اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > الأدب العربي

الأدب العربي قسم يختص بنشر ما يكتبه كبار الشعراء والأدباء قديمًا وحديثًا

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #4  
قديم 15-07-2011, 10:08 AM
نقاء الروح نقاء الروح غير متواجد حالياً
طالبة جامعية
عضو مثالي لعام 2011
 
تاريخ التسجيل: Apr 2009
المشاركات: 3,789
معدل تقييم المستوى: 20
نقاء الروح is on a distinguished road
افتراضي

أبي العزيز،
ليتك تكون معي في هذه اللحظة لترى ما حلّ بي.. فقد انتهى أخيراً حلمي الوردي، وصحوتُ على مصيبتي لأرى ما اقترفَت يداي.
لا أدري ما أقول لك، فهذا موقف تُغني فيه العبَرة عن مئات الكلمات، وليتك بجانبي الآن لأسكب أنهار دموعي على كتفك الذي طالما حلمت بأن أرتمي عليه.
عقلي بات منهكاً، ولم يعد قادراً على التمييز بين الخطأ والصواب، ولكنه لم ينسَ بعدُ الأسباب التي دفعتني للسير في هذا الطريق.
لقد كنتُ تائهةً يا أبت.. مراهِقةً تسعى لإثبات وجودها، ولما بدأتْ بتكوين هويتها، فقدتْ أمها، وفقدتْ معها الحبل السُرّي الذي كان يربطها بالحياة.
كنتُ كطفلة صغيرة تتشبث بيد أمها لتقطع معها عرض الشارع، ثم لم تلبث أن وجدت نفسها فجأة وحيدة وسط سيل هادر من السيارات.. لم أكن مستعدة لذلك، ولم تُعِدّ العدة أنت وأمي من قبل تحسّباً لمثل هذا الموقف.
لقد زرعتما فيّ التواكل مذ وطئتْ قدماي هذه الأرض الغريبة، فكنتُ أعتمد عليكما في كل شيء، وعندما فقدتُ أمي بات علي أن أتحول إلى امرأة ناضجة، وأن أُسقط كل نقاط ضعفي في لحظة واحدة، حتى إذا فشلتُ في ذلك، حسبتَه تقصيراً مني، ولم أكن لأتقبل منك هذه الإهانة.

أبي العظيم،
أعلم جيداً أنك كنتَ حريصاً على تربيتي وتهذيب أخلاقي، وأنك بذلك الكثير من الجهد لتنزع عن قلبي وحشة الغربة في هذه البلاد، ولكنك لم تلتفت يوماً إلى أن البيئة والزمان قد تغيرا عما اعتدتَ عليه، وأن نقل تجربتك إليّ دون تعديل قد يضر أكثر مما ينفع.
نعم، أعترف بأنك أجهدت نفسك لكي أحفظ أكبر قدر من كتاب الله، وقد نجحت.. ولكنك لم تفكر يوماً بأن تعلمني روح هذا الكتاب، حتى نسيتُه.
أعترف أيضاً بأنك تعبت كثيراً لتعوّدني على الصلاة في وقتها، وقد فعلت.. ولكنك لم تلاحظ أنك لم تزد على تعليمي بضع حركات وكلمات أؤديها كل صباح ومساء، دون أن تلفت نظري يوماً إلى السر الروحاني الذي كان عليه أن أستحضره في كل صلاة، حتى تركتُها دون أن أشعر بأني فقدت شيئاً.
كما أعترف لك يا أبت بأنك بذلت الكثير لتحافظ على الحجاب فوق رأسي، وقد أفلحت.. ولكنك لم تنتبه يوماً إلى أن هذا الحجاب لم يزد عندي على قطعة قماش أغطي بها رأسي لأمتاز عن بقية الناس، وأنه بات شعاراً يجب أن أتشبث به لأحافظ على هويتي من الذوبان، ولم يخطر ببالك أنه قد شُرع ليحفظ كرامتي من الامتهان، وليُبرز ما أكون به نداً للرجل من إنسانية دون أن يطيح بنظره إلى جسدي، حتى شعرتُ بأنه يزيد من حدة التمييز تجاهي، ويجبرني على التعلق بهوية تكاد أن تبلى في أعماق ذاكرتي البعيدة، فلما اتسعت الهوة بيني وبينك، وبدأتُ البحث عن رجل آخر يعيد إليّ الشعور بأنوثتي، قررتُ أن أرمي هذا الحجاب.

