيقة بين المسجدين الحرام والأقصى.
فالمرور بالمسجد الأقصى كان مقصودًا، والصلاة بالأنبياء الذين استقبلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بيت المقدس، وأنه أمَّهم، كل هذا له معناه ودلالته، وهو أن القيادة قد انتقلت إلى أمة جديدة وإلى نبوة جديدة، إلى نبوة عالمية، ليست كالنبوات السابقة التي أرسل فيها كل نبي لقومه خاصة، هذه نبوة عامة خالدة لكل الناس، لكل العالمين، رحمة للعالمين، ولجميع الأقاليم ولسائر الأزمان، فهي الرسالة الدائمة إلى يوم القيامة، عموم هذه الرسالة وخلودها كان أمرًا لا بدَّ منه، وهذه الصلاة بالأنبياء تدل على هذا الأمر، والذهاب إلى المسجد الأقصى وإلى أرض النبوات القديمة، التي كان فيها إبراهيم، وإ**** وموسى وعيسى إيذانٌ بانتقال القيادة.. القيادة انتقلت إلى الأمة الجديدة وإلى الرسالة العالمية الخالدة الجديدة.. أمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا الربط بين المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى يُشعر الإنسان المسلم أن لكلا المسجدين قدسيتَه، فهذا ابتدأ الإسراء منه وهذا انتهى الإسراء إليه، وكأن هذا يوحي بأن من فرَّط في المسجد الأقصى يوشك أن يفرِّط في المسجد الحرام، ولو فرَّط في منتهى الإسراء يمكن أن يفرِّط في مبتدئه، أراد الله- سبحانه وتعالى- أن يرتبط في وجدان المسلم هذان المسجدان، المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأراد الله أن يثبت المسجد الأقصى بقوله الذي باركنا حوله، هكذا بهذا الوصف، وصفه بالبركة، وهذا قبل أن يوجد مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ لأن المسجد النبوي لم ينشأ إلا بعد الهجرة في المدينة، فأراد الله أن يوطد هذا المعنى ويثبته في عقول الأمة وقلوبها، حتى لا يفرِّطوا في أحد المسجدين.
ومن جميل شأن الأقصى أن له علاقةً وطيدة بفرضية الصلاة، فحينما فرضت الصلاة كان المسلمون يصلون إلى بيت المقدس، كان بيت المقدس قبلتهم ثلاث سنين في مكة وستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا في المدينة، صلوا إلى هذا المسجد.. إلى بيت المقدس، وبهذا كانت القدس هي المدينة الثالثة المعظمة في الإسلام بعد مكة والمدينة.
هكذا ينبغي أن يعي المسلمون أهمية القدس في تاريخهم وأهمية المسجد الأقصى في دينهم، وفي عقيدتهم وفي حياتهم، ومن أجل هذا حرِص المسلمون طوال التاريخ على أن يظل هذا المسجد بأيديهم.
وقد أراد الله تعالى أن يربط هذا المسجد بهذه الذكرى لنظل في كل عام كلما جاءت ذكرى الإسراء في أواخر رجب (أو ربيع الأول، أو حسبما اختلف المؤرخون في تحديد زمان الذكرى) ويحتفل بها المسلمون في كل مكان نتذكر هذا الأمر الجلل، هذه القضية الخطيرة، هذه القضية المقدسة.. قضيتنا الأولى.
فلا يمكن أيها الإخوة أن نفرِّط فيها، إذا كان اليهود قد حلموا بإقامة دولة واستطاعوا أن يحققوا حلمَهم، فعلينا أن نحلم نحن بأننا لا يمكن أن نفرط في مسجدنا، حتى وإن رأينا الواقع المرَّ يدفعنا إلى الاستسلام والهوان والانهزامية، فلا بد من أن نخلع ثوب الانهزامية ونحيا منتصرين.. مقاومين.
يجب أن نعتقد أن الله تبارك وتعالى معنا وأن الله ناصرنا وأنه مظهر دينه على الدين كله، وأنه ناصر الفئة المؤمنة، وكما روى الإمام أحمد والطبراني عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" فهذه هي العبرة الأولى من قصة الإسراء والمعراج.
الصلاة معراج المؤمنين
العبرة الثانية وهي عبرة باقية أيضًا ما دامت السموات والأرض، ألا وهي الصلاة؛ فقد فرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج، وكأن المسجد الأقصى ووراثة الخيرية والشرف على العالمين هي جائزة الإسراء والصلاة هي جائزة المعراج.
لقد فرضت الصلاة على رسول الله وعلى الأمة الإسلامية في هذه الليلة ولو كان الوحي كفيلاً بتبليغها لرسول الله لنزل بها جبريل، ولكنها عبادة ذات فضل عظيم وشرف كبير لم تنل هذا الشرف عبادة قبلها، تلقاها خير البشر من رب العالمين، وهناك فُرِضت عليه هذه الصلوات الخمس، فكل العبادات فُرِضت على الأمة نزل بها جبريل إلى الأرض موحيًا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة فقد تلقَّى النبي صلى الله عليه وسلم أمر تكليفها بنفسه من ربه، ليس بينه وبينه ملك ولا نبي.
