فأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجديد ، هو زعمهم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلي الحقيقة ، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية ، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة ، وكل فكر للعقل البشري القاصر ، ومن أخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي الحديث ، محاولتهم تغيير الأحكام الشرعية التي وردت فيها النصوص اليقينية ، مثل عقوبة المرتد ، وأوقات الحج ، وفرضية الجهاد ، وتسميد الحدود الشرعية ، وغير ذلك ، فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات ، والطلاق والإرث .. إلخ .. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله .. وتحكيم العقل في هذه المواضيع ، ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر .
وقد ساعد على انتشار هذا الاتجاه المعروف بمذهب الخلف في الوسط الإسلامي ، تدريسه بين طلبة العلم ، وتبني كثير من الدعاة له في أحاديثهم وكتبهم ، يقول البيجوري في حاشيته ، مفضلا اتجاه الخلف على طريقة السلف تحت قول صاحب الجوهرة : وكل نص أوهم التشبيها : أوّله أوفوّض ورم تنزيها ( وطريقة الخلف أعلم لما فيها من ممثل د الإيضاح والرد على الخصوم وهي الأرجح ولذلك قدمها المصنف ، وطريقة السلف أسلم لما فيها من السلامة من تعيين معني قد يكون غير مراد لله تعالى ) وهذا من الكلام المقرر على المرحلة الثانوية بالمعاهد الأزهرية في كتاب جوهرة التوحيد .
والآن نتحدث عن مرحلة ما بعد المحنة ، أو أحداث البدعة الكبرى ، وعودة المذهب الرسمي للدولة إلي مذهب السلف الصالح ، في الحقيقة لم تعد أمور العقيدة على نقائها فيما سلف ، بل ظهر ممثل ج من الآراء العقلية في القضايا الغيبية ، لوث النقاء الذي عرف به مذهب السلف قبل المحنة ، فقد كان الواقع يعج بالفرق والأحزاب والطوائف المتعددة التي نتجت عن جيل ، ولد في عصر البدعة وألف تهوين السنة ، ونفي أوصاف الله عز وجل ، ومن ينظر في كتب الفرق والاختلافات العقلية التي أعقبت المحنة ، يجد فوضي فكرية يحار معها من ولد وجد في هذا العصر .
فتجد كتاب الفرق والمقالات ينقلون لنا صورا من الواقع الاعتقادى الذي انتشر بعد رفع المحنة يقول أحدهم مصوا هذا الواقع : واختلفت المعتزلة في صفات الأفعال كالقول خالق رازق محسن جواد وما أشبه ذلك هل يقال إن البارىء لم يزل غير خالق ولا رازق ولا جواد أم لا على ثلث فرق ، فالفرقة الأولي منهم يزعمون انه لا يقال إن البارىء لم يزل خالقا ولا يقال لم يزل غير خالق ولا يقال لم يزل رازقا ولا يقال لم يزل غير رازق وكذلك قولهم في سائر صفات الأفعال ، والفرقة الثانية منهم يزعمون أن البارىء لم يزل غير خالق ولا رازق فإذا قيل لهم فلم يزل غير عادل قالوا لم يزل غير عادل ولا جائر ولم يزل غير محسن ولا مسيء ولم يزل غير صادق ولا كاذب ، والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن البارىء عز وجل لم يزل غير خالق ولا رازق ولا يقولون لم يزل غير عادل ولا محسن ولا جواد ولا صادق ولا حليم لا على تقييد ولا على إطلاق لما في ذلك من الإيهام وهذا قول معتزلة البغداديين وطوائف من معتزلة البصريين ، واختلفت المعتزلة هل يقال لله وقدرة أم لا وهم أربع فرق ، واختلفوا هل يقال لله وجه أم لا وهم ثلاث فرق واختلفوا هل الباري مريد على خمسة أقاويل ، واختلفوا في كلام الله عز وجل هل هو جسم أم ليس بجسم وهل هو مخلوق على ستة أقاويل ، واختلفت المعتزلة في الكلام هل هو حروف أم لا على مقالتين ، واختلفت المعتزلة في الكلام هل هو موجود مع كتابته أم لا على ، واختلفت المعتزلة هل يقال : إن البارىء محبل أم لا وهم فرقتان فزعمت فرقة منهم أن البارىء بخلق الحبل محبل ، والقائل بهذا القول أبو على الجبائي ومن قال بقوله ، وزعمت فرقة أخرى منهم أن البارىء لا يجوز أن يكون محبلا بخلق الحبل ، كما لا يكون والدا بخلق الولد ، واختلفت المعتزلة في معني القول أن الله خالق وهم فرقتان ، وأجمعت المعتزلة بأسرها على إنكار العين واليد ، واختلفت المعتزلة في البارىء هل يقال انه وكيل انه لطيف على مقالتين فمنهم من زعم أن البارىء لا يقال إنه وكيل وأنكر قائل هذا القول أن يقول حسبنا الله ونعم الوكيل من غير أن يقرأ القرآن .
