مشاهدة النسخة كاملة : مناهل الثقافة


د.عبدالله محمود
05-01-2012, 11:53 PM
ثقافة الصفوة :
نعني بالصفوة كل أولئك الذين تشكلت ثقافتهم بطريقة واعية ، ونالوا حظاً من المعرفة الراقية التي تمكنهم من قيادة مجموعات ممن حولهم ، والتأثير فيهم . وكلمة (الصفوة) كلمة فضفاضة في دلالتها ؛ فالصفوة متفاوتون في ثقافتهم وتأثيرهم ؛ لكن يجمعهم جميعاً أنهم ليسوا من الشرائح الشعبية التي تتكون ثقافتها عن طريق تلقين المجتمع لهم وبطريقة لا شعورية . ولعلنا ـ على منهجنا ـ نوجز نقاطاً مهمة في ثقافة الإقلاع الحضاري لدى الصفوة في المفردات التالية :
· إن الصفوة دائماً قلة ، وكلما قست شروط الجودة وجدنا أنفسنا نتلفت يميناً ويسرة نبحث عن خلاصة الصفوة وقد نجد ، وقد لا نجد إلا أناساً من الدرجة الثانية! . إن سمة كل مجتمع في النهاية هي سمة الصفوة التي تتولى قيادته الفكرية والاجتماعية ؛ وهذه المرحلة بحاجة ماسّة إلى صنفين : دعاة المثقفين ومثقفي الدعاة ، أي أولئك الذين يجمعون بين استنارة الفكر والفهم العميق إلى جانب لوعة وحرقة على واقع الأمة ، تشبه لوعة الأمهات! وإذا كنا ننهى أنفسنا عن التعصب للفكرة فإننا نرى أن الصفوة التي لا تتمتع بالحد الأدنى من الرجولة للدفاع عن الأفكار والمبادىء التي تؤمن بها ـ هي صفوة منحطّة ـ ؛ وستظل جاهزة لخدمة مصالحها الخاصة ، وتوظيف ثقافتها في بناء مجدها الذاتي ، ولو كان الثمن هو عناء أمة بأكملها! . إن قيمة الصفوة بل طبيعة وجودها لا تنبع من القدر المعرفي الذي تحمله ، وإنما من مقدار تحملها للهمّ العام ومشاركتها في إصلاح الشأن العام ؛ أي على قدر تعدي نفعها للأمة ، وعلى قدر تجاوزها لمصالحها الشخصية . وإن الإحباط الذي تعاني منه الأمة ينصبُّ أولاً على نخبها وقادة الرأي ـ ولا سيما المثاليين منهم ـ فيها ؛ ومن ثم فإن كثيرين منهم يركنون إلى اليأس ، ويسود كتاباتهم التشاؤم ؛ وهم بذلك يدفعون بأنفسهم دفعاً نحو العزلة وأخذ إجازة مفتوحة! . ولذا فإن الحاجة ماسة اليوم إلى أقوام لا ييئسون من إمكان تحسن الأحوال مهما ساءت الظروف .
· إننا بحاجة اليوم إلى منح مجتمعاتنا رؤية واضحة ومتَّسقة عن واقع الأمة وتحديد مواطن العطب فيها إلى جانب توضيح مسيرتها الحالية واستشراف شيء من مستقبلها . ولا تستطيع الصفوة منح ذلك ما لم تمتلكه هي ؛ وفي هذا الإطار نجد أن المثقفين الذين يجمعون رؤية منهجية شاملة للواقع الذي نعيشه وللصورة التي ينبغي أن يكون عليها ـ ما زالوا لدينا قلة قليلة ؛ لكننا نشعر أن الوضع يتحسن ، وأن مزيداً من الرشد الفكري بدأ يطرق الأبواب ، ويغزو الساحات الثقافية . إن تحديد أسباب الانهيار قد لا يكون بالأمر الصعب في كل الأحيان ، لكن استخراج العناصر الخيرة والإيجابية من حياة مجتمع مريض متقهقر يظل أمراً مهماً ؛ حتى لا تظل جهودنا تعود إلى نقطة الصفر في كل مرة . كما أن من واجبنا أيضاً ألا نطرح الأفكار التي تؤدي إلى الإقلاع الحضاري فحسب ، وإنما أن نتعلم كيف نطرح سياسات الإقلاع والانطلاق ؛ فالسياسات دائماً هي التي تكشف عن مدى إمكانية تحويل الأفكار إلى حقائق على الأرض . وهذا ما كان ينقص الأفكار الإصلاحية التي طرحت منذ أكثر من قرن من الزمان .
· إن ثمة موازنة ضرورية ودقيقة بين المحافظة على الثقافة الوطنية الإسلامية وبين الانفتاح على الثقافات الأجنبية، وهذه الموازنة من مهمات الصفوة الذين يدركون وحدهم طاقة ثقافتنا الأهلية على استيعاب دفق الثقافات الأجنبية المغايرة لها في كثير من أصولها ومنطقها . وثقافتنا الإسلامية اليوم تمر بمرحلة التعرف على الذات من جديد ، وإعادة تفسير بعض الرموز ، ومنح بعض الأحداث والمفاصل التاريخية معنى جديداً ، وهذا يعني أنها لا تقوى على الكثير من الأعباء الإضافية التي يجب أن تتحملها من جرّاء استيعاب وهضم ثقافات أخرى . وإذا تجاهلنا هذا الموضوع فقد نكون كالطبيب الذي قرر إجراء عملية جراحية كبرى لجسد منهَك! . والطريق الأسلم ـ وربما الأحكم ـ أن نحاول استنطاق الرموز الثقافية الإسلامية على نحو يجعلها أكثر وضوحاً وشمولاً وقابلية لفهم معاصر وذلك عبر فاعلية حضارية عالية الوتيرة . إنه لا يجوز لأفكارنا التجديدية أن تبتعد كثيراً عن قدرة مجتمعاتنا على الاستجابة والتمثل ؛ حتى لا نكون كالطائر الذي يبيض في غير عشِّه!
· إن جهود المثقفين والدعاة ينبغي أن تتمحور حول أهداف رئيسة معينة تجعلها الأمة نصب عينيها ، وهي تستأنف مسيرتها الحضارية . ولا تقل الموازنة بين هذه الأهداف وإعطاء كل منها حقه أهمية عن التحقيق . هذه الأهداف يمكن ضغطها في ثلاثة ، هي : العبادة ، وتعني الطاعة المطلقة للمعبود المتضمنة كمال الحب مع كمال التعظيم . ثم الخلافة عن الله ـ تعالى ـ في الأرض ، وهي تعني إقامة الحق والعدل والتخلق بأخلاق الله ـ تعالى ـ على قدر الطاعة والوسع . ثم عمارة الأرض ، كما قال ـ سبحانه ـ (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)2 (http://www.hayran.info/admin/fckeditor/editor/fckeditor.html?InstanceName=FCKeditor1&Toolbar=Default#_ftn1) ، أي : طلب منكم عمارتها .
· هذه الأهداف العليا ينبغي أن تجتذب كل أنشطتنا ، كما أن جهودنا وأفكارنا الصغرى ينبغي أن تستبطن هذه المعاني وتستلهمها على مستوى من المستويات . وكل فكرة أو خطة لا تستهدف هذه الأهداف ، ولو بصورة غير مباشرة ينبغي أن نتلقاها بحذر ونقف منها موقف المتأمل ، وإلا فإن الانزلاق نحو الدنيوية والمادية أمر سهل ميسور .

الثقافة الشعبية :
إذا كانت ثقافة الصفوة تتكون عن طريق إرادي متعمد ومختار ، فإن أكبر خصيصة للثقافة الشعبية أنها تتكون عن طريق لا إرادية وبأدوات غير ملموسة ولا محددة ، وهي تتشكل خارج الوعي ويتشبع بها الفرد العادي على النحو الذي يستنشق به الهواء ، وفي هذا كله يكمن سر صلابتها واستعصائها على الغزو الأجنبي أكثر من الثقافة العالية .
إذا كان الأمر على هذه الصورة فإن تحسين الثقافة الشعبية وتوجيهها ورفع مستوى اهتمامتها ـ يظل إحدى مسؤوليات مثقفي النخبة الذين في إمكانهم تسليط الوعي على الثقافة الشعبية ، وإدراك ما تتطلبه مرحلة الانطلاق والإقلاع من أخلاق واستعدادات وتوجهات ... وإذا لم يقم الصفوة بمهمتهم هذه فإنهم لا يقضون على إمكانية انطلاقة حضارية راشدة وإنما يعرضون أنفسهم للنبذ والتهميش من قبل الطبقات الدنيا .
ولعلنا نذكر في النقاط التالية أهم ما نرى ضرورة غرسه وإشاعته في الثقافة الشعبية من أجل تأمين ثقافة واسعة تدفع بالأمة نحو الانطلاق المامول :
· إشاعة ثقافة المشاركة ؛ فالقاعدة الشعبية تشعر باستمرار أنها معزولة عن توجيه الحياة ومواقع اتخاذ القرار ، ففي المعامل مثلاً قلما يستشار العمال في مشكلة إنتاجية ، ومن ثم فإن العامل يعوض عن ذلك بمحاولة بلورة موقعه في المصنع ... كأن يكون رئيساً على العمال أو صاحب حظوة عند رب العمل أو مهندس المصنع ، وهذا بالإضافة إلى أنه يخلق توترات داخل المصنع يجعل العمال لا يشعرون بالانتماء إلى عملهم ، ولا يشعرون بأية مسؤولية تجاه واقعه أو مستقبله . والذي سيبادر إلى تنشيط روح المشاركة وآلياتها هم المثقفون ، ومهما قيل إن القاعدة ليست أهلاً لإبداء الرأي والمشورة فإن الصحيح أن الطريق الوحيد لرفع سوية تفكيرها وصقل خبرتها هو زجها في خضم المشاركة وإعطاء الاهتمام لكل ما تقوله . وقد نجح اليابانيون نجاحاً منقطع النظير في جعل المصانع اليابانية أشبه بمحاضن لأسرة واحدة يتكلم فيها الصغير والكبير دون تكلف أو غضاضة ، ويشعر الجميع بالانتماء إليها على قدم المساواة .
· إن الوضعية العقلية لدى كثير من الشعوب الإسلامية تحتاج إلى نوع من التعديل والتحسين ، وهذه الوضعية هي ـ ولا شك ـ نتيجة التراجع الثقافي حيث الأمية ضاربة جذورها ، وحيث العناية بقضايا الفكر والمعرفة ما زالت ضامرة ومحدودة ؛ وإن مما تحتاج إليه الثقافة الشعبية حاجة ماسة تأسيس عقلية الكف عن الكلام والمسارعة إلى المواقف الحادة دون وجود معلومات حسنة صالحة لقول شيء أو عمل شيء . ومن الملاحظ أن العربي ـ بصورة خاصة ـ سريع الاندفاع خلف العواطف وبريق الأمنيات ، كما أنه حسن النية إلى حد بعيد ، وقدرته على محاكمة الأمور أيضاً محدودة . ومع أن القرآن الكريم أمرنا ألا نتبع الظنون ، وألا نقول بغير علم في مواضع كثيرة إلا أن واقع الحال على النحو الذي وصفنا .
والمدهش في هذا أن موقف كثير من المثقفين في هذا الموضوع لا يختلف عن موقف العوام ؛ مع أننا نعول في علاج هذا الداء عليهم! . إن هناك الكثير مما ينبغي عمله من أجل تأسيس عقلية منهجية لا تقول بغير علم ، ولا تجادل من فراغ ، ولا ترى في كلمة ((لا أدري)) أو كلمة ((دعونا ننظر)) أو ((دعونا نلمس)) ـ أية غضاضة . إن ملفات هذه القضية ينبغي أن تظل مفتوحة مع محاولة التجديد في المعالجة والطرح حتى نشعر أننا تقدمنا نحو العافية .
· يلاحظ أن عقلية (المستحيل) تسيطر على أكثر العامة لدينا ، ولهم في ذلك عذر ؛ فمعطيات تاريخنا القريب لا تدل على أن مساحات الحركة وإمكانات التقدم أمامنا فسيحة أو كبيرة ؛ لكن مهمة المثقفين أن ينشروا أشعة الأمل عند استحكام اليأس ، وهذا هو شأن الربانيين الذين لا يقطعون حبال الرجاء من كرم الله مهما ادلهمت الظلمات! إن كثيرين منا ينظرون إلى ما ينبغي عمله حتى نصبح أمة محترمة وقوية ، فيجدون أمامهم جبالاً من المهمات ، ثم ينظرون إلى ما بين أيدينا من وسائل وإمكانات ؛ فتعصف بهم رياح الإحباط والانحسار! ولم تكن أبداً مشاعرهم كاذبة ولا مصطنعة ، لكن طريقة النظر هي الخاطئة ، ولو أننا عملنا وفق طريقة أخرى لكان المردود مختلفاً .
· إن القاعدة العملية في معالجة الأمور الجسام يمكن تجسيدها في القول : ((إذا عملنا ما هو ممكن اليوم صار ما هو مستحيل اليوم ممكناً غداً)) ، وهذا مبني على أن كثيراً من المستحيل ليس مستحيلاً في ذاته ، وإنما هو مستحيل إضافي لفقد مقدماته وأسبابه عند بعض الناس ؛ فإذا باشرنا الممكن من مقدماته تحوّل المستحيل نفسه إلى ممكن . إن علينا أن نؤسس عقلية ((شيء خير من لا شيء)) بدل عقلية ((كل شيء ، أو لا شيء)) .
· في عصرنا الحاضر تضخمت الخصوصيات بصورة مَرَضية ، وزادت الحضارة الحديثة العوازل بين الناس مما أدى إلى ضعف التضامن بينهم ، وسادت ثقافة ((نفسي)) مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم يقول وحده دون باقي الأنبياء في يوم الكرب الأعظم : ((اللهم أمتي أمتي)) : ومن ثم فقد ضعف بيننا التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، وكثر منع ((الماعون)) وبذل الخير ، بل صرنا في زمان ينظر فيه إلى من يبادر إلى الخير والإحسان نظرة استغراب1 (http://www.hayran.info/admin/fckeditor/editor/fckeditor.html?InstanceName=FCKeditor1&Toolbar=Default#_ftn2) إن لم ينظر نظرة شك وريبة ؛ ومن هنا فإن ثقافتنا الشعبية بحاجة إلى أن تستعيد هذه الخلال الكريمة حتى نخفف من قسوة العيش ، ونحفظ على مجتمعاتنا نسيجها الاجتماعي المتميز . ولا بد للصفوة ـ والدعاة منهم خاصة ـ أن يعطوا المثل والقدوة من أنفسهم في هذا الأمر خاصة ؛ حيث غلب على كثير منهم شيء من الانفصال عن هموم الناس ، أو شيء من التعالي على الانشغال بمثل هذا! .
د/ عبد الكريم بكار