ففرضية الصلاة في الملأ الأعلى وفي هذه البقعة المباركة من ملكوت الله لهو دليل على أهمية هذه العبادة وهذه الفريضة أو هذا الركن من أركان الإسلام، فالصلاة لهذا معراج المؤمن يعرج إلى ربه كل يوم خمس مرات يسأله ويناجيه ويشكو إليه ويستعين به ويتوكل عليه.
ومن عجيب أمر الصلاة أنها العبادة الوحية في الإسلام التي لا تسقط بأي حال من الأحوال، لا يُسقطها عن المسلم إلا أحد أمرين: إما الجنون أو الموت، وأمر ثالث خاص بالنساء وهو نزول الدم، أما غير ذلك فلا يمنع من الصلاة مانع، وتؤدَّى في أي مكان وبأي كيفية، قائمًا أو قاعًا أو نائمًا أو على جنب، لا يُسقطُها أي عذر حتى مَن فقَد الطهورين الماء والتراب فله أن يصلي بلا وضوء وليس عليه إعادة على رأي من رأى ذلك من الفقهاء.
ومن عجيب شأن الصلاة أنها أول ما يحاسب عنه العبد فإن سلمت الصلاة وكانت قد أقيمت بخشوع وخضوع وأحسن المصلي إقامتها وركوعها وسجودها ووضوءها فما بعدها أيسر وأهون وأصلح، وإن فسدت أو لم تكن قد أديت الأداء الأوفى وأقيمت الإقامة المثلى فهذا نذير شرٍّ لصاحبها.
ومن عجيب شأنها أيضًا أنها الفريضة الوحيدة في الإسلام التي يُضرب عليها الأطفال وهم دون سن البلوغ؛ حيث يأمر الإسلام أولياء الأمور أن يعلموا أولادهم الصلاة وهم أبناء سبع، وأن يضربوهم عليها وهم أبناء عشر، فما أروَعَه من إسلام يرى ضرب الأولاد على الصلاة وهم في العاشرة من أعمارهم عبادةً وتطوعًا إلى الله!!
فالصلاة معراج روحي لكل مسلم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عرج به إلى السموات العلا فلديك أخي المسلم معراج روحي تستطيع أن ترقى به ما شاء الله عز وجل، ألا وهو معراج الصلاة
اتفق علماء السيرة على أن معجزة الإسراء والمعراج كانت بعد ذهاب النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، وردِّهم له الردَّ المنكر، حتى إن النبي- صلى الله عليه وسلم- ليعتبر هذا اليوم أشدَّ من أهوال يوم أحد وما كان فيه، فقد ثبت في صحيح البخاري أن السيدة عائشة- رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله: هل أتى عليك يوم أشدّ من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على "ابن عبد ياليل بن عبد كلال" فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـ"قرن الثعالب"، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها "جبريل" فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم, فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ ثم قال: يا "محمد"، فما شئتَ؟ إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين.. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبده وحده لا يشرك به شيئًا".
ولقد تضرع الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى الله عقب خروجه من الطائف، وشكا إليه ضعف قوته وفقد النصير والمعين والوزير، فأمدَّه الله بحسن التدبير لدخول مكة آمنًا، ثم كان التكريم والترويح عن النفس والأُنس بلقاء الله في الإسراء والمعراج.
إن الأحداث التي وقعت في مكة ومحاولة حصار الدعوة في مهدها، ووقوف قريش حجَر عثرة في الطريق، وموقفه- صلى الله عليه وسلم- الصُّلب عرَّضه لعواصف عاتية وشديدة من البغضاء والافتراء، وأنزل بالمؤمنين أشدَّ ألوان الابتلاء، فما ذاقوا طعم الراحة منذ آمنوا به، وما استراحوا لحظة من ليل أو نهار.
إن رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم- لجانب من آيات الله في ملكوت السماوات والأرض له دلالاته القوية في تهوين شأن الكفر والكافرين، وتصغير جموعهم، واليقين في أن مآلهم وعقباهم إلى زوال.. (فقه السيرة).
ولقد صرحت الآيات إلى الحكمة من الإسراء، وهي أن المولى سبحانه يريد أن يُرِيَ عبده بعض آياته، فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1).
ثم صرحت آيات المعراج في سورة النجم أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- رأى بالفعل هذه الآيات الكبرى، قال تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم: 1- 18).
يقول بعض المفسرين في التعليق على هذا المطلع من السورة: نعيش لحظات في ذلك الأفق الوضيء الطليق المرفوف الذي عاشه موكب "محمد"- صلى الله عليه وسلم- ونرفرف بأجنحة النور المنطلقة إلى ذلك الملأ الأعلى، نعيش لحظات مع قلب "محمد"- صلى الله عليه وسلم- مكشوفةٌ عنه الحجب، مُزاحَةٌ عنه الأستار، يتلقَّى من الملأ الأعلى يسمع ويرى، ويحفظ ما وعى، وهي لحظاتٌ خُصَّ بها ذلك القلب المصفَّى، ولكن الله يمنُّ على عباده، فيصف لهم هذه اللحظات وصفًا موحيًا مؤثرًا، يصفها لهم خطوةً خطوةً، ومشهدًا مشهدًا، وحالةً حالةً حتى لكأنهم مشاهدوها".
