الملائكة وبني آدم
المطلب الثالث
سفراء الله إلى رسله وأنبيائه
وقد أعلمنا الله أن جبريل يختص بهذه المهمة : (
قل من كان عدوّاً لجبريل فإنَّه نزَّله على قلبك بإذن الله مصدّقاً لما بين يديه ) [ البقرة : 97 ] .
وقال : (
نزل به الرُّوح الأمين – على قلبك لتكون من المنذرين ) [ الشعراء : 193-194 ] .
وقد يأتي بالوحي غير جبريل – وهذا قليل – كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : (
بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع رأسه ، فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلا اليوم ، فسلّم ، وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته )
(1) .
وفي التاريخ لابن عساكر عن حذيفة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
أتاني مالك فسلم عليّ – نزل من السماء ، لم ينزل قبلها – فبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة ، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنّة )
(2) .
وفي مسند أحمد وسنن النسائي عن حذيفة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (
أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل ؟ ) قال : قلت : بلى ، قال : (
فهو ملك من الملائكة لم يهبط الأرض قبل هذه الليلة ، فاستأذن ربه أن يسلم عليّ ، ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة ، وأن فاطمة سيّدة نساء أهل الجنة )
(3) .
ليس كل من جاءه ملك فهو رسول أو نبي :
ليس كل من جاءه ملك يعدّ رسولاً أو نبياً ، فهذا وَهْم ، فالله قد أرسل جبريل إلى مريم ، كما أرسله إلى أم إسماعيل عندما نفد الماء والطعام منها .
ورأى الصحابة جبريل في صورة أعرابي ، وأرسل الله ملكاً إلى ذلك الرجل الذي زار أخاً له في الله يبشره بأن الله يحبه لحبه لأخيه .... ، وهذا كثير وإنما المراد التنبيه .
كيف كان يأتي الوحي الرسول صلى الله عليه وسلم :
في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها : أن الحارث بن هشام – رضي الله عنه – سأل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحي ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (
أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشدّه عليّ ، فَيُفصَم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً ، فيكلمني ، فأعي ما يقول )
(4) .
فجبريل كان يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في حالته الملكية ، وهذه شديدة على الرسول صلى الله عليه وسلم ، والحالة الثانية كان جبريل ينتقل من حالته الملكية إلى البشرية ، وهذه أخف على الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلقه الله عليها مرتـين :
الأولى :بعد البعثة بثلاث سنوات ؛ ففي صحيح البخاري عن جابر ابن عبد الله : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (
بينما أنا أمشي ، إذ سمعت صوتاً من السماء ، فرفعت بصري ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرعبت منه ، فرجعت ، فقلت : زملوني )
(5) .
والثانية : عندما عرج به إلى السماء :
وهاتان المرتان مذكورتان في سورة النجم في قوله تعالى : (
علَّمه شديد القوى – ذو مرةٍ فاستوى – وهو بالأفق الأعلى – ثمَّ دنا فتدلَّى – فكان قاب قوسين أو أدنى – فأوحى إلى عبده ما أوحى – ما كذب الفؤاد ما رأى – أَفَتُمَارُونَهُ على ما يرى – ولقد رآه نزلةً أخرى – عند سدرة المنتهى – عندها جنَّة المأوى – إذ يغشى السدرة ما يغشى – ما زَاغَ البصر وما طغى ) [ النجم : 5-17 ] .
لا تقتصر مهمة جبريل على تبليغ الوحي :
لم تقتصر مهمة جبريل على تبليغ الوحي من الله تعالى ، فقد كان يأتيه في كل عام في رمضان في كل ليلة من لياليه ، فيدارسه القرآن . والحديث أورده البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : "
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة في رمضان ، فيدارسه القرآن ، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة "
(6) .
إمامته للرسول :
وقد أمّ جبريلُ الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ كي يعلمه الصلاة كما يريدها الله تعالى ، ففي صحيح البخاري وسنن النسائي عن أي مسعود : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (
نزل جبريل فأمني فصليت معه ، ثم صليت معه ، ثم صليت معه ، ثم صليت معه ، ثم صليت معه ، يحسب بأصابعه خمس مرات )
(7) .