aymaan noor
06-01-2012, 12:11 AM
[طالب الفردوس;4204195]
أستاذى الفاضل طالب الفردوسلك منى كل الشكر و التقدير على هذا المقال الأكثر من رائع ، و الذى يحتاج قراءته أكثر من مرة للاستفادة
جزاك الله خيرا و بارك الله فيك

aymaan noor
06-01-2012, 01:57 AM
حركة مجتمع لا حركة صفوة
لعل أكبر مشكلة تواجه الدول النامية والمتخلفة هي تحديد الأسباب الحقيقية التي جعلتها تعيش على هوامش الحضارة وأطراف العالم المتقدم. وما ذلك إلا بسبب انخفاض درجة وعيها بنفسها وإمكاناتها والتحديات التي تواجهها، ومن هنا فإن حاجة الأمة ماسة إلى أن تضغط بإصبعها على موضع الداء، وأن تسعى إلى تحديد الأسباب الجوهرية التي أدت إلى الإصابة به، لتهتدي بالتالي إلى سبيل الشفاء.في اعتقادي أن أفضل طريقة لتحديد أسباب التخلف تكمن في البحث عن القواسم المشتركة ونقاط الالتقاء لدى كل الشعوب التي تعيش على حواف العالم اليوم. وإذا وصلنا إلى هذا الحد من القول، فإنني أرى أن سمة (فقد الاهتمام) تعد من السمات العامة التي يمكن أن نشاهدها أينما تجولنا في أصقاع العالم النامي ـ ومنه بالطبع العالم الإسلامي ـ حيث يتجسد في سلوك الناس شعار (لا شيء يهم) وحيث ترى سيلاً لا ينقطع من المواقف التي تنم عن عدم الاكتراث واللامبالاة.
وفي المقابل فإن معظم الناس في العالم الصناعي يهتمون بالأشياء الصغيرة والصغيرة جدًا، وتستوقفهم التفاصيل الدقيقة، ويحاولون حساب كل شيء إلى حد الوسوسة. حين وقعت الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة، اندفع كثير من الناس هناك إلى شراء الكتب التي تتحدث عن الإسلام، وحضر بعضهم دورات في المراكز الإسلامية من أجل فهم الخلفية الثقافية لمن اتهموا بتلك الأحداث. أما عندنا فمن أندر النادر أن ترى شخصًا يحاول سبر أغوار الثقافة الأمريكية أو معرفة طبيعة القوى التي توجه حركتها!ولذا فإن من الممكن القول أن درجة اتساع اهتمامات أي أمة هي معيار حقيقي لمدى تقدمها ومعاصرتها، والعكس صحيح."ولعلي أستجلي في هذه القضية النقاط الثلاث الآتية :ـ إن الذي ينظر بعمق إلى المرامي البعيدة لآيات القرآن الكريم يجد أنه كان يقصد قصدًا إلى توسيع دائرة اهتمامات الإنسان المسلم على مستوى الزمان والمكان والأشياء، وذلك كي يساعده على القيام بمهمة الاستخلاف وبسط سلطانه على كل ما حوله. وفي هذا الإطار نجد أن القصص القرآني الذي تناول أخبار الأمم السالفة. ولايكتفي القرآن الكريم بذلك، بل يوسع دائرة اهتمامات المسلم ليتفاعل مع أحداث كبرى تجري في زمانه ـ مهما كان بعيدًا عن التأثر بها ـ كما في إخباره عن الصراع بين الروم والفرس، وإعلامه المسلمين بأن الغلبة ستكون للروم في بضع سنين. بل إن القرآن يصور لنا المشاهد المؤلمة التي تحكي معاناة بعض الناس (كما في قصة أصحاب الأخدود) ليجعل من الحزن وسيلة اتصال مع الناس والعالم.
والسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا: لماذا يقرأ المسلمون القرآن الكريم كل يوم دون أن تشتعل لديهم جذوة الاهتمام؟
!ـ كثير من الناس يملكون كل مقومات العظمة لكنهم لم يصبحوا عظماء لا لشيء إلا لأن اهتماماتهم تافهة.وقد كان (المال) في الماضي عماد الثراء الشخصي والأممي، كما كان عمود النجاح في النظام التجاري. وقد أخذ كل ذلك الآن في التغير، وأخذت تحل محله أشياء غير مادية، فثراء الأشخاص (وكذلك الأمم) لم يعد يقوم بالأرصدة والممتلكات، وإنما بمقدار ما يملكون من اهتمامات ودوافع وأفكار ومعلومات ونظم. وهذا ما يفسر لنا انتشار الجوع في بلدان عربية تملك الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة، على حين تملك دولة (مثل لبنان) مساحة محدودة من الأراضي الزراعية، ومع هذا فهي تصدر الخضار والفاكهة إلى عدد من الدول!.ـ تسجل الدول الصناعية 97% من براءات الاختراع، وتترك لـ80% من سكان الأرض 3% فقط. وفي عام 1998 سجل اليهود في فلسطين 577 براءة اختراع لدى مكتب العلاقات التجارية الأمريكي، على حين سجل العرب 24 براءة اختراع فقط. وكثير من تلك البراءات تسجل من قبل (هواة) ومهتمين غير محترفين، لكنهم ينتمون إلى شعوب تسيطر عليها فضيلة الاهتمام. وأقرب مثال على هذا برامج الحاسب الآلي؛ إذ إن معظم البرامج الموجودة في الأسواق هي من تصميم هواة. إن أمتنا لن تقف في مصاف الأمم ما لم يسهم كل واحد من أبنائها بشيء مفيد يضاف إلى رصيدها العام ليتشكل لدينا من قطرات الماء نهر أو جدول، ومن الحصى المتناثر تل أو جبل. وإن كثيرًا من القصور الذي نعانيه في هذا الشأن يعود إلى التربية الأسرية التي يتلقاها أبناؤنا، ثم تأتي المدارس لتزيد الطين بلة، فهي لا تهتم بتكوين الشخصية لطلابها، وليس عندها أي برامج أو تدريبات لبعث الاهتمام بالأشياء المفيدة أو الجديدة! وكان عليها عوضًا عن الأرقام الصماء التي تلقنها لطلابها عن إنتاجية العالم المتقدم أن تشرح لهم العوامل والأخلاقيات التي تقف خلف تلك الأرقام، من نحو سعة الاهتمام والمثابرة والجدية والتنظيم والتعاون.. وأن تشرح لهم الدور الرائع الذي تؤديه المبادرة الفردية والهوايات المتعددة والمشروعات الصغيرة في إغناء حياة العالم المتقدم.إن أمتنا لن تحصل على المقام الذي تستحقه ما لم يصبح الاهتمام بالميزات والتفاصيل والأشياء الصغيرة حركة مجتمع لا حركة صفوة.
د/ عبد الكريم بكار

aymaan noor
06-01-2012, 03:12 AM
المفكر والمرونة العقليةالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى أخوانه الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه أجمعين ومن
أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين
إن المرونة قوة كامنة خلقها الله سبحانه و تعالى في الإنسان، ولا يمكن أن تتحول إلى مزية إلى إذا قام بتفعيلها بالتجربة والممارسة. ويبدأ ذلك عندما ينظر إلى الأمور بنظرة مفكر عقلاني ، و يعترف بوجود وجهات نظر مختلفة بدلاً من وجهة النظر الوحيدة والجازمة.

إن المفكر ذو المرونة الفعالة هو الذي يعرف كيف؟ يختار -ومتى؟ يكون- مرناً ومتى؟ يكون -صلباً، وهذا الاختيار ليس سهلاً ككبسة زر لإشعال الضوء أو إطفائه، فخياراتنا ترتبط بشكل وثيق بما تعودناه ودربنا أنفسنا عليه، وما حاولنا ونجحنا في تغييره بأفكارنا ومواقفنا وسلوكنا، ويرتبط بشكل كبير بقوة شخصيتنا وثقتنا بأنفسنا.

( أ- ) المرونة العقلية وسيلة الإنسان الصالح للتواصل مع الله الذي أبدع كل شيء خلقه، فتسمو روحه للتطور، وهو يستجيب للبيئة الجديدة استجابات ملائمة تحقق التكيف معها دون تغيير طبيعته وشخصيته الأصلية. فيغير وسائلة القديمة إلى وسائل جديدة، ويكتسب مهارات تتناسب مع متطلبات الظروف الجديدة والأهداف الجديدة. وتتطور ممارساته،

لذلك حث القرآن الكريم على التفكر والتبصر والتدبر في العشرات من الآيات البيانات بروح هادئة وأن هناك خيارات متعددة لمشاعرنا يحل فيها التظاهر بالغضب الذي يحدث تارة ويفضل الهدوء تارة أخرى، وأن هناك خيارات متعددة لتفاوضنا، وخيارات مختلفة ٌلإدارة وقتنا. كما تعني القيام بالأعمال التي نخشى عادة القيام بها، أو تجريب الجديد منها، تلك التي لا نعرفها أو لا نحبها مع علمنا بأهميتها لتطوير حياتنا..

( ب- ) والمفكر المرن يعتبر كأداة صالحة لتحقيق الأهداف المتمثلة في جلب المنافع ودفع المضار، وذلك بتوظيف المعارف والمهارات والخبرات التي يملكها الفرد توظيفاً سليماً. ولا تستقيم حياة الإنسان بدون تفكير، لذلك يُعدّ التفكير في حاجاته الرئيسة. وقد شبهه بعملية التنفس التي لا حياة للكائن الحي بدونها. المرونة تعني أن نبحث عن بدائل للخيار الواحد الذي تعودنا ممارسته، وعن وسائل جديدة ونماذج جديدة، قد تكون أفضل وأنجح وأسرع وأكثر كفاءة. .

( ج- ) والمرونة العقلية تساعد الإنسان على التكيّف مع الظروف المحيطة به والتعامل مع المشكلات والصعوبات التي تواجهه ومع المستجدات الخارجية ومعرفة الثوابت والمتغيرات في سياسة المؤسسة. وكذلك الاستفادة من الأفكار الجديدة والتفاعل الإيجابي مع المتغيرات والمستجدات.وذلك باستدعاء وتوظيف ما يملكه من معلومات ومهارات وخبرات،
وكلما كانت هذه الأدوات متطورة كلما كان مفعولها أقوى وأبقى في مرونة التعامل

( د- ) والمفكر المرن هو الذي ينمي التفكير عند الإنسان وهو بمثابة الضوء الساطع الذي ينير للإنسان مسار النجاح، وكلما كان أقدر على التفكير كلما كان نجاحه أعظم، لذلك فقد اهتمت التربية الجادة بتدريب عمليات التفكير وبصقل مهاراته ليصبح المتعلم قادراً على توظيف المعلومات والمهارات التي يحصل عليها في تحقيق النجاح الذي يصبو إليه، ويجعله قادراً على مواكبة التغيرات المتواصلة التي تحصل في ميادين الحياة.

( هـ- ) وممارسة التفكير للمفكر المرن تشيع في ثنايا الموقف الصفّي دفئاً وتجعله أكثر حيوية، فيقبل المتعلمون عليه بحماس ليمارسوا الأنشطة. وليشاركوا في المشاغل التربوية بإيجابية، فيتحسن أداؤهم، وتنمو قدرتهم على الاستفادة من الخبرات المكتسبة، ويترتب على ذلك مخرجات تامة. لذلك يجب تعليم مهارات التفكير يغدو أمراً مهماً وبناءً، لذلك فقد أصبح شعار المؤسسات في العصر الحديث هو:كيف نفكّر؟
How to think ?
قال مفكر ياباني " معظم دول العالم تعيش على ثروات تقع تحت أقدامها وتنضب بمرور الزمن ، أما نحن فنعيش على ثروة فوق أرجلنا تزداد وتعطي بقدر ما نأخذ منها " . فالمرونة تعني أن نبحث عن بدائل للخيار الواحد الذي تعودنا ممارسته،

وعن وسائل جديدة ونماذج جديدة، قد تكون أفضل وأنجح وأسرع وأكثر كفاءة. ..التفكير مهارة وليس موهبة فطرية هو الخطوة الأولى للقيام بعمل لتحسين تلك المهارة وتطويرها ، ولقد أصبح العالم أكثر تعقيدا نتيجة التحديات التي تفرضها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ، وأن نعرف أن هناك خيارات متعددة لمشاعرنا يحل فيها التظاهر بالغضب تارة ويفضل الهدوء تارة أخرى، وأن هناك خيارات متعددة لتفاوضنا، وخيارات مختلفة ٌلإدارة وقتنا. كما تعني القيام بالأعمال التي نخشى عادة القيام بها، أو تجريب الجديد منها، تلك التي لا نعرفها أو لا نحبها مع علمنا بأهميتها لتطوير حياتنا ولكن نحب هنا أن نلفت الانتباه بأن المرونة لا تعني الضعف والانهزام والاستسلام،

والحكمة تقول: (لا تكن صلباً فتكسر، ولاتكن ليناً فتعصر). فيغير في مواقفه وردود أفعاله وعاداته الموروثة، وعندها يستطيع أن يحول الغضب إلى صبر، الكلالة إلى الفعالية، والعجز والتواكل والسلبية إلى المبادرة والنشاط وتحمل المسؤولية الذاتية، ويكون مفاوضاً أنجح وعضو عائلة أفضل ومواطناً منتجاً وفاعلاً.فالمفكر العقلاني الفعال يمتاز بالقوة دون تخشب، والمرونة دون ميوعة.وأصبح النجاح في مواجهة هذه التحديات لا يعتمد على الكم المعرفي بقدر ما يعتمد على كيفية استخدام المعرفة وتطبيقها.
دمتم بحفظ الله
د. نوال حسن ناظر

راغب السيد رويه
06-01-2012, 03:19 AM
جزاك الله خيرا

aymaan noor
06-01-2012, 02:23 PM
الثقافة المصرية .. وثورة 2011
أعتبر نفسى سعيد الحظ إذ عاصرت ثورتين مهمتين فى تاريخ مصر: ثورة يوليو 1952 وثورة يناير 2011، واعيا وعيا كافيا عندما قامت الثورة الأولى، وكنت لا أزال محتفظا بوعى كامل (أو هكذا أظن) عندما قامت الثانية.

