#2
|
||||
|
||||
![]() نظرة في تاريخ القدر الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان ، وقد بيَّن هذا الكتاب والسنة مفهوم القدر ، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العمل والأخذ بالأسباب هو من القدر ولا ينافيه ولا يناقضه ، وحذر أمته من الذين يكذبون بالقدر ، أو يعارضون به الشرع .وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً عندما خرج على أصحابه يوماً وهم يتنازعون في القدر ، حتى احمرَّ وجهه ، حتى كأنما فُقئ في وجنتيه الرمان ، فقال : " أبهذا أمرتم ، أم بهذا أرسلت إليكم ؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر ، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه " (1) . واستجاب الصحابة رضوان الله عليهم لعزيمة نبيهم وتوجيهه ، فلم يُعرف عن أحد منهم أنه نازع في القدر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته . ولم يَردْ إلينا أن واحداً من المسلمين نازع في القدر في عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان ، وكل ما ورد إلينا أن أبا عبيدة عامر بن الجراح اعترض على رجوع عمر بالناس عن دخول الشام عندما انتشر بها الطاعون ، وقال لعمر بن الخطاب : " يا أمير المؤمنين أفراراً من قدرة الله "؟ فقال عمر : " لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله . أرأيت إن كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان : إحداهما خصيبة ، والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدرة الله " (2) . وروى اللالكائي أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية ( من أرض الشام ) فقال في خطبته : " من يضلل الله فلا هادي له ". وكان الجثاليق (3) بين يديه ، فقال : إن الله لا يضل أحداً ، وعندما كررها عمر بن الخطاب نفض الجثاليق ثوبه ينكر قول عمر . فقال له عمر بعد أن تُرجم له كلامه : " كذبت يا عدو الله خلقك الله ، والله يضلك ، ثم يميتك ، فيدخلك النار إن شاء الله ... إن الله خلق الخلق ، وقال : حين خلق آدم نثر ذريته في يده ، وكتب أهل الجنة وما هم عاملون ، وكتب أهل النار وما هم عاملون ، ثم قال : "هؤلاء لهذه ، وهؤلاء لهذه " فتفرق الناس وما يختلف في القدر اثنان " (4) . وأول من تكلم بالقدر رجل من أهل البصرة كان يعمل بقالاً يقال له سَنْسَويه ، قال الأوزاعي :" أول من نطق في القدر رجل من العراق يقال له سوسن ، كان نصرانياً فأسلم ، ثم تنصَّر ، فأخذ عنه معبد الجهني ، وأخذ غيلان عن معبد " (5) . وقال يونس بن عبيد : " أدركت البصرة وما بها قدري إلا سَنْسَويه ومعبد الجهني ، وآخر ملعون في بني عوافة " (6) . وروى مسلم في صحيحه عن بُرَيْده بن يحيى بن يعمر قال : " كان أول من قال بالقدر بالبصرة معبد الجهني " وذكر بريدة في حديثه أن معبداً ومن معه يزعمون " أن لا قدر ، وأن الأمر أنف " (7) . وقد أثار الصحابة الأحياء في ذلك الوقت كعبد الله بن عمر وابن عباس وواثلة بن الأصقع ، وجابر بن عبد الله ، وأبي هريرة ، وأنس بن مالك حرباً على أصحاب هذه المقالة (8) . ثم أخذ هذا المذهب عن معبد رؤوس الاعتزال وأئمته كواصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وغيلان الدمشقي . فأما واصل بن عطاء رأس الاعتزال ، فقد زعم أن الشر لا يجوز إضافته إلى الله ، لأن الله حكيم ، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر ، ويحتم عليهم شيئاً ، ثم يجازيهم عليه . وقرر في مقالته : أن العبد هو الفاعل للخير والشر ، والإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، وهو المجازى على فعله ، والربُّ تعالى أقدره على ذلك كله (9) . وذهب النظام من المعتزلة إلى أن الله لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي ، وليست هي مقدورة لله (10) . وهذه