تابع
إلا أنه بقيام ثورة يوليو ١٩٥٢ والتى بدأت فى شكل انقلاب عسكرى بامتياز ثم التفاف الشعب حولها ظهر بوضوح اختلاط ما هو مدنى بعسكرى نتيجة خلع مجلس قيادة الثورة - فيما عدا عبد الحكيم عامر - للزى العسكرى وتوليهم مناصب مدنية كانت معظمها وزارية ، بل إن مذكرات صلاح الشاهد تؤكد أن عبد الناصر فى إحدى المناسبات السياسية الرسمية عاد وارتدى الزِّى العسكرى لأنه لم يكن لديه بدلة سهرة قى ذلك الحين، ولم يجد الشعب المصرى فى ذلك أى غرابة أو استهجان رغم أن عبد الناصر نفسه رفض اتصال بعض الوزراء بالوحدات العسكرية لإنجاز بعض المهام وهو ما دعاه الى رفض هذه الاتصالات وطالب من زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة إما وقف هذا المسلك او العودة مرة أخرى للزى العسكرى وللوحدات والعمل كضباط فقط فاختار الجميع الحياة المدنية.
ومع صدور القرارات الاشتراكية فى الستينيات وتوسع القطاع العام، لجأ المشير عامر الى التوسع فى تولى رجال القوات المسلحة لبعض الشركات المدنية استفادة مما اكتسبوه فى الجيش من خبرات إدارية، إلا أنه لم يفطن إلى نقطة هامة وهى أن سلطة اللواء داخل وحدته نتاج عاملين الأول الانضباط العسكرى القائم على ضرورة تنفيذ امر القيادة الاعلى دون نقاش وهو أمر لا يعرف الحياة المدنية والثانى نتيجة التنظيم القيادى المتسلسل وهو ما تعرفه المؤسسات المدنية، فكانت التجربة دون المستوى خاصة أن اختيارات عامر كانت تقوم على أسس شخصية أكثر منها كأسس وظيفية واستحقاق.
هذه التجربة كانت نتيجتها متفاوتة بين النجاح التام وبين الفشل التام. فمن ناحية النجاح لا ننسى أن عددا من بعض أبناء القوات المسلحة نقلوا الى وزارة الخارجية وهم أبناء الصف الثانى لمجلس قيادة الثورة وبرعوا فى دورهم الدبلوماسى بهدف تنفيذ أهداف الثورة أو كمكافأة على دورهم فى إنجاح الثورة نفسها مثل السادة السفراء على شوقى الحديدى وحافظ اسماعيل وحسن نائل وسعد عفرة وطلعت شافعى وغيرهم رحمهم الله، وقد نجح عدد منهم نجاحا باهرا مثل حافظ اسماعيل الذى حدّث إجراءات العمل بوزارة الخارجية لوضع أسس أكثر موضوعية للترقى ووضع حركة منتظمة للتنقلات بين ديوان عام الوزارة بالداخل والسفارات المصرية بالخارج.
كذلك لا ننسى أن من أشرف على أضخم مشروع عرفته مصر فى القرن العشرين وهو السد العالى كان أحد أبناء القوات المسلحة وهو الفريق صدقى سليمان رحمة الله عليه، وأن أكثر وزراء الثقافة فى مصر كفاءة كان من القوات المسلحة وهو د ثروت عكاشة، إلا أنه أمام هذه النخبة الناجحة التى أعطت مصر أسبابا عديدة للنجاح والرقى كانت هناك غالبية من اضباط رأت فى إدارة بعض قطاعات الدولة مكافأة لها على دورها العسكرى وأنهرة المكافأة أشبه بمكافأة نهاية الخدمة ولم تفطن لتغير جوهر السلطة فى القطاعات المدنية عنها فى القطاعات العسكرية فكانت النتائج كارثية فى هذه المجالات وانتهت التجربة بنكسة ١٩٦٧ وعادت القوات المسلحة إلى ثكناتها العسكرية.
اليوم تدير بعض عناصر القوات المسلحة نوعين من القطاعات المدنية، النوع الأول هى مؤسسات جهاز الخدمة المدنية للقوات المسلحة وهى مؤسسات تنتج سلعا مادية لصالح القوات المسلحة أصلا وتمثل استثمارا لهذه المؤسسة تأمينا لاحتياجاتها من ناحية وتسهيلا لحياة الضباط الذين يقضون مجمل حياتهم فى معسكرات منتشرة على طول البلاد وعرضها وهو أمر لا غبار علية خاصة أنه تم التوسع فيه بعد حرب ١٩٧٣ لاعتبارات عملية
والنوع الثانى من المؤسسات التى تديره بعض عناصر القوات المسلحة هى بعض المؤسسات المدنية والخاصة بالقطاع الانتاجى والخدمى بالجهاز الحكومى مثل تولى بعض اللواءات رؤساء مجالس بعض الشركات المملوكة للدولة، ويندرج فى هذا الإطار تولى منصب المحافظ فى المحافظات غير الحدودية لأن المحافظات الحدودية لها مبرراتها لتعيين محافظ عسكرى لها من ناحية الأمن القومى ومتطلباته، وهذه التجربة حتى الآن لم تفرز لنا أشخاصا يمكن أن نقول عنهم إنهم مميزون على غرار الأسماء التى سبق ذكرها او حتى فى المستوى المتوسط.
إذن التجربة ينبغى ان تقيم تقييما موضوعيا كل حالة على حدة ونجيب على تساؤل يفرض نفسه علينا مفاده هل من المفيد الاستمرار فى هذه التجربة بناء على تقييم للشركات والمناصب التى تولى بعض لواءات القوات المسلحة قيادتها عبر فترة ممتدة زمنيا ؟ وهى مناصب مدنية يحتلها العسكريون منذ مدة تسبق ثورة ٢٥ يناير بمراحل.
صحيح أن القوات المسلحة المصرية تأخذ بأسباب التقدم من تحديث معداتها العسكرية ومن تحديث عقيدتها العسكرية باستمرار وهى من اكثر قطاعات الدولة المصرية تقدما بحكم المعايير العالمية التى تقيم على أساسها، إلا أن الخلط بينها كمؤسسة وبين أبنائها من الضباط أشبه ما يكون بالخلط بين الإسلام والمتطرفين والإرهابيين من حيث السلوك، فالإسلام دين سمح يحترم الآخر ويحث على احترامه وحفظ حقوقه، بينما أبناء هذه التنظيمات هم مسلمون يفهمون هذا الدين خطأ كما أن إيمانهم ضعيف لأنه يستند إلى التطرف فى الفكر والتفسير والإدراك، وذلك حتى إن اعتذر المدنيون عن تولى مناصب معينة كما قيل.
إن مصر بعد ثورة يناير فى مسيس الحاجة إلى إعادة النظر فى مجمل القوانين التى تحكمها، فلا توجد دولة فى العالم تحكم بحوالى ٥٤٠٠ قانون، فكثرة هذه القوانين تعيق العدالة عن أداء مهمتها، كما أنها تأخذ وقتا طويلا فى التقاضي، كما أنها تقف حجر عثرة فى سبيل تقدم مصر للأمام، كما أننا بحاجة ماسة إلى عدم تكرار التجارب الفاشلة، ولحين إتمام ذلك ينبغى أن نفكر فى إيقاف تعيين أبناء القوات المسلحة فى القطاعات المدنية على الأقل لحن جلاء الحقيقة.