لقد أتت كلتا الثورتين ببعض النتائج الباهرة (لا يقلل قيمتها ما ارتكبها الممسكون بالسلطة فى الحالتين من أخطاء) من بين هذه النتائج الباهرة ما يتعلق بالثقافة. مازالت الثورة الأخيرة فى أول عهدها، فلا يمكن اكتشاف أثرها كاملا بعد، بعكس ثورة 1952 التى مر عليها وقت كاف للاعتراف بفضلها كاملا. ومع ذلك، فحتى ثورة 2011، يمكن أن نتبين بعض ثمارها فى الكتابة الأدبية والسياسية.

مازلت أذكر جيدا كيف كانت حالة الأدب والموسيقى والغناء والمسرح قبل قيام ثورة 1952. لا أحد يستطيع أن يجحد فضل ومكانة رجال مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، الذين تربعوا على عرش الأدب فى مصر قبل 1952، أو فضل ومكانة يوسف وهبى ونجيب الريحانى فى المسرح، أو أم كلثوم وعبدالوهاب فى الغناء والموسيقى..إلخ، ولكن لابد أن نعترف أيضا بأنه عندما نشر عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم كتابهما الشهير (فى الثقافة المصرية) بعد قيام ثورة 52 بثلاث سنوات (والذى كان أقرب إلى البيان أو المانيفستو منه إلى الكتاب العادى)، وانتقدا فيه بشدة ثقافة ما قبل 1952، كانا يلمسان حقيقة لا شك فيها، وهى التحيز الطبقى الذى اتسم به إنتاج هؤلاء المثقفين العظام، أو على الأقل غياب القضية الاجتماعية (أو التناقض الطبقى) فى إنتاجهم، غيابا يكاد يكون تاما.

بمجرد قيام ثورة 1952 ظهرت كتابات جديدة مدهشة، بل وعبقريات مدهشة فى القصة والكتابة المسرحية والصحفية والشعر، وفى الموسيقى والغناء، وكأنها كانت فقط تنتظر حتى تفتح لها ثورة 1952 الأبواب، وتأذن لها بالدخول. ربما كان أصحاب هذه المواهب يكتبون أو يلحنون قبل الثورة، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك على استحياء، وفى مجلات مغمورة لا يكاد يقرأها أحد، أو يغنون لبعضهم البعض فى منازلهم، فأتت ثورة 1952 فإذا بالكتاب المغمورين يصبحون بين يوم وليلة من المشاهير، وإذا بالملحن أو المغنى المغمور يملأ الدنيا ويشغل الناس.

هل أنا فى حاجة إلى ذكر أسماء يوسف إدريس فى القصة، ونعمان عاشور وألفرد فرج وزكى طليمات فى المسرح، وصلاح عبدالصبور وحجازى وصلاح جاهين فى الشعر، وكمال الطويل وبليغ والموجى وعبدالحليم حافظ فى الموسيقى والغناء، وأحمد بهاءالدين فى الكتابة الصحفية..إلخ؟ لقد تركوا جميعا آثارا باقية فى حياتنا الثقافية، وأسسوا مدارس جديدة، كل فى مجاله، تخرج منها التلاميذ وتلاميذ التلاميذ. نعم، لقد استمر طه حسين والحكيم والعقاد يكتبون بعد الثورة، وظل يوسف وهبى يمثل ويخرج الأفلام والمسرحيات، وظل عبدالوهاب وأم كلثوم ينتجان أعمالا عظيمة، وظل فكرى أباظة وزكى عبدالقادر وأحمد الصاوى محمد يكتبون أعمدتهم الصحفية، ولكن كان على هؤلاء جميعا الاعتراف، بطيب خاطر أو بدونه، بأنه قد أصبح لهم فجأة منافسون حقيقيون، وأن العصر المختلف لابد أن تعبر عنه ثقافة مختلفة، وأن التركيب الطبقى الجديد الذى تكون بين ثورتى 1919 و1952، يحتاج إلى قصص وروايات ومسرحيات وصحافة وموسيقى وغناء من نوع جديد.

***

إنى أزعم أن شيئا مماثلا لابد أن تسفر عنه ثورة يناير 2011، بل إن بوادر التجديد قد ظهرت بالفعل، وهى بدورها تعكس (وسوف تعكس) عصرا جديدا وتركيبا اجتماعيا جديدا تكون خلال فترة أطول من نصف قرن، هى التى تفصل بين ثورتى يوليو 1952 ويناير 2011.

لابد أن نلاحظ مع ذلك أن طول الفترة التى انقضت بين الثورتين الأخيرتين (52 و2011) بالمقارنة بالفترة التى انقضت بين الثورتين (1919 و52) كان لابد أن يؤدى إلى نتيجتين مهمتين:

أولا: أن الجيل الجديد من المبدعين فى حالة ثورة يناير 2011، كان لديهم أسباب أقوى للشكوى من حالة التدهور العام فى الثقافة المصرية من الجيل الذى فجرت مواهبه ثورة 1952. لقد جاء جيل ثورة يناير بعد فترة طويلة من انتكاسة ثورة 1952، أى بعد فترة طويلة من انسحاب الجيل المبدع السابق وتركه الساحة شبه خاوية. ولنكتف بذكر أمثلة قليلة. لقد توقف يوسف إدريس عن الإبداع فى السبعينيات، وتضاءل بشدة إنتاج كمال الطويل والموجى وصلاح جاهين فى الوقت نفسه. هاجر هجرة مؤقتة أحمد بهاءالدين وعبدالعظيم أنيس ومحمود العالم، وكثيرون غيرهم، فى السبعينيات أيضا. وعندما عاد بعضهم فى الثمانينيات كان عليهم الانزواء بصورة أو بأخرى بسبب ما فرضه المناخ السياسى والاجتماعى من ضعف الحافز على الإبداع. بعبارة أخرى، عندما جاء جيل ثورة 2011 لم يجد فى الساحة أمثال الحكيم وطه حسين والعقاد، ولا أمثال عبدالوهاب وأم كلثوم، ولا أمثال يوسف وهبى والريحانى، ولا وجد خلفاؤهم المبدعون بل وجدت الساحة، ويا للأسف، شبه خاوية، وكأن على هذا الجيل أن يشيد بنيانا جديدا تماما، ابتداء من وضع الأساس.

ثانيا: بسبب هذا التأخر فى مجىء الربيع، عقب شتاء طويل وقاسٍ، كان لابد أن تظهر براعم جديدة حتى قبل قيام ثورة يناير، وكأن بعض المواهب لم تحتمل انتظار ظهور الشمس فخرجت إلى الوجود حتى قبل أن تتاح لها الفرصة الكاملة للتعبير عن نفسها.

بعض هذه البراعم جذبت الأنظار وحققت نجاحا ملحوظا، ولكن كثيرا منها لم يلتفت إليها أحد. لقد قرأت فى السنوات القليلة السابقة على الثورة بعض الروايات والقصص القصيرة البديعة، التى نشرها بعض الناشرين المغمورين، بعضهم فى خارج القاهرة، أو لم تعثر على ناشر على الإطلاق، رغم جمالها وصدقها، واستحقاقها للنشر والتنويه، بسبب ضعف حركة النقد الأدبى فى مصر فى سنوات القحط السابقة، وسيطرة نقاد ينتصرون لأصدقائهم ومعارفهم أكثر مما ينتصرون للعمل الأدبى أو الفنى الجميل.

***

ما هى السمات التى نتوقع أن تكون لأدب (وثقافة) ما بعد ثورة يناير 2011؟ دعنا نستعين، فى محاولة اكتشاف هذه السمات، باسترجاع ما أحدثته الثورة السابقة من تغييرات فى الثقافة السائدة.

كان لثورة 1952 آثار لا شك فيها فى مضمون الثقافة المصرية، وفى أسلوبها وإيقاعها، عكست كلها ما كان يجرى تحت السطح من تغييرات اجتماعية فى العقود السابقة على الثورة. لقد أتت ثورة 1952 بثقافة ذات إيقاع أسرع، ولم تكن سرعة الإيقاع واضحة فقط فى الموسيقى والغناء بعد 1952، بل كانت واضحة أيضا فى الفرق بين إيقاع قصص يوسف إدريس، وإيقاع قصص محمود تيمور مثلا أو حتى نجيب محفوظ، أو بين مقالات أحمد بهاءالدين الصحفية ومقالات زكى عبدالقادر أو حتى محمد التابعى.

كذلك أصبح أسلوب الكتابة أبسط بعد 1952، بل وظهرت دعوات للتحرر من القصيدة العمودية فى الشعر، ومن الالتزام باللغة الفصحى فى الرواية والقصة.

ولكن التغيير الأهم والأعمق كان بلا شك فى مضمون الثقافة، وهو الذى عبّر عنه بفصاحة وجرأة كتاب عبدالعظيم أنيس ومحمود العالم الذى أشرت إليه. كانت الثورة الثقافية الكبرى التى حدثت بعد 1952، هى فى وضع حد للتحيز الطبقى، وفى استلهام حياة الطبقات الدنيا، من الفلاحين والعمال، بدلا من الاقتصار على وصف حياة القصور والطبقة المتوسطة. كان الأدباء والشعراء والموسيقيون الذين عبّروا عن مشاعر ما بعد ثورة 1952، ذوى جذور طبقية أقرب إلى هذه الطبقات الدنيا، مما كان أدباء ما قبل الثورة، كما أنهم وجدوا أنفسهم فى كنف سلطة جديدة بعد 1952، كان لرجالها هم أنفسهم نفس هذه الجذور الطبقية. قارن هذا بأدباء وفنانى ما قبل 1952، الذين كانوا ينتمون إلى طبقات أعلى، ومن كان منهم قد صعد من بدايات متواضعة (كطه حسين مثلا فى الأدب، وأم كلثوم وعبدالوهاب فى الموسيقى والغناء) كان يكتب وينتج فى كنف وتحت رعاية طبقة من الباشوات والاقطاعيين الذين كان من الصعب فى ظلهم تجاوز الحدود التى رسمها النظام الطبقى السائد.

***

ما الذى يمكن أن نتوقعه الآن من ثورة 2011؟ أما التغيير فى الإيقاع والأسلوب فلاشك فيه، وقد بدأ بالفعل، وأعتقد أنه سوف يتسارع سواء رضينا عنه أو كرهناه. اللغة العامية تزحف زحفا مخيفا بسبب ما حدث من تدهور فى التعليم (نرجو أن تؤدى ثورة يناير إلى وضع حد له)، ولكن أيضا بسبب تطورات اجتماعية يصعب وضع حد لها. وإيقاع الكتابة والموسيقى لابد أن يستمر فى التسارع استجابة لتزايد الإيقاع فى كل جوانب الحياة، ولتطور تكنولوجى فى وسائل الاتصال لايبدو أن هناك أى قوة تستطيع وقفه. ولكن ماذا عن مضمون الثقافة الجديدة؟
لا يمكن بالطبع أن نتصور تراجعا عما حدث من تطور بسبب ثورة 1952 فى المضمون الطبقى للثقافة المصرية، فهذا مكسب لا يمكن أن يضيع. ولكن هناك مكاسب أخرى أعتقد أن ثورة يناير 2011 سوف تفتح لها الأبواب (بل وبدأت فتحها بالفعل)، وسوف نجنى ثمارها خلال العقود القادمة. إنى أتصور أن يحدث هذا التقدم المأمول فى ثلاثة مجالات على الأقل، لم تستطع ثورة 1952، رغم كل النيات الطيبة، أن تحدث تقدما ملحوظا فيها، يتعلق أولها بتحرر المرأة، والثانى بالتحرر من سطوة وقهر العاصمة، والثالث بالتحرر من التفسيرات اللا عقلانية للدين.

ففيما يتعلق بتحرر المرأة، لا يقتصر التقدم المتوقع فى رأيى على حقيق مساهمة للمرأة، فى الحياة الأدبية والفنية، أكبر بكثير مما تحقق لها حتى الآن، ولكن أيضا بتغيير الصورة التى تظهر بها المرأة فى الأعمال الأدبية والفنية. لن تظهر المرأة المصرية بعد الآن فى الصورة التى ظهرت بها أمينة رزق فى أفلام يوسف وهبى فى الأربعينيات، امرأة حزينة ومقهورة وفى رداء أسود على الدوام، ولا حتى فى الصورة التى ظهرت بها فاتن حمامة فى أفلام الخمسينيات والستينيات، امرأة تطالب بحقوقها فتنجح أحيانا وتفشل فى معظم الأحيان، بل الأرجح أنها ستظهر ظهور الند للند أمام الرجل، كما ظهرت الفتاة والمرأة المصرية فى ميدان التحرير طوال سنة 2011.

أتوقع أيضا أن تعبّر الثقافة الجديدة فى مصر عن نهاية احتكار القاهرة (والإسكندرية أحيانا) للحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، فلا تظهر رواياتنا وأفلامنا السينمائية مثلا وكأن المبرر الوحيد للمحافظات خارج القاهرة هو إعداد شاب واعد للتوظف فى القاهرة، أو استقبال موظف مغضوب عليه ومنقول من القاهرة.

لقد بدأت ثورة 1952 بداية متواضعة فى هذين المجالين، فسمحت بدخول أول امرأة عضوا فى مجلس الشعب، وأن تصبح أول وزيرة فى الحكومة. كما بدأت سياسة نشر الجامعات فى الأقاليم ابتداء من انشاء جامعة أسيوط، بنية مخلصة لكسر احتكار القاهرة والإسكندرية للحياة الجامعية والثقافية. ولكن الضعف الذى أصاب الثورة عقب هزيمة 1967، وإن لم يمنع المزيد من مساهمة المرأة فى الحياة العامة، ولا إنشاء المزيد من الجامعات الإقليمية، فإنه أدى إلى انسداد قنوات التعبير عن النفس أمام المرأة المصرية وأمام سكان المدن الإقليمية على السواء.

من أفضل ما أظهرته ثورة 2011 اشتراك المرأة المصرية فى الثورة على نحو غير مألوف إلى جانب الرجل، واشتراك مختلف المحافظات من خارج القاهرة والإسكندرية فى التعبير عن نفس الأهداف وتقديم نفس النوع من التحضيات. وكان من أجمل الأمثلة على ذلك، مثل تلك الفتاة الصعيدية الرائعة (سميرة إبراهيم) التى حدّت السلطة واعتداءاتها، وذهبت للقضاء مطالبة بحقها، فحصلت عليه ووقف أبوها الصعيدى الشجاع إلى جانبها فى كل خطوة.

لابد أن تعبر الحياة الثقافية بعد 2011 عن هذه التغييرات، وإن كان من الصعب أن تتنبأ بالأشكال الفنية التى ستستخدم للتعبير عنها.

كذلك لابد أن تعبر الحياة الثقافية الجديدة فى مصر عن تصدى الفكر العقلانى للتفسيرات اللا عقلانية للدين. لقد ظهرت قوة هذا الاتجاه العقلانى فى الأيام الأولى لثورة 2011، بل وحتى فيما حصل عليه من نسبة الأصوات فى الانتخابات. ولا يجب أن نصاب بالإحباط لما قد نراه ونسمعه مما قد يدل على عكس ذلك. فالواجب أن نستبشر بالآخذ فى النمو، مهما بدا لنا من مقاومة عنيفة من جانب نوع من التفكير آخذ فى الزوال.
د / جلال أمين

aymaan noor
06-01-2012, 10:39 PM
القادة الجدد
ما يسمى بالربيع العربي أدخل تغييرات إيجابية كثيرة على عقول ونفوس الشعوب العربية التي مَرَّ بها وفتح أمامها آفاقاً جديدة، وكان من جملة الأمور المهمة التي أحدثها إعادة تشكيل الطبقة السياسية، بل يمكن القول : إنه كان وراء أهم التغييرات السياسية التي حدثت عبر مرحلة ما بعد الاستعمار، ومن الواضح أن الإسلاميين صاروا اليوم أحد أعمدة هذه الطبقة، على ما رأيناه في تونس وليبيا والمغرب، وما نراه اليوم في مصر، وهذا يحمل بالنسبة إلى الشعوب العربية بشرى خير، كما يحمل تحدياً جدياً لكل الجماعات والأحزاب الإسلامية التي صارت في واجهة المشهد السياسي اليوم .
وهذه بعض المقاربات لهذا الوضع :
1ـ بعض الإسلاميين وجدوا أنفسهم في بؤرة الحراك السياسي من غير سابق ثقافة أو خبرة سياسية، وبعضهم مارس السياسة منذ أمد لكنه اليوم يقود العمل السياسي في بلاده، كما هو الشأن في المغرب وتونس، وهذا في الحقيقة يحتاج إلى إدراك عميق لحاجات البلاد والعباد، ومن المهم في هذا السياق إدراك عدد من الأمور : ـ الجماهير تعودت التظاهر والاحتجاج، والديموقراطية الوليدة في بلدان الربيع العربي ستوفر المزيد من الفرص لذلك، ومن هنا فإن الناس الذين يهتفون اليوم لحزب من الأحزاب قد يهتفون ضده بعد شهر أو شهرين، كما أن من يمنحك صوته اليوم يستطيع سحبه منك في أي انتخابات قادمة .
ـ ما هو مطلوب من القادة الإسلاميين الجدد بعد أن صاروا في سدة الحكم مختلف تماماً عما كان مطلوباً منهم حين كانوا في المعارضة، إنهم باختصار مطالبون اليوم بما كانوا يطالبون به الحكومات السابقة، بل إن الناس يتوقعون الكثيرالكثير من الإسلاميين الذين كان سقف مطالبهم عالياً، وكان نقدهم حاداً .
ـ إن بعض الناخبين منحوا أصواتهم للإسلاميين تعاطفاً معهم بسبب مالا قوة من اضطهاد وإقصاء في المراحل الماضية، وبعضهم منحوهم أصواتهم كي يجرِّبوهم، ويروا ما عندهم من خطط وبرامج إصلاحية على أمل أن يجدوا لديهم ما فقدوه عند غيرهم، ولهذا تكاليفه واستحقاقاته الباهظة .
2ـ الشعوب تأمل في أن يقدِّم القادة الإسلاميون الجدد نموذجاً واضحاً في أمرين كبيرين :
الأول : النزاهة الشخصية والبعد عن استغلال الوظيفة لتحقيق مكاسب شخصية، أو مكاسب للأهل و العشيرة والجماعة والحزب .
الثاني : معالجة المشكلات المتأسِّنة التي عانت منها شعوب الربيع العربي في حقب وعهود متتابعة، ويأتي على رأس تلك المشكلات مكافحة الفساد والبطالة وتأمين انتعاش اقتصادي جيد إلى جانب بسط الأمن وترسيخ الاستقرار، وحفظ حقوق الناس وكراماتهم.
3ـ إن سياسة الشعوب وإصلاح أحوال العباد والبلاد تقوم في الرؤية الإسلامية على تقدير المصالح والمفاسد، ومن المعروف في هذا الصدد أنه يتم عضُّ الطرف عن المفسدة الصغيرة من أجل مصلحة كبيرة، كما أنه يتم غضّ الطرف عن المصلحة الصغيرة من أجل درء مفسدة كبيرة، والمباشرون للسياسة وأهلُ الخبرة والاختصاص في كل بلد هم الذين يقدرون ذلك، وإن العمل على هذا يتطلب فهماً دقيقاً للقوى والتوازنات القائمة على الصعيد الداخلي والإقليمي والعالمي .
4ـ إن مهمة الدعاة هي تبليغ الناس رسالةَ الإسلام على نحو كامل وواضح، وينبغي على الساسة توفير الأجواء التي تساعد على ذلك، وعلى الناس الذين فهموا الإسلام أن يقوموا بمطالبة الحكام بتطبيق أحكام الشريعة، كما أن عليهم أن ينتخبوا المرشحين الذين تنطوي برامجهم الانتخابية على ذلك، هذا هو المسار الصحيح، وعلى كل حال فإن الأولوية في ظني ستكون لتحسين الاقتصاد وترسيخ سيادة القانون وضمان الحريات إلى جانب إنعاش الجانب الروحي والأخلاقي وبعد ذلك يكون التقنين وسن التشريعات، فالإسلام مجموعة قيم، والقيم لا تُفرض، ولكنها تجذب الناس إليها من خلال تجسدها في سلوك الأخيار ومواقفهم.
د: عبد الكريم بكار

aymaan noor
06-01-2012, 11:54 PM
إدارة الثقافة
لو عدنا إلى أدبيّاتنا عبر القرون الماضية لوجدنا أن معظم تنظيرنا للشؤون الثقافية كان ينصبّ عليها بوصفها علوماً واختصاصات معرفيّة منظمة.
وربما سادت تلك النظرة بسبب قلة ما في أيدينا من المعارف والمعطيات المتعلقة بالإنسان باعتباره كائناً متعدّد الجوانب ومتعدّد الاحتياجات.
أما اليوم فإن المفهوم (الأنثروبولوجي) للثقافة آخذ في الانتشار والرسوخ؛ حيث إن هناك اعتقاداً متزايداً بمحدوديّة تأثير (العلم المجرّد) في صياغة السلوك الإنساني، وفي توجيه حركة الحياة اليومية. الثقافة كما بلورها علماء الإنسان هي ذلك النسيج المكون من العقائد والمفاهيم والنظم والعادات والتقاليد وطُرُز الحياة السائدة في بقعة محدّدة من الأرض. إنها طريقة عيش شعب بعينه، أو هي ما يجعل الحياة جديرة بالعيش، وكثير من مكونات الثقافة يستعصي على التخطيط والتنظيم؛ لأنها تشكل الخلفيّة (اللاواعية) لكل تخطيط وتنظيم. إن تنوع العناصر المكونة للثقافة يمنحها قوة هائلة في مواجهة الوافدات الأجنبيّة، وما يمكن أن تتعرض لها من ضغوطات داخليّة. إنه حين يتعرض أحد أنساق الثقافة للهجوم أو الهون، فإنها تعتمد في استمرارها واستعادة حيويّتها على باقي أنساقها، لكن نقطة قوة الثقافة هذه هي أيضاً نقطة ضعفها؛ حيث يعرّضها تنوّع مكوّناتها في أحيان كثيرة إلى ما يشبه الانقسام على الذات بسبب التصادم بين بعض أنساقها؛ وهذا ما يجعلنا في حاجة إلى ما سميناه (إدارة الثقافة).

أودّ هنا أن أدلي بالملاحظتين الآتيتين في هذه القضية:
1- في كل مجتمع نوعان من الثقافة: ثقافة عليا، وثقافة شعبيّة أو ثقافة نخبة وثقافة جماهيريّة. الثقافة العليا تتكون بطريقة واعية وتكون أكثر دراية ببنيتها العميقة، وذلك لأننا نتملكها عن طريق القراءة والتأمل والحوار الرفيع والمقارنة وطرح الأسئلة.. أما الثقافة الشعبيّة فإنها ليست كذلك، إنها تتكون بطريقة غير واعية وغير مقصودة، حيث يتشربها أبناء المجتمع ويتشبعون بها كما يتنفسون الهواء. ونقطة ضعفها هذه هي نقطة قوتها؛ حيث إن اختراقها من قبل الثقافات الأجنبية يكون عسيراً بسبب عشوائيّتها وكتامتها ورقابة المجتمع المشدّدة عليها. أما الثقافة العليا والتي نبدأ بنشرها منذ الصف الأول الابتدائي إلى ما لا نهاية. هذه الثقافة هي التي تمثل الأمة أمام الأمم الأخرى، وهذا ما يجعلها على درجة حسنة من المرونة والقدرة على التكيف وتمثل الرموز الثقافية الأجنبية، أي أن كثيراً من الاقتباس والتطوير يأتي عن طريقها. تنظيمها وتمثيلها الخارجي لثقافة الأمة يعرّضها لأمرين مزعجين:
الأول: سهولة اختراقها؛ حيث إن طريقة اكتسابها الواعية تفتح الطريق لغزوها وبالتالي تحويرها وتهجينها.
الثاني: جفول الوعي الشعبي من أصحابها والشعور بأنهم يتجاوزون حدودهم إلى درجة يسوغ معها اتهامهم بخيانة الأمة وبيعها للغرباء. ومع أن شيئاً من هذا ينطبق فعلاً على بعض المثقفين إلا أن المشكلة أن الثقافة الشعبيّة لا تملك المعايير المنهجيّة، ولا الأسس المنطقيّة التي تمكنها من الحكم الراشد على تصرفات النخبة، مما يجعل موقفها شاعرياً أكثر من أن يكون عقلانياً. وهي بدافع من الخوف من الانقطاع تلجأ في كسب قضيتها إلى التيارات النخبويّة الأكثر محافظة وتقليديّة لتقدم لها العون في كبح اندفاع التيارات المتحرّرة والمتطلعة إلى التحديث. وهذا يجعل من الثقافة الشعبيّة عاملاً مهماً في زيادة الانقسام بين تيارات الثقافة العليا.
يمكن القول: إن تطوير الثقافة الشعبيّة وتخليصها من العادات والسلوكات الخاطئة يقع على عاتق الصفوة أصحاب الثقافة العليا، لكن من الصعب أن يحصلوا على الاستجابة لمناشداتهم وطروحاتهم ما داموا موضع شك وريبة من أولئك الذين يحتاجون لخدماتهم.
في العالم الإسلامي قامت الثقافات الوطنية والمحلية منذ أمد بعيد بإفراغ طاقاتها على الحضّ والكفّ في الثقافة الإسلاميّة المستندة إلى الكتاب والسنة، واجتهادات الفقهاء، وصار من غير الممكن المضي قدماً في تطوير أيّ شأن محلي بعيداً عن مدلولات هذه الثقافة ورمزيّاتها وتحديداتها. وهذا يعني أن ثقافة النخبة لا تستطيع أن تصبح قوة محرّكة للناس ما لم تتشرب روح الدين، وما لم تلتزم بقطعياته وأُطُره العامة. إننا في مرحلة حرجة يحتاج فيها كل من يروم الإصلاح إلى ولاء الناس وحماستهم وتضحياتهم؛ لأن المفكر لا يملك أكثر من ناصية التنظير، والجماهير التي ستتحمل عبء التنفيذ؛ ولهذا فلا بدّ من الاستحواذ على رضاها وإعجابها. وستكون النخبة في وهم كبير إذا ظنّت أنها تستطيع إحداث تغييرات كبرى من غير مساندة حقيقية من طيف واسع من أبناء الأمة. وقد أثبتت التجارب الكثيرة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة أن كل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. وحين يجافي أهل الرؤية والخبرة روح الدين فإنهم يسلمون زمام الأمة إلى عناصر تملك الكثير من الحماسة والاندفاع والقليل من البصيرة والفهم لمتطلبات المرحلة.
إن طاقة ثقافة الأمة تكمن في المستوى الشعبي منها، على حين أن عقلها ورشدها في المستوى الصفوي. وهذا التفاوت هو دائماً مصدر للتوتر والنـزاع، لكن في الوقت ذاته يمكن أن يكون مصدراً للتطوير نحو الأحسن والأقوم إذا أدرنا العلاقة بينهما بما هو مطلوب من الذكاء والوعي.
2- إن تنوع الأنساق المكونة للثقافة يحيل دائماً على إمكانية حدوث الصدام والنـزاع، كما هو الشأن في التنوّع والتعدّد. ويبدو أن أشد أنواع التوتر تلك التي تقع بين الثقافة بوصفها (هُوِيّة) وسمات خاصة بالأمة، وبين الثقافة بوصفها تعبيرات عن نَزَعات استهلاكية أو تعبيرات عن تحرّكات لتلبية حاجات الجسد، أو تعبيرات عن التكيف مع ظروف ومعطيات شديدة القسوة. وكلّما أوغل الناس في مدارج الحضارة اشتد أُوار الصراع بين هذين النسقين من أنساق الثقافة؛ ذلك لأن ثقافة الهُويّة تتسم بالتعالي عن الانشغال بالواقع، وتنزع نحو المطلق. على حين أن التحضر يزيد وعي الناس نحو مصالحهم، ويفتح شهيّتهم على الاستهلاك، مما يفضي في نهاية المطاف إلى تضخم الثقافة المتعلّقة بتسيير الحياة اليومية وتحقيق المنافع الشخصية، وهذا يجعل الناس يشعرون ويظهرون بأنهم أكثر دنيويّة، وهو ما يثير حساسيّة الترميزات العميقة للهُويّة في الثقافة الإسلاميّة.
من الواضح اليوم أن ثقافة ما بعد الحداثة تشجع على انبعاث الهُويّات في كل أنحاء العالم من خلال عمل غير مقصود، وهو المناداة بالنسبيّة الثقافيّة والتأكيد على انعدام الأطر والمرجعيّات، وجعل الحقيقة شيئاً تابعاً للثقافة. وتكمّل العولمة المهمة حين نعتمد نظام التجارة أداة أساسية في تسليع كثير من مظاهر الحياة، وجعلها أموراً جاهزة للمتاجرة والمساومة. إن هذا الدفق الهائل من الرموز والصور الاستهلاكيّة يساعد -على نحو استثنائي- على انتشار الهُويّات المقاتلة دفاعاً عن الوجود، وقد لا يكون أمامنا لإدارة الصراع المحتدم في عمق الثقافة على هذا الصعيد إلا أن ندعم الأنشطة الروحيّة والأدبيّة والاجتماعيّة ذات النفع العام، وأن نحاول إضفاء المعنى على الأنشطة الدنيويّة من خلال الحرص على شرعيتها، وشرح ما يمكن أن يجعلها موصولة بالأعمال الأخرويّة. وما لم نفعل ذلك فإننا سنعاني من الانقسام والتمزق في أعماق ثقافتنا، وسنشعر بالكثير من تشتت الجذور وضياع الأهداف الكبرى.
أ.د. عبدالكريم بكار

