المذاهب في القدر
صار المسلمون في القدر عدة مذاهب نبينها في المباحث التالية :
المبحث الأول
مذهب المكذبين بالقدر
ذهب بعض الضالين في هذا الباب إلى نفي القدر ، وزعموا أن الله – تعالى عمَّا يقولون – لا يعلم بالأشياء قبل حصولها ، ولم يتقدم علمه بها ، وقالوا : إنما يعلم الله بالموجودات بعد خلقها وإيجادها .
وزعم هؤلاء كذباً وزوراً أن الله إذا أمر العباد ونهاهم لا يعلم من يطيعه منهم ممن يعصيه ، ولا يعلم من يدخل الجنة ممن يدخل النار ، حتى إذا استجاب العباد لشرعه أو رفضوا – علم السعداء منهم والأشقياء ، ويرفض هؤلاء الضلال الإيمان بعلم الله المتقدم ، كما يكذبون بأن الله كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض ، كما ثبت في الكتاب والسنة .
وقد نشأ القول بهذا في آخر عهد الصحابة ، فأول من قال به معبد الجهني ، ثم تقلد عنه هذا المذهب الفاسد رؤوس المعتزلة وأئمتهم كواصل بن عطاء الغزال ، وعمرو بين عبيد ، ورويت عنهم ف هذا أقوال شنيعة فيها تكذيب لله ولرسوله في أن الله علم الأشياء وكتبها قبل خلقها
(1) .
وقد خشى الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته هذا الضلال الذي وقعت فيه هذه الفرقة ، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه ابن عساكر عن أبي محجن وابن عبد البر في "الجامع " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
أخاف على أمتي من بعدي ثلاثاً : حيف الأئمة ، وإيماناً بالنجوم ، وتكذيباً بالقدر "
(2) .
وروى أبو يعلى في مسنده والخطيب في التاريخ وابن عَدِيّ في الكامل بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
أخاف على أمتي من بعدي خصلتين : تكذيباً بالقدر ، وتصديقاً بالنجوم "
(3) .
وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من هذا الضلال ، ففي الحديث الذي يرويه الطبراني في معجمه الأوسط ، والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه قال : "
أُخِّر الكلام في القدر لشرار أمتي "
(4) .
وروى الطبراني في معجمه الكبير عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
إنَّ أمر هذه الأمة لا يزال مقارباً حتى يتكلموا في الولدان وفي القدر "
(5) .
وسمى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الفريق بمجوس هذه الأمة ، لأن المجوس يقولون بوجود خالقين اثنين : النور والظلمة ، وهذا الفريق يقولون بوجود خَالِقين ، بل يزعمون أن كلَّ واحد خالق من دون الله ، وقد أمر الرسول صلى الله وسلم بهجران هذا الفريق ، فلا يزارون ولا يعادون ، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده بإسناد حسن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
لكل أمة مجوس ، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم "
(6) .
وفي حديث آخر يرويه أحمد وأبو داود عن ابن عمر أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم "
(7) .
وقد صاح الصحابة بأصحاب هذه الضلالة من كل ناحية ، وأنكروا عليهم ما جاؤوا به من الضلال والباطل ، ونهوا الناس عن مخالطة هؤلاء ومجالستهم ، وأوردوا عليهم النصوص الفاضحة لباطلهم ، المقررة للحق في باب القدر .
ففي سنن الترمذي عن نافع أنَّ ابن عمر جاءَه رجل فقال : إنَّ فلاناً يَقرأ عليك السلام ، فقال له : بلغني أنّه قد أحدث ، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "
يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر " .
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب .
وفي الترمذي عن ابن عمر أيضاً يرفعه : "
يكون في أمتي خسف ومسخ وذلك في المكذبين في القدر "
(8) .
وفي سنن الترمذي أيضاً عن عبد الواحد بن سليم قال : قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح فقلت له: يا أبا محمد ، إن أهل البصرة يقولون : لا قدر . قال يا بني ، أتقرأ القرآن ؟
قلت : نعم .
قال : فاقرأ الزخرف .
قال : فقرأت : (
حم - والكتاب المبين - إنا جعلناه قرأناً عربياً لعلكم تعقلون - وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) [ الزخرف : 1-4 ] .
قال : أتدري ما أم الكتاب ؟
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : فإنه كتاب كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض ، فيه أن فرعون من أهل النار ، وفيه (
تبت يدا أبي لهب وتب ) [ المسد : 1 ] .
قال عطاء : فلقيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته ما كانت وصية أبيك عند الموت ؟
قال : دعاني أبي فقال لي : يا بني ، اتق الله ، واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله ، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره ، فإن مت على غير هذا أدخلت النار ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "
إن أول ما خلق الله القلم قال : اكتب .فقال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما كان ، وما هو كائن إلى الأبد " .