من دروس الإسراء
ولقد كان الإسراء والمعراج امتحانًا للمسلمين وتنقيةً للصف، فحين أُعلن خبر الإسراء بين قريش فُتِن بعض الذي أسلموا وارتدّ مَن ارتد!! يقول الإمام "ابن كثير" فيما رواه عن "قتادة": "انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فأصبح يخبر قريشًا بذلك، فذكر أنه كذبَه أكثرُ الناس، وارتدَّت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصدِّيق إلى التصديق، وذكر أن الصدّيق سأله عن صفة بيت المقدس، وقال إنِّي لأصدقه في خبر السماء بُكرةً وعشيًا، أفلا أصدقه في بيت المقدس، فيومئذ سُمي "أبا بكر الصديق".
فالإسراء والمعراج حدث، وحدث غاية في روعته وفي إعجازه، ولكنها قدرة الله الذي لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، ومن دروس الإسراء والمعراج أنه اختبارٌ لصدق المؤمنين، وتمحيصٌ لصفِّهم وامتحانٌ ليقينهم، ولثبوت العقيدة في وجدانهم، فالحدَث فوق مستوى العقول البشرية، يحتاج إلى مؤمن صادق الإيمان، لا يُزعزع من يقينه أشدُّ الأحداث ولا أخطرها.
ولقد جاء الإسراء والمعراج قُبَيلَ الهجرة إلى المدينة، وترك الديار والأهل والوطن؛ ليكون اختبارًا للمؤمنين وتدريبًا لهم على حسن الاستجابة لله عز وجل، فهي مرحلة جديدة، كلها جهاد وكفاح في سبيل الله، يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحجرات: 15).
حتمية الجهاد
لقد كان الإسراء والمعراج إعلانًا عالَميًّا بأن خاتَم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- هو نبي القبلتين وإمام المشرقَين والمغربَين، ووارِث الأنبياء قبله، وقدوة الأجيال بعده ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان: 1).
ألا إنه أمر كبير وعجيب وخطير أن نتحدث عن الإسراء والمعراج ونكتبَ عنه، بينما أرض الإسراء والمعراج ومسرَى سيد الخلق- صلى الله عليه وسلم- ومصلاَّه بالأنبياء أسير، تحت سلطان اليهود، يفعلون بأهله الأعاجيب، يهدرون دماءهم، ويدمِّرون حياتَهم، ومشهد الآباء وهم يودعون الشهداء الأبرار من فلذات أكبادهم، وتبكي المنازل والشرفات وهي تشاهد موكب الشباب المؤمن محمولاً على أعناق الرجال إلى مثواه الأخير.
ألا إنَّ الأعجب من ذلك كله هو صمت العالم العربي والإسلامي وسكوته على هذه المجازر، وسكون الجميع سكون المقابر، وكأن الأمر لا يعني أحدًا، ألا إنَّه لأَمْرٌ كبير أن يموت الحِسُّ الإسلامي، وأن ينام وأن يغطَّ في النوم إلى هذا الحدِّ، ألاَ إنَّه لأَمر خطير أن تتجمَّد المشاعر، وأن تعيشَ الأمة العربية والإسلامية على الكثير من التفاهات، بل وتدمن عليها من خلافات في الرأي، واختلال في التوجه، صرفها عن الطريق الصحيح والهدف العظيم.
إن رسالة الإسلام الحنيف وإنَّ جهاد- النبي صلى الله عليه وسلم- وصحابته هي التي وهبت الحياة معناها الصحيح، وطعمها الأصيل، وما كان لأبناء هذا الدين العظيم أن يرضوا بالذل والهوان، ودستورهم الخالد يقرر ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 8) ورسولُهم- صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ أَعْطَى الذِّلَةَ مِنْ نَفْسِهِ طَائعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَلَيْسَ مِنِّي" (ضعيف جدًّا وِفْق تخريج الألباني).
إن الطريق الوحيد إلى المسجد الأقصى معروف، وأوضح من ضوء الشمس، وهو (الجهاد في سبيل الله) و(الاستشهاد من أجل إنقاذ الأمة)، والله عز وجل يقول: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج: 39)، وإن الذين يجاهدون في سبيل الله وفي سبيل نصرة المظلوم، وفي سبيل ردِّ البغي والعدوان، والاحتلال والإجرام هم وحدهم الذين تُوهب لهم الحياة (احرص على الموت توهب لك الحياة)، أما الذين يخذلون من يستغيث بهم في الشدائد والنوازل، ولا يستجيبون لنداء المظلوم فهم الذين يخرجون من هذه الدنيا غير مأسوف عليهم من أحد ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ (الدخان: 29).
نحتفي اليوم بذكرى الإسراء والمعراج ونحن على يقين من جلالها، فليتبع هذا اليقين الاعتقاد الجازم والإخلاص في تنفيذ تعاليم هذا الحق، عبادات ومعاملات وسلوكًا، فإنه لو تحقق العمل والإخلاص فينا لاستطعنا- بفضل الله- أن ننجح في كل جوانب الحياة، وأن نغلق منافذ اليأس وأبواب الفشل والضياع.