الفرقة هي التي أطلق عليها علماؤنا : اسم القدرية . " وسموا بذلك لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى ، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه ، وهؤلاء مع ضلالتهم يضيفون هذا الاسم إلى مخالفيهم من أهل الهدى ، فيقولون : أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من الله ، وإنكم أولى بهذا الاسم منا " (11) . وقد ذكر النووي في شرحه على صحيح مسلم : " أن بعض القدرية قال : لسنا بقدرية ، بل أنتم القدرية ، لاعتقادكم إثبات القدر . قال ابن قتيبة والإمام ( يريد الإمام الجويني ) : " هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهته وتواقح ، فإن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى ، ويضيفون القدر والأفعال إلى الله سبحانه وتعالى ، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ، ومُدَّعي الشيء لنفسه ، ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره ، وينفيه عن نفسه " (12) . وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى القدرية مجوس هذه الأمة ، والحديث أخرجه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه على الصحيحين ، وقال : صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر (13) . والسبب في تسمية هذه الفرقة بمجوس هذه الأمة " مضاهاة مذهبهم المجوس في قولهم بالأصلين : النور والظلمة ، يزعمون أن الخير من فعل النور ، والشر من فعل الظلمة ، فصاروا ثَنَوِيَّة ، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى ، والشر إلى غيره ، والله – سبحانه وتعالى – خالق الخير والشر جميعاً ، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته ، فهما مضافان إليه – سبحانه وتعالى – خلقاً وإيجاداً ، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً " (14) (15) . ونشأ في آخر عهد بني أمية أقوام يزعمون أن العبد مجبور على فعله ، ليس له خيار فيما يأخذ أو يدع ، وبعضهم يثبت للعبد قدرة غير مؤثرة ، وأول من ظهر عنه هذا القول هو الجهم بن صفوان ، وتفرع عن هذه البدعة أقوال شنيعة ، وضلال كبير (16) . وقد انتشر هذا القول في الأمة الإسلامية وتقلده كثير من العباد والزهاد والمتصوفة ، وإذا كان الفريق الأول أشبه المجوس فإن هذا الفريق أشبه المشركين الذين قالوا : ( لو شاء الله ما أشركنا ولا ءابآؤنا ولا حرمنا من شيء ).[الأنعام :148] . وهذا الفريق شرٌّ من الفريق الأول ، لأن الأولين عظموا الأمر والنهي ، وأخرجوا أفعال العباد عن تكون خلقاً لله ، وهذا الفريق أثبت القدر ، واحتج به على إبطال الأمر والنهي (17) (18) . -------------------------------- (1) صحيح سنن الترمذي : 2/223 . (2) صحيح البخاري : انظر فتح الباري 10/179، ورقم الحديث : 5729 . (3) جثاليق النصارى : رأسهم ومقدمتهم . (4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي :3/659 . (5) شرح أصول الاعتقاد :3/750وانظر الشريعة للآجري :ص 242 . (6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة :3/749 . (7) شرح النووي على مسلم :1/150 . (8) راجع : الفرق بين الفرق : ص19 . (9) الملل والنحل للشهرستاني :1/47 . (10) الملل والنحل :1/54 . (11) جامع الأصول لابن الأثير :10/128 . (12) شرح النووي على مسلم :1/154 . (13) شرح النووي على مسلم :1/154 . (14) نقل هذا الكلام النووي في شرحه على مسلم :1/154 عن الخطاببي . وانظر جامع الأصول : 10/128 . (15) سيأتي مزيد بيان لهذه الفرقة ومعتقداتها وبيان ضلالتها عندما نتكلم على الذين ضلوا في باب القدر . (16) راجع مجموع فتاوي شيخ الإسلام :8/460،والملل والنحل للشهرستاني :1/85 . (17) عقيدة السفاريني :1/306 . (18) سيأتي مزيد بحث عن أصحاب هذا التوجه . |
العلامات المرجعية |
|
|