قال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه
(9) .
وقد نص الأئمة على كفر هذه الطائفة التي لم تقر بعلم الله ، وممن نص على كفرهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد
(10) .
وقد تلاشت هذه الطائفة التي تكذب بعلم الله السابق أو كادت ، يقول السفاريني : " قال العلماء : المنكرون لهذا انقرضوا ، وهم الذين كفرهم عليه الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد وغيرهم من الأئمة "
(11) .
" وقال القرطبي : قد انقرض هذا المذهب ، فلا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين . وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني : القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها ، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم ، وواقعة منهم على وجه الاستقلال ، وهو مع كونه مذهباً باطلاً أخف من المذهب الأول . قال : والمتأخرون منهم أنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فراراً من تعلق القديم بالمحدث "
(12) .
وقال النووي : " قال أصحاب المقالات من المتكلمين : انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل ، ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه ، وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر ، ولكن يقولون : الخير من الله ، والشر من غيره تعالى الله عن قولهم "
(13) .
" والقدرية يعترفون بأن الله خلق الإنسان مريداً ، لكن يجعلونه مريداً بالقوة والقبول ، أي قابلاً لأن يريد هذا ويريد هذا ، وأمّا كونه مريداً لهذا المُعَيَّنِ ، وهذا المُعَيَّنِ ، فهذا عندهم ليس مخلوقاً "
(14) .
" فهؤلاء في الحقيقة مجوس ثَنَوِيَّة ، بل أعظم منهم ، فإن الثَنويّةَ أثبتوا خالِقَين للكون كله ، وهؤلاء أثبتوا خالقين لكل فرد من الأفراد ، ولكل فعل من الأفعال ، بل جعلوا المخلوقين كلهم خالقين ، ولولا تناقضهم لكانوا أكفر من المجوس .
وطرد قولهم ولازمه وحاصلة هو إخراج أفعال العباد عن خلق الله – عز وجل – وملكه ، وأنها ليست داخلة في ربوبيته عز وجل ، وأنه يكون في ملكه ما لا يريد ، ويريد مالا يكون ، وأنهم أغنياء عن الله عز وجل ، فلا يستعينون على طاعته ولا ترك معصيته ، ولا يعوذون بالله من شرور أنفسهم ولا سيئات أعمالهم ولا يستهدونه الصراط المستقيم "
(15) .
والقدرية بزعمهم أرادوا تنزيه الله وتقديسه عندما زعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر ، ولكنَّ الكافر هو الذي شاء الكفر ، وحجتهم في ذلك أن هذا يؤدي إلى الظلم ، إذ كيف يشاء الله الكفر من الكافر ثم يعذبه عليه .
ولكنهم – كما يقول شارح الطحاوية – " صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار ، فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شرٌّ منه فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى ، فإن الله قد شاء الإيمان منه – على قولهم – والكافر شاء الكفر ، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى ، وهذا من أقبح الاعتقاد ، وهو قول لا دليل عليه ، بل هو مخالف للدليل "
(16) .
ومشيئة الله الكفر من الكافر ليس ظلماً له كما يدعي أهل الظلم من القدرية ؛ فلله الحجة البالغة ، وله في عباده من الحِكَمِ مالا يعلمه إلا هو تبارك وتعالى .
ففي صحيح مسلم عن أبي الأسود الدِّيلي ، قال : قال لي عمران بن الحصين : " أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه ، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق ؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم ، وثبتت الحجّة عليهم ؟
فقلت : بل شيء قضي عليهم ، ومضى عليهم .
قال : فقال : أفلا يكون ظلماً ؟
قال : ففزعت فزعاً شديداً . وقلت : كل شيء خَلْق الله ومِلْك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
فقال لي : يرحمك الله ، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك .
إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه ، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم ، وثبتت الحجة عليهم ؟
فقال : "
لا ، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم ، وتصديق ذلك في كتاب الله (
ونفس وما سواها - فألهمها فجورها وتقواها ) [ الشمس : 7-8 ]
(17) .
وفي سنن أبي داود عن ابن الديلمي قال : أتيت أُبي بن كعب ، فقلت له : وقع في نفسي شيء من القدر ، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي ، قال : لو أن الله عذَّب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم ، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ، ما تقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لدخلت النار .
قال : ثم أتيت عبد الله بن مسعود ، فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك ، ثم أتيت زيد بن ثابت فقال مثل ذلك
(18) .