إن مسئولية الأمة- حكامًا ومحكومين- في هذه الفترة غاية في الخطورة، وإنَّ بيت المقدس- قلب العالم الإسلامي- وما حوله يَئِنُّ اليومَ أنين المظلومين والضارعين من تدنيس أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا.. يجب أن يشغل بال المسلمين اليوم أحوال المسجد الأقصى، وكيف نستعيده مرةً أخرى، نستعيد ما ضاع منا من أرض فلسطين بكل الوسائل، وعلى أية صورة، هذا هو الأمر الحتم والهمُّ الكبير، فهذا هو بدء الطريق، وكل من سار على الدرب وصل، هذه ذكرى من الذكريات كريمة، وآية من آيات الله عظيمة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37)، وإذا كانت قضية فلسطين هي قضية المسلمين الأولى وجرحهم النازف من القلب ومنذ أكثر من نصف قرن من الزمان، والدليل القاطع على موقف العالم الغربي الظالم والمنحاز ضد قضايا المسلمين، والضارب عرض الحائط بكل المبادئ والقيم والشعارات التي يرفعها من حرية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم جواز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة، ورفض العنصرية، وحق الشعوب في الكفاح المسلَّح؛ من أجل إزالة الاحتلال عن أراضيها.. كل هذه المبادئ يتنكَّر لها الغرب، ويقف داعمًا الاحتلال الصهيوني الإرهابي، العنصري الاستيطاني الدموي لأرض فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى، واليوم يكشف الغرب مرةً أخرى عن حقيقة مشاعره نحو الإسلام والمسلمين.
تمر علينا الذكرى والأمة من ضعف إلى هوان، والأقصى أسير تحت أيدي اليهود، والمقدسات يُعبث بها، وأرض الرسالات ومهد الأنبياء تدوسها أقدام المحتل، وتنتهك حرمات أهلها أيدي الغاصبين، تأتي ذكرى الإسراء والمعراج وقد أصبح الجهاد إرهابًا، والإرهاب والاحتلال الصهيوني مشروعًا، والتبس الحق بالباطل على كثير من الناس، كيف لنا أن نحيا هذه الذكرى في ظل هذا الواقع الأليم؟!!
بين يدي الاحتفال
جاء في (لسان العرب) لابن منظور عن مادة (ح. ف. ل): (حَفَل الماء واللبن يحِفل حَفْلاً وحُفُولاً وحَفيِلاً (اجتمع)، والقوم حَفْلاً: اجتمعوا واحتشدوا، والسماء: اشتدَّ مطرُها وجدَّ دفعها، والدمع: كثر، والشيء: جمعه، والوادي بالسيل: جاء بملء جنبيهِ.
واحتفل الماءُ: تجمَّع، والقومُ اجتمعوا، والشيء: انجلى، والطريقُ: بان وظهر، والفرَس: ظهر لفارسهِ، واحتفل فيهِ: بالغ، وبالأمور: أحسن القيام بها، والوادي بالسيل: جاء بملءِ جنبيهِ، وما احتفل بهِ: ما بالى، ورجلٌ ذو حَفْلةٍ: أي مبالغٌ فيما أخذ فيهِ.
وفي (القاموس المحيط)- وجَمْعٌ (حَفْلٌ وحَفيلٌ:) كثيرٌ.
وفي (الوسيط)- احْتَفَلَ الشيءُ: اجتمع.. يقال: احتفل القومُ في المكان واحتفل اللبن في الضُّرع/ وظهر واستبانَ.. يقال: احتفل الطريقُ/ والمرأَةُ: تزينتْ/ وبالأمر: عُني به/ وبفلان: أكرمَه واهتم به.
واحتفل يحتفل ومصدره الاحْتِفَالٌ، يقال احتفل الشعب أي أقام احتفالاً، وبقائده أي كرمه، واحتفل المجلس بالناس إذا امتلأ بهم، واحتفل بالأمر أي بالغ فيه وعُني به، ويقال احتفى فلان بفلان غايةَ الاحتفاء إذا بالغ في إكرامه واحتفى به أكرمه واهتم به.
و(الحَفْلَةُ): الزّينَةُ (يقال: هو ذو حفلة) والاحتفال (يقال: أَقام له حفلة استقبال) والمُبالغةُ في الأمر والاهتمامُ به.
وعليه فإن الاحتفال في معناه العام يعني الاجتماع والاحتشاد والاهتمام والاعتناء بالشيء، وفي الإسراء والمعراج يكون الاحتفال معناه الاجتماع والاحتشاد والاهتمام، والاعتناء بهذه الذكرى العطرة، وذلك بذكر الرحلتين وما رأى فيهما النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مشاهد ورؤى، وتلمُّس العظة والعبرة والدروس العملية المصطفاة التي تفيدنا في واقعنا المعاصر.
صحيح أنه لم يرِد ولم يشرع فيها قيامٌ ولا في صبيحتها صيامٌ، وليس واجبًا أو مندوبًا أن يأتي المسلمُ فيها أو في صبيحتها بأي عمل تكليفي، أي من شأنه أن يكون المسلم مكلَّفًا به، لكن كل ما في أمر الإسراء والمعراج هو أنه حادث تواترت الروايات على وقوعه وحدوثه وثبوته، ومن هنا فالإسراء والمعراج حقيقة متواترة.