وفي السنن عن ابن عباس : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (
أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين ، فصلى بي الظهر ، حين زالت الشمس ، وكانت قدر الشراك ، وصلى بي العصر حين كان ظلّ الشيء مثله ، وصلى بي – يعن المغرب – حين أفطر الصائم ، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق ، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم .
فلما كان الغد ، صلى بي الظهر حين كان ظل الشيء مثله ، وصلى بي العصر حين كان ظل الشيء مثليه ، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم ، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل ، وصلى بي الفجر فأسفر . ثم التفت إليّ فقال : يا محمد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت ما بين هذين الوقتين )
(8) .
رقية جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم :
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد : أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (
يا محمد اشتكيت ؟ قال : نعم ، قال : بسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من شر كلّ ذي نفس ، أو عين حاسد ، الله يشفيك ، بسم الله أرقيك )
(9) .
أعمال أخرى :
ومن ذلك أنّه حارب مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر والخندق ، وصحب الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسراء وغير ذلك .
لماذا لا يرسل الله رسله من الملائكة :
والله لا يرسل رسله إلى البشر من الملائكة ؛ لأن طبيعة الملائكة مخالفة لطبيعة البشر ، فاتصالهم بالملائكة ليس سهلاً ميسوراً ؛ ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشق عليه مجيء جبريل إليه بصفته الملائكية كما مضى ، وعندما رأى جبريل على صورته فزع ، وجاء زوجته يقول : دثّروني دّثروني .
فلما كانت الطبائع مختلفة ، شاء الله أن يرسل لهم رسولاً من جنسهم ، ولو كان سكان الأرض ملائكة ، لأنزل إليهم ملكاً رسولاً ، قال تعالى : (
قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مُطْمَئِنِّينَلنزَّلنا عليهم من السَّماء ملكاً رسولاً ) [ الإسراء : 95 ] .
وعلى فرض أن الله اختار رسله إلى عموم البشر من الملائكة ، فإنه لا ينزلهم بصورهم الملائكية ، بل يجعلهم يتمثلون في صفة رجال يلبسون ما يلبس الرجال ، كي يتمكن الناس من الأخذ عنهم : (
وقالوا لولا أنزل عليه ملكٌ ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون – ولو جعلناه ملكاً لَّجعلناه رجلاً وَلَلَبَسْنَاعليهم مَّا يلبسون ) [الأنعام : 8-9].
وقد أخبر تعالى أن طلب الكَفَرَة رؤية الملائكة ، ومجيء رسول من الملائكة ، إنما هو تعنت ، وليس طلباً للهداية ، وعلى احتمال حدوثه فإنهم لن يؤمنوا : (
ولو أننَّا نزَّلنا إليهم الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وحشرنا عليهم كلَّ شيءٍ قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكنَّ أكثرهم يجهلون ) [ الأنعام : 111 ] .
--------------------------------
(1) صحيح مسلم : 1/554 . ورقمه : 806 .
(2) صحيح الجامع : 1/80 .
(3) مسند أحمد 5/391 ، واللفظ له . وصحيح سنن النسائي : 3/226 . ورقمه : 2975 .
(4) صحيح البخاري : 1/18 . ورقمه : 2 .
(5) صحيح البخاري : 1/27 . ورقمه : 4 .
(6) صحيح البخاري : 1/30 . ورقمه : 6 .
(7) صحيح البخاري : 6/5-3 . ورقمه : 3221 . صحيح سنن النسائي : 1/108 . ورقمه : 480 .
(8) صحيح سنن أبي داود ، واللفظ له : 1/79 . ورقمه : 377 . وصحيح سنن الترمذي : 1/50 . ورقمه : 127 . وصحيح سنن النسائي عن أبي هريرة : 1/109 . ورقمه : 488 .
(9) صحيح مسلم : 4/1718 . ورقمه : 2186 .