والقدرية بمسلكهم هذا جعلوا لأهل الضلال سبيلاً عليهم ، فقد ذكر عمر بن الهيثم قال : خرجنا في سفينة ، وصحبنا فيها قدري ومجوسي ، فقال القدري للمجوسي : أسلم .
فقال المجوسي : حتى يريد الله .
فقال القدري : إن الله يريد ، ولكن الشيطان لا يريد .
قال المجوسي : أراد الله وأراد الشيطان ، فكان ما أراد الشيطان ، هذا شيطان قوي . وفي رواية أنه قال : فأنا مع أقواهما
(19) .
محاورة أهل السنة للقدرية
ولم يستطيع منطق المعتزلة أن يقف في مجال الحجاج مع عوام أهل السنة فضلاً عن علمائهم وأهل الرأي فيهم .
يذكر أهل العلم أن أعرابياً أتى عمرو بن عبيد ، فقال له : إن ناقتي سُرقت ، فادع الله أن يردها عليَّ .
قال عمرو بن عبيد : اللهم إن ناقة هذا الفقير سُرقت ، ولم تُرِدْ سرقتها ، اللهمّ ارددها عليه .
فقال الأعرابي : الآن ذهبت ناقتي ، وأيست منها .
قال : كيف ؟
قال : لأنه إذا أراد أن لا تُسرق فسرِقت ، لم آمن أن يريد رجوعها فلا ترجع ، ونهض من عنده منصرفاً
(20) .
إجابة أبو عصام القسطلاني لقدري
وقال رجل لأبي عصام القسطلاني : أرأيت إن منعني الهدى ، وأوردني الضلال ثم عذبني أيكون منصفاً ؟
فقال له أبو عصام : إن يكن الهدى شيئاً هو له ، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء
(21) .
محاورة عبد الجبار الهمداني وأبي إسحاق الإسفراييني
ودخل عبد الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة – على الصاحب ابن عباد ، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني أحد أئمة السنة ، فلما رأى الأستاذ قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء .
فقال الأستاذ فوراً : سبحان من لا يقع في ملكه إلا من يشاء .
فقال القاضي : أيشاء ربنا أن يُعْصَى ؟
فقال الأستاذ : أيُعْصَى ربنا قهراً ؟
فقال القاضي : أرأيت إن منعني الهدى ، وقضى عَليَّ بالردى ، أحسن إليّ أم أساء ؟
فقال الأستاذ : إن منعك ما هو لك فقد أساء ، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء . فبهت القاضي .
وفي تاريخ الطبري أن غيلان قال لميمون بن مهران بحضرة هشام بن عبدالملك الذي أتى به ليناقشه :
أشاء الله أن يُعصى ؟
فقال له ميمون : أفَعُصيَ كارهاً ؟ "
(22) .
بيْنَ عمر بن عبد العزيز وغَيْلان الدمشقي
وحاور عمر بن عبد العزيز غيلان الدمشقي أحد رؤوس الاعتزال ، فقال له عمر : يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر .
فقال : يَكْذِبون عليَّ يا أمير المؤمنين .
قال : اقرأ عليَّ سورة " يس " .
قال : فقرأ عليه : (
يس - والقرآن الحكيم - إنك لمن المرسلين - على صراط مستقيم - تنزيل العزيز الرحيم - لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون - لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون - إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون - وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) [ يس : 1-9 ] .
قال غيلان : لا والله لكأني يا أمير المؤمنين لم أقرأها قط إلا اليوم . أشهد يا أمير المؤمنين أني تائب من قولي بالقدر .
فقال عمر : اللهم إن كان صادقاً فتب عليه ، وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين
(23) .
قال معاذ بن معاذ : حدثني صاحب لي قال :
" مرَّ التيمي بمنزل ابن عون فحدثه بهذا الحديث ، قال ابن عون : أنا رأيته مصلوباً بدمشق "
(24) .
وقال أبو جعفر الخطمي :
" شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له : ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك ؟
قال : يُكْذَبُ عليَّ يا أمير المؤمنين ، يقال عليَّ ما لا أقول .
قال : ما تقول في العلم ؟
قال : نفذ العلم .
قال : أنت مخصوم ، اذهب الآن فقل ما شئت .
يا غيلان ، إنك إن أقررت بالعلم خصمت ، وإن جحدته كفرت ، وإنك إن تقر به فتخصم ، خير لك من أن تجحد فتكفر .
ثم قال له : أتقرأ ( يس ) ؟
فقال نعم .
قال : اقرأ .
قال : فقرأ (
يس - والقرآن الحكيم ... ) إلى قوله : (
لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ) [ يس : 1-7 ] .
قال : قف كيف ترى ؟
قال : كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين .
قال : زد .
فقرأ : (
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون - وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً ) [ يس : 8-9 ] .
فقال له عمر : قل (
سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون - وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [ يس :9-10 ] .
قال : كيف ترى ؟ .
قال : كأني لم أقرأ هذه الآيات قط ، وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبداً .
قال : اذهب . فلما ولىَّ قال : اللهم إن كان كاذباً بما قال فأذقه حر السلاح .
قال : فلم يتكلم زمن عمر ، فلما كان يزيد بن عبد الملك كان رجلاً لا يهتم بهذا ولا ينظر فيه .
قال : فتكلم غيلان .
فلما ولي هشام أرسل إليه فقال له : أليس قد كنت عاهدت الله لعمر لا تتكلم في شيء من هذا أبداً ؟
قال : أقلني ، فوالله لا أعود .
قال : لا أقالني الله إن أقلتك ، هل تقرأ فاتحة الكتاب ؟
قال : نعم .
قال : اقرأ (
الحمد لله رب العالمين ) .
فقرأ : (
الحمد لله رب العالمين - الرحمن الرحيم - مالك يوم الدين - إياك نعبد وإياك نستعين ) [ الفاتحة : 2-5 ] .
قال : قف . على ما استعنته ؟ على أمر بيده لا تستطيعه ، أو على أمر في يدك أو بيدك ؟
اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه
(25) (26) .
والقدرية النفاة حُرموا الاستعانة بالله الواحد الأحد ، لأنهم زعموا أن الله لا يقدر على أفعال العباد ، وأن العبد هو الخالق لفعله ، فكيف يستعينون بالله على مالا يقدر عليه .
وهؤلاء يعتمدون فيما يفعلون على حولهم وقوتهم وعملهم ، وهم يطلبون الجزاء والأجر من الله كما يطلب الأجير أجره من مستأجره ، والله ليس محتاجاً إلى العباد وأعمالهم ، بل نفع ذلك عائد إلى العباد أنفسهم ، ومع كون العباد هم المحتاجين إلى الأعمال ، فلا غنى لهم عن الاستعانة بالله (
إياك نعبد وإياك نستعين ) [ الفاتحة : 5 ] . (
فاعبده وتوكل عليه ) [ هود : 123 ] .
--------------------------------
(1) راجع : عقيدة السفاريني : 1/300 ، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام : 8/59 .
(2) صحيح الجامع الصغير : 1/120 . ورقم الحديث : 212 .
(3) صحيح الجامع الصغير : 1/120 . ورقم الحديث : 120 .
(4) صحيح الجامع الصغير : 1/123 . ورقم الحديث : 224 .
(5) صحيح الجامع الصغير : 3/72 . ورقم الحديث : 3060 .
(6) صحيح الجامع الصغير : 5/37. ورقم الحديث : 5039 .
(7) مشكاة المصابيح : 1/38 ورقم الحديث 107 والذي حققه الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة أن الحديث حسن الإسناد .
(8) سنن الترمذي : 4/456. حديث رقم 2152 ، 2153 .
(9) سنن الترمذي : 4/457 ورقمه 2155 . وانظر صحيح سنن الترمذي للشيخ ناصر الدين الألباني : 2/228 .
(10) راجع فتاوى شيخ الإسلام : 8 / 288 .
(11) عقيدة السفاريني : 1/301 .
(12) عقيدة السفاريني : 1/301 .
(13) شرح النووي على مسلم : 15/ 154 .
(14) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 8 / 206 .
(15) معارج القبول : 2/253 .
(16) شرح الطحاوية : ص 277 .
(17) صحيح مسلم : 4/2041 ، ورقم الحديث : 2650 .
(18) سنن أبي داود : 4/310 . ورقم الحديث : 3699 .
(19) شرح الطحاوية : 278 .
(20) شرح أصول اعتقاد أهل السنة : ص740 .
(21) شرح الطحاوية :ص278 .
(22) انظر هاتين القصتين في تعليق محقق شرح الطحاوية ص278 وانظر فتح الباري : 13/ 451 .
(23) قال محقق كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة : هذه الرواية رواها الآجري في الشريعة ص 229 وابن بطة في الإبانة (2 : 326 - 327 ) .
(24) قال محقق كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة : رواه عبد الله بن أحمد – بدون واسطة بين معاذ وابن عون – في السنة ص 128 وابن بطة – وفيه أن القائل : أنا رأيته ... هو ابن عوف . الإبانة 2/327 قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله ثقات . مجمع الزوائد7/207 .
(25) قال محقق كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة : رواه عبد الله بن أحمد – المذكور في السند – في السنة ص 127-128 .
(26) شرح اعتقاد أصول أهل السنة : 713 – 715 .