فهو حدث نبوي إسلامي وقع للنبي- صلى الله عليه وسلم- فشأنه لنا أن نأخذ منه العظة والعبرة والأسوة الحسنة ومدارسة حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- لننهل منها ما يعيننا على لأواء الحياة، وكيف كان الصبر رفيق النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان اليسر رفيق العسر، والفرج رفيق الكرب، وكيف أن هذا الحدث جاء بعد عام الحزن وبعد أن أصيب صلى الله عليه وسلم في قومه، وكيف أن الله أراد أن يسرِّي عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يكرِّمه بعد أن أعرض عنه الناس في الأرض وأعرضت عنه قريش وأعرضت عنه ثقيف بعد رحلته إلى ثقيف ولقي منهم ما لقي، كل هذا وهو يتفانى في تبليغ ما كلِّف به ابتغاء وجه ربه، بعد هذا أراد الله أن يكرِّمه فيصلي بالأنبياء إمامًا ويستقبله الملائكة ويستقبله النبيون والمرسلون في السماوات، ويعرج به إلى العلا، إلى مكان لم يصل إليه أحد من قبله.
يستوي أخذ العبرة من هذه الذكرى كما في مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما في هجرته، فالهدف مدارسة حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ العبرة والعظة والهدي الحسن..
من ثمرات الإسراء والمعراج
لم يرِد حديثٌ صحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا قولٌ صحيح لأحد الصحابة رضي الله عنهم يقول إن الإسراء والمعراج كان في شهر رجب، أقرَّ هذا الكلامَ خاتمةُ الحفَّاظ الحافظ بن حجر العسقلاني شارح البخاري، ولكنه قول اشتهر وقال به بعض أهل العلم ونُسِب إلى الإمام النووي؛ حيث اختاره في فتاواه، ومن هنا اشتُهر أن الإسراء والمعراج كان في شهر رجب، ومنهم من يقول إنه- أي الإسراء والمعراج- كان في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول.
كما قلنا فإن العبرة من سرد أو عرض أي حدث تاريخي- ولا سيما في تاريخ الإسلام، وبالأخص فيما هو من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم- هي استخلاص العبرة الحقيقية وأخذ العظة والعبرة واستخلاص ما يكون رصيدًا لما هو آتٍ في مستقبلنا.
وتتجلى ثمرات الإسراء العظيمة وتزدهي ولا تخلَق ولا تتبدَّد، فكثيرة وعظيمة تلك الفوائد والثمرات التي نجنيها من ذكرى الإسراء والمعراج والتي منها:
أولاً: الأقصى محور ريادة الأمة الإسلامية
لقد انتهى الإسراء أفقيًّا ببيت الله المقدَّس في أرض فلسطين، ثم ابتدأت منه رحلة المعراج، فكان المسجد الأقصى محورَ الرحلة المباركة مكانًا ومحورَها مكانةً كما سيأتي، ومع الأسف الذي يندى له الجبين انشغل الناس بكل القضايا على صغرها وضعف أثرها ونسوا أو تناسوا أهم القضايا وأُولى القضايا قضية المسلمين الأولى في هذا العصر، وهي قضية فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، الأرض المباركة، ولو لم يكن من ذكرى الإسراء والمعراج إلا تذكير الناس بالأقصى ومحاولة وضع الحلول العملية لاسترداده إلى ديار المسلمين لكفى.
ولعل من جلال أهمية هذا البيت المقدَّس أنه أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، ثالث ثلاثةِ مساجد تشد إليها الرحال، والذي صلى إليه المسلمون مدةً طويلةً من الزمن، ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ولم يكن من ضرب العبث أن يعرج الله بنبيه من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى دون أن يكون لهذا جدواه؛ حيث إن انتهاء الإسراء بالقدس في هذه الرحلة مقصودٌ، وابتداءَ المعراج به كذلك مقصودٌ فالعلاقة وثيقة بين المسجدين الحرام والأقصى.
فالمرور بالمسجد الأقصى كان مقصودًا، والصلاة بالأنبياء الذين استقبلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بيت المقدس، وأنه أمَّهم، كل هذا له معناه ودلالته، وهو أن القيادة قد انتقلت إلى أمة جديدة وإلى نبوة جديدة، إلى نبوة عالمية، ليست كالنبوات السابقة التي أرسل فيها كل نبي لقومه خاصة، هذه نبوة عامة خالدة لكل الناس، لكل العالمين، رحمة للعالمين، ولجميع الأقاليم ولسائر الأزمان، فهي الرسالة الدائمة إلى يوم القيامة، عموم هذه الرسالة وخلودها كان أمرًا لا بدَّ منه، وهذه الصلاة بالأنبياء تدل على هذا الأمر، والذهاب إلى المسجد الأقصى وإلى أرض النبوات القديمة، التي كان فيها إبراهيم، وإ**** وموسى وعيسى إيذانٌ بانتقال القيادة.. القيادة انتقلت إلى الأمة الجديدة وإلى الرسالة العالمية الخالدة الجديدة.. أمة الإسلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا الربط بين المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى يُشعر الإنسان المسلم أن لكلا المسجدين قدسيتَه، فهذا ابتدأ الإسراء منه وهذا انتهى الإسراء إليه، وكأن هذا يوحي بأن من فرَّط في المسجد الأقصى يوشك أن يفرِّط في المسجد الحرام، ولو فرَّط في منتهى الإسراء يمكن أن يفرِّط في مبتدئه، أراد الله- سبحانه وتعالى- أن يرتبط في وجدان المسلم هذان المسجدان، المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأراد الله أن يثبت المسجد الأقصى بقوله الذي باركنا حوله، هكذا بهذا الوصف، وصفه بالبركة، وهذا قبل أن يوجد مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ لأن المسجد النبوي لم ينشأ إلا بعد الهجرة في المدينة، فأراد الله أن يوطد هذا المعنى ويثبته في عقول الأمة وقلوبها، حتى لا يفرِّطوا في أحد المسجدين.