أ/رضا عطيه
07-01-2012, 12:53 AM
جزاكم الله خيرا على المجهود الطيب والرائع

ولى سؤال أتمنى أن يتسع وقتكم للإجابة عليه

مالفرق بين الصفوة والنخبة ؟

شكرا جزيلا

د.عبدالله محمود
07-01-2012, 01:20 AM
جزاكم الله خيرا على المجهود الطيب والرائع

ولى سؤال أتمنى أن يتسع وقتكم للإجابة عليه

مالفرق بين الصفوة والنخبة ؟

شكرا جزيلا
جزانا وإياكم أخى الكريم
النخبة هم من يتميزون بإجادة الأعمال عن أندادهم " أقرانهم "
أما الصفوة فهم أصحاب النفوذ فى المجتمع " أصحاب المراكز والسيطرة "

الخلاصة :
الصفوة فرز أول
النخبة فرز تانى
باقى الشعب هو كسر المصنع اللى هيتباع مع الخردة

aymaan noor
07-01-2012, 01:20 PM
القراءة الواعية
لماذا نقرأ ؟الإنسان متسائل بالفطرة ، تواق إلى اكتشاف المجهول بالطبيعة ، وحين يرتقي في معارج الحضارة ، يتحول لديه كثير من المعارف العلمية من معطيات ممتعة ومرفهة إلى ضرورات حياتية ، حيث يتوقف عليها نموه الروحي والعقلي والمهاري.

والحضارة ليست في جوهرها الوصول إلى معلومات جديدة ، وإنما توظيف المعارف المتاحة في تحسين نوعية حياة الناس والارتقاء بجوانبها المختلفة ، من هنا فإن أهداف الناس من وراء ( القراءة) عديدة ، تنوع بحسب وضعية القارئ ، وما يؤمله من وراء مطالعة كتاب ما.

الظروف الحياتية التي يمر بها كل واحد منا ، تجعل الأهداف الباعثة على القراءة تتفاوت تفاوتاً بعيداً ، فقد تكون القراءة من أجل توسيع قاعدة الفهم ، وقد تكون من أجل الحصول على معلومات حول موضوع ما ، وقد يكون من أجل التسلية أو رفع الحرج ، أو الرضوخ لعادة معينة ، أو ملئ الفراغ ، وقد تكون من اجل متعة روحية أو عقلية ، أو تلبية لمتطلبات تطور مهني للمرء ، أو استجابة للشعور بالواجب ، أو لإظهار حب المعرفة والتشبه بأهلها.
وكثير من الناس لا يعرف لماذا يقرأ ، ولا يبالي بمساءلة نفسه عن الهدف التفصيلي الذي يقرأ لأجله ، مع أن تحديد ذلك بدقة مهم جداً لتحديد ما يلائم الهدف من أنواع الكتب وأنواع القراءة ومستوياتها .

ويمكن أن نقول: إن الأهداف العامة لقراءة معظم الناس ثلاثة، وهي:
1- القراءة من اجل التسلية ، وتزجية الوقت وملء الفراغ . وهذه القراءة الأكثر شيوعاً بين الناس. وتثبت بعض الإحصاءات أن نحواً من 70% من القراء يتجهون إلى القراءة من اجل التسلية ، فهناك أعداد هائلة من الناس تتجه إلى قراءة القصص والروايات والمسرحيات والجرائد والمجلات ( الخفيفة ) ، والسبب في هذه الوضعية أن القراءة من اجل التسلية ، لا تحتاج إلى أية مهارة ،

ولا تكلف جهداً يذكر ، إذ بإمكان القارئ أن يلقي بالكتاب متى ما شاء ، وان يقنع منه بأية فائدة يمكن أن يحصل عليها ، حتى إن أكثر الكتب صعوبة يمكن أن يتم الاطلاع عليه من اجل التسلية.
أضف إلى هذا أن السواد الأعظم من الناس لا يملك أية أهداف أو محاور معينة ، تلزمه بمطالعة نوع معين من الكتب ، أو تلزمه بوضع برنامج قرائي محدد ، وهذا يدفعه دفعاً إلى قراءة أي شيء يقع تحت يده ، وسيقرؤه باهتمام من درجة اهتمامه باختياره!.

ومع هذا فإن من اجل التسلية ، لا تخلو من فائدة فالقارئ قد يتخلص بها من الفراغ الذي يؤدي إلى الشعور بالتفاهة ، وقد يشغل بها عن ملء فراغه بأشياء ضارة ، وهي بالإضافة إلى هذا قد تكون علاجاً لبعض الأمراض العصبية ، فالخرف الذي يصيب كبار السن يعالج اليوم بالقراءة إلى جانب علاجات أخرى ، كما أن في القراءة علاجاً جيداً لمرض التمركز الشديد حول الذات ، الذي يعاني منه بعض الناس . وهكذا فصحبة الكتاب خير على كل حال.

2- القراءة من اجل الاطلاع على معلومات ، أسلوب يمارسه كثير من الناس أيضاً ، والجهد الذي يتطلبه هذا النوع من القراءة محدود أيضاً ، إذ من السهل على من يعرف شيئاً من أحكام الصلاة أن يضيف معلومة إلى معلوماته حول خلاف فقهي ، في كون أحد أفعالها سنة أو واجباً . كما أن من السهل على من يعرف جغرافية بلد من البلدان أن يضيف إلى معلوماته شيئاً عن أزمته المائية، أو عن تطور عدد سكانه..

إن القراءة من اجل الحصول على معلومات شائعة جداً، لأن في عالمنا الإسلامي ( حمى ) تجتاح كثيراً من الناس، وهي حمى البحث عن الأسهل، والوصول إليه بأسرع وقت ممكن!

والدليل على شيوع هذا النوع من القراءة: الشكوى المستمرة من قبل كثير من الناس من صعوبة بعض الكتب، واستغلاقها على افهماهم، فهم لا يريدون أن يشاركوا المؤلف في عناء التجربة. ودليل آخر على ذلك ، هو أننا نشعر أن لدى الناس معلومات كثيرة حول قضايا وأحداث وأشياء كثيرة ،

لكن الملاحظ أيضاً أن فهم كثير منهم لا يتحسن ، كما أن قدرتهم على المحاكمة العقلية ما زالت ضعيفة ، وقدرتهم على غربلة المعلومات ودمجها في أطر ومحاور أكثر شمولية أشد ضعفاً وليس من الغريب أن نصف شخصاً ما بأنه كثير القراءة ، ثم نجد أن ( مركبه العقلي) لم يطرأ عليه أي تغير خلال عشرين سنة من القراءة والاطلاع!.

3- القراءة من اجل توسيع قاعدة الفهم، وهي أشق أنواع القراءة وأكثرها فائدة. والذين يقرؤون من أجل هذا الغرض قلة قليلة من الناس ، وذلك لأن أكثر الناس يعتقدون أن ما يملكون من مبادئ وقدرات ذهنية وإدراكية كاف وجيد ، فالناس لا يقبلون في العادة أي اتهام لهم بأن أذهانهم تعاني نوعاً من النقص ، كما أن القراءة من اجل تحسين نوعية الفهم شاقة جداً منذ بدايتها ،

فالكتاب الذي يرقى بفهم قارئه ليس ذلك الكتاب المفهوم لديه ، أو ذلك الذي يعرض معلومات وأفكاراً معروفة ، وإنما ذلك الكتاب الذي يشعر قارئه أنه أعلى من مستواه ، وأن فهمه يحتاج إلى نوع من العناء والجدية والتركيز . وحين ينجح القارئ في فهمه، فإنه يكون قد ارتفع إلى مستواه، وبذلك يكون قد تحسن تفكيره.

وقد يحدث أن يكون الكتاب مبتوت الصلة بثقافة القارئ، أو يحتوي على مصطلحات أو أفكار غريبة أو معقدة مما يجعل القارئ يشعر بالخذلان والانكسار، وهذا يعني أن القارئ قد لا يكون من الشريحة التي يستهدفها الكاتب. ولذا فإن الكتاب الذي يحسن الفهم، وهو كتاب يتحدى ولا يعجز ، فهو أعلى من مستوى القارئ لكن يمكن أن يرقى إليه إلى حد مقبول.

إن القراءة من اجل الفهم ، هي تلك القراءة التي تستهدف امتلاك منهج قويم في التعامل مع المعرفة ، وتكسبنا عادات فكرية جديدة ، وتلك التي تزيد في مرونتنا الذهنية ، كما تنمي الخيال لدينا ، وتجعلنا نرسم صوراً للأحداث والأشياء ، وهي اقرب إلى التكامل ، على الرغم من وجود نقص فيالمعلومات والمعطيات المتاحة ..

إن مكاسبنا من وراء كتب تعطي معلومات كمكاسب شخص امتلك قطعة ذهبية، أما مكاسبنا من وراء كتب تحسن الوضع الفكري لدينا، فهي مثل مكاسب من أعطي مفتاح منجم من الذهب.إن هذا النوع من القراءة هو الذي يجعل معلوماتنا، تزهو وتثمر.
أ.د. عبدالكريم بكار

أ/رضا عطيه
07-01-2012, 02:06 PM
جزانا وإياكم أخى الكريم
النخبة هم من يتميزون بإجادة الأعمال عن أندادهم " أقرانهم "
أما الصفوة فهم أصحاب النفوذ فى المجتمع " أصحاب المراكز والسيطرة "

الخلاصة :
الصفوة فرز أول
النخبة فرز تانى
باقى الشعب هو كسر المصنع اللى هيتباع مع الخردة
طمنت قلبى:d

المهم إن هيبقى لنا سعر نتباع بيه أحسن من مفيش ؟:022yb4:


شكرا جزيلا

صوت العقل
08-01-2012, 05:40 PM
حقيقى رائع .. شكراااااا .. جزاكم الله خيرا على الموضوع القيم ..

aymaan noor
11-01-2012, 01:41 AM
جزاك الله خيرا

[/b][/color][/size]
طمنت قلبى:d

المهم إن هيبقى لنا سعر نتباع بيه أحسن من مفيش ؟:022yb4:


شكرا جزيلا

حقيقى رائع .. شكراااااا .. جزاكم الله خيرا على الموضوع القيم ..

جزاكم الله خيرا على ردودكم و بارك الله فيكم

و ننتظر مشاركاتهم القيمة دائما والتى اعتدنا عليها منكم ،

بموضوعات لأهم مفكرينا والتى تختص بموضوع الثقافة ،

د.عبدالله محمود
19-01-2012, 08:05 PM
جزاكم الله خيرا على مجهودكم أستاذ أيمن

aymaan noor
20-01-2012, 02:51 AM
جزاكم الله خيرا على مجهودكم أستاذ أيمن

جزاك الله كل الخير أستاذ محمود ، و الشكر لله سبحانه و تعالى ثم لك على مجهوداتك القيمة
أعتذر عن تأخرى عن الكتابة فى هذا الموضوع ، و موضوع مصطلحات سياسية و ذلك لانشغالى بفترة الامتحانات ، و ان شاء الله قريبا نشترك سويا فى تقديم معلومات نحسبها قيمة وتستحق من أعضائنا الكرام قراءتها ، كما أننى أود أن أدعو أعضائنا الكرام و كل من قرأ و يقرأ هذين الموضوعين أن يضعوا بصمتهم فى هذين الموضوعين بمشاركاتهم القيمة

http://files.fatakat.com/2010/6/1277547429.gif

sahar2012
25-01-2012, 09:43 AM
أستاذ طالب الفردوس و أستاذ أيمن




http://files.thanwya.com/uploads/thanwya.com_13274760061.gif

د.عبدالله محمود
26-01-2012, 02:49 AM
جزاك الله كل الخير أستاذ محمود ، و الشكر لله سبحانه و تعالى ثم لك على مجهوداتك القيمة

أعتذر عن تأخرى عن الكتابة فى هذا الموضوع ، و موضوع مصطلحات سياسية و ذلك لانشغالى بفترة الامتحانات ، و ان شاء الله قريبا نشترك سويا فى تقديم معلومات نحسبها قيمة وتستحق من أعضائنا الكرام قراءتها ، كما أننى أود أن أدعو أعضائنا الكرام و كل من قرأ و يقرأ هذين الموضوعين أن يضعوا بصمتهم فى هذين الموضوعين بمشاركاتهم القيمة


http://files.fatakat.com/2010/6/1277547429.gif

لا أدرى علامَ شكرنى أخى الكريم ؟ وليس لى بالموضوع جهداً يُذكر
بارك الله فيك وجزاك الله خيراً

د.عبدالله محمود
26-01-2012, 02:50 AM
أستاذ طالب الفردوس و أستاذ أيمن






http://files.thanwya.com/uploads/thanwya.com_13274760061.gif

جزانا وإياكم
جزيل الشكر على مروركم الكريم

aymaan noor
29-01-2012, 12:04 AM
لا أدرى علامَ شكرنى أخى الكريم ؟ وليس لى بالموضوع جهداً يُذكر
بارك الله فيك وجزاك الله خيراً
لك منى كل الشكر أستاذى الفاضل ، فالإقرار بصاحب الفضل واجب
جزاك الله خيرا وبارك الله فيك
الثقافة العربية بين الأصالة والمعاصرة (1)
إن أول تكليف نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أهم أسس التثقيف
(( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ))
كان هذا النص قاعدة الإصلاح الأولى التي صنع النبي صلى الله عليه وسلم بها نواة مجتمع حضاري حوَّل مجرى التاريخ في منطقة لا تمتلك أنموذجاً للحضارة .
وفي واقعنا المعاصر ثمة انفصام بين هويتنا وثقافتنا يحكم مسبقاً على مشاريعنا بالعقم ، فالوطن العربي تمتلك شعوبه هوية تختلف عن هوية الشعوب الأخرى ، ولا يمكن بحال أن تتفاعل مع ثقافتها ، بل تنبهت مؤخراً إلى الغزو الثقافي الذي رافق الغزو الإعلامي وأصبح موضوع بحث ونقاش . يطرح هذا في أوساط المؤسسات الثقافية التي تقف حيرى أمام فشلها في الرقي بثقافة الشعوب وتنميتها .
إن الجدلية بين ثقافة المجتمع وقيمه لا يمكن أن تنفصم ، وكل تنمية للثقافة لا تنطلق من قيم المجتمع الذي تطرح فيه هي عقيمة ، ومن ثم فإن الشعب العربي لا يمكن أن يتفاعل مع ثقافات تتنافى مع قيمه وإن سميت ثقافة عربية .
ولا تعني أصالة الثقافة إهمال ثقافة الآخر وعدم الاطلاع عليها والإفادة منها ، كما لا تعني ثقافة دينية بالمعنى الكهنوتي ، وأيضاً ليست نشر العلوم الشرعية التخصصية التي تدرس في المعاهد كما هي عليه ، بل تعني العودة إلى الأصالة منهجاً وقيماً ومصدراً في تنمية ثقافة المجتمع أيا كان اتجاهها أدباً أو فكراً أو فناً .
والثقافة العربية ليست ثقافة مستوردة ، ولا مترجمة ، ولا ملفقة ، ولا منغلقة ، بل هي ثقافة تعتمد على الإبداع الذي ينبع من التأمل والنظر في الكون،ولا حدود لهذا الإبداع فأفقه مفتوح.
تعد ثقافتنا العربية من أغنى الثقافات العالمية وأهمها ، فبعد أن ترسخت جذورها قبل الإسلام لغة مشرقة وحكماً وخطباً وأمثالاً وشعراً تجلت فيه العبقرية العربية وكان صورة لحياة العرب ومرآة تفكيرهم ومشاعرهم ومسرح خيالهم ، تنزل القرآن الكريم بالعربية فأغناها معاني سامية وبياناً رائعاً ، وفتح لها سبل الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها .
وبعد السلطان المكين ، أقبل العرب على نقل علوم الأقدمين ، ومنها انطلقوا في آفاق العالم مستكشفين مبدعين إلى جانب عطائهم المستمر في الفقه والأدب وفنون القول كافة .
وخلال هذه المسيرة الشاقة تعرضت الثقافة العربية لسهام "الآخرين" ، الذين حاولوا الإساءة إلى اللغة العربية وإقصاءها عن التدريس ومجالات الحياة المختلفة ، ثم حاولوا إدخال مفاهيم مزيفة في الثقافة العربية ، ثم جاءت ثقافة العولمة لتزاحم الثقافة العربية في عقر دارها كما تزاحم ثقافات مختلف شعوب العالم لتجعله بلا حدود ولا ألوان ، ساحة للسلع ومتجراً واسعاً يكدس منه الطامعون أرباحاً خيالية هي عرق الكادحين ودم المناضلين في أرجاء الأرض .
إن قدر لغتنا العربية أن تقاوم الإقصاء والتشويه ، وقدر أمتنا أن تحافظ على هويتها وترد َالطامعين بها . إن إرادة الحياة هي الأقوى
والحقَّ هو الأبقى والمستقبل لمن صبر حتى نيل الظفر.

الصراع بين دعاة الأصالة والمعاصرة

لقد شهدت الساحة العربية توترات شديدةً بين ثنائيات عديدة مترادفات لمعنى واحد : التقليد والتجديد ، المحافظة والتحديث ، الجمود والتحرر ، الرجعية والتقدمية ، الأنا والآخر ، الداخل والخارج ، المحلي والعالمي ، القديم والجديد ، التراث والحداثة، ومنها الأصالة والمعاصرة .
وجدت منذ عصر النهضة ـ وتوجد الآن ـ في المجتمع العربي أقلية تدعو تصريحاً أو تلويحاً إلى تقليد الغرب جملة وتفصيلا ، بهدف الخروج من وضعنا البئيس . إن بعضهم يفسر هذا الميل بالقانون الاجتماعي الذي ذكره ابن خلدون ، القاضي بأن المغلوب مجبول على تقليد الغالب في كل شيء .
إن أمتنا العربية على الصعيد الثقافي لا تبدأ من العدم بل هي تستند إلى إرث ثقافي غني باذخ ، وما يشغلها الآن هو : كيف توائم بين هذا التراث وبين متطلبات العصر الذي نعيش فيه . هل تتمسك بالثقافة المتوارثة التي ألفتها أم تهجرها إلى ثقافة مستوردة ؟ خطران يتهددانها لأنها إن تمسكت بالقديم مكتفية به عاشت خارج الزمان ، وإن تلبست الجديد بلا روية عاشت خارج المكان .
إن هذه المشكلة قد شغلت العديد من المفكرين والباحثين ، ولكن من الجلي أن الثقافة ليست في أكثر مكوناتها صيغة جامدة لا تتغير ، بل هي نتاج بشري ينمو ويزداد عمقاً واتساعاً بجهود البشر . فالثقافة العربية في عصر المعري ببلاد الشام وعصر ابن رشد في الأندلس ليست الثقافة العربية في العصر الجاهلي أو صدر الإسلام أو العصر الأموي .
إننا نستطيع أن نقدر للتراث قيمته ودوره في تكويننا النفسي والاجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه حاجتنا اليوم ، وأن نقبل على الثقافة المعاصرة فنقتبس من ثقافات الآخرين ما تحتاج إليه ثقافتنا لتحقق معاصرتها ومواكبة الثقافات الأخرى ، ولاسيما في ميدان العلوم والتقانة والتقنية والعلوم المستحدثة في السنوات الخمسين الأخيرة ، فالمواءمة بين الموروث والجديد يحفظ للأمة هويتها ويجدد طاقتها على النماء والتطور .
أجل إن الثقافة العربية هي إحدى الثقافات الكبرى في تاريخ البشرية ، وهي مؤهلة اليوم لاستئناف دورها حاضنة لقيم الخير والعدالة والمساواة والمحبة والسلام ونابذة كل ما يشوه الإنسان من صور الشر والجور والعنصرية والظلم ، وذلك من خلال صيغة مركبة متحركة متطورة لا تتنكر للأمس الغابر ولا تغمض العين عن متطلبات اليوم والغد .
هكذا يوجد على الساحة العربية تياران يتفقان في الهدف ،محو التخلف ، ويفترقان في الأسلوب : الأصالة بالمحافظة على الموروث،أم النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك ؟
كان التيار الأول يمثل القديم الموروث في ثباته وشموخه ، وكان التيار الآخر يمثل الجديد الوافد في بريقه وإغرائه .
ولا ريب : أنه وجد غلاة في كلا الفريقين . ففي مقابل الذين يريدون تجديد الكعبة والشمس والقمر ، وجد الجامدون على كل قديم ، الذين يريدون أن يوقفوا حركة الفلك وسير التاريخ ، شعارهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ! وضاع الوسط بينهما حتى قال محمد كرد علي : نسينا القديم ، ولم نتعلم الجديد .
إنها ثنائية مقبولة إذا أعطيت الكلمة حقها من الفهم والتحليل ، وهي ثنائية التكامل ، لا ثنائية التضاد والتقابل ، وقد أحسن د. عبد المعطي الدالاتي صياغتها بقوله : " لن تمتد أغصاننا في العصر حتى نعمق جذورنا في التراث " .

مكونات الثقافة العربية
إن الثقافة العربية تتكون من مكونين رئيسيين : اللغة العربية والإسلام ومن هنا إصرار بعضهم على تسميتها : " الثقافة العربية الإسلامية " .
إن اللغة هي وعاء العلوم جميعاً ، وأداة الإفهام والتعبير العلمي ، والفني والعادي ، ووسيلة التأثير في العقل والشعور بأدبها ونثرها وشعرها وحكمها وأمثالها وقصصها وأساطيرها ، وسائر ألوانها وأدواتها الفنية .
ومن هنا فإن كل من يحارب اللغة العربية يحارب بالنتيجة الثقافة العربية . وكان من ديدن أعداء هذه الأمة إضعاف الفصحى ، وإشاعة العامية ، وإعلاء اللغة الأجنبية على اللغة القومية ، وإلغاء الحرف العربي في الكتابة ، وإحلال الحرف اللاتيني محله .
أما الدين فكل الثقافات مدينة للأديان في تكوينها وتوجيهها ، سواء أكان هذا الدين سماوياً أم وضعياً ، كما هو واضح في ثقافات الشرق والغرب ولاسيما الإسلام الذي له تأثيره العميق والشامل في ثقافة أمتنا العربية عن طريق عقائده الإيمانية ، وشعائره التعبدية ، وقيمه الخلقية ، وأحكامه التشريعية ، وآدابه العملية ، ومفاهيمه النظرية ، حتى إنه يعد مكوناً مهماً لثقافة غير المسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم ، وهو ينضح على تفكيره ووجدانه وعلاقاته ، شعر أم لم يشعر ، مما دعا الزعيم السياسي مكرم عبيد في مصر إلى القول : أنا نصراني ديناً ، مسلم وطناً .
ويأتي السؤال ـ الإشكالية : كيف تكون العلاقة بيننا وبين هذا الوافد الجديد ؟ كيف نوازن بين قديمنا وحديثهم ؟ وبين تراثنا الأصيل ومعاصرهم الدخيل ؟ هل العلاقة بين التراث القديم والوافد الحديث ـ أو بين الأصالة والمعاصرة ـ هي علاقة التضاد والتناقض ؟ فلا أمل في الجمع بينهما ، أو هي علاقة التنوع والتكامل وهنا يمكن الجمع بينهما .
السؤال خطير ، والجواب مهم ، ولاسيما في هذه المرحلة التي تسعى فيها أمتنا لتحقيق ذاتها ، بعد أن اكتشفت ذاتها التي غابت أو غُيبت عنها زمناً .
وقد أجاب عنه أناس بافتراض التناقض بين الأمرين ، فاختار فريق التراث والأصالة ، وعاشوا غرباء عن العالم والزمان .
واختار آخرون العصر والحداثة ، وعاشوا غرباء عن الأهل والمكان . وبقي آخرون مترددين بين أولئك وهؤلاء .

لا تعارض بين الثقافة العربية والمعاصرة
إن الموقف الصحيح هو الذي يُتخذ بعد الدراسة المتأنية لكل من الأمرين المعروضين . وقد سقط الكثير في هذا الخطأ الشنيع، حين تسرع في الجواب بغير علم عن هذا السؤال .
ويحكي لنا الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه " تجديد الفكر العربي " قصة تسرعه حين واجه السؤال عن طريق للفكر العربي المعاصر ، يضمن له أن يكون عربياً حقاً ( أي أصيلاً ) ومعاصراً حقاً .
" قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضاَ أو ما يشبه التناقض بين الحدين لأنه إذا كان عربياً صحيحاً ، اقتضى ذلك منه أن يغوص في تراث العرب الأقدمين حتى لا يدع مجالاً لجديد ـ وإن من أبناء الأمة العربية اليوم من غاصوا هذا الغوص الذي لم يبق لهم من عصرهم ذرَة هواء يتنفسونها ـ وأما إذا كان معاصراً صحيحاً ، كان محتوما عليه أن يغرق إلى أذنيه في هذا العصر بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه ، حتى لا تبقى أمامه بقية ينفقها في استعادة شيء من ثقافة العرب الأقدمين .
نعم قد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية والمعاصرة تناقضاً أو ما يشبه التناقض ، ولذلك يجب السؤال الذي يلتمس طريقاً يجمع الطرفين في مركّب واحد ، وكأنما هو سؤال يطلب أن تجتمع مع الماء جذوة نارة ، فهل بين الطرفين مثل هذا التناقض حقاً ؟ أو أن ثمة طريقاً يجمع بينهما ، ذلك هو السؤال " .
ويقول الدكتور : " لقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد ، ولكني كنت إزاءه من المتعجلين الذين يسارعون بجواب قبل أن يفحصوه ويمحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره ، فبدأت بتعصب شديد لإجابة تقول : إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً ، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة ، ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم ، بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل كما يأكلون ، ونجدَ كما يجدُون ، ونلعب كما يلعبون ، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون !! على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ ، فإما أن نقبلها من أصحابها ـ وأصحابها اليوم هم أبناء أوربا وأمريكا بلا نزاع ـ وإما أن نرفضها ، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانباً ونترك جانباً ، كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال ؛ بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة ، وربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوربا وأمريكا ، وجهلي بالتراث العربي جهلاً كاد أن يكون تاماً ، والناس ـ كما قيل بحق ـ أعداء ما جهلوا .
ثم تغيرت وقفتي مع تطور الحركة القومية ، فما دام عدونا الألدُ هو نفسه صاحب الحضارة التي توصف بأنها معاصرة ، فلا مناص من نبذه ونبذها معاً ، وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعين إلى طابع ثقافي عربي خالص ، يحفظ لنا سماتنا ويردُ عنا ما عساه أن يجرفنا في تياره فإذا نحن خبر من أخبار التاريخ ، مضى زمانه ولم يبق منه إلا ذكراه " . ويتابع الدكتور قوله : " ولولا رجوعي إلى ثقافتي العربية لدخلت القبر بلا رأس " ( تجديد الفكر العربي ، القاهرة ، دار الشروق ، ص12ـ 14 ) .

ماذا تعني الأصالة ؟

إن فهم الأصالة يقتضي ما يلي :
أولا : ضرورة المعرفة والفهم لثقافتنا : فهم هذه الثقافة من مصادرها الأصلية ، ومن أهلها الثقات ، وبأدواتها ومناهجها الخاصة .
ثانيا : الاعتزاز بالانتماء العربي الإسلامي : يشعر المثقف العربي المسلم ، الذي ينتمي إلى ثقافة العرب والمسلمين ، أنه عضو في جسم هذه الأمة ، وأنه متحرر من عقدة النقص التي يعاني منها بعض الناس تجاه كل ما هو غربي . إنه يعتز بلغته ، لغة القرآن والعلوم ، ويعمل على أن تكون لغة الحياة ، ولغة العلم ، ولغة الثقافة ، وقد كانت لغة العلم الأولى في العالم كله لعدة قرون ، فلا يجوز أن تعجز اليوم عما قامت به بالأمس .
ثالثا : العودة إلى الأصول : إلى أصولنا وجذورنا العقدية والفكرية ، والأخلاقية ، ونسعى إلى تحويل اعتزازنا النظري والعاطفي إلى سلوك عملي . إن الاعتزاز يصبح ظاهرة مرضيَة إذا ظل مجرد كلام يردد ، وشعارات ترفع ، وصيحات تتعالى ، لسرد الأمجاد ، وتعظيم الأجداد .
رابعا : الانتفاع الواعي بتراثنا : والغوص في حضنه الزاخر ، لاستخراج لآلئه وجواهره . ولا يتصور من أمة عريقة في الحضارة والثقافة أن تهمل تراثها وتاريخها الأدبي والثقافي ، وتبدأ من الصفر ، أو من التسول لدى غيرها .

إن التراث يحتوي الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، والسمين والغث . ففي التراث روايات يرفضها العقل والمنطق ، وفيه الإسرائيليات التي شاعت وانتشرت . من ذلك مثلاً كلام الفلاسفة الكبار عن العناصر الأربعة : التراب والهواء والنار والماء ، أو عن الأفلاك ، أو عن شكل الكون ، ومركز الأرض ، أو غير ذلك ، مما أبطلته علوم العصر ووثباته الهائلة .
وفي التراث أشياء لم يثبت خطؤها ، ولكن لم تثبت جدواها ، أو لم تبق الحاجة إليها قائمة ، كما كانت من قبل ، مثل مباحث علم الكلام المتفلسف ، ولم تبق تخاطب الناس بلسان العصر ، وبعض مباحثها أمسى غير ذي موضوع ، وبعضها تجاوزه العلم أو أبطله . وينبغي وضع علم كلام آخر يعبر عن عصرنا ، ويواجه تياراته ، ويحل مشكلاته .
وفي علم التصوف شطحات ونتوءات في الفكر والتصور ـ كالحلول والاتحاد ـ تناقض صفاء التوحيد الإسلامي ، وأخرى في السلوك والعمل ـ كالمبالغة في الزهد والتوكل ـ تنافي وسطية الخلق الإسلامي .
وفي كتب الأدب والشعر أشياء تجاوزت الدين والخلق والعرف والذوق ، كالغزل بالذكور والحكايات الهابطة .
إننا لسنا مع الذين يضفون القدسية أو العصمة على كل ما مضى ، ولا مع خصومهم الذين ينأون بجانبهم عن كل موروث ، لا لشيء إلا لأنه قديم ، ولكن لابدَ من التخير والانتقاء ، لاسيما في مجال التربية والتثقيف ، أو مجال الدعوة والتوجيه ،أو مجال الحكم والتشريع .

قراءة مستبصرة للتراث
يجب أن تتحقق قراءة مستبصرة للتراث ، وفق معايير مضبوطة تسهم في نهضة الأمة ، وتأخذ بيدها نحو الصراط المستقيم . فمثلاً نقرأ الشعر العربي فنأخذ من روائع التصوير ، وبدائع التعبير ، عن النفس والطبيعة والحياة ، ونقتبس غوالي الحكم ، ونترك المديح المسرف والهجاء المقذع ، والعصبية القبلية ، والمجون المكشوف ، والشك المتحير .
نقرأ حجة الإسلام الغزالي وننهل من تراثه الرحب في التربية والأخلاق ، ونترك ما تضمنت كتبه من غلو الصوفية ، أو من معارف أثبت علم العصر بطلانها ، أو ما استند إليه من الأحاديث الواهية والموضوعة التي لا سند لها .
نقرأ التفسير ، ونحذر من الإسرائيليات ، والأقوال الفاسدات .
ونقرأ الحديث ، ونحذر من الموضوعات والواهيات .
ونقرأ التصوف ، ونحذر من الشطحات والتطرفات .
ونقرأ علم الكلام ، ونحذر من الجدليات والسفسطات .
ونقرأ علم الفقه ، ونحذر من الشكليات والتعصبات .

قراءات متحيزة أو موجَهة للتراث
تنحاز بعض القراءات المتحيزة لبعض المدارس دون بعض ، ولبعض الاتجاهات والشخصيات دون بعض ، تأخذ من التراث وتدع ، وتحذف منه وتبقي ، وفق أهوائها وميولها الخاصة .
منهم من ينحاز إلى " المدرسة الفلسفية " ولاسيما " المدرسة المشائية " ، التي جعلت أكبر همها التوفيق بين الفلسفة والدين ، ولكنها اعتبرت الفلسفة أصلاً ، والدين تبعاً ، فإذا تعارضا أولَ الدين ليتفق مع الفلسفة .
ومنهم من ينحاز إلى " المدرسة الاعتزالية " ، ويعدُ المعتزلة " المفكرين الأحرار " في الإسلام . وحديث هؤلاء عن المعتزلة يوهم أنهم جماعة " عقلانية " محضة ، لا تذعن لنصوص الدين ، ولا تخضع لأحكام الشرع ، وهو تصوير غير صحيح ، لاسيما في مجال الفقه والأحكام العملية ، التي كثيراً ما تبعوا فيها المذهب الحنفي .
ومنهم من ينحاز إلى شخصيات معروفة دون غيرها ، مثل ابن رشد ، وابن حزم ، وابن عربي ، وابن خلدون ، وكلامهم عن هؤلاء وأمثالهم يصورهم بصورة " العقلانيين " الخلصاء ، الذين يرفضون النصوص إذا خالفت مقرراتهم العقلية .
وهذه قراءة متحيزة لهؤلاء الأعلام ، فكتبهم تدل بوضوح على أنهم ـ ككل المسلمين ـ لا يملكون أمام محكمات النصوص ، إلا أن يقولوا : سمعنا وأطعنا .
فابن رشد وابن خلدون كلاهما قاض شرعي وفقيه مالكي ، وابن رشد هو صاحب " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " في الفقه المقارن ، الذي يتجسد فيه احترام المصادر والأدلة الشرعية كلها ، من الكتاب والسنة والإجماع والقياس .
وابن حزم وابن عربي كلاهما فقيه ظاهري ، يأخذ بظواهر النصوص وحرفيتها في مجال الفقه واستنباط الأحكام ، وإن كان على ابن عربي اعتراضات جمة في تصوفه الفلسفي .
ولكن هؤلاء العصريين يستنطقون تلك العقول الكبيرة ـ على اختلاف اهتماماتها وتخصصها ـ بما يحبون هم أن تنطق به ، لا بما نطقت به بالفعل ، فهم يريدونها مترجمة عنهم ، معبرة عن فكرهم ، لا عن ذاتها وفكرها الخاص .
ويرى الدكتور فهمي جدعان ( نظرية التراث ، عمان ، دار الشروق ، ص26 ) أن هؤلاء يستلهمون التراث الماضي ما يبررون به الواقع الحاضر ، ويرى أن عملية "الاستلهام " هذه ليست إلا عملية تسويغ لقيم الحاضر ، بإسقاط غطاء تراثي عليها ، وأن الذي يحدث عملياً أن الحاضر هو الذي يفرض قيمه ، ويلزم بها .
ومثل هؤلاء من يدعو إلى " إعادة قراءة التراث " وفق مناهج معاصرة ، ارتضاها أصحابها ، تبعاً للمدارس التي ينتمون إليها .
وهذا التوجه شائع عند المثقفين الذين مارسوا خبرة بمناهج العلوم الإنسانية الحديثة ، وبالفلسفات الغربية المعاصرة ، فكل واحد من هؤلاء يقرأ التراث وفقا لمنهجه المحدد ، ويفسره ويوجهه تبعاً لإطاره المرجعي ، فهذا يقرؤه قراءة عقلانية ، وثان قراءة لسانية ، وثالث قراءة مادية ، ورابع قراءة براجماتية ، وقراءات أخرى معرفية ووظيفية وبنيوية ، إلى آخر التصنيفات التي تحاول " أدلجة " التراث ، وتوظيفه لخدمة أفكار مدرسة معينة ، وتوجيهه توجيها قبْلياً واضحاً ، فهي ليست قراءة للفهم ، وإنما للفعل والتأثير بل " للتثوير " عند بعضهم .
يقول الدكتور جدعان : إن هذه " الأدلجة " لم تكن تعني في نهاية التحليل إلا شيئاً واحداًَ هو : أن الحاضر عاجز ـ بإمكاناته وقدراته الكامنة والصريحة ـ عن إحداث التغيير المنشود . وأن التراث الذي يشد الناس إليه ، هو الذي يملك القوة السحرية على التغيير ، وذلك ـ بطبيعة الحال ـ بعد توجيه قراءته الوجهة التي تخدم الأهداف المنصوبة ( ص28ومابعدها ).
د. فرحان السليم

aymaan noor
29-01-2012, 12:26 AM
الثقافة العربية بين الأصالة والمعاصرة (2)
ماذا تعني المعاصرة ؟
إن المعاصرة تعني أن يعيش الإنسان في عصره وزمانه ، ومع أهله الأحياء ، يفكر كما يفكرون ، ويعمل كما يعملون ، يعايش الأحياء لا الأموات ، والحاضر لا الماضي . ويقتضي ذلك ما يلي :