أبي الحبيب،
لم يخالجني الشك يوماً في حبك لي، ولم أكن لأصدق نفسي عندما ادعيتُ عكس ذلك، فقد كانت كل خلية في جسدي تكذبني، ولكن عجزك عن احتواء جنوني هو الذي خيّل إليّ ما أشتهي من أسباب تكفي لتبرير القطيعة، وعندما اكتملت الكذبة في ذهني صدّقـتُها، وصنعتُ منها سلاحاً أشهره في وجهك كلما دعت الحاجة. حتى إذا عجزتُ عن نيل مرادي، رفعتُ صوتي وسكبتُ دموعي، وأقمتُ عليك الدنيا لأنتقم لنفسي.
لقد كان كلانا في غنى عن ذلك يا أبت، فلو أنك تنازلت يوماً للتفكير بالمنطق الذي يعمل به عقلي لأرحت نفسك وأرحتني، ولكنك أصررت على أن تبارزني بمنطقك الذي لم تقدر على إقناعي به، فإذا انفجرتُ في وجهك لزمتَ الصمت الذي يأكل قلبك ويزيد جنوني.
هكذا مرت أيامنا بين الجفاء وسوء الفهم، وهكذا تطور الأمر من محاولة إثبات للذات إلى فضيحة. ثم لم يبذل أحد منا جهده للتقريب، بل مضينا في تجرع آلامنا لنكتوي بها، ونلوم بعضنا على الجحيم الذي صنعناه بأيدينا. وعندما وجدتُ الطريق مسدوداً، لم أجد بداً من التحدي، فقررت الخروج، وكانت مفاجأتي كبيرة عندما تركتني وشأني، فما كان من شيء أحب إلي من أن تقف في وجهي، وتُسقط قناع التمرد الذي كنتُ أستر به عورات ضعفي..
صفعة واحدة يا أبت كانت ستفي بالغرض، وستفتح عينيّ على الكذبة التي صنعها صمتك أمام جنوني.

واليوم..
أجد نفسي وحيدة يا أبت، كورقة خريف تصارع الريح على غصن يابس.. أشعر بالبرد والوحدة.. أشعر بالتفاهة، بالصغار، وبكل العيوب التي كنتُ أسترها ببكائي وجنون صراخي.
هاقد سقطت تلك الغشاوة التي أعمت عيوني، ولم يعد لدي ما أخفيه عنك وعن نفسي، أريد أن أعترف لك يا أبت.. أن أبوح لك بكل شيء..
أريد أن أعود إليك.. ليس لأرتمي في أحضانك، ولا لتقبّل رأسي وتمسح دموعي، بل لتصفعني على وجهي، وتُخرج الشرر من عينيّ..

لا أدري إن كنتَ ستصفح عني بعد كل ما فعلتُه بك وبنفسي، بل لست أدري إن كنتَ كما تركتك بصحة وعافية، ولكني لم أعد قادرة على الكتمان أكثر من هذا، كما لا أجرؤ على مهاتفتك حياءً منك، ولهذا كتبتُ لك عسى أن يحنّ قلبك عليّ وتقبل عودتي.
سأنتظر ردك يا أبت بفارغ الصبر، فأرجو ألا تطيل عليّ الانتظار.

ابنتك النادمة


ختمت الفتاة رسالتها، وضعتها في ظرف بريدي وألصقت عليها طابعاً، ثم كتبت العنوان وهي تمسح دموعها.
أعادت النظر إلى وجهها في المرآة، وقالت لنفسها: لن أتأخر عليك يا أبتِ.. غداً سأرسل الرسالة.

رد مع اقتباس
 

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 03:52 PM.