ومن جميل شأن الأقصى أن له علاقةً وطيدة بفرضية الصلاة، فحينما فرضت الصلاة كان المسلمون يصلون إلى بيت المقدس، كان بيت المقدس قبلتهم ثلاث سنين في مكة وستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا في المدينة، صلوا إلى هذا المسجد.. إلى بيت المقدس، وبهذا كانت القدس هي المدينة الثالثة المعظمة في الإسلام بعد مكة والمدينة.
هكذا ينبغي أن يعي المسلمون أهمية القدس في تاريخهم وأهمية المسجد الأقصى في دينهم، وفي عقيدتهم وفي حياتهم، ومن أجل هذا حرِص المسلمون طوال التاريخ على أن يظل هذا المسجد بأيديهم.
وقد أراد الله تعالى أن يربط هذا المسجد بهذه الذكرى لنظل في كل عام كلما جاءت ذكرى الإسراء في أواخر رجب (أو ربيع الأول، أو حسبما اختلف المؤرخون في تحديد زمان الذكرى) ويحتفل بها المسلمون في كل مكان نتذكر هذا الأمر الجلل، هذه القضية الخطيرة، هذه القضية المقدسة.. قضيتنا الأولى.
فلا يمكن أيها الإخوة أن نفرِّط فيها، إذا كان اليهود قد حلموا بإقامة دولة واستطاعوا أن يحققوا حلمَهم، فعلينا أن نحلم نحن بأننا لا يمكن أن نفرط في مسجدنا، حتى وإن رأينا الواقع المرَّ يدفعنا إلى الاستسلام والهوان والانهزامية، فلا بد من أن نخلع ثوب الانهزامية ونحيا منتصرين.. مقاومين.
يجب أن نعتقد أن الله تبارك وتعالى معنا وأن الله ناصرنا وأنه مظهر دينه على الدين كله، وأنه ناصر الفئة المؤمنة، وكما روى الإمام أحمد والطبراني عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا يا رسول الله وأين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" فهذه هي العبرة الأولى من قصة الإسراء والمعراج.
الصلاة معراج المؤمنين
العبرة الثانية وهي عبرة باقية أيضًا ما دامت السموات والأرض، ألا وهي الصلاة؛ فقد فرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج، وكأن المسجد الأقصى ووراثة الخيرية والشرف على العالمين هي جائزة الإسراء والصلاة هي جائزة المعراج.
لقد فرضت الصلاة على رسول الله وعلى الأمة الإسلامية في هذه الليلة ولو كان الوحي كفيلاً بتبليغها لرسول الله لنزل بها جبريل، ولكنها عبادة ذات فضل عظيم وشرف كبير لم تنل هذا الشرف عبادة قبلها، تلقاها خير البشر من رب العالمين، وهناك فُرِضت عليه هذه الصلوات الخمس، فكل العبادات فُرِضت على الأمة نزل بها جبريل إلى الأرض موحيًا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة فقد تلقَّى النبي صلى الله عليه وسلم أمر تكليفها بنفسه من ربه، ليس بينه وبينه ملك ولا نبي.
ففرضية الصلاة في الملأ الأعلى وفي هذه البقعة المباركة من ملكوت الله لهو دليل على أهمية هذه العبادة وهذه الفريضة أو هذا الركن من أركان الإسلام، فالصلاة لهذا معراج المؤمن يعرج إلى ربه كل يوم خمس مرات يسأله ويناجيه ويشكو إليه ويستعين به ويتوكل عليه.
ومن عجيب أمر الصلاة أنها العبادة الوحية في الإسلام التي لا تسقط بأي حال من الأحوال، لا يُسقطها عن المسلم إلا أحد أمرين: إما الجنون أو الموت، وأمر ثالث خاص بالنساء وهو نزول الدم، أما غير ذلك فلا يمنع من الصلاة مانع، وتؤدَّى في أي مكان وبأي كيفية، قائمًا أو قاعًا أو نائمًا أو على جنب، لا يُسقطُها أي عذر حتى مَن فقَد الطهورين الماء والتراب فله أن يصلي بلا وضوء وليس عليه إعادة على رأي من رأى ذلك من الفقهاء.
ومن عجيب شأن الصلاة أنها أول ما يحاسب عنه العبد فإن سلمت الصلاة وكانت قد أقيمت بخشوع وخضوع وأحسن المصلي إقامتها وركوعها وسجودها ووضوءها فما بعدها أيسر وأهون وأصلح، وإن فسدت أو لم تكن قد أديت الأداء الأوفى وأقيمت الإقامة المثلى فهذا نذير شرٍّ لصاحبها.
ومن عجيب شأنها أيضًا أنها الفريضة الوحيدة في الإسلام التي يُضرب عليها الأطفال وهم دون سن البلوغ؛ حيث يأمر الإسلام أولياء الأمور أن يعلموا أولادهم الصلاة وهم أبناء سبع، وأن يضربوهم عليها وهم أبناء عشر، فما أروَعَه من إسلام يرى ضرب الأولاد على الصلاة وهم في العاشرة من أعمارهم عبادةً وتطوعًا إلى الله!!
فالصلاة معراج روحي لكل مسلم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عرج به إلى السموات العلا فلديك أخي المسلم معراج روحي تستطيع أن ترقى به ما شاء الله عز وجل، ألا وهو معراج الصلاة
اتفق علماء السيرة على أن معجزة الإسراء والمعراج كانت بعد ذهاب النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، وردِّهم له الردَّ المنكر، حتى إن النبي- صلى الله عليه وسلم- ليعتبر هذا اليوم أشدَّ من أهوال يوم أحد وما كان فيه، فقد ثبت في صحيح البخاري أن السيدة عائشة- رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله: هل أتى عليك يوم أشدّ من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على "ابن عبد ياليل بن عبد كلال" فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـ"قرن الثعالب"، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها "جبريل" فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم, فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ ثم قال: يا "محمد"، فما شئتَ؟ إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين.. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبده وحده لا يشرك به شيئًا".
ولقد تضرع الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى الله عقب خروجه من الطائف، وشكا إليه ضعف قوته وفقد النصير والمعين والوزير، فأمدَّه الله بحسن التدبير لدخول مكة آمنًا، ثم كان التكريم والترويح عن النفس والأُنس بلقاء الله في الإسراء والمعراج.
إن الأحداث التي وقعت في مكة ومحاولة حصار الدعوة في مهدها، ووقوف قريش حجَر عثرة في الطريق، وموقفه- صلى الله عليه وسلم- الصُّلب عرَّضه لعواصف عاتية وشديدة من البغضاء والافتراء، وأنزل بالمؤمنين أشدَّ ألوان الابتلاء، فما ذاقوا طعم الراحة منذ آمنوا به، وما استراحوا لحظة من ليل أو نهار.
إن رؤية النبي- صلى الله عليه وسلم- لجانب من آيات الله في ملكوت السماوات والأرض له دلالاته القوية في تهوين شأن الكفر والكافرين، وتصغير جموعهم، واليقين في أن مآلهم وعقباهم إلى زوال.. (فقه السيرة).
ولقد صرحت الآيات إلى الحكمة من الإسراء، وهي أن المولى سبحانه يريد أن يُرِيَ عبده بعض آياته، فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1).
ثم صرحت آيات المعراج في سورة النجم أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- رأى بالفعل هذه الآيات الكبرى، قال تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم: 1- 18).
يقول بعض المفسرين في التعليق على هذا المطلع من السورة: نعيش لحظات في ذلك الأفق الوضيء الطليق المرفوف الذي عاشه موكب "محمد"- صلى الله عليه وسلم- ونرفرف بأجنحة النور المنطلقة إلى ذلك الملأ الأعلى، نعيش لحظات مع قلب "محمد"- صلى الله عليه وسلم- مكشوفةٌ عنه الحجب، مُزاحَةٌ عنه الأستار، يتلقَّى من الملأ الأعلى يسمع ويرى، ويحفظ ما وعى، وهي لحظاتٌ خُصَّ بها ذلك القلب المصفَّى، ولكن الله يمنُّ على عباده، فيصف لهم هذه اللحظات وصفًا موحيًا مؤثرًا، يصفها لهم خطوةً خطوةً، ومشهدًا مشهدًا، وحالةً حالةً حتى لكأنهم مشاهدوها".
من دروس الإسراء
ولقد كان الإسراء والمعراج امتحانًا للمسلمين وتنقيةً للصف، فحين أُعلن خبر الإسراء بين قريش فُتِن بعض الذي أسلموا وارتدّ مَن ارتد!! يقول الإمام "ابن كثير" فيما رواه عن "قتادة": "انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فأصبح يخبر قريشًا بذلك، فذكر أنه كذبَه أكثرُ الناس، وارتدَّت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصدِّيق إلى التصديق، وذكر أن الصدّيق سأله عن صفة بيت المقدس، وقال إنِّي لأصدقه في خبر السماء بُكرةً وعشيًا، أفلا أصدقه في بيت المقدس، فيومئذ سُمي "أبا بكر الصديق".
فالإسراء والمعراج حدث، وحدث غاية في روعته وفي إعجازه، ولكنها قدرة الله الذي لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، ومن دروس الإسراء والمعراج أنه اختبارٌ لصدق المؤمنين، وتمحيصٌ لصفِّهم وامتحانٌ ليقينهم، ولثبوت العقيدة في وجدانهم، فالحدَث فوق مستوى العقول البشرية، يحتاج إلى مؤمن صادق الإيمان، لا يُزعزع من يقينه أشدُّ الأحداث ولا أخطرها.
ولقد جاء الإسراء والمعراج قُبَيلَ الهجرة إلى المدينة، وترك الديار والأهل والوطن؛ ليكون اختبارًا للمؤمنين وتدريبًا لهم على حسن الاستجابة لله عز وجل، فهي مرحلة جديدة، كلها جهاد وكفاح في سبيل الله، يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحجرات: 15).
حتمية الجهاد
لقد كان الإسراء والمعراج إعلانًا عالَميًّا بأن خاتَم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- هو نبي القبلتين وإمام المشرقَين والمغربَين، ووارِث الأنبياء قبله، وقدوة الأجيال بعده ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان: 1).
ألا إنه أمر كبير وعجيب وخطير أن نتحدث عن الإسراء والمعراج ونكتبَ عنه، بينما أرض الإسراء والمعراج ومسرَى سيد الخلق- صلى الله عليه وسلم- ومصلاَّه بالأنبياء أسير، تحت سلطان اليهود، يفعلون بأهله الأعاجيب، يهدرون دماءهم، ويدمِّرون حياتَهم، ومشهد الآباء وهم يودعون الشهداء الأبرار من فلذات أكبادهم، وتبكي المنازل والشرفات وهي تشاهد موكب الشباب المؤمن محمولاً على أعناق الرجال إلى مثواه الأخير.
ألا إنَّ الأعجب من ذلك كله هو صمت العالم العربي والإسلامي وسكوته على هذه المجازر، وسكون الجميع سكون المقابر، وكأن الأمر لا يعني أحدًا، ألا إنَّه لأَمْرٌ كبير أن يموت الحِسُّ الإسلامي، وأن ينام وأن يغطَّ في النوم إلى هذا الحدِّ، ألاَ إنَّه لأَمر خطير أن تتجمَّد المشاعر، وأن تعيشَ الأمة العربية والإسلامية على الكثير من التفاهات، بل وتدمن عليها من خلافات في الرأي، واختلال في التوجه، صرفها عن الطريق الصحيح والهدف العظيم.
إن رسالة الإسلام الحنيف وإنَّ جهاد- النبي صلى الله عليه وسلم- وصحابته هي التي وهبت الحياة معناها الصحيح، وطعمها الأصيل، وما كان لأبناء هذا الدين العظيم أن يرضوا بالذل والهوان، ودستورهم الخالد يقرر ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 8) ورسولُهم- صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ أَعْطَى الذِّلَةَ مِنْ نَفْسِهِ طَائعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَلَيْسَ مِنِّي" (ضعيف جدًّا وِفْق تخريج الألباني).
إن الطريق الوحيد إلى المسجد الأقصى معروف، وأوضح من ضوء الشمس، وهو (الجهاد في سبيل الله) و(الاستشهاد من أجل إنقاذ الأمة)، والله عز وجل يقول: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج: 39)، وإن الذين يجاهدون في سبيل الله وفي سبيل نصرة المظلوم، وفي سبيل ردِّ البغي والعدوان، والاحتلال والإجرام هم وحدهم الذين تُوهب لهم الحياة (احرص على الموت توهب لك الحياة)، أما الذين يخذلون من يستغيث بهم في الشدائد والنوازل، ولا يستجيبون لنداء المظلوم فهم الذين يخرجون من هذه الدنيا غير مأسوف عليهم من أحد ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ (الدخان: 29).
نحتفي اليوم بذكرى الإسراء والمعراج ونحن على يقين من جلالها، فليتبع هذا اليقين الاعتقاد الجازم والإخلاص في تنفيذ تعاليم هذا الحق، عبادات ومعاملات وسلوكًا، فإنه لو تحقق العمل والإخلاص فينا لاستطعنا- بفضل الله- أن ننجح في كل جوانب الحياة، وأن نغلق منافذ اليأس وأبواب الفشل والضياع.
إن مسئولية الأمة- حكامًا ومحكومين- في هذه الفترة غاية في الخطورة، وإنَّ بيت المقدس- قلب العالم الإسلامي- وما حوله يَئِنُّ اليومَ أنين المظلومين والضارعين من تدنيس أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا.. يجب أن يشغل بال المسلمين اليوم أحوال المسجد الأقصى، وكيف نستعيده مرةً أخرى، نستعيد ما ضاع منا من أرض فلسطين بكل الوسائل، وعلى أية صورة، هذا هو الأمر الحتم والهمُّ الكبير، فهذا هو بدء الطريق، وكل من سار على الدرب وصل، هذه ذكرى من الذكريات كريمة، وآية من آيات الله عظيمة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37)، وإذا كانت قضية فلسطين هي قضية المسلمين الأولى وجرحهم النازف من القلب ومنذ أكثر من نصف قرن من الزمان، والدليل القاطع على موقف العالم الغربي الظالم والمنحاز ضد قضايا المسلمين، والضارب عرض الحائط بكل المبادئ والقيم والشعارات التي يرفعها من حرية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم جواز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة، ورفض العنصرية، وحق الشعوب في الكفاح المسلَّح؛ من أجل إزالة الاحتلال عن أراضيها.. كل هذه المبادئ يتنكَّر لها الغرب، ويقف داعمًا الاحتلال الصهيوني الإرهابي، العنصري الاستيطاني الدموي لأرض فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى، واليوم يكشف الغرب مرةً أخرى عن حقيقة مشاعره نحو الإسلام والمسلمين.