1. ضرورة معرفة العصر :
أي أن نعرف " العصر " الذي نعيش فيه معرفة دقيقة وصادقة ، فإن الجهل بالعصر يؤدي إلى عواقب وخيمة ، وهذا ما دفع أحد المفكرين إلى القول : إن المشكلة ليست في جهلنا بالإسلام ، بل المشكلة في جهلنا بالعصر ! والجهل بالعصر سمة مشتركة بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة . إن من بين دعاة الأصالة من يعيش في الماضي وحده ، ويسكن في صومعة التراث ، وقد أغلق عليه بابها ، فلا يكاد يرى أو يسمع أو يحسُ شيئاً مما حوله . ويا ليته يعيش في عصور التألق والازدهار ، بل كثيراً ما يعيش في عصور التخلف والتراجع . فهو يفكر بعقولهم ، ويتحدث بلغتهم ، ويحيا في مشكلاتهم ، ويجيب عن أسئلتهم ، فهو حي يعايش الأموات ، أكثر مما يعايش الأحياء .
إن مما ابتليت به الثقافة العربية نفراً من الآبائيين الذين يفرون من مواجهة الواقع إلى أحضان آبائهم وأجدادهم : (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون )) . وإذا سألتهم عن حل لمشكلة معاصرة استنجدوا بآبائهم لكي يحلوها . حتى قال فيهم جمال الدين الأفغاني : لقد أضحوا على حالة كلما قلت لهم كونوا بني آدم قالوا كان آباؤنا كذا وكذا .
المطلوب ـ إذن ـ أن يعيش الإنسان القوي في حاضره ، منطلقاً إلى مستقبله ، ولكي يحسن العيْشة في حاضره وزمانه (عصره) ينبغي أن يعرفه حتى يتعامل معه على بصيرة . وكلمة اللسان الواردة في الآية : (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم )) ، يفهم منها اللغة ويفهم منها طبيعة العصر .
معرفة الواقع من تمام معرفة العصر : الواقع المحلي ( الوطني ) ، والإقليمي ( العربي ) ، والإسلامي ، والعالمي .
وهذه المعرفة لازمة لكل من يريد تقويم هذا الواقع ، أو إصدار حكم له أوعليه ، أو محاولة تغييره .
ولا تتم معرفة الواقع على ما هو عليه حقيقة إلا بمعرفة العناصر الفاعلة فيه ، والموجهة له والمؤثرة في تكوينه وتلوينه ، سواء أكانت عناصر مادية أم معنوية ، بشرية أم غير بشرية ومنها عناصر جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وروحية .
وتفسير الواقع كتفسير التاريخ ، يتأثر باتجاه المفسر وانتمائه العقدي والفكري .
ويجب أن نحذر من النظرات الجزئية ، والمحلية ، والآنية ، والسطحية ، والتلفيقية والتسويغية .
فعلينا أن نحذر من الاتجاه " الإطرائي " للواقع ، ومحاولة تحسينه وإبراز صورته سالمة من كل عيب ، منزهة عن كل نقص ، وغضّ الطرف عن العيوب الكامنة فيه ، وإن كانت تنخر في كيانه ، واتهام كل من ينقد هذه العيوب والآفات بأنه مشوش ، أو مبالغ أو متطرف .
ونحذر كذلك من الاتجاه " التشاؤمي " الذي ينظر إلى الواقع بمنظار أسود ، يجرده من كل حسنة ، ويلحق به كل نقيصة ، ولا يرى فيه إلا ظلمات متراكمة ، موروثة من عهود التخلف ، أو وافدة مع عهد الاستعمار . جماهير مُضلَّلة ، وأقطار هي مجموعة " أصفار " !! وما يرجى من تغيير ، أو يؤمل من إصلاح ، فهو سراب يحسبه الظمآن ماء .
ومثل ذلك : الاتجاه " التآمري " الذي يرى وراء كل حدث ـ وإن صغر ـ أيادي أجنبية ، وقوى خفية ، تحركه من وراء ستار . ونحن لا ننكر التآمر والكيد ولكن تضخيم ذلك بحيث يجعلنا " أحجاراً على رقعة الشطرنج " يفتُ في عضدنا ، وييئسنا من أي توجه إيجابي لإرادة التغيير ، ويريحنا بأن نشعر أننا أبدا ضحايا من هو أقوى منا ، ولا حلَ أمامنا غير الاستسلام للواقع المر . ومن ناحية أخرى يجعلنا هذا لا نعود على أنفسنا باللائمة ولا نحاول إصلاح ما فسد ، وتدارك ما وقع .
إن أوْلى من تعليق أخطائنا على مشجب التآمر الخارجي ، أن نردَها إلى الخلل الداخلي ، أي الخلل في أنفسنا قبل كل شيء : (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) .
وقريب من ذلك الاتجاه " التنصلي " في تفسير الواقع ، بمعنى أن أحداً لا يريد أن يتحمل مسؤولية ما في هذا الواقع من سوء وانحراف ، فكل واحد ، وكل فريق ، يريد أن يحمل وزره على غيره ، أما هو فلا ذنب له ، ولا تبعة عليه .
الكل يشكو من الفساد ، ولكن من المسؤول عن فساد الحال ؟ وأين الخلل ؟ جمهور كبير من الناس يحملون المسؤولية على العلماء ، والعلماء يحملون المسؤولية على الحكام ، والحكام يحملونها على الضغوط الخارجية أو الضرورات الداخلية .
والحق أن الجميع مسؤولون ، كل حسب ماله من طاقة وسلطة : الجماهير والعلماء ، والمفكرون والمربون والحكام : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) . ( متفق عليه من حديث ابن عمر . صحيح الجامع الصغير برقم 4569) .
ومن التفسيرات الخاطئة للواقع : التفسير التسويغي التبريري الذي يحاول أن يضفي على الواقع ، ما يجعله مقبولاً ومشروعاً ، وإن حاد عن الحق وسواء السبيل ، وفي هذا لون من التدليس والتلبيس ، بإظهار الواقع على غير حقيقته ، وإلباسه زيا غير زيه .
إننا نريد معرفة واقع عصرنا وعالمنا عموما ، وواقع أمتنا خصوصاً كما هو ، دون تحريف ولا تزييف ، ولا تهويل ولا تهوين ، ولا مدح ولا ذم ، مستخدمين الأساليب العلمية الموضوعية في الكشف والرصد والتحليل ، وفي هذا ما يساعدنا على تشخيص الداء ووصف الدواء .
إن أعداءنا يعرفوننا تماماً ، فنحن مكشوفون لهم حتى النخاع ، فهل عرفنا نحن أعداءنا ؟ وإذا كنا لم نعرف أنفسنا كما عرفها غيرنا ، فكيف نعرفهم ؟ بل هل عرفنا أنفسنا مثلما عرفها خصومنا ؟

عصرنا بين الإيجابيات والسلبيات
إنه عصر الإيجابيات :
عصر العلم والتكنولوجيا .
عصر الحرية وحقوق الإنسان واستقلال الشعوب .
عصر السرعة والقوة والتغيرات السريعة ، والتطورات الهائلة .
عصر الاتحاد والتكتلات الكبيرة .
عصر التخطيط والتنظيم لا الارتجالية والفوضى والتواكل .
عصر اقتحام المستقبل ، وعدم الاكتفاء بالحاضر ، فضلاً عن الانكفاء على الماضي .
وهو أيضاً عصر السلبيات :
عصر غلبة المادية والنفعية .
عصر تدليل الإنسان بإشباع شهواته .
عصر التلوث بكل مظاهره .
عصر الوسائل والآلات ، لا المقاصد والغايات .
عصر القلق والأمراض النفسية ، والتمزقات الاجتماعية .
والناس قسمان حيال العصر : منهم من يهرب منه إلى الماضي خوفاً منه بدل المواجهة ، ومنهم من يندمج فيه إلى حد الذوبان ، والخير في الوسط حين نستعمل إرادتنا واختيارنا أمام هذه المؤثرات لنأخذ ما ينفعنا وندع ما يضرنا .
ويجب أن ننتبه الى نقطة أن العصر ليس الغرب وحده وإن كان هو المهيمن والمسيطر ، فهناك العالم الإسلامي ، وعالم الشرق الأقصى بدياناته وفلسفاته .
ويردد كثير من تجار الثقافة دعوة مشبوهة هي استيراد الثقافة الغربية بكل عناصرها بدعويين : عالمية هذه الثقافة ، وأنها ثقافة لا تتجزأ .
أما عالمية الثقافة فهي شبهة خاطئة لأنهم يخلطون بين العلم والثقافة ، فالعلم كوني ، والثقافة خاصة بكل قوم وكل جماعة . العلم واحد والثقافات متنوعة متعددة .
أما دعوى أن الثقافة لا تتجزأ فهي مرفوضة تاريخياً وواقعياً . لقد أخذ العرب عن الأمم كثيراً مما عندها من العلوم والمعارف ، ولكنهم لم يأخذوا ثقافتها ، وبقوا محافظين على لغتهم وعقيدتهم وعاداتهم وأعرافهم . أما في العصر الحديث فقد أخذ اليابانيون عن الغربيين العلم والمناهج ، ولم يأخذوا عنهم عقائدهم وشعائرهم وتقاليدهم .

2-العلم والتكنولوجيا :
إن أصالتنا لا تمنعنا من أخذ هذا العلم والاقتباس منه والانتفاع به ، بل هي توجب علينا ذلك إيجاباً . إن التكنولوجيا لا تشترى شراء ، فتلك التي تشترى لا تطور المجتمع ، فهي تساعد على الاستهلاك لا الإنتاج ، والتقليد لا الاتباع . إن التكنولوجيا يجب أن تنبت عندنا ، وأن تتفاعل مع واقعنا ، وأن نحملها نحن . ولا يظنَنَ ظان أن ما نملكه اليوم من أجهزة ومعدات يجعلنا عصريين .

3 - النظرة المستقبلية :
إن من طبيعة المعاصرة ألا نستسلم للحاضر بل نتطلع دائماً إلى المستقبل . إن النظرة إلى المستقبل لا تقوم على الكهانة والتنجيم ، ولكن على الإحصاء والتخطيط ، والدراسة والرصد وبناء النتائج على المقدمات . يجب أن نفيد من دراسات المستقبل التي ازدهرت في الفترة الأخيرة ازدهاراً كبيراً .

والناس بين الماضي والمستقبل على ثلاثة أنواع :
أ‌. الماضويون : المشدودون دائماً إلى الوراء لا ينظرون أمامهم أبداً . ومن سماتهم أنهم يضفون لوناً من القداسة على التراث فهو برأيهم حق كله لا يمكن أن نترك شيئاً فيه . ويسرفون في ردّ كل جديد إلى قديم من التراث ، وإن لم يقم على ذلك برهان : فالطب الحديث مأخوذ من الرازي وابن سينا ، وعلم الاجتماع المعاصر يوجد عند ابن خلدون ، واللسانيات المعاصرة عند سيبويه ... وهلم جرَا . وهم يعتبرون كل زمن شراً مما قبله ، ومتعلقون بالصورة والشكل لا بالروح والجوهر .

ب‌. المغرقون في المستقبلية : ينظرون دائماً إلى الأمام ولا يلتفتون إلى الوراء لأن الإنسان يتطور دائماً إلى ما هو أحسن وأمثل ، إنهم كما وصفهم أحد المفكرين : " كأنما يريدون أن يلغوا الماضي من الزمن ، و (أمس) من اللغة ، والفعل الماضي من الكلام ، ويحذفوا الوراء من الجهة ، والذاكرة من الإنسان" . التراث عندهم متهم ، والماضي بغيض ، والسلف متخلفون ، وتاريخ الأمة ظلمات بعضها فوق بعض . يسكتون عن حسنات التراث ، ويضخمون ما فيه من فتن وانحرافات .

ج - دعاة الوسطية : هم الذين سلموا من إفراط الأولين وتفريط الآخرين ، يعلمون أن التطور والتغير ليس دائماً إلى الأحسن والأمثل . يرحبون بالتطور إذا كان ارتقاء إلى ما هو أفضل ، وينكرونه إذا اتجه نحو الهبوط والانحدار . إنه تيار الوسطية الذي لا يغفل المستقبل ولا ينسى الماضي .

4. العناية بحقوق الإنسان :
يصور كثير من الباحثين أن حقوق الإنسان نبت غربي لم يكن قبلا في الأمم السابقة ، والحقيقة أن هذه نظرة مبتسرة قاصرة .
إن الأمة العربية قد عرفت حقوق الإنسان عن طريق ما بثه الإسلام ، بمصدريه القرآن والسنة ، من قيم ومبادئ تعترف للبشر بحقوقهم كاملة غير منقوصة ، حتى إنها اعترفت بحقوق الحيوان . لقد شمل الإسلام حقوق الإنسان الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية ، وأكد المساواة والحريات العامة المتنوعة .
وقد شمل الإسلام حقوق البشر بأنواعهم : الرجال والنساء والأطفال .
وشمل المسلمين وغير المسلمين في داخل الدولة الإسلامية وخارجها .
وضمن الإسلام واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي ، وجعله فرضاً على الفرد والجماعة والدولة .
وقد شرع الإسلام الجهاد لحماية حقوق الإنسان ، ومنع استضعافه ، والبغي على ذاته وحقوقه : (( ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان )) .

وقبل أن أختم بحثي أريد أن أؤكد بعض النتائج الضرورية في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها أمتنا :
1. ضرورة تواصل الحوار بين المخلصين من الطرفين : الأصالة والمعاصرة ، لتصحيح المفاهيم ، وإزالة الشبهات ، وتقريب الشقَة ، ومحاولة توسيع مساحة المتفق عليه ، وتأكيد التعاون فيه ، والمناقشة الجادّة في المختلف فيه ، والعمل على تضييقه ، والاجتهاد في الوصول إلى الصواب أو الصحيح أو الأصح ، وأن نعمل بالقاعدة الذَهبية : ( نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ).
2. تأكيد كرامة الإنسان : لقد وجه كثير من مفكري الغرب النقد العنيف إلى الحضارة الغربية التي أعلت من شأن المادة وهبطت بقيمة الإنسان ، فعلينا أن نؤكد ذلك ونتبناه ، ونجعل من ثقافتنا الإنسانية واقعاً حياً في أرضنا ومجتمعاتنا ، ونمكن لها في حياتنا العقلية والوجدانية ، حتى تؤدي دورها المطلوب في البناء والإعلاء .
3. لا تناقض في ثقافتنا بين العروبة والإسلام ، إلا إذا حرفت العروبة فكانت معادية للإسلام ، وحرف الإسلام فكان معادياً للعروبة .
4. لا صراع في ثقافتنا بين العلم والدين ، أو بين العلم والإيمان أو بين العقل والنقل . العقل أساس النقل ، والنقل يُشيد بالعقل ويحتكم إليه ، ولا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول . لذا يجب أن نعلي من شأن العلم والإيمان حتى تدخل الأمة العصر بجناحين راسخين .
5. لا تعارض بين الأصالة الحقة والمعاصرة الحقة ، إذا فهمت كل واحدة منهما على حقيقتها . إذ نستطيع أن نكون معاصرين إلى أعلى مستويات المعاصرة ، وأن نبقى كذلك أصلاء حتى النخاع . إنما تتعارض الأصالة والمعاصرة ، إذا فهمت الأصالة على أنها الاحتباس الاختياري في سجن الماضي ، والمعاصرة على أنها الدوران في رحى الغرب . لذا يجب أن نرفض اتجاهين متطرفين : الاتجاه الأول الذي ينتهي بالأصالة إلى الجمود والتحجر ، والاتجاه الثاني الذي ينحو بالمعاصرة نحو الفناء في الغرب ، واتّباع سننه " شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه " ، ولا يكتفي بأخذ العلم والتكنولوجيا وحسن الإدارة والتنظيم فيه ، واقتباس كل ما تنهض به الحياة ، بل هو يصرُ على نقل الأنموذج الغربي إلينا بكل عناصره ومقوماته ، ولاسيما جذوره الفلسفية ، ومفاهيمه الفكرية ، ومجالاته الأدبية ، وتقاليده الاجتماعية ، وقوانينه التشريعية ، ومؤثراته الثقافية .
د. فرحان السليم