واختلفت المعتزلة هل يقال إن البارىء قبل الأشياء أو يقال قبل ويسكت على ذلك على ثلاث مقالات واختلفت المعتزلة هل يجوز أن يسمي البارىء عالما ، واختلفت المعتزلة هل يجوز أن يقلب الله الأسماء فيسمي العالم جاهلا والجاهل عالما أم لم يكن ذلك جائزا ، واختلفت المعتزلة هل يجوز أن يسمي الله سبحانه نفسه جاهلا ميتا عاجزا على طريق التقليب واللغة على ما هي عليه وهم فرقتان ، واختلفت المعتزلة في البارىء سبحانه هل يوصف بالقدرة على الجور والظلم أم لا يوصف بالقدرة على ذلك وهم فرقتان .
ولما بالغت المعتزلة في نفي أوصاف الله بالغ آخرون في الإثبات حتى وقعوا في التشبيه ، فاختلفت المجسمة فيما بينهم في التجسيم وهل للبارىء تعالى قدر من الأقدار وفي مقداره على ست عشرة مقالة فقال هشام بن الحكم أن الله جسم محدود عريض عميق طويل طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه ، وهو نور ساطع ، له قدر من الأقدار بمعني أن له مقدارا في طوله وعرضه وعمقه لا يتجاوزه في مكان دون مكان ، كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ، ذو لون وطعم ورائحة وأنه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد ، وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم إن البارىء جسم له مقدار في المساحة ولا ندري كم ذلك ، وقال قوم إن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تحل فيه الأشياء ليس بذي غاية ولا نهاية وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان إن الله جسم وإنه جثة على صورة الإنسان مكون من لحم ودم وشعر وعظم ، له جوارح وأعضاء كيد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه وحكي عن الجواربي انه كان يقول أجوف من فمه إلي صدره ومصمت ما سوي ذلك تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
واختلفوا في رؤية البارىء بالأبصار على تسع عشرة مقالة ، فقال قائلون يجوز أن نري الله بالأبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من تلقاه في الطرقات وأجاز عليه بعضهم الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول إذا رأوا إنسانا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك قال قائلون نري الله جهرة ومعاينة وقال قائلون لا نري الله جهرة ولا معاينة ، ومنهم من يقول يجوز أن تحدق إليه إذا رأيته ومنه من يقول لا يجوز التحديق إليه ، واختلفوا في الذي يقدر على حمل خمسين رطلا ولا يقدر على حمل مائة رطل على مقالتين ، فقال قائلون لا بد من أن يكون فيه عجز عن حمل الخمسين الفاضلة ، وقال قائلون لا عجز فيه وإنما عدم القوة على ذلك فقط ، واختلفوا هل يجوز أن يقوي الإنسان على حمل جزأين بجزء من القوة أم لا .
واختلفوا هل يجوز أن يؤمر بالصلاة قبل دخول وقتها أم لا على مقالتين فأجاز ذلك بعضهم وأنكره بعضهم واختلفوا هل يجوز أن يأمر الله سبحانه بالفعل في وقت فعل ثاني وهو يعلم انه يحول بين الإنسان وبين الفعل على ثلاثة أقاويل ، واختلفوا هل الأجسام كلها متحركة أم كلها ساكنة أم كيف القول في ذلك على مقالات .
وفي خضم هذه المعمعة الفكرية والمعركة العقلية ، ولد أبو الحسن الأشعري الذي تنسب إليه فرقة الأشعرية ، وهو هو على بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري ، نشأ بالبصرة يتيما فتزوجت أمه رجلا من شيوخ المعتزلة يقال له أبي على الجبائي فتربي في حجره وتعلم من فنه في نفي صفات الله ، وكان واقع المسلمين الفكري ملوثا كما وصفناه ، فقد وجد الأشعري ساحة من الفكر الاعتزالي أخذ يدقق فيها ويجمع أقوال الطوائف المنحرفة حتى ألف في ذلك كتابا كبيرا سماه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ، فتكافأت عنده الأدلة العقلية في العقائد الغيبية ولم يترجح عنده شيء من الآراء الاعتزالية ، ما هي قصة الأشعري ، وما هي عقيدة الأشعرية التي تتبناها أكبر المؤسسات العلمية في البلاد الإسلامية ؟ ونظرا لأهمية هذا الموضوع ، سوف نفرد له بإذن الله تعالى عدة محاضرات ولقاءات خاصة ، فيا مجتنبا من الهدي طريقا واضحا ، افتح عين البصيرة تر العلم لائحا ، يا غاديا في غفلة ورائحا إلي متي تستحسن القبائحا ، وكم إلي كم لا تخاف موقفا يستنطق الله به الجوارحا ، يا عجبا منك وأنت مبصر ، كيف تجنبت الطريق الواضحا ، كيف تكون حين تقرأ في غد صحيفة قد حوت منك الفضائحا ، وكيف ترضي أن تكون خاسرا يوما يفوز من يكون رابحا ، وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
خاص لبوابة الثانوية العامة
فضيلة الشيخ الدكتور محمود عبد الرازق الرضواني - حفظه الله- استاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة