|
قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية منتدى يختص بعرض كافة الأخبار السياسية والإقتصادية والرياضية في جميع أنحاء العالم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]()
جزاك الله خيرا وبارك فيك
__________________
![]() |
#2
|
||||
|
||||
![]() سنوات الخداع - الحلقة الرابعة وبعد قُرابة عام من العمل الميدانى فى العراق كان يمكن القول إن تنفيذ القرار (687) كان يسير بصورة جيدة. وأصبح من الواضح أمام فرق التفتيش كيف بدأ برنامج صدام حسين النووى ودوافعه. وكان باديا أن الجزء السرى من هذا البرنامج بدأ فى عام 1982 بعد فترة قصيرة من قيام إسرائيل بتدمير المفاعل البحثى النووى فى «أوزيراك»، والذى كان يخضع لنظام الضمانات التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، من قبل أن يبدأ تشغيله. وبغض النظر عن أى نوايا كانت لدى صدام حسين ومعاونيه فى الحصول على أسلحة الدمار الشامل، فإن تلك النوايا تزايدت بعد هذه التجربة المهينة.أدى هذا الحادث إلى إلقاء الضوء على حالة الاختلال الأمنى فى المنطقة لصالح إسرائيل بوصفها الدولة الوحيدة التى تمتلك السلاح النووى فيها. ورغم قيام مجلس الأمن بإدانة التصرف الإسرائيلى بوصفه خرقا صارخا للقانون الدولى فإنه لم يتبع ذلك بأى إجراءات من أى نوع. بل إن إسرائيل تجاهلت مطلب مجلس الأمن بتقديم التعويض للعراق، وبأن تقوم بوضع منشآتها النووية تحت مظلة ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبالتالى قرر صدام حسين أن يتعامل مع هذه المشكلة بنفسه وكانت النتائج ما رأيناه بعد ذلك. وفى أعقاب الكشف عن البرنامج السرى للتسلح النووى فى العراق، قمت بزيارتين لواشنطن حيث التقيت شخصيات عديدة من الكونجرس والشخصيات الحكومية. وكان السؤال الذى يدور بخَلَد كل من التقيت بهم يرتبط بأسباب عجز الوكالة عبر السنوات عن الكشف عن البرنامج السرى للتسلح النووى فى العراق. ولقد تحدثت بصراحة عن الأخطاء التى تشوب طريقة عمل الوكالة، وأكدت أن الوكالة فى حاجة إلى مزيد من الصلاحيات القانونية. وكانت اللحظة مواتية لطرح هذا الأمر حيث لم يكن بوسع أحد أن يقول إن نظام الضمانات المنصوص عليه فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية يعمل بالكفاءة المطلوبة، خصوصا أن البرنامج العراقى لم يكشف الستار عنه إلا فى أعقاب ما تعرض له من هزيمة عسكرية. وعندما عدت إلى فيينا بدأنا فى الأمانة العامة للوكالة العمل لصياغة نموذج البروتوكول الإضافى الذى من شأنه أن يجعل عمليات التحقق التى تقوم بها الوكالة فى الدول أكثر قوة وأكثر تفصيلا. وحسب التصور الذى تم وضعه كان مفترضا أن يكون البروتوكول الإضافى مُكملا لاتفاق الضمانات الذى كانت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية تتطلب إبرامه بين الدول وبين الوكالة الدولية. ولم يكن ذلك بالأمر السهل، حيث كان يتطلب الجمع بين اعتبارات فنية وقانونية وسياسية. وكانت إحدى القضايا التى تناقَشنا حولها باستفاضة هى المدى الذى يمكن لأى بلد أن يذهب إليه فى القبول بالتفتيش من قِبل الوكالة والحقيقة أن ذلك لم يكن بالأمر الجديد، حيث إن واحدة من أكثر النقاط تعقيدا أثناء التفاوض حول معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية كانت تتعلق بمدى قبول الدول بصلاحيات المراقبة من قِبل الوكالة. والأمر المؤكد أن عملية الخداع المتعمدة التى قام بها العراق أكدت أن الاستمرار فى اعتماد التفتيش على «ميثاق شرف» لم يعد كافيا، وأن الاقتصار فى التفتيش على ما تعلنه الدول من منشآت وأنشطة لم يعد كافيا كذلك، وأن الوكالة الدولية لا تتمتع بالسلطات والصلاحيات الكافية للقيام بمهمتها المتعلقة بمراقبة حظر الانتشار. ولكن مع أخذ كل تلك الحقائق فى الاعتبار لم يكن لدينا ما يجعلنا نثق أن الدول الأعضاء ستقبل الخضوع لمزيد من المراقبة من قِبل الوكالة. وللأسف فإن خلافا نشأ بين «هانز بليكس» وبينى بينما كنا نعكف على صياغة مسودة لنموذج البروتوكول الإضافى، حيث اقترحت إشراك الدول الأعضاء فى الوكالة فى صياغة هذا البروتوكول، بينما كان «بليكس» على قناعة بأنه سيكون من الأفضل أن تتولى الأمانة العامة الأمر وحدها، حيث إننا كان لدينا، حسب رأيه، الخبرات الكافية للقيام بهذه المهمة. ومن ثَمَّ كان على فريق الأمانة العامة للوكالة أن يقوم بصياغة مسودة للبروتوكول الإضافى وأن يطرحها على مجلس المحافظين، والذى يضم ممثلين عن 35 دولة من الدول الأعضاء لمناقشتها، على أن تستمر عملية مراجعة وتنقيح المسودة حتى تتم الموافقة عليها. وكان «بليكس» مقتنعا بأن وضع المسودة فى أيدى الدول كفيل بإنهاء المشروع قبل أن يبدأ. ولكن سرعان ما تبين أن نهج «بليكس» لن يُفضى إلى النتائج المرجوة وأنه من الضرورى إشراك الدول فى صياغة البروتوكول الإضافى لضمان موافقتها عليه. وعليه فقد اقترحت على «بليكس» أن نقوم بإنشاء فريق عمل يضم الدول الأعضاء فى مجلس المحافظين، ولكنه عارض هذه الفكرة تماما. وقد رأى عدد من الدول الأعضاء فى إبعادها نوعا من عدم الانفتاح من جانب الوكالة فى أمر يتعلق بوضع وثيقة ستكون بمثابة آلية سياسية مهمة ومؤثرة. لذا قام بزيارتى فى ذلك الوقت ممثلون عن مجموعة من عشر دول غربية وهى الدول التى نصِفُها بالملائكة البيضاء بسبب دعمها غير المحدود لحظر الانتشار مقترحين أن أطالب «بليكس» بالتخلى عن فكرة سيطرة الأمانة العامة للوكالة على مشروع البروتوكول الإضافى والسماح لمجلس المحافظين بالانخراط فى النقاش حول البروتوكول وصياغته. وقد تحدثت إلى «بليكس» فى ذلك ولكنه كان مستاء من عدم ذهابهم إليه مباشرة. على أن هذه الحادثة التافهة نسبيّا كانت بداية لتوتر ملموس فى ما بيننا. ربما اعتقد أننى كنت أعمل دون علمه، وعلى أية حال كان ذلك أمرا مؤسفا لا سيما وأن «بليكس» هو الذى عيننى فى البداية للعمل فى الوكالة والذى تقدمت تحت رئاسته من منصب المستشار القانونى إلى منصب المدير العام المساعد للعلاقات الخارجية. واستمر الخلاف بعد ذلك حول آلية صياغة البروتوكول فى الغرف المغلقة. وأخيرا أخبر رئيس مجلس المحافظين فى ذلك الوقت، السفير الكندى «بيتر ووكر»، «بليكس» أنه سيتولى الأمر وطلب أن تقدم له الأمانة الدعم اللازم. وعُين «ريتشارد هووبر»، وهو مدير فى إدارة الضمانات يعرف جيدا مفاهيم الضمانات، مسؤولا فنيّا أساسيّا فى الموضوع، وكنت أنا المسؤول عن الموضوعات القانونية المتعلقة بالسياسات، وتولى رئيس المجلس كذلك رئاسة فريق العمل، ولم يحضر «بليكس» أيّا من الجلسات. كانت المهمة طويلة ومعقدة دافعتْ فيها كثير من الحكومات عن مواقفها. وكانت أشرس المعارك هى المعارك السياسية. ويرجع الفضل فى النجاح بدرجة كبيرة إلى الدبلوماسية الماهرة التى مارسها عدد من الأطراف الرئيسيين. وفى النهاية اعتمد مجلس المحافظين نموذج البروتوكول الإضافى فى 13 مايو 1997، وكان وثيقة قانونية فارقة فى الصلاحيات القانونية المتاحة لتنفيذ معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وجعل نظام الضمانات فيها أكثر فاعلية. ماذا تغير إذن بعد اعتماد هذا البروتوكول الإضافى؟ يمكن القول إن الدول التى وافقت عليه منحت المفتشين قدرا أكبر من الحرية والمرونة فى أداء عملهم ميدانيّا، وسمحت لهم بالحصول على معلومات أكثر ودخول المنشآت المطلوب تفتيشها بصورة أسهل بما يسَّر كثيرا من سُبل التحقق من أنه ليست هناك أية مواد أو منشآت نووية لم يعلن عنها. وقبل اعتماد البروتوكول الإضافى كان يحق للوكالة نظريّا أن تعمل على تفتيش أماكن ومنشآت لم يعلن عنها من قِبل الدول تحت مظلة آلية إجراء «تفتيش خاص»، ولكن استخدام مثل هذه الآلية لم يكن أبدا بالأمر اليسير من الناحية العملية، وبالتالى فإن البروتوكول الإضافى وفر سهولة ونمطية أكبر فى الحصول على المعلومات والتفتيش على المنشآت. كان من شأن اعتماد نموذج البروتوكول الإضافى، وهو علامة رئيسية كبرى فى تاريخ الضمانات النووية، أن يحدث تغيير كبير. فبالنسبة إلى البلدان التى لم يكن لديها سوى اتفاق ضمانات فقد اقتصرت تأكيدات الوكالة على أن المواد والمنشآت النووية المعلن عنها لم تحوَّل إلى أغراض غير سلمية. غير أنه بالنسبة إلى أولئك الذين أدخلوا البروتوكول الإضافى إلى حيز النفاذ فقد أصبح بمقدور الوكالة أن تقدم، بالإضافة إلى ذلك، تأكيدا بنفس القدر من الأهمية، وهو عدم وجود مواد أو منشآت نووية غير معلن عنها. وكانت هناك إشكالية واحدة، فبينما كان نظام الضمانات إلزاميّا بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فإن البروتوكول الإضافى كان اختياريّا ولا يمكن فرضه على الدول وما زال هذا هو الحال حتى اليوم. فالدول ليست مُجبرة على القبول بالبروتوكول الإضافى، بغض النظر عن مدى محاولات الإقناع الذى تمارسه الوكالة أو الدول الأخرى الأعضاء. وتوجد هنا كذلك ثغرة فى الفهم العام لدور الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فالوكالة لا تستطيع أن تمارس من السلطات غير ما يُعطَى لها. عندما بدأتُ بزيارة الدول العربية بوصفى مديرا عامّا للوكالة كنت كثيرا ما أستمع إلى انتقادات موجهة للوكالة لعجزها عن «القيام بشىء ما» إزاء برنامج إسرائيل النووى. ولم يكن فى وسعى سوى أن أكرر مرارا أن الوكالة ليس لها الحق فى تفتيش منشآت إسرائيل النووية لأن إسرائيل، وإن كانت عضوا فى الوكالة، فهى لم تقم بالانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ولم تبرم اتفاق ضمانات، وبالتالى فإنها ليست خاضعة لنظام ضمانات الوكالة. غير أن هذا الحديث لم يكن ليريح الرأى العام فى العالم العربى، والذى كان يُصر على أن الوكالة منحازة إلى صالح إسرائيل ولا تقوم بمهماتها على الوجه الأكمل. والحقيقة أنه إذا ما تفهَّم الرأى العام طبيعة الصلاحيات غير المتساوية للوكالة، لربما ازدادت حدة القلق، وعلى هذا فإن التحدى الذى يواجهنا هو كيفية رفع مستوى الوعى العام بدور الوكالة وبعملها. فإذا نظرنا إلى الظروف الحاضرة، سنجد أنه فى أواخر سنة 2010، أى بعد ثلاثة عشر عاما من اعتماد البروتوكول الإضافى، فإن كثيرا من الأطراف فى معاهدة حظر الانتشار لم يُدخلوا حيز النفاذ حتى اتفاقات الضمانات الشاملة التى أبرموها مع الوكالة. وكذلك فمن بين 189 دولة طرفا فى المعاهدة لم يدخل البروتوكول الإضافى حيز النفاذ سوى فى 103 دول فقط. وبالنسبة إلى العدد الكبير من الدول المتبقية فإنه عندما يتعلق الأمر بتقديم التأكيدات التى يريدها المجتمع الدولى تقف الوكالة مكتوفة الأيدى. هل يمكن أن يكون هناك صدام حسين آخر فى مكان ما لم يُكتشف بعد، ويعمل بهمّة فى الخفاء؟ الإجابة: بالنسبة إلى الدول التى لم تقبل البروتوكول الإضافى، إننا حقّا لا نعرف. لقد استمرت الوكالة مع «الأنسكوم» فى القيام بمهماتها فى العراق حتى منتصف التسعينيات، فقد تم شحن جميع المواد التى يمكن استخدامها للتسليح إلى خارج البلاد، وتم التحقق من أن كل المواد النووية الأخرى: خمسمائة طن تقريبا من اليورانيوم الطبيعى بمختلف أشكاله، وطنين من ثانى أكسيد اليورانيوم منخفض التخصيب تندرج تحت رقابة الوكالة. واتخذت خطوات مماثلة بالنسبة لمخزونات الأسلحة البيولوجية والكيماوية. وبحلول شهر أكتوبر 1997، كانت الوكالة قد قامت بسلسلة من حملات التفتيش الرئيسية فى العراق بلغت ثلاثين حملة. كان قد تم التفتيش على خمسمائة موقع تقريبا استغرقت أكثر من خمسة آلاف يوم عمل من المفتشين. وأشرف المفتشون على تدمير ما يزيد على خمسين ألف متر مربع من المنشآت النووية، وألفَى قطعة تقريبا تتعلق بدورة الوقود أو الأسلحة، وأكثر من ستمائة طن مترى من المعادن ذات التشكيل الخاص. وعلى سبيل المثال فإن المنشآت الواقعة فى منطقة الأثير، التى صممت لتطوير أسلحة نووية واختبارها وإنتاجها، تم تدميرها بطريق التفجير تحت إشراف الوكالة و«الأنسكوم»، وتم تفكيك جميع منشآت ومعدات تخصيب اليورانيوم. وبصورة تدريجية تم الانتهاء من المهمة الموكلة إلى هذه الفرق بموجب القرار (687)، وبالتالى بدأت الوكالة و«الأنسكوم» فى التركيز على أعمال المراقبة والتحقق بدلا من التركيز على أعمال تفكيك المنشآت والمعدات والتخلص منها، وقد ذكرت الوكالة ذلك فى تقاريرها إلى مجلس الأمن. ولم يعد هناك الكثير الذى يمكن قوله عما لم يتم إنجازه من المهمة الموكلة للوكالة الدولية، غير أن الخارجية الأمريكية وغيرها من قطاعات الإدارة الأمريكية كانت ترغب فى أن لا نرفع تقريرا إلى مجلس الأمن يفيد بانتهاء الجزء الأعظم من تلك المهمة حيث كانت هناك رغبة لدى الأمريكيين فى إبقاء الضغط الشديد على صدام حسين. واقترحت الولايات المتحدة الأمريكية أن ترجئ الوكالة تقديم تقرير الانتهاء من أعمالها إلى مجلس الأمن حتى تنتهى «الأنسكوم» بدورها من عملها. ولم يكن هناك منطق فى هذا الطلب، ولقد شرح «بليكس» هذا الأمر للأمريكيين خلال مناقشات أجراها معهم، حيث قال لهم إن عليهم أن ينظروا إلى الوكالة وإلى «الأنسكوم» بوصفهما اثنين من الخيل يركضان فى سباق، ولا بأس من أن يصل أحدهما قبل الآخر إلى نقطة النهاية. وقدم «بليكس» تقريره لمجلس الأمن فى أكتوبر 1997 بوصفه مقبلا على الانتهاء من مهمته على رأس الوكالة. كان يشعر أنه بسبب قرب تركه منصبه فإنه كان من الأيسر له أن يقاوم ضغوط الولايات المتحدة، حيث أبلغ المجلس أن الوكالة قد انتهت إلى حد كبير جدّا من عملية تفكيك برنامج التسلح النووى للعراق، وأنها بدأت بالفعل فى الانتقال إلى المرحلة التالية، مشيرا إلى أن الوكالة تقوم الآن بتكريس جل إمكاناتها فى العراق لعمليات الرصد والتحقق، وأنه لم يعد يتبقى من عمليات نزع السلاح شىء يُذكر. وفى ذلك الوقت كان موقف «الأنسكوم» أكثر تعقيدا، والحقيقة أنه منذ بدء عمليات التفتيش كان هناك فرق كبير بين الوكالة و«الأنسكوم» من حيث تكوين فِرق التفتيش أو طريقة العمل. لكن الفروق المقلقة بين عمل وأداء كل من الوكالة و«الأنسكوم» بدأت تتضح بصورة جلية فى مرحلة لاحقة من التسعينيات. لقد زعم العراقيون أن «الأنسكوم» ما هى إلا جهاز تجسس تابع للأمريكيين والإسرائيليين، وأن «الأنسكوم» تتخذ عمليات نزع أسلحة الدمار الشامل التى تقوم بها فى العراق ذريعة لجمع معلومات وتمريرها إلى الأمريكيين والإسرائيليين، مشيرين فى ذلك إلى أن المعلومات التى اتهموا «الأنسكوم» بمحاولة جمعها تشمل التسليح التقليدى والقدرات العسكرية الإجمالية للعراق، وهى المعلومات التى كان العراق يرى أنه سيتم استخدامها من قِبل الحكومات الغربية لتحديد الأهداف التى يُجرى قصفها خلال عمليات عسكرية. ولقد ازدادت حدة هذه الاتهامات بعد انتهاء رئاسة «إيكيوس» «للأنسكوم» ليحل محله «ريتشارد بتلر»، الدبلوماسى الأسترالى صاحب الخبرة الواسعة فى مجال نزع السلاح. فقد اتهم العراقيون «بتلر» و«سكوت ريتر» وغيرهما من مفتشى «الأنسكوم» بالقيام بعمليات تجسس على الآلة العسكرية لصدام حسين لحساب وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وبعد بعض الوقت بدأ «بتلر» و«ريتر» فى تبادل الاتهامات أيضا فى ذات الاتجاه. وفى عام 1999 نشرت الصحيفتان الأمريكيتان، «الواشنطن بوست» و«البوسطن جلوب»، تقارير تفيد بقيام بعض مفتشى «الأنسكوم» بالتعاون فى عمليات تنصت لصالح أجهزة مخابرات، وأن هؤلاء المفتشين مكَّنوا عملاء هذه الأجهزة من تتبع اتصالات عسكرية خاصة بالعراق. بل إن «سكوت ريتر» نفسه قد أقر بمدى استغلال «الأنسكوم» فى هذا الصدد حيث قال فى مقابلة تليفزيونية أجراها فى عام 2002 مع قناة فوكس نيوز: «لقد سمح (ريتشارد بتلر) للولايات المتحدة الأمريكية بأن تستخدم أعمال التفتيش على الأسلحة، التى تجريها الأمم المتحدة، بمثابة حصان طروادة، لزرع قدرات استخباراتية أمريكية فى العراق دون موافقة من قِبل الأمم المتحدة، وبما لم يسهم فى تسهيل عملية نزع السلاح، حيث إن الغرض منها كان يتعلق بالأساس بالإجراءات الخاصة بتأمين صدام حسين وبأهداف عسكرية». «لقد سهل (ريتشارد باتلر) عملية تجسس أمريكى فى العراق من خلال استخدام الولايات المتحدة لأعمال التفتيش فى العراق. ففى أربع مناسبات بدءا من مارس 1998 وحتى استقالتى فى أغسطس من العام نفسه، كتبت مذكرة إلى (ريتشارد باتلر) وقلت له فيها: سيدى، إن استمرارنا فى المضى فى الطريق الذى ننتهجه الآن يعنى ببساطة أننا نُسهِّل عمليات التجسس، وهذا ليس بالأمر المفترض فينا أن نضطلع به ولا يجوز أن نسمح بذلك، ولقد تلقى (باتلر) هذه المذكرة ولم يعبأ بها إطلاقا، ولم يُعْنَ بالتحذير الوارد فيها، وها نحن الآن فى النهاية فى وضع علينا أن نسأل أنفسنا فيه: لماذا لا يتمكن المفتشون من التواجد فى العراق للقيام بعملهم؟». ولقد نفى «باتلر» وبشدة هذه الاتهامات وقال إن «ريتر» يزعم «أننى كنت أعمل لصالح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وهو أمر عار تماما عن الصحة». بل إن «باتلر» قال إنه قلَّص درجة لجوء «الأنسكوم» لاستخدام المعلومات التى تتيحها أجهزة المخابرات حرصا على سمعة «الأنسكوم» وحفاظا على «استقلالية نشاطات نزع السلاح التى تتم فى الإطار متعدد الأطراف». وأقر «باتلر» بأنه كانت هناك أوقات قام فيها أعضاء فريق «الأنسكوم» بإرسال معلومات عن مهمتهم فى العراق إلى حكومات بلادهم، ولكنه أنكر وبصفة قطعية سيطرة جهاز المخابرات المركزية الأمريكية على عمل مفتشى «الأنسكوم»، واصفا اتهامات «ريتر» بأنها «تدعو للسخرية». والواضح فى ما يبدو أن «باتلر» كان لديه رأيه الخاص عن نوايا حكومة صدام حسين. وكان «رولف إيكيوس»، قبل أن ينهى مهمته فى رئاسة «الأنسكوم» فى عام 1997، قد رفع تقريرا يفيد بأن المهمة الموكلة «للأنسكوم» لنزع أسلحة العراق الكيميائية والبيولوجية قد اقتربت من الانتهاء. ولقد اختلف «باتلر» مع هذا التقييم وأصر دوما على أن العراق لديه برامج لأسلحة الدمار الشامل لم يتم الكشف عنها بعد. وفى 15 ديسمبر 1998 رفع «باتلر» تقريرا إلى مجلس الأمن قدم فيه صورة متشائمة حول ما وصفه بعدم تعاون العراق مع فريق التفتيش العامل تحت رئاسته، وكان كثيرون يرون أنه تقرير غير متوازن وغير منصف. كان تقرير «باتلر» هو الذريعة التى استخدمتها الولايات المتحدة لشن عمليات القصف التى تعرضت لها العراق فى ما يعرف بعملية «ثعلب الصحراء» فى 1998. ومن الجدير بالملاحظة أنه فى اليوم الذى رفع فيه «باتلر» تقريره هذا إلى مجلس الأمن طلبت الولايات المتحدة الأمريكية إجلاء المفتشين التابعين «للأنسكوم» والوكالة عن العراق لدواعى التأمين مما يوحى بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت على علم بما جاء فى التقرير. وفى منتصف ليل 15 ديسمبر بتوقيت نيويورك (فجر 16 ديسمبر فى الشرق الأوسط وأوربا) أصدر «باتلر» تعليمات بسحب مفتشى «الأنسكوم» من العراق. وعندما استيقط الدبلوماسيون فى صباح 16 ديسمبر كانت عملية سحب المفتشين قد أصبحت أمرا واقعا. وفى هذا الوقت كنت قد توليت منصب المدير العام للوكالة خلفا لـ«هانز بليكس». وفى ساعة مبكرة من صباح 16 ديسمبر استيقظت على اتصال هاتفى من «جون ريتش»، سفير أمريكا لدى الوكالة فى ذلك الوقت، حيث أخبرنى بالنصيحة الأمريكية بسحب المفتشين التابعين «للأنسكوم» والوكالة الدولية، مشيرا إلى أن «باتلر» بالفعل قد بدأ بسحب مفتشيه. وبالنظر إلى أن الوكالة كانت تعتمد على التسهيلات اللوجستية التى توفرها «الأنسكوم» لتسهيل مهمة المفتشين فلم يكن هناك من خيار أمامنا سوى سحب المفتشين أيضا. وبعد هذه المحادثة مع «ريتش» أجريت اتصالا مع سكرتير عام الأمم المتحدة «كوفى أنان» الذى كان فى ذلك الوقت فى المغرب، حيث أيقظته من نومه لأتشاور معه حول قرار «باتلر»، ولقد هالنى يومها أن أعلم أن «أنان» لم يكن على علم بقرار سحب المفتشين الذى بدأ «باتلر» بتنفيذه. وبالفعل فلقد ترك المفتشون العراق فى ذات اليوم 16 ديسمبر لتبدأ مباشرة عملية قصف جوى لأهداف عراقية استغرقت أربعة أيام مستهدِفة العديد من المواقع العسكرية العراقية بما فى ذلك مواقع مخصصة لعمليات بحوث وتطوير الأسلحة. وكان المبرر الرسمى الذى تم طرحه أن العملية العسكرية جاءت ردّا على إمعان العراق فى عدم الانصياع لقرارات مجلس الأمن وتدخل العراق فى عمليات التفتيش الدولية. ولقد تسبب ذلك فى فقدان «الأنسكوم» لأية مصداقية كانت تتمتع بها. ولم يتردد كثيرون فى انتقاد تقرير «باتلر» ووصفه بأنه مغالٍ فى مجافاة العدالة. كما أن الغضب اعترى الصين وفرنسا وروسيا جراء التأثير الذى تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية على «الأنسكوم»، وهو فريق تفتيش دولى. وفقدت «الأنسكوم» الثقة فى أن تمثل المجتمع الدولى بوصفها مُعبِّرا أمينا عن الأمم المتحدة. وفى يناير 1999، قمت بتقديم ورقة غير رسمية لأعضاء مجلس الأمن بها بعض الأفكار المقترحة من قِبلى تحت عنوان «عملية التفتيش عن الأسلحة فى العراق». وكان الهدف من هذه الورقة غير الرسمية هو طرح الأسس وأطر العمل التى يمكن من خلالها استعادة الثقة والحياد فى منظومة البحث عن أسلحة الدمار الشامل فى العراق. واقترحت فصل مهمة التفتيش عن مجلس الأمن لإبعادها عن الوقوع تحت تأثيرات سياسية. كما نصحت بأن يكون قوام الفِرق القائمة على التفتيش من الموظفين الدوليين عوضا عن الاعتماد على «الخبراء» الذين توفدهم الحكومات والذين قد تكون لديهم أسبقية الالتزام بالولاءات الوطنية لدولهم. كما نصحت بأن يتم اتباع قواعد أكثر وضوحا فى عمليات التفتيش تركز بالأساس على الأهداف الفنية، كما طالبت بكل وضوح أن تلتزم فرق التفتيش مراعاة الحساسيات الدينية والثقافية أثناء القيام بمهماتها وهى الحساسية التى كانت «الأنسكوم» كثيرا ما تتجاوزها فى العراق. ولقد أُعجب «أنان» بهذه الأفكار وأعرب عن تقديره لمجهودى، وكذلك الروس وغيرهم. غير أن الخارجية الأمريكية كانت غاضبة وبشدة أننى لم أقم بالتشاور معهم قبل طرح هذه الأفكار على أعضاء مجلس الأمن والسكرتير العام. وحذرنى السفير الأمريكى فى فيينا من أن بعض المسؤولين الأمريكيين كانوا يهددون باللجوء إلى عدد من كُتاب الرأى فى الصحف الأمريكية، المعروفين بتشددهم فى دعم السياسات الأمريكية، مثل «ويليام سفاير» و«تشارلز كروتهامر» وغيرهما لشن حملة تُشكك فى مصداقيتى. فى الوقت نفسه لم يعد هناك الكثير مما يمكن فعله فى ما يتعلق بموقف «الأنسكوم» إزاء العراق، حيث إن الضرر كان قد وقع فعلا، ولم يكن هناك من وسيلة لدرئه، وفى خلال العام كانت «الأنسكوم» قد تم تفكيكها من قِبل مجلس الأمن وتم استبدالها بلجنة جديدة هى «الأنموفيك» التى اتبعت معايير وقواعد مختلفة لعملها، لكن فى أعقاب عملية «ثعلب الصحراء» لم يوافق صدام حسين لمدة أربع سنوات على السماح لمفتشى الوكالة الدولية ومفتشى الأمم المتحدة بالدخول للعراق. وكان من شأن هذا الغياب أن يُسهم فى إيجاد شكوك بأن صدام حسين بصدد إعادة بناء برامج لأسلحة الدمار الشامل، وهو ما يوفر الذريعة لحرب أخرى. وعلى الرغم من أن نجاح الوكالة فى تفكيك البرنامج النووى للعراق تسبب فى إسكات الأصوات التى تنتقدها، والتى كانت تقلل من شأن العمل الذى تقوم به، الأمر الذى مثَّل شهادة لكفاءة عمل الوكالة، إلا أنه من المنظور العراقى فإن عملية التفتيش من قِبل الوكالة والأنسكوم قد تم اختتامها بعملية «ثعلب الصحراء» وكان فى ذلك رسالة قاسية. وأصبح باديا للعراقيين أن الأمريكيين غير معنيين فقط بتفكيك البرنامج النووى العراقى، وأنه أيّا ما كان ما سيقوم به العراقيون فلم يكن أمامهم أمل فى تغيير موقف أمريكا تجاههم مهما فعلوا ومهما قدموا من تنازلات وتعاون. إن عملية «ثعلب الصحراء» أقنعت البعض بأن الهدف لم يكن تفكيك برامج أسلحة الدمار الشامل، ولكن تغيير النظام الحاكم فى العراق. وفى كل الأحوال فإن عدم ثقتهم وتشككهم فى عملية التفتيش قد تصاعد كثيرا. وبعد أربع سنوات عندما تم استئناف عمليات التفتيش كان واضحا من أقوال ونظرات المسؤولين العراقيين الذين نعمل معهم أنها لا تزال تحمل الكثير من التشاؤم والتشكك. |
#3
|
||||
|
||||
![]() سنوات الخداع - الحلقة الخامسة عندما وصلت إلى بيونج يانج، عاصمة كوريا الشمالية، كان أولَ خاطر طرأ على ذهنى شعور بالامتنان لأن الطائرة التى نقلتنى هبطت بسلام، حيث كنت قد ركبت وزملائى من بكين إلى بيونج يانج واحدة من طائرات الخطوط الجوية لكوريا الشمالية، وهى واحدة من الطائرات السوفييتية قديمة الطراز، وقبل أن تقلع الرحلة رأيت قائد الطائرة يفحص ضغط الإطارات بركلة من قدمه!ولدى وصولنا، عصر الجمعة، ركبنا سيارات فولفو قديمة وتوجهنا من المطار نحو قلب بيونج يانج. وحسبما أخبرونا فإن وسيلة التنقل حول المدينة للشخص العادى كانت السير على الأقدام لأن مترو الأنفاق لا يغطى المدينة بأكملها، ولأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون مجرد شراء دراجات للتنقل بها. وقد سمح لنا أن نتحرك سيرا فى بيونج يانج، ولكننا خلال جولتنا تلك لم نقابل الكثير من المشاة، وبدت المدينة كما لو كانت مدينة أشباح. لم يكن السير فى بيونج يانج أمرا ممتعا، بل على العكس، وكانت العلامة الرئيسية لمعظم الطرقات فى المدينة هى تلك التماثيل الكبيرة «للقائد العظيم» «كيم إيل سونج»، والد «القائد العزيز» «كيم يونج إيل». وفى صباح اليوم التالى لوصولنا، السبت، وهو بداية العطلة الأسبوعية هناك، تم إخبارنا أن كل مسؤولى كوريا الشمالية يشار كون كل سبت فى ندوة «تثقيفية» للحزب الحاكم. وكنت قد نزلت مع زملائى فى أفضل فنادق بيونج يانج، «كوريو» وكانت أسعار الإقامة فى هذا الفندق مرتفعة للغاية خصوصا إذا ما قورنت بمحدودية الخدمات التى يقدمها لنزلائه بما فى ذلك ضَعْف الإضاءة وغياب التدفئة فى وسط الشتاء القارس إلى الدرجة التى كنا نضطر معها إلى استخدام الكثير من الأغطية للوقاية من البرد عند النوم وتواضع حال الطعام لدرجة أنه لا يحصل النزيل على أى صنف من أصناف الفاكهة وإذا ما أراد أحدهم شراء برتقالة فليس أمامه سوى اللجوء للسوق الحرة وأن يدفع ثمن هذه البرتقالة بالعملة الأجنبية. وعندما أدرت التليفزيون فى غرفتى وجدت أنه أبيض وأسود، ولم يكن يبث سوى أفلام عن الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية خصوصا ما يصور ويلات وعذابات وقتل الكوريين على يد الأمريكيين وحلفائهم. وفى مساء ذلك اليوم دعانا مضيفونا الكوريون إلى حضور سهرة ترفيهية فى الأوبرا كانت عبارة عن سلسلة متتالية من الأغانى والاستعراضات الوطنية، تنتهى كل واحدة منها بقيام الجنود الكوريين بطعن وقتل الجنود الأمريكيين. ولقد ذكرنى هذا العرض بعرض مماثل كنت قد شاهدته فى بكين عام 1977 عقب انتهاء الثورة الثقافية هناك. ولقد جاءت هذه الزيارة إلى بيونج يانج فى 1992 فى ضوء الكثير من القلق حول برنامج كوريا الشمالية النووى. وكانت كوريا الشمالية قد انضمت لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية فى 1985 ولكنها لم توقع على اتفاقية الضمانات الشاملة الملزمة والتى تسمح للوكالة بالتحقق من البرنامج النووى للبلاد إلا بعد ذلك بسبعة أعوام. ودخل الاتفاق حيز النفاذ فى أبريل 1992، وفى الرابع من مايو قدمت كوريا الشمالية إقرارا مبدئيّا بالمواد النووية الموجودة لديها، وكان لدى كوريا الشمالية، حسب هذا الإقرار، سبعة مواقع نووية و90 جراما من البلوتونيوم، وكانت مهمة الوكالة هى التأكد من أن هذه المنشآت والمواد تستخدم فى الأغراض السلمية فقط. بدأت التساؤلات فى الظهور فى منتصف الصيف. فوفقا لما ذكرته كوريا الشمالية فإن البلوتونيوم نتج عن عملية واحدة لإعادة معالجة قضبان الوقود التالفة تمت فى سنة 1989. وتحققت الوكالة، فى عملية التفتيش الأولى، من وجود 60 جراما من الـ90 المعلن عنها. وادعى الكوريون الشماليون أن الـ30 جراما الباقية لم تستخرج بشكل صحيح، وأنها موجودة فى النفايات. لكن تحليل العينات البيئية التى أخذها مفتشو الوكالة أوضح غير ذلك. وكان السبب الأساسى لهذا التباين راجعا إلى أن تكوين البلوتونيوم الظاهر فى عينات النفايات لم يكن متوافقا من البلوتونيوم الذى قدم للتحقق منه. وشبهه «بليكس»، بمهارته التقليدية فى التشبيهات، بحالة العثور على زوجين من القفازات التى يختلف مقاس أحدهما عن الآخر. ومن الناحية الفنية فإن ذلك يعنى أمرين: أنه لا بد أن هناك مجموعة أخرى من النفايات موجودة فى مكان ما وأنها متوافقة مع المنتج الذى تم التحقق منه. وثانيا أنه لا بد أن هناك مخبأ للبلوتونيوم الإضافى فى مكان ما لم نطلع عليه. وتمثلت إحدى المشكلات الأساسية فى أننا لم نكن نعلم ما إذا كانت الكمية «الإضافية» من البلوتونيوم التى نبحث عنها تقدر بالجرام أو بالكيلوجرام. وكانت دهشة الكوريين الشماليين واضحة إزاء تقدم وسائل التحليل التى تتبعها الوكالة. فقد أصبحت تقنياتنا البيئية فى أخذ العينات تساعدنا على التأكد، ليس فقط من مدى صحة إقرار الكوريين الشماليين، ولكن أيضا من مدى اكتماله. وبدأ كلامهم يتغير. أقرت كوريا الشمالية بأنها قامت بتجربة صغيرة واحدة، والتى يعزون إليها عدم التوافق الذى أظهرته تحاليل الوكالة. لكن هذا التفسير لم يكن سليما فنيّا. فالمفاعل المقصود، وهو من طراز «ماجنوكس» السوفييتى التصميم، كان قد بُدئ تشغيله فى عام 1985. واستطاع خبراء الوكالة، من خلال تحليلهم للعينات، أن يقرروا أن عملية إعادة معالجة الوقود لفصل البلوتونيوم قد تمت عبر فترة زمنية أطول وبطريقة أكثر تعقيدا مما أقر به الكوريون الشماليون. وانتهى المفتشون إلى أنه خلال السنوات السبع التى تم فيها تشغيل المفاعل فإن عمليات إعادة معالجة الوقود المستنفد تمت ثلاث أو أربع مرات، وبالتأكيد، فى أكثر من مجرد «تجربة صغيرة واحدة» كما كانوا يقولون. مجال آخر من مجالات التباين كان يتعلق بإخفاء المنشآت النووية. كان المفاعل من طراز «ماجنوكس» يقع فى «يونج بيون» الواقعة على بُعد مئة كيلومتر شمال العاصمة، والتى يستغرق الوصول إليها ساعتين ونصفا أو ثلاث ساعات ونصفا حسب حالة الطقس. وكانت الوكالة على علم بوجود منشأة لتخزين النفايات النووية فيها يطلق عليها اسم المبنى 500. ولكن اتضح من صور التقطتها الولايات المتحدة الأمريكية بالأقمار الاصطناعية وأمدت الوكالة بها أن بيونج يانج لم تُخطر الوكالة بكل تفاصيل الموقع وأبعاده وأن هناك مبنى من طابقين يتم تدريجيا إخفاؤه تحت الأرض، يعتقد أنه مخصص أيضا للنفايات النووية، وفى النهاية تم إخفاء المنشأة بأكملها تحت الأرض، والتمويه على مكانها بأشجار كثيفة، وقد تم كذلك التعرف على موقعين للاختبارات شديدة الانفجار أحدهما بالقرب من المفاعل والآخر على بُعد حوالى عشرين كيلومترا. وفى أواخر أغسطس 1992، ومع تصاعد القلق تجاه الإجابات التى كان يقدمها الكوريون الشماليون تمت عملية تفتيش أخرى. وجاءت النتيجة مرة أخرى خليطا من التعاون والتعطيل. وتم تنسيق هذه الزيارة من جانب كوريا الشمالية بواسطة العسكريين وتولى قائد يونج بيون شخصيّا جانبا كبيرا من المهمة. وكان الأمر يبدو كما لو كان الكوريون الشماليون يختبرون المفتشين للاطلاع على مدى معلوماتهم. وقوبل طلبنا التفتيش على موقعَى النفايات ومواقع الاختبارات شديدة الانفجار بالرفض القاطع، ثم تراجع الكوريون الشماليون ووافقوا على السماح للمفتشين بزيارة المبنى رقم 500 المخصص للنفايات، وكذلك مواقع الاختبارات شديدة الانفجار. لكن التعاون الكامل ظل مع ذلك أمرا غير وارد، ففى إحدى المرات توجه المرشدون بالمفتشين إلى موقع خطأ وبدا عليهم الاضطراب عندما واجههم المفتشون بخطئهم. وفى النهاية أنكر الكوريون الشماليون تماما وجود موقع آخر للنفايات وأن ما أشرنا إليه ليس إلا مخابئ عسكرية رفضوا دخول المفتشين إليها. وخلال شهر سبتمبر حتى أواخر أكتوبر، ومع تصاعد التوتر، عقدنا فى مقر الوكالة بفيينا عدة اجتماعات مع وزير الطاقة النووية الكورى الشمالى، «شو هاك جن»، والوفد المرافق له. وكلما قدمت الوكالة أرقاما تعبر عن تحليلاتها، كان الكوريون الشماليون يضبطون إقرارهم وفقا لها. ولكنهم مع ذلك لم يقدموا ما نعتبره نحن إقرارا كاملا وصادقا. وأخيرا قرر «هانز بليكس»، مدير عام الوكالة فى ذلك الحين، أن يوفدنى فى رحلة إلى بيونج يانج لمواجهة المسؤولين هناك والوصول إلى إجابات واضحة، وحثهم على تقديم إقرار جديد ودقيق حول برنامجهم النووى يبين المواد والمنشآت النووية التى نعتقد أنهم لم يكشفوا عنها. كنا، باختصار، نطالبهم بالوفاء بالتزاماتهم طبقا لاتفاق الضمانات وإلا فإننا سنضطر إلى طلب إجراء «تفتيش خاص»، وهى آخر أداة يمكن أن تلجأ إليها الوكالة للوصول إلى المواقع المشتبه فيها. كنت أشغل فى ذلك الوقت منصب مدير العلاقات الخارجية فى الوكالة. ومن هنا جاءت رحلة ديسمبر 1992 التى رافقنى فيها اثنان من كبار موظفى الوكالة هما النرويجى «سفن ثوريستون»، المدير المسؤول فى إدارة الضمانات، ومساعده الفنلندى «أوللى هاينونين» الذى كانت له مشاركة كبيرة فى عمليات التفتيش الأولى. كانت المناقشات شاقة، أثبت الكوريون الشماليون خلالها كفاءتهم التفاوضية. كان هناك تقسيم واضح للعمل فى ما بين أعضاء الوفد. اتهمنا البعض بأننا عملاء للأمريكيين. وعندما أجبت بحدة على ذلك هموا بالاعتذار. واتبع غيرهم نهجا أكثر نعومة، ولما لم ينجحوا فى ذلك عادوا إلى زملائهم الأكثر شدة. وتكرر هذا الأسلوب فى شأن موضوعات عديدة. وفى الوقت نفسه بدأت وسائل إعلامهم فى مهاجمة «بليكس» ومهاجمتى ومهاجمة الوكالة بشكل عام واتهمتنا بأننا أذناب للأمريكيين. استمر الحال على ذلك لمدة ثلاثة أيام، وكنت فى نهاية كل يوم منها أجرى اتصالا بـ«بليكس»، عبر هاتف الفندق، لأخبره بأننا لم نحقق تقدما. وبالطبع فقد كنا نعلم أن هناك من يتنصت على هذه المكالمات، وبالتالى فقد تمت صياغة الحديث فى هذه المكالمات على نحو يفهم منه أننا سنطلب إجراء «تفتيش خاص» وذلك للضغط على بيونج يانج لكى تفصح عن المعلومات المطلوبة. ومع حلول مساء اليوم الثالث كان واضحا لنا أن هذه الزيارة لن تحقق إنجازا كبيرا. وفى هذه الأمسية دعانا نائب وزير الخارجية «كانج سوك جو» إلى العشاء وكان العشاء عبارة عن وجبة مكونة من قطعة من الهامبورجر وفوقها بيضة مقلية. وفى بداية العشاء طرحتُ على مضيفنا سؤالا لم يكن الغرض منه إلا بدء الحديث وليس إثارته، ولكن يبدو أنه كان كذلك، حيث قلت له: «لماذا تكنّ بلادكم كل هذا الحنق إزاء الولايات المتحدة الأمريكية؟». كانت الإجابة أبعد ما تكون عن حديث ودى، وتحولت إلى محاضرة مفصلة لمدة خمس وأربعين دقيقة حول تاريخ علاقات كوريا الشمالية بالولايات المتحدة الذى يرجع إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما وصلت السفينة الأمريكية «جنيرال شيرمان» إلى شبه الجزيرة الكورية عبر نهر «تايدونج» وألقت مراسيها على مشارف بيونج يانج. وأحرق أبناء المنطقة السفينة وقتلوا طاقمها فى ما اعتبر نصرا بطوليا ضد الغزاة الأجانب. وقيل إن الجد الأكبر لقائد كوريا الشمالية العظيم، «كيم أيل سونج»، كان قد شارك فى هذا الهجوم. استمر الأمر على ذلك بينما ظل الطعام أمامنا دون أن تمتد إليه يد. حيث حكى نائب وزير الخارجية كل وقائع العلاقة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية منذ ذلك التاريخ. وعندما توقف وجهت إليه، من باب اللياقة، سؤالا آخر استغرقت الإجابة عليه ربع ساعة أخرى. وكان من الواضح أن كوريا الشمالية منخرطة فى صراع طويل الأجل مع الولايات المتحدة لاقتناعها بأن الأمريكيين مصممون على محاولة تغيير نظام الحكم. وبعد ذلك كله اضطررت من باب اللياقة، للمرة الثانية، أن أتناول الطعام الذى أصبح بالطبع غير شهىّ بعد مرور ما يزيد على ساعة من وضعه على مائدة الطعام. لكن الدبلوماسية كانت تقتضى أن نبدأ فى تناول الطعام. عدنا إلى فيينا، وبعد نقاشات مطولة، قرر «بليكس» أن يطلب من كوريا الشمالية الموافقة على إجراء «تفتيش خاص»، وكان ذلك قرارا استثنائيّا نادرا ما تلجأ إليه الوكالة وكانت المرة الوحيدة التى لجأت فيه الوكالة إلى ذلك الإجراء هى عقب سقوط «نيكولاى تشاوشيسكو» فى رومانيا، وجاء طلب التفتيش الخاص من قِبل النظام الجديد فى رغبة منه للتأكيد على القطيعة التامة مع كل ما كان نظام «تشاوشيسكو» الشيوعى يفعله. وفى حالة كوريا الشمالية كان اللجوء إلى تلك الخطوة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤشرا على التوجه نحو التصعيد. وحسبما كان متوقعا فقد رفضت كوريا الشمالية هذا الطلب وأكدت أنها لن تسمح لمفتشى الوكالة بدخول المنشأة التى تم إخفاؤها تحت الأرض والتى تعتقد الوكالة أن بها مخزونا من النفايات النووية. فما كان من الوكالة إلا أن قررت عقد جلسة خاصة لمجلس المحافظين، وكان الحضور فيها مقصورا على عدد محدود من الدبلوماسيين من كل دولة عضو فى المجلس. وفى هذا الاجتماع ذكرت أمانة الوكالة أن هناك ثلاثة أنواع من الأسباب للقلق إزاء موقف كوريا الشمالية، الأول فنى يتعلق بالتباين فى المعلومات المقدمة من بيونج يانج حول برنامجها النووى، والثانى يتعلق بعدم تعاون كوريا الشمالية مع التفتيش، والثالث يتعلق بإخفاء المعلومات. وفى ما يتعلق بإخفاء المعلومات تم إطلاع المجلس على صور الأقمار الصناعية التى قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية حول المنشآت النووية فى كوريا الشمالية، ورغم التغيير الذى أحدثته الولايات المتحدة على الصور لعدم كشف مدى قدراتها الاستطلاعية كان من الممكن مشاهدة نوافذ الأبنية بوضوح. كانت تلك هى المرة الأولى فى تاريخ الوكالة التى تقدم فيها الأمانة معلومات استخبارية زودتها بها دولة عضو إلى جلسة مجلس المحافظين. ولم تكن الدول الأعضاء من قبل مستريحة إلى استخدام الوكالة لأية معلومات تحصل عليها بواسطة وكالات الاستخبارات الوطنية. كانت حالة العراق استثناء من ذلك، لأن أعمال التفتيش فى العراق كانت تتم بناء على صلاحيات استثنائية تضمَّنها قرار مجلس الأمن رقم «687»، لذا كان اجتماع مجلس المحافظين هذا حول كوريا الشمالية بمثابة علامة فارقة. وفى السنوات التالية أصبحت الإشارة إلى استخدام المعلومات الاستخبارية أمرا اعتياديّا. وبعد ذلك بخمسة أسابيع قرر مجلس المحافظين طبقا لأحكام اتفاق الضمانات مع كوريا الشمالية إحالة ملف الأخيرة إلى مجلس الأمن بسبب مخالفتها لالتزاماتها بمقتضى هذا الاتفاق، فما كان من بيونج يانج إلا أن زادت من العراقيل التى تضعها أمام مفتشى الوكالة الدولية دون أن تنسحب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بما يعنى أن مفتشى الوكالة على الأقل احتفظوا بقدراتهم فى التأكد من التفتيش على المنشآت والمواد المعلنة من قِبل بيونج يانج. مع تركيزها على الحوار وضبط النفس حالت الصين دون تبنى مجلس الأمن قرارا يوقع عقوبات على كوريا الشمالية أو يطالبها بعدم الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وانتهى الأمر بـ«دعوة» بيونج يانج إلى السماح للمفتشين الدوليين بالقيام بالمزيد من التفتيش للتيقن من حقيقة المنشآت والمواد غير المعلن عنها عوضا عن «مطالبتها» بالقيام بذلك وهذا الفرق اللغوى الذى يبدو بسيطا وهو الفرق بين الإلزام وعدمه، قد يكون هو السبب فى استمرار كوريا الشمالية فى التعاون المحدود مع الوكالة. واعتمد مجلس الأمن قراره رقم «825» فى مايو 1993، وامتنعت كل من الصين وباكستان عن التصويت. وخلال عام 1993 لم يحدث الكثير من التقدم وظل مفتشو الوكالة يواجهون عراقيل كثيرة من مسؤولى كوريا الشمالية، ولكن فى ربيع عام 1994 حدث تطور مرتبط بقرار حكومة كوريا الشمالية تغيير قلب المفاعل النووى فى يونج بيون، وهو ما يمثل فى مجموعه ثمانية آلاف من قضبان الوقود المستنفد لتخزينها أو إعادة معالجتها، وكان ذلك فرصة للمفتشين للتأكد من نوع وكمية البلوتونيوم المستخدم فى ذلك المفاعل لمضاهاة نتيجة هذه التحليلات بتحليلات سابقة وبمعلومات قدمتها كوريا الشمالية، وبالتالى إيجاد مؤشرات للأغراض التى يمكن أن تكون بيونج يانج قد استخدمت فيها البلوتونيوم المفقود ومؤشرات لمجمل أنواع البلوتونيوم المتاح لدى كوريا الشمالية الذى يمكن استخدامه فى صنع الأسلحة. لكن السؤال الأساسى هنا كان يدور حول ما إذا كان ذلك هو القلب الأصلى للمفاعل أم أنه استُبدل فى وقت سابق دون إبلاغ الوكالة عن ذلك. فما دام تشغيل المفاعل ينتج البلوتونيوم فمن الممكن أن يكون الوقود المستنفد قد أعيدت معالجته سرّا أيضا وفصل عنه البلوتونيوم. ولكن كوريا الشمالية لم تتعاون بأسلوب يمكن للوكالة معه أخذ العينات اللازمة للإجابة عن هذا السؤال. وعُرض الأمر على مجلس المحافظين الذى قرر إحالة الملف مجددا إلى مجلس الأمن. وتبنى مجلس المحافظين هذه المرة قرارا أكثر حسما تم بمقتضاه تعليق التعاون الفنى بين الوكالة الدولية وكوريا الشمالية فى مجالات الاستخدامات السلمية للتكنولوجيا النووية بما فى ذلك الطب والزراعة وغيرهما من التطبيقات الإنسانية للتكنولوجيا النووية. وكان رد فعل بيونج يانج هو إنهاء عضويتها فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما كانت بصدد الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لولا أنها تراجعت عن ذلك قبل نحو يوم من تنفيذ هذا القرار، بعد إلحاح من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن التعاون بين الوكالة وبيونج يانج تقلص بشدة. وفى صيف 1994 بدأت الولايات المتحدة الأمريكية فى الدخول فى مفاوضات مباشرة مع كوريا الشمالية، عُقدت فى جنيف، بغرض تحسين الوضع. وقد ساهم فى تسيير هذه المفاوضات التدخل الكبير الذى قام به الرئيس الأمريكى السابق «جيمى كارتر» بصفة شخصية مع زعيم كوريا الشمالية «كيم إيل سونج». وكانت نتيجة هذه المفاوضات هى التوصل إلى اتفاق إطارى فريد من نوعه يمكن أن يظل قائما لسنوات طويلة قادمة. ويقوم الاتفاق الإطارى على أساس «عمل مقابل عمل» يتم فى إطار زمنى محدد. وكانت نقطة البداية فى هذا الاتفاق هى قيام كوريا الشمالية بتجميد أنشطتها النووية، بما فى ذلك مفاعل الأبحاث ومنشأة إعادة معالجة الوقود النووى فى يونج بيون ومنشأتان أخريان جارٍ بناؤهما، ومفاعل طاقة بقدرة خمسين ميجاوات والآخر بقدرة مئتى ميجاوات. وفى مقابل تجميد أنشطتها النووية تحصل كوريا الشمالية مجانا على مفاعلَى طاقة مقاومين للانتشار بقدرة ألف ميجاوات لكل منهما، مع تزويدها بالنفط الخام اللازم لتلبية احتياجاتها من الطاقة خلال الفترة التى يستغرقها بناء هذين المفاعلين. أما نقطة الختام المفترضة فكانت استئناف كوريا الشمالية لكامل التزامها بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية مقابل تطبيع العلاقات بين بيونج يانج وواشنطن. ولكن حسبما قال «روبرت جالوتشى» المسؤول الأمريكى عن التوصل لهذا الاتفاق، فإن الغرض منه هو كسب المزيد من الوقت الذى كانت واشنطن تأمل خلاله أن يتداعى نظام بيونج يانج من داخله. ولم يكن رد فعلى الأوّلِىّ لهذا الاتفاق إيجابيّا لأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تكن طرفا فى المفاوضات حول هذا الاتفاق خاصة فى ما يتعلق بمسألة التحقق من النشاطات والمنشآت النووية فى كوريا الشمالية. فمن الناحية القانونية فإنه ما دامت كوريا الشمالية قد «علقت» قرارها بالانسحاب من المعاهدة كان من المفترض أن تستأنف الوكالة التفتيش بمقتضى اتفاق الضمانات الشاملة. لكن الاتفاق الإطارى مع الولايات المتحدة لم يكن يسمح لها بذلك فى المراحل الأولى من تنفيذ الاتفاق، حيث كان تطبيق اتفاق الضمانات الشاملة مرهون بأن تعود كوريا الشمالية أولا إلى العضوية الكاملة فى المعاهدة، وهو الأمر الذى لم يكن ليتم إلا بعد تنفيذ كل من طرفَى الاتفاق الإطارى لالتزاماتهما بموجبه. وكان فى قبول الوكالة الدولية لذلك الاتفاق غضاضة سياسية وقانونية. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الاتفاق لم يكن فيه ما يحل لغز البلوتونيوم المختفى والمنشآت غير المعلنة، ومن الناحية الفنية فإن تأجيل التفتيش الشامل من قِبل الوكالة فى كوريا الشمالية كان معناه أنه سيكون شبه مستحيل فى المستقبل من تتبع تطورات البرنامج النووى لكوريا الشمالية وبالتالى التحقق من أن كافة المواد النووية فى كوريا الشمالية تستخدم فقط فى الأغراض السلمية طبقا لاتفاقية منع الانتشار. وبالتالى فإن دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصبح بعد الاتفاق الإطارى، الذى طلب مجلس الأمن من الوكالة تنفيذه، مقصورا على التأكد من التزام كوريا الشمالية بتجميد أنشطتها النووية، وبصفة خاصة عدم معالجتها للوقود النووى المخزون لديها لاستخلاص البلوتونيوم التى يمكنها استخدامه فى تطوير سلاح نووى. ومع أنه من الناحية الفنية لم تكن هناك حاجة لإبقاء مفتشى الوكالة فى بيونج يانج لفترات طويلة إلا أن بعض الدول أفادت بأن ذلك سيكون مطلوبا من الناحية السياسية. وبالفعل تم الاتفاق على أن يتم إبقاء ثلاثة مفتشين فى كوريا الشمالية، وبالنظر لصعوبة الظروف المعيشية والتقييدات الكبيرة المفروضة على حركتهم، فقد كنا نقوم بتغيير المفتشين الموجودين بكوريا الشمالية مرة كل ستة أسابيع أو نحو ذلك خوفا على حالتهم النفسية. لقد مثل اكتشاف التباين بين أنواع البلوتونيوم الموجودة فى كوريا الشمالية إنجازا مهمّا يُنسب لمفتشى الوكالة، ولكننى لست متأكدا مما إذا كان الموقف الذى اتخذته الوكالة فى 1993 بطلب عمليات تفتيش خاصة كان هو النهج الصحيح، خاصة أننا كنا نعلم مقدما أن هذا الطلب سيتم رفضه من قِبل بيونج يانج مما كان سيفضى على الأرجح إلى المواجهة. وقد دلت تجاربنا السابقة على أن مجلس الأمن، وهو المكلف بمقتضى النظام الأساسى للوكالة بضمان امتثال الدول لالتزاماتها، لن يتخذ إجراءات قوية، لذا ربما كان من الأفضل أن يستمر التفاوض مع نظام كوريا الشمالية الذى كان يعلم كما كان الجميع يعلم أن الورقة الرابحة بالنسبة له هى قدراته النووية، وهى الورقة التى كان سيستخدمها بغض النظر عن رخاء شعبه أو معاناته، لأن ذلك هو الشىء الوحيد الذى يمكن، فى نظره، من خلاله مواجهة ما تعتقد بأنه رغبة الولايات المتحدة الأمريكية فى إزاحة النظام. ولم يكن هناك الكثير الذى يمكن أن يتحقق من وراء فرض عقوبات على كوريا الشمالية أو بالطبع التهديد باستخدام القوة، لأن سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، كانت على بعد لا يزيد على ثلاثين كيلومترا من الحدود والتى بالطبع ستكون معرضة للهجوم إذا ما تم استخدام القوة ضد كوريا الشمالية. على أية حال فإن هذه كانت المرة الأخيرة التى لجأت فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية للمطالبة بعمليات تفتيش خاصة للتحقيق مع أى منشآت أو مواد نووية قد تكون غير معلنة إلى أن أُتيحت للوكالة فرص أفضل للتفتيش بعد اعتماد البروتوكول الإضافى لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. وعلى كل حال، فبعد فشل هذه الخطوة من قِبل الوكالة الدولية لم يكن أمام المجتمع الدولى من حلٍّ للتعامل مع كوريا الشمالية سوى محاولة استعادة الثقة وتقليل التوتر، واستخدام الوقت لمقايضة كوريا الشمالية على برنامجها النووى. ويبدو أن هذا ما كان الاتفاق الإطارى الذى تم توقيعه بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية يسعى إليه. ولكن الاتفاق الإطارى فشل فى تحقيق أهدافه جراء عدم التزام أمريكا بمد كوريا الشمالية بالمفاعلات التى وعدت بها لتوليد الطاقة، وهو ما دعا بيونج يانج للاعتقاد بأن واشنطن لا تتعامل معها بحُسن نية. وفى كل الأحوال يمكن النظر لهذه التجربة على أنها نموذج واضح لما يمكن أن ينجم عن التعامل مع أعراض مشكلة الخلل الأمنى دون التعامل طويل المدى مع أصول المشكلة ونزع فتيل التوتر. وفى رأيى أن تقديم ضمانات أمنية ومساعدات للتنمية هو دائما الطريق الأكثر فاعلية للتعامل مع هذا النوع من المشاكل، وليس تطبيق العقوبات التى عادة ما تؤدى إلى تصعيد التوتر وليس التقليل منه. ذهبنا لحضور سهرة ترفيهية فى الأوبرا كانت عبارة عن سلسلة متتالية من الاستعراضات الوطنية ينتهى كلٌّ منها بقيام الجنود الكوريين بطعن وقتل الجنود الأمريكيين |
#4
|
||||
|
||||
![]() سنوات الخداع - الحلقة السادسة مع حلول عام 2002 كان المشهد الأمنى فى العالم قد تغير بشكل ملحوظ، فبعد هجمات 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة أصبح واضحا لدى الجميع أن الجماعات المتطرفة لديها قدرة كبيرة على القيام بعمليات انتحارية معقدة، بل إنه اتضح بعد ذلك أن هذه الجماعات المتطرفة ترغب أيضا فى الحصول على أسلحة الدمار الشامل. وردّا على ذلك كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تبذل جهدا كبيرا لمساعدة الدول على تأمين المواد النووية التى بحوزتها للحيلولة دون استخدامها على نحو غير مشروع.وفى هذا الوقت كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد حققت تطورا مهمّا فى أدائها بالنظر إلى التجارب التى اكتسبتها من خلال التعامل مع ملفات مثل الملف العراقى وملف كوريا الشمالية، إضافة إلى ذلك أن الوكالة كانت قد طورت قدراتها القانونية والتكنولوجية الخاصة بالتحقق. كان المشهد قد تغير كذلك بسبب النهج الذى تبنته إدارة جورج دبليو بوش بشأن التسلح النووى حيث اتخذ الرئيس الأمريكى فى ديسمبر من عام 2001 قرارا أحاديّا بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية بينها وبين روسيا، وكانت تلك المعاهدة واحدة من أهم الأسس التى تم بناء عليها التهادن الأمريكى السوفييتى منذ عام 1972. وحتى عندما قام بوش ونظيره الروسى بوتين بتوقيع اتفاقية جديدة فى مايو 2002 المعروفة باسم معاهدة الحد من القدرات الهجومية الاستراتيجية، فإن هذه الاتفاقية كانت محل تهكم كبير فى الأروقة الدبلوماسية بالنظر إلى أنها لم تكن تتضمن: 1- وسيلة للتحقق من التخفيض الذى تم التعهد به فى الترسانات النووية. 2- أنها كانت ذات طبيعة مؤقتة حيث كان ينتهى العمل بها فى ديسمبر 2012، وبالتالى لم تكن تُلزم أيّا من الطرفين باستمرار العمل بها بصفة دائمة. 3- أن الانسحاب من هذه الاتفاقية لم يكن يتطلب إلا أن يقوم الطرف الراغب فى الانسحاب بتقديم إخطار مسبق لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر. وبالنسبة إلى خبراء السياسات النووية كان من الواضح أن هذه المؤشرات لا تعبر عن أى جدية من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية لتنفيذ التزاماتها المتعلقة بخفض الأسلحة النووية، وهى الالتزامات المقررة حسب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بل على العكس من ذلك، حيث كان باديا أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتزم الاحتفاظ بترسانتها النووية أو تعزيزها، وفى ذات الوقت كانت تريد أن ترى فيه شدة أكبر فى التعامل مع أى احتمالات لانتشار أسلحة الدمار الشامل بين الدول الأخرى. كان هذا هو السياق القائم فى أواخر 2002 عندما بدأ التركيز على العراق. وإضافة إلى ذلك بدأ البعض يتحدث فى الصحافة والتليفزيون عن صلات ما تربط صدام حسين بتنظيم القاعدة، بل عن يد خفية للرئيس العراقى فى هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001، مع استمرار الاتهامات لبغداد بالاحتفاظ ببرامج لأسلحة الدمار الشامل. وكان يعنينا بوجه خاص ما تذكره الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من أن لديهما أدلة قاطعة على أن الزعيم العراقى لم يفكك أسلحته للدمار الشامل. وكانت الوكالة متغيبة عن العراق منذ مغادرتنا له على عجل فى 1998 قبيل عملية ثعلب الصحراء، مما حدّ كثيرا من قدرتنا على الاطلاع على مجريات الأمور هناك خلال هذه السنوات الأربع. وكان الرئيس بوش قاطعا فى تأكيداته فى هذا الشأن. فقد ألقى خطابا فى مدينة سينسيناتى بولاية أوهايو فى 2 أكتوبر 2002 يمثل ذلك خير تمثيل: منذ أحد عشر عاما كان مطلوبا من النظام العراقى، كشرط لإنهاء حرب الخليج الفارسى، أن يدمر أسلحته للدمار الشامل، والتوقف عن كل تطوير لمثل هذه الأسلحة، والتوقف تماما عن دعم الجماعات الإرهابية. وقد انتهك النظام العراقى كل هذه الالتزامات؛ فهو يمتلك وينتج أسلحة كيماوية وبيولوجية ويسعى للحصول على أسلحة نووية. لقد قدم للإرهاب المأوى والمساندة، بل يمارس الإرهاب ضد شعب العراق نفسه. لقد شهد العالم كله خلال أحد عشر عاما تاريخا من التحدى والخداع وسوء النيات». ثم يقول فى الخطاب نفسه: «إن الأدلة تفيد أن العراق يُعيد تشكيل برنامجه للتسلح النووى. لقد عقد صدام حسين اجتماعات عديدة مع العلماء النوويين العراقيين الذين يطلق عليهم اسم (المجاهدين النوويين)؛ أى المحاربين النوويين فى الحرب المقدسة. وتدل صور الأقمار الاصطناعية على أن العراق يعيد بناء المنشآت فى المواقع التى كانت جزءا من برنامجه النووى فى الماضى. لقد حاول العراق شراء أنابيب الألمنيوم شديد الصلابة وغيرها من المعدات اللازمة لأجهزة الطرد الغازية التى تستخدم فى تخصيب اليورانيوم لصنع الأسلحة النووية». وقد أصبح واضحا من هذا النوع من التصريحات التى كان بها كثير من المعلومات المغلوطة والمضللة أو التى تحتاج إلى التحقق؛ أن الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت فى التحرك باتجاه الضغط من أجل تغيير النظام فى العراق، ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة عن تحقيق مثل هذا الأمر سواء من خلال الاستمرار فى فرض العقوبات العسكرية على العراق أم من خلال استخدام العمليات العسكرية، كما كانت الحال بالنسبة إلى أفغانستان. وبدا أن الضغط على العراق يؤتى ثماره، فبينما كان صدام حسين ينفى ما تقوله واشنطن إلا أنه أرسل خطابا للأمم المتحدة يدعو فيه إلى عودة المفتشين. وبعد كثير من النقاش تبنى مجلس الأمن قراره رقم (1441) فى 8 نوفمبر 2002 حيث صرح بعودة المفتشين للقيام بجولة جديدة من جولات التفتيش فى العراق. كان العمل الذى يجرى وراء الكواليس أقل تناسقا وأكثر إفصاحا عن الوضع. والمثال على ذلك كان عملية صياغة القرار (1441) الذى لم تنشر مسودته الأولى التى صاغتها الولايات المتحدة، والتى كانت تريد أن تضع الأعضاء الخمسة الدائمين فى مجلس الأمن فى موضع القيادة لعمليات التفتيش. وكانت تسعى من خلاله لأن يكون عمل المفتشين مصحوبا بوجود مرافقين مسلحين، وأن يقوم المفتشون بتقديم إفادات عن نتائج عملهم إلى الدول التى تطلب تفتيش موقع معين؛ وهو ما مثل رغبة فى استعادة منهج وأسلوب عمل الأنسكوم الذى تسبب فى فقدانها مصداقيتها. وقبل اعتماد القرار (1441) بأسابيع، وفى مطلع أكتوبر 2002 توجهت مع هانز بليكس، رئيس لجنة «الأنهوفيك» التى خلفت «أنسكوم»، والتى كانت بالتالى مكلفة بالتفتيش عن الأسلحة الكيميائية والبيولوجية وكذلك الصواريخ، لمقابلة كولين باول وزير الخارجية الأمريكى بناء على دعوته، وقد حضرت اللقاء كوندوليزا رايس؛ مستشار الرئيس الأمريكى للأمن القومى، وبول وولفوتز نائب وزير الدفاع، ولويس ليبى رئيس مكتب نائب الرئيس الأمريكى ديك تشينى. وكان جو اللقاء متوترا، وبدا واضحا أن الأمريكيين فى خلاف داخلى حول أفضل السبل للتعامل مع العراق، فبينما كان باول يريد أن تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على الأمم المتحدة للقيام بعملية التفتيش كان وولفوتز وغيره من المتشددين يرغبون فى أن تعتمد أمريكا على نفسها وتتجاوز بالكامل الأمم المتحدة، أما رايس فكانت تقترح اعتماد آلية تكون فيها الأمم المتحدة فى الواجهة بينما تكون الولايات المتحدة الأمريكية هى الطرف الفاعل الرئيسى. وفى هذا فقد اقترحت رايس أن تتولى شخصية أمريكية مسألة متابعة المعلومات الاستخبارية التى يقوم عليها عمل «الأنموفيك»، لأن الأمريكيين كما قالت «يثقون فى رجالهم». ولقد استاء بليكس من هذا الطرح وأصر على أنه تم ترشيح شخصية كندية لتولى هذه المهمة بالفعل. كان هدفهم من الاجتماع محاولة إقناعنا بقبول بعض بنود مشروع القرار، التى كنا قد رفضناها. وكان بليكس صريحا للغاية، وقد أخبر رايس بأنه لن يقبل أن تكون مهمته مجرد واجهة لعملية تديرها الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كان الأمر كذلك فعليهم أن يفعلوا مثل ما فعلوا فى الحرب الكورية فى الخمسينيات، وأكد أن كل أفراد الفريق العامل معه سيخضعون لإشراف وتعليمات الأمم المتحدة دون غيرها، ودون أى تنازل فى هذا الشأن، وذلك بالرغم من الآراء التى قدمتها رايس حول أحقية الولايات المتحدة الأمريكية والأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن بالتدخل بوصفها عضوا دائما فى مجلس الأمن، وكادت تصل فى حديثها إلى حد المساواة بين دور وحقوق مجلس الأمن ودور وحقوق الولايات المتحدة الأمريكية. أما نائب وزير الدفاع الأمريكى فقد تعامل مع اللقاء بأكمله، وربما مع فكرة إشراك الأمم المتحدة، على أنه مضيعة لوقته. وفى الكلمات القليلة التى نطق بها نظر إلى بليكس بصورة تفتقر إلى اللياقة وقال له: «سيد بليكس، أنت تعلم أن العراقيين لديهم أسلحة للدمار الشامل، أليس كذلك؟». تعثرت المناقشة ولم تصل إلى شىء. بل إنَّ باول أخبرنا بصراحة تفتقر إلى الكياسة -حتى إن كانت النية منها إزاحة المسؤولية عن كاهلنا- بأنه فى حال ما تقرر استخدام القوة ضد العراق فإن ذلك سيكون قرارا يتخذه رؤساء الدول لا بليكس وأنا. ورغم أننا تمكنا فى النهاية من إقناع واشنطن بالتنازل، فى مشروع قرار مجلس الأمن، عن بعض الأفكار المستفزة، فإنهم أصروا على بعض تلك الأمور منها أن يتم استجواب العلماء العراقيين خارج العراق، وأن يغادروا إلى البلاد مقر الاستجواب مع أُسرهم حتى لا يكونوا تحت وطأة صدام حسين ونظامه، وذلك بالرغم من الشروح الكثيرة التى قدمتها حول أن مفهوم العائلة فى الشرق الأوسط أوسع بكثير منه فى السياق الغربى، وأنه فى ضوء ذلك سيكون من الصعب منع الأذى الذى قد ينال أقارب العلماء العراقيين، إضافة إلى ما أكدناه من أنه ليس هناك أى دليل على رغبة العلماء أنفسهم فى مغادرة العراق للمثول أمام الاستجواب. ولكن كان باديا أن مثل هذه الأمور المتعلقة بحقوق الإنسان ليست لها الاعتبار الكبير بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية فى ما يتعلق بالتعامل مع ملف العراق. وبعد ذلك بأسابيع وبينما التفاوض لا يزال مستمرّا فى مجلس الأمن حول تفاصيل عمل فِرق التفتيش تمت دعوتنا -بليكس وأنا- للتوجه لزيارة بروتوكولية إلى البيت الأبيض. وقبيل لقائنا مع الرئيس الأمريكى استقبلنا نائبه تشينى، وكان ذلك أول لقاء يجمعنا به. ومن خلف مكتبه تحدث تشينى بصورة مباشرة ودون أى مقدمات أو مجاملات، ليؤكد لنا أن «واشنطن لا مانع لديها من التعاون مع المفتشين الدوليين، ولكنها فى الوقت نفسه لن تتردد فى تقويض مصداقية عمليات التفتيش بهدف ضمان نزع أسلحة العراق». وبعد ذلك التحذير جاء اللقاء مع بوش الذى كان فى الحقيقة أشبه ما يكون بمجرد جلسة استماع لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الذى كرر أكثر من مرة أنه متشرف بلقائنا دون أن تكون لديه النية للاستماع لأى شىء من قِبلنا فى حضرة مستشارة الأمن القومى رايس، ورئيس مكتب بوش. وتحدث بوش بصورة مباشرة قائلا إنه يحبذ أن يكون هناك حل سلمى للملف العراقى، وإنه ليس راعى بقر من تكساس مدججا بالأسلحة التى يخرجها الواحد تلو الآخر للتصويب على خصومه، ولكنه أشار فى الوقت نفسه أنه لو لم يتمكن من نزع أسلحة العراق بالسبل السلمية فإنه سيقود «تحالفا من الدول الراغبة» لاستخدام القوى العسكرية لنزع أسلحة صدام حسين. وقد خرجنا من اللقاءين بانطباع أن الولايات المتحدة الأمريكية راغبة فى تسيير الأمور حسب إرادتها، وهو ما كان واضحا من مواقف أخرى كانت واشنطن تتخذها فى ذلك الوقت، بما فى ذلك محاولة صياغة القرار (1441) بلغة تسمح باستخدام القوة مباشرة ضد العراق إذا ما خرق مقتضيات هذا القرار وهو ما لم يكن مقبولا لكثير من الدول الأعضاء فى مجلس الأمن. وتم التوصل إلى صيغة توافقية تفيد بأن مجلس الأمن سيجتمع لينظر فى الخطوات التالية فى حال ما ثبت أن العراق يخرق مقتضيات القرار (1441). بعد غياب أربع سنوات عن العراق أصبحت الأبواب مفتوحة ثانية أمام المفتشين الدوليين للعودة إليه. وكانت نقطة البداية بالنسبة إلينا هى مخزون معلوماتنا عن العراق والخاصة بقدراته ومنشآته النووية السابقة. كانت كل المنشآت المتبقية من التسعينيات والخاصة بدورة الوقود النووى أو بالأسلحة النووية قد تم تفكيكها، كما أن جميع المواد التى يمكن استخدامها فى التسلح كانت قد نقلت خارج العراق منذ فبراير 1994، ولم يعد فى حوزة العراق سوى القليل من اليورانيوم منخفض التخصيب الذى لا يمكن أن يستخدم فى تطوير سلاح نووى، ولكن بالطبع فإن أى برنامج للتفتيش لا يمكن أن يزيل الخبرة العلمية والفنية التى يتمتع بها العلماء؛ ففى فترة حرب الخليج الأولى كان هؤلاء العلماء لا يزالون بعيدين عن صنع سلاح نووى، ولكنهم قد توصلوا، على المستوى المختبرى، لمعرفة بعض أساليب التخصيب وتقنيات صنع الأسلحة، وبالتالى فلقد كانت مهمة المفتشين لدى عودتهم إلى العراق هى الاطلاع على ما حدث من تغيير، والتأكد من أن هذه الخبرة لم تستخدم، مع ما كان قد تبقى أو ما يمكن أن يكون العراق قد حصل عليه خلال السنوات الأربع التالية لعام 1998، فى تطوير منشآت أو مواد نووية يمكن أن تستخدم فى تصنيع أسلحة نووية. وكان ذلك يتم من خلال زيارة المواقع المعروفة والجديدة ونُظم الاستطلاع والرصد البيئى، ومن خلال برنامج موسع للمقابلات مع العلماء العراقيين وغيرهم من المعنيين بالأمر. كانت خبرة وكفاءة مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية عبر هذه السنوات قد تنامت، كما أنهم لم يكونوا يعملون فى العراق لأول مرة، وبالتالى كان لديهم من الفهم بثقافة العراق والمعرفة بمدى منشآته النووية ما يؤهلهم للعمل بكفاءة. وبالطبع فإن أحدا لا ينكر أن عمل المفتشين فى كل الأحوال يتأثر بصورة غير مباشرة وإلى حد ما بما يمكن أن يُكنه أحد المفتشين من مشاعر تعاطف أو عداء تجاه البلد الذى يعمل فيه، ومن جانبى فقد كنت دوما أحث كل الفريق على توخى الحيادية والدقة من الناحيتين الفنية والقانونية، والعمل على الاستماع لمجموعة واسعة من التوجهات والآراء المختلفة لخبراء الوكالة. ولقد عهدت إلى عالِم الفيزياء الفرنسى المتميز جاك بوت، الذى كان يتولى إدارة مكتب التحقق النووى فى العراق، والذى كان يعمل من قبل فى البرنامج النووى الفرنسى، وبفضل قدراته الإدارية الممتازة عهدت إليه بإعداد خطة للعمل فى العراق تضمن سلامة التفتيش ومراعاة الحساسيات الثقافية، مع الأخذ فى الاعتبار حُسن التنسيق بين المفتشين، وهو ما قام به جاك بكفاءة وبراعة تتسق مع سمعته الطيبة وحسن علاقته بالجميع وحساسيته الثقافية. وقد كان من المفيد جدّا أن يجد المرء من بين زملائه من يعهد إليه بمهام بالغة الحساسية والدقة فى تلك الأوقات المشحونة التى صاحبت بدء مهام التفتيش رسميّا فى 13 نوفمبر 2002، والتى كان ينبغى أن تتم فى سرعة وحسم بالنظر إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية الذى كان يحيط بالملف العراقى فى حال عدم التيقن من خلو العراق من أى برامج أو إمكانات لتطوير أسلحة دمار شامل. وهذا الأمر بدا واضحا بشدة فى تصريحات عدد من المسؤولين الغربيين، خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، والذين بدَوْا غير راضين عن أى شىء يقوم به العراق فى إطار التعاون مع عمليات التفتيش. فى الوقت نفسه كانت الصحافة الغربية تقدم تغطية بالغة الإثارة لادعاءات امتلاك العراق معدات أو مواد يمكن أن تستخدم فى تطوير أسلحة نووية، ولكن ما إن يكشف مفتشو الوكالة عن عدم صحة هذه المعلومات فإن التغطية الصحفية كانت تتراجع ولا تعطى أى اهتمام حقيقى بما كشف عنه المفتشون. فى الوقت نفسه، فإن التعامل مع الجانب العراقى لم يكن دوما سهلا، بل إنه كثيرا ما كان يتعرض لكثير من الصعوبات سواء تمت هذه اللقاءات فى بغداد أم نيويورك أم فيينا. من هذه الصعوبات ما يتعلق بالصفات الشخصية لبعض العلماء والمسؤولين الذى كان علينا استجوابهم، مثل ما قام به كبير المسؤولين السابق عن البرنامج النووى العراقى الدكتور جعفر ضياء جعفر. كان قد تحدث مع جاك بوت بصورة غير لائقة، إلى حد أن قال له فى إحدى المحادثات إن لغته الإنجليزية لم تتحسن إلا عند زواجه من سيدة بريطانية، وهو ما اضطررت معه إلى أن أُذكّره بأن العراقيين ليس لديهم كثير من المصداقية بالنظر إلى الخداع الذى مارسوه بحق المفتشين لسنوات طويلة. واستدعى الأمر تدخل عامر السعدى للتهدئة، وقال إن ما قام به العراقيون لم يكن خداعا وإنما حيطة فى تقديم المعلومات! والحقيقة أن جعفر كان يومها مستاء للغاية لأن تلك المقابلة، التى جرت فى نيويورك، جاءت وسط غضبه من عدم تمكنه من تسلم حقائب سفره القادم بها من العراق، وهو ما حال دون تبديل ملابسه بعد رحلة طويلة مرهقة. وقد كانت قناعة جعفر أن هذه عملية مدبرة من جانب الاستخبارات الأمريكية، وقد أعاد ذلك إلى خاطرى ما كان جعفر والسعدى وغيرهما من المسؤولين العراقيين يُكثرون من الشكوى منه لى حول تتبع عملاء المخابرات الغربية لهم ومحاولة استدراجهم وتجنيدهم خلال سفراتهم للخارج. وفى المجمل فإن عمليات التفتيش كانت معقدة وحذرة بالنظر إلى سابق التجربة مع العراقيين وخداعهم للمفتشين فى الماضى، وكثيرا ما طالبت أنا وبليكس العراقيين بتقديم مزيد من الأدلة والمعلومات؛ وهو ما كان يجعل السعدى يبدو متوترا فى مرات لأنه كان يُصر أن هذه المطالب تضع العراق أمام تحدى توفير وثائق أو معلومات ليست بحوزته، وبالتالى فكان العراقيون يُصرون ويلحون أن علينا أن نصدقهم وأن نثق بأن العراق لم يعد لديه برامج لأسلحة الدمار الشامل أو إمكاناته، لكننا لم نكن بالطبع قادرين على الاعتماد فقط على ما يقولونه بالنظر إلى سابق خبرتنا معهم قبل حرب الخليج الأولى عام 1991. بالإضافة إلى ذلك فإن التعامل مع المسؤولين العراقيين، خصوصا السعدى واللواء حسام أمين، لم يكن دوما أمرا يسيرا بالنظر إلى أن عمليات اتخاذ القرار فى العراق كانت شديدة المركزية وكان عليهما دوما أن يحصلا على إذن من جهة أعلى، فى الوقت نفسه فإن وزير خارجية العراق؛ ناجى صبرى الحديثى، لم يكن يتدخل بشكل مباشر فى عمليات التفتيش، ولم يكن يقدم أى إجابات عن أى من الأسئلة التى نطرحها عليه، وبقى فى حالة من الابتعاد عن تفاصيل العمل الذى كنا نقوم به. وبالمقابل كان طه ياسين رمضان؛ نائب الرئيس العراقى، يتابع عن كثب تفاصيل عملية التفتيش. وتبنى رمضان منذ أول لقاء لنا معه فى مقر عمله، فى 20 يناير 2003، موقفا عدائيّا من عمليات التفتيش، واتهم المفتشين بالإساءة إلى صورة العراق، وبإثارة مشكلات غير مسببة، وبالافتقار إلى الحيادية. وردّا على ما قاله تحدثت بالعربية، بالرغم من وجود مترجم فى اللقاء، وأخبرته بلغة لا تحتمل التأويل: «إننا هنا لمساعدتكم، ولكننا لا نستطيع مساعدتكم إذا لم تتعاونوا معنا»، مضيفا أن إلقاء الاتهامات جزافا فى وجه المفتشين الدوليين واتهامهم بالتجسس على العراق لن يفيد العراق فى شىء. وأنه بدلا من ذلك لا بد أن تظهروا مزيدا من التعاون والشفافية لحل المسائل المعلقة. وبدا لى أن الرسالة وصلت إلى رمضان، خصوصا أن درجة التوتر التى كانت تسيطر على حديثه قد تراجعت، وفُهم أننا فى العراق لتنفيذ مهمة عهد إلينا بها مجلس الأمن، وأن التعاون من جانبهم هو السبيل الوحيد للمأزق الذى وضعوا أنفسهم فيه لتنفيذ تلك المهمة بنجاح. وقد كان رمضان ودودا للغاية معى عندما صافحته فى نهاية الاجتماع قائلا لى: «بارك الله فيك». وفى ذلك اللقاء، كما فى كل تفاصيل الملف العراقى، كنت دوما أتصرف من مقتضى واجباتى كموظف دولى عليه مسؤوليات محددة فى ما يتعلق بالحياد والنزاهة والمهنية مع كل الدول دون استثناء، وذلك بالرغم من الادعاءات التى حاول أن يروج لها البعض عن أن هويتى؛ كونى عربيّا ومصريّا ومسلما، يمكن أن تؤثر على مواقفى وقراراتى لصالح العراق، وما حاول أن يروج له البعض الآخر من أننى فى سعيى لعدم الاتهام بمحاباة العراق أبالغ فى التشدد فى التعامل مع الملف العراقى. ولم يكن لأى من الفريقين نصيب من الصحة فى ما قالوا به، وأظن أنه مع مُضى الوقت أصبح جليّا للعراقيين أننى لن أحابيهم فى شىء، وأصبح جليّا لغيرهم أننى لا أفعل ذلك، كما أننى لا أفعل عكس ذلك. وفى كثير من المرات حاولت الحكومة العراقية، حسب ظنى، أن تكتشف مدى التزامى بالحياد، ومن ذلك أنه لدى وصولى أول مرة إلى العراق فى نوفمبر 2002 تلقيت اتصالا هاتفيّا على غرفتى فى الفندق من شخص يدّعى أنه محامٍ يريد مغادرة البلاد، فما كان منى إلا أن أخبرته بأننى لا أستطيع معاونته فى ذلك، وأننى وبليكس نقصر عملنا على المهمة الموكولة إلينا وهى التفتيش. وفى زيارة أخرى اتصلت بى سيدة لتخبرنى بأنها مواطنة عراقية كردية، وأنها تعمل مع بعثة الأمم المتحدة فى العراق، وأن لديها مشكلة ما تخص عقدها، وقد أخبرتها بأننى لا أستطيع مقابلتها، ولكنها تستطيع أن تكتب طلبا وأتولى نقله إلى المسؤولين المعنيين؛ وهو ما لم تفعله بالرغم من ادعائها الاتصال من داخل الفندق، بل إنها لم تعاود الاتصال بى ثانية، وبالطبع فإن الأمر لا يتطلب ذكاء خارقا ليعرف المرء أن مثل هؤلاء ما كانوا ليتجاسروا على الاتصال بى هاتفيّا، خصوصا من بهو الفندق، إلا لو كانوا تابعين للحكومة العراقية؛ لأن أى مواطن عادى سيفترض أن هواتف الفندق مُراقبة. وتطور الأمر لأكثر من ذلك عندما خاطبنى وزير الخارجية العراقى؛ ناجى صبرى، فى إحدى المرات على هامش أحد اللقاءات ليخبرنى أنه يستطيع مساعدتى أو أى من أقربائى للقيام بعمليات تجارية بالتعاون مع شركات البترول العراقية، وبالطبع فقد تجاهلت العرض! وفى خلال أول شهرين من التفتيش حققت الوكالة تقدما كبيرا فى إعادة فهم قدرات العراق النووية. وكانت أغلب أعمالنا تتم فى المنشآت الصناعية الحكومية أو الخاصة، ومراكز البحوث والجامعات مع تفقد المنشآت القديمة وما يشتبه فى استحداثه من منشآت، كذلك قام مفتشو الوكالة بتمشيط البلاد طولا وعرضا بأساليب مختلفة، فتعقبوا «البصمة» البيئية للمواد المشعة، وقاموا برصد مجارى الأنهار والترع والبحيرات للكشف عن النظائر المشعة الأساسية. أجرينا كذلك مسوحات موسعة للإشعاع باستخدام أجهزة دقيقة محمولة يدويّا أو فى السيارات، كما فحصنا المواقع الصناعية وغيرها من المواقع بحثا عن المواد النووية وغيرها من المواد المشعة. استجوبنا عديدا من العلماء والفنيين، فى أماكن عملهم ودون إخطار مسبق، للحصول على كل ما يمكن الحصول عليه من معلومات عن البرامج السابقة والحالية. وبالتوازى مع ذلك كان المحللون فى مقر الوكالة فى فيينا يقومون بفحص المعلومات الجديدة التى قدمها العراق ومقارنتها بما كنا جمعناه فى الفترة من 1991 حتى 1998، وكذلك المعلومات التى جمعناها عن طريق الرصد عن بُعد خلال سنوات الغياب الأربع عن البلاد. وكانت البيانات المقدمة من العراق متماشية مع ما كنا نعلمه عن البرنامج النووى العراقى قبل 1991. ولكن كان هناك أمور تتطلب استكمال الاستيضاح، وهذا ما كانت الوكالة تسعى إليه. وفى خلال الـ60 يوما الأولى تم تفقد 106 مواقع وإجراء 139 عملية تفتيش، ولم يتم العثور على ما يفيد بسعى العلماء العراقيين بأى صورة لاستئناف نشاط برامج الأسلحة النووية. ولكن فى الوقت نفسه كان هناك أمران يسيطران على النقاش النووى فى ذلك الوقت بغية التعجيل بالحرب: الأول هو استيراد العراق أنابيب من الألمنيوم شديد الصلابة يفترض أنها تستخدم فى تصنيع أجهزة تخصيب اليورانيوم، وهو ما قالت به رايس بصورة قاطعة فى مقابلة مع قناة «سى إن إن»، والأمر الثانى هو الادعاء باستيراد العراق كميات من اليورانيوم من النيجر. وقد أشار كثير من المسؤولين الغربيين مرارا إلى أن أنابيب الألمنيوم دليل قاطع على عودة العراق إلى تطلعاته النووية. وأشاروا تأكيدا على ذلك إلى شحنة الأنابيب التى تم ضبطها فى الأردن فى يونيه 2001، والتى كانت متجهة إلى العراق. وقبيل عودة المفتشين إلى العراق ظهرت كوندوليزا رايس على شبكة «سى. إن. إن» لتقول إن هذه الأنابيب لا تصلح إلا لبرامج الأسلحة النووية، وكان تصريح رايس هذا مضللا؛ لأن خبراء وزارة الطاقة الأمريكية نفسها قد أعلنوا أن هذه الأنابيب تستخدم كذلك وبصورة أفضل فى صنع صواريخ دفاعية. ولم يكشف عمل المفتشين الدؤوب عن أى محاولة من أى نوع من قِبل العراق لاستخدام هذه الأنابيب فى تصنيع أجهزة للطرد لتخصيب اليورانيوم، وهو ما أخبرت به مجلس الأمن فى 27 يناير 2003 لدى تقديم تقرير مبدئى حول مهمة التفتيش فى العراق، بل وأضفت: «إن هذه الأنابيب، تتفق مع الغرض الذى أوضحه العراق من استخدامها، وأنه ما لم يتم إدخال تعديلات عليها فإنها لا تصلح لتصنيع أجهزة الطرد الخاصة بتخصيب اليورانيوم». كان رد الفعل الأمريكى أو بالأحرى انعدامه ملفتا للنظر. ففى اليوم التالى وفى خطاب حالة الاتحاد الذى يلقيه سنويا الرئيس الأمريكى، والذى حظى فى ذلك العام بأعلى درجات المشاهدة، عاد الرئيس بوش ليكرر مرة ثانية أن العراق يستورد أنابيب من الألمنيوم تصلح لتصنيع الأسلحة النووية، دونما أى إشارة إلى الرأى المخالف الذى أعربت عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو إلى الرأى الذى كثيرا ما أعرب عنه خبراء وزارة الطاقة الأمريكية أنفسهم. وبعد أسبوع من ذلك ألقى كولين باول خطابه الدرامى أمام جلسة مجلس الأمن فى 5 فبراير 2003، حيث توقع المتابعون لتلك الجلسة أن يقدم وزير الخارجية الأمريكى معلومات لا تقبل الدحض حول برامج العراق لأسلحة الدمار الشامل، خصوصا أن باول بدأ حديثه بكل ما يتمتع به من قوة حضور وكاريزما، بالتأكيد أن كل ما يدلى به تم التيقن منه عبر عمل جاد ومحقق لخبراء أمريكيين. ولكن عندما تطرق الأمر إلى مسألة أنابيب الألمنيوم قال باول إن الأمر به «آراء مختلفة»، مشيرا فى الوقت نفسه إلى ما وصفه باتفاق معظم الخبراء الأمريكيين على أن هذه الأنابيب تم استيرادها لتصنيع أجهزة طرد تستخدم فى تخصيب اليورانيوم. وفى لقاء لاحق أخبرنى باول بأنه أمضى أسبوعا فى مقر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يطرح أسئلة مفصلة للتحقق من صحة المعلومات بغرض الإعداد لمداخلته أمام مجلس الأمن فى ذلك اليوم، وأنه لو كان استخدم كل ما قدم له فى ذلك اليوم لاستمرت مداخلته أمام المجلس لساعات طويلة. |
#5
|
||||
|
||||
![]() سنوات الخداع - الحلقة السابعة فى الغداء الخاص، الذى استضافه الأمين العام للأمم المتحدة عقب جلسة مجلس الأمن تحدث وزير الخارجية الفرنسى «دومنيك دوفليبان» وهو دبلوماسى من الطراز الرفيع وقارئ متميز للتاريخ إلى «باول»، بينما بدا أنه نبوءة تحققت فى ما بعد حيث أخبره بأن الأمريكيين لا يفهمون العراق «أرض هارون الرشيد التى يمكن للأمريكيين أن يهدموها فى شهر، لكن إعادة بنائها وإحلال السلام فيها هى مهمة ستتطلب سنوات طويلة». ولقد أثار تعليق الوزير الفرنسى حفيظة «باول» الذى أجاب: «ومن الذى يتحدث عن استخدام القوة؟!»، وكان ذلك تعليقًا غريبًا بالنظر إلى أن كل ما قاله فى الجلسة التى انتهت لتوها لمجلس الأمن كان يفضى فى هذا الاتجاه.![]() وبعد الحرب على العراق بعام أو نحو ذلك نشرت صحيفة «النيويورك تايمز» تحقيقًا صحفيًّا أفاد بأن «باول» وقبل يومين من خطابه، تلقى معلومات من المخابرات الأمريكية تفيد بأن الأنابيب المستوردة من قِبل العراق تتطابق مواصفاتها مع الأنابيب المستخدمة فى تصنيع الصواريخ من قِبل مصانع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما لم يقله «باول»، الذى أصر على أن مواصفات هذه الأنابيب تتجاوز مواصفات الأنابيب التى تستخدمها المصانع الأمريكية لتصنيع الصواريخ. أما فى ما يتعلق بالخمسمئة طن من اليورانيوم، التى تحدث «بوش» فى خطاب حالة الاتحاد عن تمكن بريطانيا من الحصول على معلومات تفيد بشراء صدام حسين لها فى نهاية التسعينيات وحتى 2001 من النيجر، فقد سعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية للحصول على الوثائق ذات الصلة من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ولم تتم الاستجابة إلى المطالب المتكررة للوكالة فى هذا الصدد إلا صبيحة الخامس من فبراير يوم انعقاد جلسة مجلس الأمن. ولم تكن تلك الوثائق سوى مجموعة من الخطابات المتبادلة بين مسؤولين عراقيين ونظراء لهم من النيجر، وبعد ساعات قليلة من العمل من قبل «جاك بوت» وفريقه اتضح أن هذه الوثائق مزيفة وليست حقيقية. ومن ذلك أن خطابًا يفترض أنه موجه من رئيس النيجر «مامادو تنديا» كان مليئًا بالأخطاء وممهورًا بتوقيع واضح التزوير. كما أن خطابًا آخر كان يفترض أنه موجه من وزير خارجية النيجر فى أكتوبر 2000 حمل توقيع «اليلى حبيبو»، الذى كان قد ترك منصبه كوزير لخارجية النيجر منذ 1989. وفى الحقيقة فإن فكرة الصفقة نفسها كانت عبثية لأن النيجر بوصفها واحدة من أكبر منتجى اليورانيوم فى العالم، كانت تبيع اليورانيوم إلى اليابان وفرنسا وإسبانيا، حيث تعتمد المفاعلات النووية لهذه البلدان بدرجة كبيرة، على ما تستورده من النيجر وهو ما كانت تخضع معه النيجر لمراقبة دقيقة لعمليات تصدير اليورانيوم سواء على المستوى المحلى أم على المستوى الدولى. وبالتالى فإن مجرد الحديث عن قيام النيجر بتصدير كميات من اليورانيوم الطبيعى (الكعكة الصفراء) بما يكفى لتصنيع مئة قنبلة نووية دون أن يدرى أحد بذلك كان محض عبث. ولعل الأغرب من ذلك هو أن هذه الأمور لم تفطن لها المخابرات البريطانية أو الأمريكية، بينما اكتشفها أحد علماء الوكالة باستخدام محرك البحث «جوجل» والمنطق. وبمواجهة المسؤولين فى هذه الأجهزة من قبل «جاك بوت»، لم يقم أى واحد منهم بمعارضة ما خلص إليه خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفى الطائرة إلى نيويورك تشاورت مع «جاك بوت» و«لورا روكوود»، مساعدتى للشؤون القانونية، حول كيفية نقل ما خلصت إليه الوكالة إلى مجلس الأمن دون أن يكون فى ذلك إحراج قاسٍ لواشنطن ولندن. وفى النهاية توصلت إلى قرار بالقول إن الخطابات التى تم الاعتماد عليها لادعاء أن هناك صفقة يورانيوم بين النيجر والعراق «ليست حقيقية»، وكانت رسالتى واضحة: أن هذه الصفقة المزعومة والتى كانت أحد الأسباب الرئيسية لادعاء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن العراق قد أعاد مرة أخرى بناء برنامجه للتسلح النووى كانت افتراءً مبنيًّا على عملية تزوير. وبالفعل أبلغت مجلس الأمن بذلك، مشيرًا فى الوقت نفسه إلى المعلومات حول ملف أنابيب الألمنيوم، وهو ما أثار غضب الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدرجة التى دفعت «باول»، وهو المعروف عنه احتفاظه دائمًا بالهدوء وحسن المعشر، إلى الرد على ما ذكرته قائلًا بنوع من الضيق فى صوته: «إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت غائبة بينما كان العراق فى سنة 1991 يقوم بتطوير أسلحة نووية». وكان رد فعل وسائل الإعلام مؤسفًا حيث تجاهلت الصحف الأمريكية الرئيسية، بما فى ذلك «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال»، أهمية المعلومات المتعلقة بالخطابات المزورة التى بنى على أساسها القول بسعى العراق لشراء يورانيوم عالى التخصيب من النيجر، بل وإن هذه الصحف وصفت أمر هذه الصفقة بأنه غير أساسى بين دلائل تورط صدام حسين فى السعى لامتلاك أسلحة نووية، واتهمتنى «وول ستريت جورنال» «بإثارة ضجة غير مبررة حول أمر عديم الأهمية» فى ما يتعلق بدلائل سعى صدام حسين لتطوير أسلحة نووية. ولم تُعن أى من الصحيفتين بالإشارة إلى أنه قبل ذلك بشهرين كانت صفقة بيع النيجر لليورانيوم من الأهمية بالنسبة إلى رئيس الولايات المتحدة إلى حد إبرازها فى خطابه عن حالة الاتحاد. وقامت «النيويورك تايمز» بتغطية الموضوع على نحو مماثل. رغم أنها أوضحت التزوير بشكل أكثر تفصيلًا فى عددها التالى، لكنها نشرته فى صفحاتها الداخلية. ولاقت الجهود الدبلوماسية أيضًا مصيرًا مشؤومًا كذلك. فعلى الجانب العربى فإن التحركات لم تكن أكثر إيجابية، حيث عُقدت قمة عربية قبيل الحرب على العراق فى شرم الشيخ فى 2 مارس 2003، لكنها تمخضت عن خلافات رخيصة وتلاسن بالأسماء، على الرغم من أن هذه القمة كان أمامها عدد من المقترحات الجادة للخروج من المأزق الخاص بالعراق، كإرسال وفد إلى العراق لإيجاد حل لتفادى الحرب. البعض كان يريد حث صدام حسين على الاستقالة. واقترح الشيخ زايد آل نهيان تقديم ملاذ آمن لصدام حسين لمساعدته فى الحصول على مخرج كريم، إلا أن هذا الطرح وغيره تم تجاهله. ولم يكن هذا غريبًا بالنظر إلى أن عددًا من القادة العرب كانوا يبغضون صدام حسين ويودون لو أن عملية غزو تقع لتخلصهم منه. ولم يتم وضع مقترح الشيخ زايد على جدول أعمال القمة. وفى النهاية تم إغفال أى فكرة حول إرسال وفد للعراق، ووقعت الحرب بتسهيلات عربية من عواصم كانت تمقت صدام حسين. بمثل هذه المشاعر، وبغير موقف موحد، لم يكن للقادة العرب أى دور أو تأثير فى حرب تشن فى قلب منطقتهم، اللهم إلا تقديم القواعد والتسهيلات فى بعض الحالات للقوات الأمريكية. وفى بداية عمليات التفتيش التقيت الرئيس المصرى حسنى مبارك الذى كان باديًا أنه يبغض صدام حسين بصورة شخصية، حيث أخبرنى أن الرئيس العراقى خدعه أثناء حرب الخليج الأولى بعد أن قام بغزو الكويت على الرغم من التعهد الذى أبداه للرئيس المصرى بعدم القيام بذلك. وفى ذلك اللقاء أخبرت الرئيس المصرى عن نشاطات التفتيش الذى كنا نقوم به فى العراق، ثم وجهت دفة الحديث إلى جهة أخرى، حيث حثثته على أن يقود حملة للتحديث والاعتدال فى العالم العربى من خلال البدء بمصر، وقلت له: «لو أن مصر قامت بهذا فإنها ستلقى دعمًا كبيرًا سواء كان سياسيًا أم اقتصاديًا من كل جهة فى العالم». وفى حديث لاحق طلبت من مبارك مرة أخرى أن يحث صدام حسين على بذل المزيد من التعاون مع فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة لتجنب احتمال حرب ضد العراق، وقد رد مبارك متهكمًا أنه تلقى رسالة من صدام حسين فى هذا الصدد يخبره فيها أنه ليست هناك مدعاة للقلق، وأن كل شىء سيكون على ما يرام، وكان واضحًا من لهجة مبارك أنه لا يصدق أى شىء يقوله له صدام بعد أن خدعه قبل غزو الكويت. وفى ذات الحديث أخبرنى مبارك أنه على علم أن «صدام حسين لديه أسلحة بيولوجية، وأنه يقوم بإخفائها فى المقابر». وكانت تلك أول وآخر مرة أسمع فيها هذه الشائعة. لكن ينبغى القول أيضًا إن بعضًا من أهم وأقدر الساسة فى العالم مثل الرئيس الفرنسى «جاك شيراك» لم يتمكن من إثناء الرئيس الأمريكى «بوش» عن التعامل مع القضايا الدولية من منطلق عقيدة أن «مَن ليس معى فهو ضدى» التى كان الرئيس الأمريكى يعتنقها. وفى أحد اللقاءات التى جرت بين «شيراك» و«بليكس» وبينى فى قصر الإليزيه الرئاسى بباريس أخبرناه بأننا لا نحصل على معلومات كافية من أجهزة المخابرات الغربية حول برامج أسلحة الدمار الشامل فى العراق، فما كان من «شيراك» إلا أن قال بكل صراحة: «هل تعلمون لماذا لا تحصلون على المعلومات منهم؟ السبب هو أنه ليس لديهم أية معلومات فى الأصل». ولم يتردد «شيراك» أن يضيف فى ذات الجلسة، التى عقدت بحضور رئيس جهاز المخابرات الفرنسى الذى سبق أن أفضى إلى «بليكس» بأن جهازه لديه معلومات تفيد باحتفاظ العراق بكميات صغيرة من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية أن أجهزة المخابرات كثيرًا ما تصل إلى قرارات دون وجود أدلة كافية ثم تسعى بعد ذلك للحصول على الأدلة. كان رئيس جهاز المخابرات الفرنسى فى أثناء ذلك ينظر إلى الأرض. وأضاف «شيراك» أن إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على تهديد مجلس الأمن لاستصدار قرار بالحرب على العراق وأن لا تفقد الأمم المتحدة دورها وأهميتها هو أمر عبثى لأنه لو قامت الولايات المتحدة الأمريكية بشن حرب على العراق دون تفويض من الأمم المتحدة فإنها هى وليست الأمم التى سينظر إليها كدولة خارجة على القانون. وكان أمرا يدعو إلى السعادة أن أسمع «شيراك» يتحدث بمثل هذه الصراحة وبنفس تفكيرنا فى الوكالة. ومع الأسف فإن الموقف الفرنسى إزاء مسألة الحرب على العراق كان محل تهميش بل وازدراء فى أمريكا. وبعد هذه المقابلة بفترة وجيزة، وفى مطلع فبراير، توجهت مع «بليكس» إلى لندن للقاء «تونى بلير» فى المكتب المتواضع لرئيس الوزراء البريطانى، وفى سابقة غير معتادة بالنسبة إلى بليكس ولى قرر «بلير» أن يعقد لقاءاته معنا كل على حدة. وبعد لقائه مع «بليكس» خرج «بلير» من مكتبه وقد تخلى عن سترة بذلته، ثم دعانى للدخول ممازحًا بقوله: «الزائر التالى»، فى استدعاء لمشهد يقع فى عيادات أطباء الأسنان. وفى خلال اللقاء أكدت على «بلير» أن شن حرب على العراق سيخلق توترًا شديدًا فى المنطقة بأكملها، وأن الرؤية فى المنطقة أن التركيز على العراق ليس بسبب أسلحة الدمار الشامل، وإنما بسبب كونها دولة عربية مسلمة، وبالتالى لا تستطيع مثل إسرائيل تملّك هذه الأسلحة، وأضفت شيئًا مما كان «شيراك» قد قاله وهو أن تلك الرغبة العارمة فى شن حرب على العراق ستتم مقارنته فى المنطقة بعدم وجود أى حراك سياسى إزاء تسوية النزاع الفلسطينى الإسرائيلى، كما أشرت إلى النقد الذى أسمعه فى كثير من أنحاء العالم عن الفارق فى التعامل مع ملف العراق وملف كوريا الشمالية. وأبدى «بلير» تفهمًا لما قلت خاصة ما يتعلق بالشأن الفلسطينى، وأكد لى أن «بوش» وعده أنه سيتحرك نحو تسوية هذا الأمر فور الانتهاء من «تسوية أمر العراق». وفى لقاء مع «جاك سترو» وزير الخارجية البريطانى شرح لى منطق لندن والقائم على أن بريطانيا تقدم كل الدعم العلنى للولايات المتحدة الأمريكية بغية أن يكون لها القدرة على ممارسة التأثير على القرار الأمريكى فى الإطار غير المعلن. والحقيقة أننى لم أجد أى أثر لتأثير بريطانيا على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة حكم «بلير»، واقتصر الأمر حسبما رأيته على أن بريطانيا تقوم بالترويج للسياسات الأمريكية وتفسيرها وأحيانًا إبداء الاعتذار عنها. وبينما لم يكن لدى أمريكا ولا بريطانيا ما يفيد بوجود سلاح نووى عراقى غير الادعاءات الخاصة بأنابيب الألمنيوم وفشل قصة شراء اليورانيوم من النيجر كان هناك إصرار من جانب عدد كبير من المسؤولين الأمريكيين على أن العراق لديه فى مكان ما كميات من الأسلحة البيولوجية والكيميائية. فى الوقت نفسه كان البعض فى واشنطن يتقدم باقتراحات، لم أكن أتصورها جادة، حول سبل حصول مفتشى الوكالة الدولية على معلومات عن البرنامج النووى العراقى، ومن ذلك ما اقترحه «جون وولف» مساعد وزير الخارجية الأمريكى من التحفظ على كل أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالعلماء العراقيين واستخراج أى معلومات قد تكون مخزنة عليها حول البرنامج النووى العراقى، أو ما اقترحه «توم لانتوس»، السياسى الديمقراطى البارز فى مجلس النواب الأمريكى، من أن نصحب العلماء العراقيين فى رحلة بحرية لمدة أسبوعين نحصل من خلالها على معلومات قيمة حول برنامج العراق النووى. وفى كل مرة ازددت اقتناعا بصواب وجهة نظر «شيراك» بأن أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية لم يكن لديها معلومات دقيقة يمكن أن تثبت أن العراق لديه أسلحة دمار شامل حسب الاقتناع البريطانى والأمريكى. وفى واقع الأمر فإن المعلومات المقدمة من الولايات المتحدة وغيرها من أجهزة المخابرات إلى الوكالة الدولية والأنموفيك خلال تلك الفترة كانت قليلة جدًّا بالمقارنة بسيل المعلومات المقدم إلى الوكالة وإلى «الأنسكوم» فى التسعينيات. وفى ضوء غياب المعلومات، فإن الآمال الأمريكية انعقدت على ما يمكن أن يدلى به العلماء العراقيون فى حال خروجهم عن رقابة الحكومة العراقية، وعلى هذا كان الإصرار الأمريكى على استجواب العلماء العراقيين خارج العراق، ولكن العلماء العراقيين بالطبع لم يفعلوا ذلك، بل أصروا على أن يكون استجوابهم فى العراق وبحضور مسؤول عراقى وبتسجيل يدون كل ما يقولون ليتفادوا أى سوء فهم لما يقوله أحدهم. لم يكن بوسعنا أن نجبرهم على مغادرة البلاد، ولم نكن حتى نرغب فى استجوابهم فى الخارج، على الرغم من السلطة المخولة لنا بمقتضى قرار مجلس الأمن «1444»، لما قد يكون لذلك من آثار عليهم وعلى أُسرهم من قِبل النظام. وبالنسبة لنا كنا نثق فى قدرات وعمل مفتشينا على الأرض، وأن تلك القدرات فى ذاتها كافية للإفصاح عن حقيقة أسلحة الدمار الشامل العراقية إذا ما أتيحت لها المهلة الزمنية الكافية. كان مفتشو الوكالة يعرفون جيدًا قدرات العراق العلمية والتكنولوجية وتضاريسها المختلفة. وحتى بعد غياب السنوات الأربع لم يستغرق الأمر كثيرًا من الوقت ليسترجع مفتشو الوكالة معرفتهم بقدرات العراق النووية. ومع ذلك تم تجاهل هذه القدرة ذات المصداقية. فقد قررت «القوى المؤتلفة»، التى أعلنت نفسها كذلك، أن تتجاهل خبراتنا. ورغم علم مفتشينا بالواقع على الأرض فإننا كنا نخسر المعركة الإعلامية فى الصحافة الغربية وإلى حد ما فى نظر الجمهور. فقد كانت البيانات الصادرة عن الوكالة وعن «أنموفيك» يتم تجاهلها، أو يشار إليها بصورة انتقائية، رغم أننا كنا أكثر من يعرف الحقيقة باعتبارنا عيون وآذان المجتمع الدولى. وكانت الحرب تبدو حتمية بصرف النظر عن الحقائق، وكانت قوافل الجنود تتوافد على الخليج، وكان الوقت ينفد. وفى 12 مارس تقدم «تونى بلير» و«جاك سترو» بمسودة قرار إلى مجلس الأمن فى محاولة يبدو أنها تهدف إلى منع الحرب. وقد تطلب المشروع أن يقوم صدام حسين بتسليم ما يعتقد الأمريكيون والبريطانيون أنه فى حوزته من المواد المستخدمة فى تطوير الأسلحة النووية والبيولوجية والكيمائية، وكذلك الصواريخ المحظورة، حتى يتفادى الحرب ويتمكن من البقاء فى منصبه رئيسًا للعراق، إضافة إلى السماح للعلماء العراقيين بالخضوع لاستجواب خارج العراق. وقد منحت مسودة القرار العراق خمسة أيام للإذعان لمطالب ستة صاغتها أمريكا وبريطانيا، شملت، إضافة إلى ما سبق، اعترافًا علنيًّا من صدام حسين على الهواء بأنه يمتلك أسلحة للدمار الشامل، وأنه يلتزم بالتخلص من هذه الأسلحة. ولم يتم تبنى هذا القرار من قِبل مجلس الأمن، وحتى لو تم ذلك فسيكون من المستحيل على صدام حسين الالتزام بما جاء فيه لأنه لم يكن بوسعه الاعتراف بملكية أسلحة دمار شامل لم تكن فى حوزته، كما لم يكن فى وسعه أن يسلم موادّ لم تكن فى حوزته لتصنيع أسلحة دمار شامل، بما فى ذلك الآنثراكس الذى كانت بريطانيا تعتقد أنه موجود لديه. ويتعارض بشدة ما جاء فى هذا المشرع من إمكانية بقاء صدام حسين فى السلطة مع ما قال به تونى بلير فيما بعد من أن الإطاحة بنظام صدام حسين كان سببًا كافيًا لشن الحرب على العراق. ومع حلول عطلة نهاية الأسبوع من 14 – 16 مارس كان البريطانيون يسعون حثيثًا لإيجاد مخرج دبلوماسى، ويتمثل فى جملة من الأنشطة التى يكون قيام صدام حسين بها دليلًا أو «موقفًا فارقًا» على أن العراق عازم على التعاون، واقترحت بدورى أن نقوم، «بليكس» وأنا، بزيارة لبغداد للحديث مع المسؤولين العراقيين حول هذا الأمر، وهو ما رحب به البريطانيون بشدة. وفى الوقت ذاته طالبت السعدى، بأن يتم ترتيب لزيارة تجمعنى أنا و«بليكس» مع صدام حسين، وبالفعل جاء خطاب الدعوة فى يوم السبت الخامس عشر من مارس، وعندما أُجريت اتصالات بالمسؤولين الفرنسيين والبريطانيين للحصول على تأييد لهذه الزيارة كقناة دبلوماسية للتعامل مع الأمر، قال البريطانيون إنه من الأفضل أن يأخذ الفرنسيون المبادرة فى هذا الأمر. ولكن فرنسا وألمانيا لم تكونا متحمستين، بل كان لديهما الانطباع بأن قرار الحرب قد اتخذ بالفعل فى واشنطن، وبالتالى فقد كانتا تظنان أن فشل المهمة الدبلوماسية المطلوب منهما دعمها سيساعد فى توفير الأعذار لعمل عسكرى سيقع حتمًا. وكذلك ذكر لى «بليكس» أنه غير راغب فى القيام بهذه المهمة لأنه كان يشعر أنه قد فات أوانها. كنا «بليكس» وأنا فريقًا جيدًا، وكنا نعمل بصورة طيبة معًا، وعلى الرغم من خلافاتنا التى كانت حادة فى بعض الأحيان، فإنها لم تكن تطفو على السطح. ومن أكثر النقاط التى اختلفت مع «بليكس» حولها عدم توافقه مع رغبتى فى طلب مدة إضافية لمزيد من التفتيش للتأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، ولعل السبب فى ذلك هو التباين بين مستوى المفتشين عن الأسلحة النووية الذين كنت أعمل معهم، والذين كانت لديهم قدرات عالية وأيضًا خبرة جيدة بملف العراق، وبين المفتشين عن الأسلحة الكيمائية والبيولوجية الذين كان «بليكس» يرأسهم فى «الأنموفيك» والذين كانوا يتمتعون بكفاءة فنية عالية، ولكن لم تكن لديهم الخبرات المتراكمة التى يتمتع بها مفتشو الوكالة، بل إن كبير معاونى «بليكس» الفنيين كان «ديمتريوس بريكوس»، الذى عمل طويلًا فى الوكالة وكان يتمتع بثقة «بليكس»، ولكن مجال تخصصه وخبرته الطويلة كان الأسلحة النووية لا الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية. أما مفتشو الوكالة، ولأنهم كانوا ذاهبين إلى بلد يعرفونه وأشخاص يألفونهم، فإنهم كانوا أكثر ثقة بأنفسهم وبتقديراتهم. كما كان لدى «بليكس» الكثير من الهواجس إزاء التعامل مع العراق جراء تجربته معهم فى التسعينيات وخداعهم له عندما كان يرأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبالتالى فعندما طلب العراقيون عقد جلسات عمل فنية مع «الأنموفيك» والوكالة قبيل استئناف التفتيش فى 2002 رفض «بليكس» ذلك بشدة على أساس أنه كان يعتقد أن هذه الجلسات وراءها أسباب مراوغة فى ما يتعلق بالقضايا والملفات التى ستكون محل عمل فرق التفتيش، وأصر أنه لا نقاش قبل أن يصل مفتشوه فعليًّا إلى العراق. وبينما امتنع «بليكس» عن عقد تلك اللقاءات عقدت الوكالة لقاءاتها مع العراقيين، وكانت هذه الجلسات مفيدة للغاية فى تيسير العمل فى ما بعد. ولكن «بليكس» لم يستمع إلى ما قلته من أنه يمكن أن يذهب إلى هذه اللقاءات ويقيم فائدتها دون أن يخشى أى مراوغة من الجانب العراقى، لأنه فى النهاية القرار هو قراره كرئيس للأنموفيك. وقد اتهمنى بليكس إحدى المرات بمحاباة الجانب العراقى، وذلك خلال لقاء جمعنى وإياه و«كوفى أنان» الأمين العام للأمم المتحدة فى أحد فنادق فيينا قبيل البدء فى عمليات التفتيش، عندما كررت وجهة نظرى بفائدة عقد لقاءات فنية مع العراقيين حتى قبل بدء التفتيش. وقد استوجب اتهام بليكس لى تدخل «أنان» الذى قال لـ«بليكس» إن اتهاماته لى هى اتهامات «غير عادلة»، وقال له: «لماذا نعقد إذن هذه الاجتماعات مع العراقيين إذا لم تكن تريد أن تناقش معهم ما تبقى من قضايا نزع السلاح؟»، ولكن «بليكس» بقى على رفضه. والحقيقة أن مهمة «بليكس» و«الأنموفيك» لم تكن سهلة لأن العراقيين، وعكس ما كانت تدعيه بعض أجهزة المخابرات، لم يحتفظوا بالسجلات الخاصة بما تم تدميره من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية فى التسعينيات بعد حرب الخليج الأولى. وقد تعرض «بليكس» لانتقادات شديدة من العراق جراء ما قاله فى أحد تقاريره لمجلس الأمن من أن العراق «لم يتخذ حتى الآن قرارًا استراتيجيًّا حول نزع التسلح»، وهو الأمر الذى أساءت استغلاله الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لتدفع فى اتجاه الحرب. ولم أكن قد رأيت مسودة هذا التقرير لأننا فى هذه المرة لم نلتزم بما اعتدنا عليه من تبادل مسودات التقارير التى نعرضها على مجلس الأمن. وأعتقد أننى كنت أفهم سبب عبارة «بليكس»، ذلك أن إحدى المكاتبات العراقية وصفت عمليات التفتيش بأنها «ما يسمى بقضايا نزع السلاح». ولقد قرأ «بليكس» هذه العبارة على أنها دليل على العجرفة وعدم الجدية من قِبل العراق، ولم يلتفت أحد إلى ما قاله «بليكس» فى نفس التقرير من أنه ليس لديه دليل على أن العراق لا يزال يمتلك أسلحة الدمار الشامل، ومن سخرية القدر أنه ثبت بعد ذلك أنه لم تكن هناك حينئذ قضايا نزع سلاح فى العراق. ولقد برر «بليكس» رفضه للمشاركة فى طلبى من مجلس الأمن إعطائى مزيدًا من الوقت بأن هذا الطلب يمكن أن يفسر على أنه التزام بالتوصل إلى نتائج محددة فى توقيت محدد، وهو الأمر الذى لم يكن واثقًا من إمكان قيام «الأنموفيك» بتحقيقه، ولكنه قال لى إنه لو سُئل إذا ما كان يحتاج إلى المزيد من الوقت فإنه سيجيب بنعم. وفى السادس عشر من مارس، قبل أربعة أيام من وقوع الحرب، استضاف رئيس الوزراء البرتغالى «خوزيه مانويل باروسو»، الرئيس الأمريكى «بوش» ورئيس الوزراء البريطانى «بلير» ونظيره الإسبانى «خوزيه ماريا آزنار» فى لقاء جمعهم فى جزر الآزوروس. وبحسب ما علمت عن هذا الاجتماع فإنه شهد مطالبة بريطانيا وإسبانيا إتاحة المزيد من الوقت للعمل الدبلوماسى، ولكن بوش لم يكن يود أن ينتظر وأصر على أن أسلوب التعامل والذى سيتقرر بمقتضاه مصير العراق لا بد أن يتحدد فى اليوم ذاته. وفى اليوم ذاته، كان «تشينى» قد اتهمنى على الهواء فى برنامج «واجه الصحافة» بأننى «مخطئ» فى تقديرى أن العراق لم يُعِدْ بناء برامج التسلح النووى، مضيفًا أن الولايات المتحدة الأمريكية مقتنعة بأن صدام حسين لديه برنامج للتسلح النووى. وأضاف نائب الرئيس الأمريكى فى نفس البرنامج الادعاء بأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لديها تاريخ من الإخفاق فى تقدير القدرات النووية، خصوصا ما يتعلق بالعراق. وعندئذ تذكرت تحذير تشينى لبليكس ولى قبل بدء عمليات التفتيش بأن واشنطن قد تلجأ إلى النيل من مصداقية عمليات التفتيش. ولم يكن بوسعى فى ذلك الوقت، كما أنه ليس بوسعى الآن، أن أتصور طبيعة المعلومات التى كانت متاحة لدى «تشينى» عن التسلح العراقى، ولكن «تشينى» كان يعلم على وجه اليقين الأسباب التى تقتضى إضفاء المزيد من المصداقية على نتائج عمل الوكالة بشأن العراق فى 2003 بالمقارنة بما كانت قد توصلت إليه فى 1991. كان يعلم، كما كان الجميع يعلمون، أنه فى التسعينيات لم يسمح لنا بالتفتيش إلا على ما أبلغتنا به حكومة صدام حسين. ولم يكن لدينا صلاحية السفر إلى أى مكان آخر داخل العراق أو البحث عن منشآت سرية أو تتبع أى معاملات غير قانونية فى المواد النووية. ومن المؤكد أنه كان يدرك تمامًا أن الزمن قد دار دورته. فمنذ ذلك الحين كانت الوكالة قد تنقلت فى البلاد طولًا وعرضًا، وتوفر لها من الصلاحيات ما يسمح لها بالذهاب إلى أى مكان فى أى وقت وباستجواب كل العلماء النوويين فيها. لقد أتلفنا المعدات وصادرنا السجلات، ووضعنا أختام الوكالة على ما تبقى من المواد النووية، وهدمنا منشآت إنتاج السلاح النووى فى منطقة الأثير. لذا فإن مقارنة نتائج 2003 بنتائج 1991 كان تشويهًا متعمدًا للحقائق، ولكن الأمر كان فى ما يبدو قد تقرر فى اتجاه غزو العراق. وفى الواحدة من صباح السابع عشر من مارس بتوقيت فيينا تلقيت اتصالًا من «كين بريل» سفير واشنطن لدى الوكالة، يخبرنى بأن حكومته تنصح بسحب المفتشين من بغداد، وأنها رأت أن تخبرنا مبكرًا بذلك حتى نتمكن من حمايتهم. وعلى الفور اتصلت بـ«بليكس» الذى كان قد تلقى مكالمة مماثلة. واتصلت أيضًا بـ«كوفى أنان» الذى كان قد حاول كثيرًا أن يجعل المنطق الدبلوماسى يسود وأن يحول دون استخدام بعض الدول لمجلس الأمن بأى صورة لتحقيق أغراضها الخاصة، وهو ما دفعه قبل ذلك بشهر ليعلن أن القرار فى ما يخص العراق «ليس قرار أية دولة بعينها ولكنه قرار المجتمع الدولى بأكمله». كما قال إنه عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة من أجل ما يفترض أنه حماية للأمن والسلم الدوليين فإن الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك بصورة قانونية هى أن يتم عبر مجلس الأمن. وكان «أنان» قد تعرض لنقد شديد فى 1998، حيث وصفه البعض حينئذ بأنه ساذج، عندما قال بعد إقناع صدام حسين فتح عدد من القصور الرئاسية أمام المفتشين إنه عندما يسأل إذا كان يمكنه الوثوق فى صدام حسين فإن إجابته هى: «أظن أننى أستطيع أن أصل إلى اتفاقات محددة من خلال التفاهم معه، وأنا لا أشعر بنفس التشاؤم الذى يشعر به البعض فى هذا الشأن». كنت أتمنى أن يتكلم «أنان» بأسلوب أكثر قوة وصراحة فى موضوع العراق فى ذلك الوقت، لا سيما بعد الاتهامات التى وجهها «بوش» فى نوفمبر بأن الأمم المتحدة ليس لديها العزيمة اللازمة، وأنها ستصبح غير ذات جدوى. كان لدىّ تقدير كبير لما يقوم به «أنان» من محاولة تفعيل دور الأمم المتحدة، لمعالجة الكثير من القضايا الهامة مثل الفقر والأمراض الوبائية وغيرها، ومحاولة دفع المجتمع المدنى للمشاركة فى التصدى لهذه التحديات، وعلى الرغم من أنه لم تكن لـ«أنان» صلاحيات مباشرة بشأن عمليات التفتيش إلا أنه كان سيعبر عن رأى الغالبية العظمى من الناس لو كان صوته أعلى فى الدفاع عن المبادئ التى يقوم عليها ميثاق الأمم المتحدة، غير أنه كان منشغلًا فى ذلك الوقت بمسألة توحيد قبرص |
#6
|
||||
|
||||
![]() سنوات الخداع - الحلقة الثامنة فى هذه الساعات المبكرة من يوم الإثنين 17 مارس كان هناك خلاف فى الرأى حول ما إذا كان علينا سحب المفتشين فورًا أم لا، فبينما كان «بليكس» يريد سرعة سحب المفتشين التابعين له لضمان أمنهم، كنت أرى أنه لا ينبغى لنا أن نسارع بذلك لمجرد أن الولايات المتحدة أخبرتنا بذلك. وكان «أنان» يريد أيضًا التأجيل حتى الصباح بما يسمح بإجراء نقاش مع رئيس مجلس الأمن فى ذلك الوقت ومع وزير الخارجية الأمريكى «باول».وفى هذه الليلة وبعد أن أنهيت مكالمتى وجافانى النوم تحدثت طويلًا مع زوجتى عايدة التى كانت دومًا مصدر نصح ومؤازرة لى. وتطرق حديثنا لما هو قادم وكيف ستتطور الأمور مع وقوع الغزو والمدة التى قد تستغرقها الحرب وما يمكن أن يقع من ضحايا. ورغم أننى كنت أعلم أنه لم يكن هناك فى وسعى المزيد الذى أستطيع القيام به لمنع هذه الحرب إلا أننى كنت أشعر بأسى بالغ للدمار والقتل الذى كنت أراه قادمًا باتجاه العراق وبدون مبرر. والحقيقة أنه خلال عملية التفتيش كثيرًا ما تساءلت عن السبب الذى لا يجعل العراق أكثر شفافية وسرعة فى التعاون مع المفتشين، ولم أكن واثقًا من الإجابة وما إذا كان الأمر يتعلق بشعور العراق أن تقديم المزيد قد ينال من كرامة العراق فى مجتمع ينظر باهتمام كبير للاعتداد بالنفس، بما كان يمكن أن يجعل المزيد من التعاون يبدو وكأنه إهانة للعراقيين على يد المفتشين، أم أن العراقيين كانوا لا يزالون يتشككون فى أن عمليات التفتيش ما هى إلا ستار لجمع المعلومات تمهيدًا للحرب، أم أنهم كانوا يعتقدون أن الحقيقة ستكون واضحة بالضرورة للمفتشين لأنه ليس لدى العراق أسلحة دمار شامل بالفعل. وفى كل الأحوال كان واضحًا أن هناك كثيرًا من العراقيين ممن لديهم إدراك أن الولايات المتحدة مُصرّة على النَّيل من صدام حسين وأن الحرب كانت حتمية فى كل حال. وفى صباح الإثنين، أى عقب ساعات من تلك المكالمات، عدت أنا و«بليكس» و«أنان» للتواصل عبر الهاتف معًا، واتفق ثلاثتنا على أن يقوم «أنان» بإخطار مجلس الأمن بأنه سيتم سحب المفتشين حرصًا على سلامتهم، وكانت إجابة المجلس أنه «أخذ علمًا» بهذا القرار. وبالطبع فإن بعض أعضاء المجلس مثل روسيا وسوريا، فى ذلك الوقت، لم يشعروا بالرضا عن هذا القرار، ولكنهم رأوا أنه من غير المجدى أن يتم تعريض حياة المفتشين للخطر بلا طائل، وبدورى فقد قررت سحب مفتشى الوكالة، لأن سحب مفتشى «الأنموفيك»، الذين كانت الوكالة تعتمد على التسهيلات اللوجيستية التى يقدمونها لمفتشيها كان سيجعل بقاء مفتشى الوكالة فى العراق غير ذى جدوى. وبالمصادفة فإن هذا اليوم شهد واحدًا من خمسة اجتماعات اعتيادية يعقدها مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية سنويًّا، وقد أشاد العديد من الدول أعضاء مجلس المحافظين، بما فى ذلك جنوب إفريقيا واليابان وفرنسا وألمانيا والبرازيل، خلال تلك الجلسة بالعمل الذى قامت به الوكالة فى العراق. وكان من أهم ما قيل فى ذلك اليوم كلمة سفير جنوب إفريقيا «عبدول منتى» الذى أعرب عن الأسى لحرب قادمة لا يعرف أحد مدى تداعياتها، ولكن أيضًا لما تعنيه هذه الحرب من تجاهل لدور الأمم المتحدة وأثر ذلك على إدارة العلاقات الدولية فى المستقبل. وبالمقابل، وفى مفارقة صارخة، فإن سفير الولايات المتحدة الأمريكية لم يأت فى بيانه على الإطلاق على ذكر العراق. وكذلك فعل نظيره البريطانى. وكان معظم الحاضرين مشغولين بمتابعة الاستعدادات الجارية للحرب. وعندما حان دورى لإلقاء كلمتى أمام المجلس اختتمتها بعبارة مقتبسة عن «آدلاى ستيفنسن» الذى قال فى 1952: «إن الشر لا يكمن فى الذرة ولكن فى نفوس بعض البشر». ومن الناحية الفعلية، فإن مسؤولية الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تنتهِ مع بدء الحرب، وبالتالى فقد كنا نشعر بالقلق على سلامة المواد النووية التى كانت لا تزال فى العراق تحت أختام الوكالة. وكان من أسباب قلقنا ما يصل إلينا من معلومات عبر مصادر عراقية عن عمليات سلب لمناطق تقع فيها مواقع تخزين هذه المواد النووية. فعلى سبيل المثال كانت هناك تقارير من موقع «التويثة» تفيد أن بعض الحاويات المعدنية التى كان بها مواد مشعة كان يتم تفريغها واستخدامها لنقل مياه الشرب وغسيل الملابس وغير ذلك من الاستخدامات الإنسانية، وهو ما كان يعنى أخطارًا بالغة على صحة هؤلاء الذين يستخدمون هذه الحاويات الفارغة، وقيل لنا كذلك إنه تم إطلاق حشرة الدودة الحلزونية غير المشعة من المختبرات، الأمر الذى يشكل خطورة صحية بالغة للبشر والماشية. ولم يكن الأمر يقتصر على ذلك لأن موقع «التويثة» شأنه شأن غيره من المواقع النووية، كان به كثير من المواد الخطرة التى يمكن أن يتسبب وصولها إلى أيدى مدنيين غير مدربين، أو أيدى مسلحين متطرفين قد تكون لديهم الرغبة فى الحصول على «قنبلة قذرة» أو فى بيع تلك المواد فى السوق السوداء، فى إحداث حالة من الفزع. لم نكن نعرف بالضبط حقيقة ما يحدث وكان ذلك من أكبر دواعى قلقنا. وعلى هذا بدأت فى التأكيد، من خلال مقابلات ومقالات صحفية، على ضرورة عودة مفتشى الوكالة للعراق، وقد أصدرت فى 11 إبريل بيانًا صحفيًّا ذكرت فيه أننى كتبت إلى الأمريكيين بشأن أمن وحماية موقع «التويثة» ماديًّا وأننى تلقيت منهم تطمينات شفوية فى هذا الشأن. كما أكدت كثيرًا ضرورة الاعتماد فى هذا الشأن على خبرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خاصة بعد أن أفادت وكالة «أسوشييتد برس» بأن مجموعة من جنود المارينز الأمريكيين قد دخلوا موقع «التويثة» وعثروا على مواد نووية ظنوا أنها دليل على امتلاك العراق لبرنامج تسلح نووى، بينما كان ما قاموا به فى الواقع هو كسر عبوات من المواد النووية كانت الوكالة قد قامت بتحريزها فى ذلك الموقع، ولكن الحقيقة أن هؤلاء الجنود لم يكن لديهم علم بما كانوا يقومون به أو بحقيقة ما وجدوه بين أيديهم. وأكدت كذلك فى مقابلة مع «سى إن إن» فى 27 إبريل أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية هى وحدها المخولة قانونًا والتى لديها الخبرة الميدانية للتعامل مع الوضع على الأرض فى العراق من حيث القيام بالتفتيش على نحو سليم، وقلت فى تلك المقابلة: «لقد أمضينا فى العراق عشر سنوات، ونحن نعرف الناس ونعرف المنشآت والبنية التحتية والوثائق، ونعلم أين يجب أن نذهب وما الذى علينا أن نفعله، ولا أدرى لماذا يجب علينا أن نعيد اختراع العجلة». كما أشرت أيضًا إلى أن المصداقية التى يتمتع بها الموظفون الدوليون أعلى بكثير من تلك المتاحة لغيرهم. وفى ذلك اليوم اتصل «كِن بريل»، السفير الأمريكى بـ«ديفيد وولر»، وهو أكبر الموظفين الأمريكيين درجة فى الوكالة، ليخبره بغضب واشنطن من حديثى الذى وجده مخالفًا لحدود مسؤولياتى الفنية. وبعد فترة التقيت «بريل» وأخبرته بأسفى من تلك الملاحظة، التى أبداها فقال إنه ينبغى علىّ أن لا أقدم النصح لأمريكا والائتلاف فرددت عليه قائلًا إن ما أصرح به هو أمر واقع فى صميم اختصاصى وعملى، وسأمضى قدمًا فى إبلاغهم برأيى. وفى نهاية شهر إبريل تناولت إفطارًا مع مساعد وزير الخارجية الأمريكى «جون وولف» ومع «بريل»، وأخبرنى كلاهما بأن الخارجية الأمريكية لم تعد متابعة لتفاصيل ما يدور فى العراق، وأن الأمر الآن يدار من قِبل وزارة الدفاع الأمريكية، ونصحانى بأن لا أصر على المطالبة بعودة مفتشى الوكالة للعراق تفاديًا لإجابة لن ترضينى، حسبما قالا. فما كان منى إلا أن أخبرتهما بأنه، على العكس منهما، فإننى ليس لدىّ أى أجندة سياسية، وإننى أتصرف من موقعى كمدير عام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفى ضوء ذلك فإن مسؤوليتى تحتم علىّ إطلاع العالم على الحقيقة وتقييمها فنيًّا بناء على معلومات موثقة دون اتجاه سياسى. كما أكدت لهما أنه فى حال السماح لمفتشى الوكالة بالعودة للعمل فى العراق فإنها ستقوم بعملها بكل حيادية وشفافية كما هو الحال دائمًا. وبعد هذا الحديث بفترة وجيزة وجهت رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مطالبًا بعودة المفتشين إلى العراق، ولكننى لم أحصل على رد. وبعد ذلك، وفى 12 مايو، التقيت «جاك سترو» فى لندن وأعدت التأكيد على ضرورة عودة المفتشين إلى العراق. وفى ذلك الوقت كان هناك الكثير من التغطية الصحفية للأخطار التى يتعرض لها البشر والبيئة فى العراق جراء عدم تأمين مواقع نووية، وهو ما دفعنى لأن أخبر «سترو» بأن ترك الأمر على ما هو عليه يعد بمثابة رسالة من أمريكا وحلفائها أنهم لا يأبهون لحياة العراقيين. واتفق معى «سترو» فى الرأى بضرورة عودة مفتشى الوكالة للعراق خاصة لموقع «التويثة»، ولكنه أخبرنى بأن هناك انقسامًا فى الرأى فى واشنطن على هذا الأمر. ووعد «سترو» بالحديث مع «باول» فى ذات اليوم لإثارة هذا الأمر، كما قال إنه سيطلب من أحد مساعديه رفع الأمر إلى «بلير» حتى يثيره فى حديث كان من المقرر أن يجرى فى وقت لاحق من اليوم مع «بوش». وفى ذلك الوقت كان يتم التفاوض حول قرار جديد لمجلس الأمن يهدف لرفع بعض العقوبات عن العراق، وإنهاء العمل ببرنامج النفط مقابل الغذاء، ومنح التحالف صفة قانونية تتعلق بحفظ السلم فى العراق. ولكننى علمت فى ما بعد أنه لم يتم تضمين القرار النص على عودة مفتشى الوكالة إلى العراق، لأن بريطانيا لم تتمكن من الحصول على موافقة أمريكية فى هذا الشأن. وبعد الكثير من الشد والجذب، تمكنا من الحصول على موافقة قوات التحالف على عودة المفتشين للتيقن من تأمين قائمة المواد والمعدات الموجودة فى «التويثة» على أن يتم ذلك بدعم لوجيستى من التحالف، ولكن مهمتنا تلك كانت محددة بشدة ولم تشمل تفقُّد الأضرار التى كانت قد لحقت بصحة البشر والبيئة، كما أنها لم تشمل أيضًا استئناف العمل للانتهاء من مهمة التفتيش فى العراق بما يسمح بغلق هذا الملف نهائيًّا. وفى كل الأحوال فقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية ودول التحالف فى ذلك الوقت بإنشاء آلية أطلقوا عليها اسم «مجموعة المسح فى العراق». وكانت مهمة هذه المجموعة حسب التوصيف المقدم هى البحث عن أسلحة الدمار الشامل «المفقودة» فى العراق. كانت واشنطن ولندن تريدان التأكيد على أن العراق كان لديه أسلحة للدمار الشامل بالرغم من قول الوكالة الدولية للطاقة الذرية و«الأنموفيك» بغير ذلك، لأن هذه الأسلحة كانت المبرر الذى استخدمته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لتبرير الغزو. وكانت مهمة هذه المجموعة المكونة من أكثر من ألف خبير من أمريكا وبريطانيا وأستراليا تقديم تقارير مباشرة إلى «دونالد رامسفيلد» وزير الدفاع الأمريكى. وكان «ديفيد كاى» قد عاد ثانية، بعد أن كان قد ترك الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى مطلع التسعينيات، ليكون فى هذه المرة رئيسًا لهذه المجموعة. وكان «كاى» قد عمل فى السنوات الفاصلة فى معهد اليورانيوم، أحد المعاهد الدولية المعنية بالطاقة النووية. ولكن عمله هذا لم يستمر لفترة طويلة فى ضوء عدم ارتياح المعهد لتصريحاته المضادة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتى كانت تنال من مصداقية المعهد وقدرته على التعاون مع المعاهد والجهات الدولية الأخرى المعنية بالطاقة النووية. وكان أول ظهور لـ«كاى» قبل الحرب على العراق من خلال وسائل الإعلام الأمريكية، حيث تمت استضافته بوصفه خبيرًا فى ما بتعلق ببرامج أسلحة الدمار الشامل العراقية، وحيث كان يؤكد بثقة أن العراق يخرق التزاماته الدولية بشأن التخلص من هذه الأسلحة. ولكن فى 2004، وبعد أن تعثر الوصول إلى أى دليل، استقال «كاى» من مهمته الجديدة وتصرف بأمانة عندما أخبر مجلس النواب الأمريكى أنه «يبدو أننا كنا جميعًا على خطأ». وقد خلف «كاى» فى هذه المهمة أحد الأعضاء السابقين «للأنسكوم»، وهو «تشارلز دلفر»، الذى استمر فى العمل مع مجموعة المسح حتى مطلع 2005 عندما تم حل هذه المجموعة نهائيًّا دون الوصول إلى أى دليل يخالف ما كانت الوكالة و«الأنموفيك» قد توصلتا إليه من قبل، ولكن بعد أن أنفقت مجموعة المسح فى العراق عامين ونصف العام من العمل بكلفة 3 مليارات من الدولارات. ويمثل هذا المبلغ ما يقارب إجمالى ميزانية إنفاق الوكالة على عمليات التفتيش والتحقق من أحوال المنشآت والمواد النووية فى العالم لمدة 25 عامًا. ومع مرور الزمن تفاقمت المآسى التى أسفرت عنها الحرب، ومن تلك الكوارث تلك التى لحقت بموظفى الأمم المتحدة فى مقر إقامتهم بفندق القنال ببغداد وهو ذاته الفندق الذى كان المفتشون يقيمون فيه قبل ذلك، ففى 14 أغسطس من عام 2003، اقتحم انتحارى الفندق بشاحنة مفخخة مما أودى بحياة أكثر من 20 شخصًا، بمن فيهم «سيرجيو فييرا ديميلو» الذى كان يشغل منصب مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والذى كان يتمتع بقدرات دبلوماسية رفيعة وشخصية كاريزمية وقدرة على الإنجاز مما جعل الكثيرين ينظرون إليه على أنه الخليفة المحتمل لـ«كوفى أنان» كأمين عام للأمم المتحدة. ولقد تألمت جدًّا لهذا الحادث الذى كنت أعرف الكثيرين ممن راحوا ضحية له بما فى ذلك «ديميلو» نفسه، ولكننى أيضًا تألمت للأذى الذى لحق بصورة الأمم المتحدة والتى طالما ارتبطت بالحياد، ذلك الحياد الذى جعل موظفى الأمم المتحدة عادة فى مأمن من التعرض للأذى، ولكن تلك الصورة يبدو أنها قد ذهبت عن الأمم المتحدة فى العراق ما بعد الحرب، حيث كان يُنظر إليها على أنها جزء من قوة للاحتلال أو رهينة لإرادة دول الاحتلال فى العراق. ولم تكن الحادثة وحيدة، ولكن تلتها حادثة أخرى كانت لها أيضًا ضحايا من العراقيين ومن الموظفين الدوليين، وهو ما حدا بالأمم المتحدة وبمنظمات دولية لسحب موظفيها من العراق. وحذت حذوها منظمات أخرى معنية بالمساعدات الإنسانية. وفى ذلك الوقت أكدت كثيرًا على ضرورة العمل على استعادة الصور المحايدة للأمم المتحدة ووكالاتها. وفى أواخر أكتوبر 2004، وتقريبًا مع عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ثارت ضجة جديدة عندما خاطبت وزارة العلوم والتكنولوجيا العراقية الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتبلغنا بأن موادَّ كيميائية شديدة التفجير، يمكن استخدامها فى تطوير سلاح نووى، قد تم الاستيلاء عليها من موقع «القعقاعة» الذى كان تحت إشراف الوكالة فى السابق. وعندئذ قررت أن أخبر الولايات المتحدة الأمريكية وبعدها مجلس الأمن، وفى الوقت نفسه كانت الأنباء قد تسربت من العراق وأصبحت محل اهتمام من الإعلام الأمريكى، وهو ما تسبب فى ضجة فى واشنطن تم اتهامى خلالها بأننى أحاول التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة الأمريكية، كما لو أننى من قرر اكتشاف اختفاء هذه المواد فى ذلك التوقيت. وفى ذلك الوقت كتب «ويليام سافيير»، أحد المعلقين الأمريكيين المتشددين، ليشير إلى أن إطلاعى مجلس الأمن على الأمر كان بمثابة محاولة للتأثير على نتائج الانتخابات الأمريكية مثلى فى ذلك مثل المحاولة التى قام بها «بن لادن» من خلال تسجيل صوتى. كنت حينئذ فى نيويورك للمشاركة فى أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتلقيت مكالمة من «باول» الذى قال إنه يحدثنى كصديق وإنه بهذه الصفة ينصحنى بتوخى الحذر فى التعامل الإعلامى مع هذا الأمر بالنظر لحساسية موسم الانتخابات الرئاسية، وكان «سافيير» قد قال إننى أدفع بالتصويت لصالح السيناتور الديمقراطى «جون كيرى» مقابل «جورج دبليو بوش» الذى كان يسعى لإعادة انتخابه. وبالفعل أخبرت «باول» بتطورات الأمر، وبأننى أدرك حساسية هذا التوقيت بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وأننى سعيت لإخبار الولايات المتحدة الأمريكية بالأمر أولًا على أمل أن تتمكن قوات التحالف من استعادة المواد المسروقة، ولكنه بما أن الأمر قد أثير من قِبل العراق وأن السفير البريطانى فى الأمم المتحدة اتصل بمكتب الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى نيويورك ليطّلع على ما جرى وبوصف أن المواد المسروقة من «القعقاعة» تقع ضمن مسؤولية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد وجب إطلاع مجلس الأمن على الأمر. ثم لفت نظر «باول» إلى أن السؤال هنا يتعلق بقرار العراقيين الإفصاح عن هذه المشكلة فى هذا التوقيت، مشيرًا فى الوقت نفسه إلى أن العراق به الكثير من المنشآت والمواد النووية غير المؤمَّنة من جانب قوات التحالف. وفى حديث لاحق مع القائم بالأعمال العراقى فى فيينا أخبرنى بأن قرار إطلاع الوكالة على سرقة المواد المتفجرة من «القعقاعة» تم التداول بشأنه فى العراق، وأن القرار اتخذ بإطلاع الوكالة من قِبل وزير العلوم والتكنولوجيا العراقى الدكتور رشاد عمر بالرغم من أن المستشار السياسى للسفارة الأمريكية فى بغداد أخبر العراقيين بأن ذلك ليس ضروريًّا لأن مسؤولية الوكالة قد انتهت فى العراق. وسيظل التوقيت الذى اختار فيه العراق قرار الإعلان عن هذا الأمر عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية ومدى ارتباط هذا التوقيت بالانتخابات من الأسئلة المثيرة للاهتمام. وأخبرنى «ديفيد سنجر»، أحد كبار المحررين فى «النيويورك تايمز»، بأن «كارل روف» كبير مستشارى «بوش» مقتنع بأننى مَن يقف وراء الإعلان عن اختفاء المواد المتفجرة من «القعقاعة» فى ذلك التوقيت. وكان «روف» قد شعر باستياء أيضًا إزاء محاضرة ألقيتها، بعد أيام من الانتخابات الأمريكية، أمام جامعة ستانفورد الأمريكية. وكان الغرض من هذه الكلمة استخلاص الدروس المستفادة من تداعيات الوضع فى العراق وإبراز أهمية العمل الجماعى من خلال المؤسسات متعددة الأطراف. وأكدت فى هذه المحاضرة أن عمليات التفتيش كانت تحقق نتائج فى العراق، وأنه لا يمكن تبرير الحرب الاستباقية فى ضوء ميثاق الأمم المتحدة خاصة أن انقسام المجتمع الدولى حول قضايا الأمن والسلم لا يخدم أحدًا على الإطلاق. كما أشرت إلى أن دول التحالف قد خسرت الكثير من المصداقية بسبب تلك الحرب التى شُنت دون تفويض من مجلس الأمن، بل إن الأمم المتحدة قد فقدت جانبًا من مصداقيتها باعتبارها الجهة التى تمثل الشرعية الدولية فى العمل فى العراق، وأنه أصبح ينظر إليها، ولا سيما بين العراقيين، باعتبارها تابعة لقوات التحالف وليس كهيئة مستقلة ومحايدة، وإن كان الخاسر الأكبر فى نظرى يبقى هو الشعب العراقى الذى عانى لسنوات طويلة من ديكتاتورية قاسية وعقوبات طاحنة، والذى ما زال عليه أن يعانى جراء الحرب التى جلبت الكثير من المآسى والتى أطلقت العنان للعنف ولاضطرابات أهلية. ولم يكن فى ما قلته ما جاوز الحقيقة أو ما يخالف ما كان يتردد فى الدوائر الدبلوماسية ولكنه مثّل مع ذلك طرحًا علنيًّا غير مسبوق من مسؤول دولى حول سلامة موقف الحكومة الأمريكية إزاء الحرب على العراق، وهو ما أبرزته صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل» فى اليوم التالى للمحاضرة عندما عنونت تغطيتها للمحاضرة بالقول بأن «مفتش الأمم المتحدة على الأسلحة يوجه ضربة لإدارة بوش». |
#7
|
||||
|
||||
![]() سنوات الخداع - الحلقة التاسعة رغم أن التقديرات لعدد الوفيات من العراقيين جراء تلك الحرب أشارت إلى أن ما يقرب من 800 ألف عراقى قد قضوا فى الأعوام الثلاثة الأولى للغزو مباشرة، فإن هؤلاء لم يحظوا إلا بقليل من الاهتمام من الإعلام الغربى، واستمروا غير معروفة أسمائهم أو وجوههم، ناهيك عن الملايين ممن تعرضوا للتشويه وعاهات دائمة ومن فقدوا منازلهم وأسباب استقرار حياتهم. ويمكن القول إن الأمر نفسه ينطبق على الحال فى أفغانستان، وإن كان بدرجة أقل. فى الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بصفة عامة كان لديهم حصر دقيق بعدد جنودهم الذين يلقون حتفهم فى العراق.![]() وكيف لا يمكن لقادة الدول الغربية أن يفهموا الشعور بالغضب والظلم والمهانة والمرارة الذى سببته هذه الحرب، إلى جانب الجراح الثقافية التى نجمت عنها والتى يُرجّح أن تظل قائمة لجيل كامل على الأقل. فى يناير 2005 التقيت موفق الربيعى على هامش أعمال منتدى دافوس، وكان الربيعى مستشارا للأمن القومى فى العراق، ورغم أنه كان يعمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية فإنه أبلغنى أن الطريقة التى تدير بها أمريكا الأمور فى العراق هى طريقة «إجرامية». ومن ذلك أخبرنى الربيعى أنه عندما دخلت القوات الأمريكية الفلوجة وقامت بقتل المئات من العراقيين هناك، اتصل بالجنرال «جورج كيسى» قائد القوات العسكرية الأمريكية فى العراق ليخبره أن هذه الطريقة لا تتسم بأى قدر من الإنسانية، فما كان من الأخير إلا أن أجاب عليه بكل برود: «أنا من المارينز، وهذه هى الطريقة التى يتصرف بها المارينز». ولقد رأى كثيرون فى الطريقة التى تتصرف بها الولايات المتحدة فى العراق، أو على نطاق أوسع فى ما سمته الحرب على الإرهاب، إرهاصات لصِدام بين الحضارات وتبريرا ممتازا يستعمله المتطرفون لتجنيد أتباع لهم. والأمثلة الصارخة على ذلك تبدو فى عمليات ترحيل المسجونين بواسطة الـ«CIA» ليتم تعذيبهم، والتى يطلق عليها «Rendition». وفى عمليات الاعتقال المهينة التى قامت بها فى سجون مثل جوانتانامو وأبو غريب، وكانت مشاهد الذل والإهانة اليومية التى تتناقلها قنوات التليفزيون عما يجرى فى العراق وفى أفغانستان، سببا فى تنامى الشعور بالمهانة عربيا وإسلاميا والقناعة بأن سياسات الولايات المتحدة تقوم على الاحتقار لحقوق الإنسان، والتفرقة الثقافية الصارخة، وتجاهل القواعد الدولية المعمول بها فى الحروب (مثل حماية المدنيين واستخدام القوة بغير تمييز). فى الوقت نفسه، فإن ما كانت تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية فى العراق وأفغانستان نال من قيم الديمقراطية والحرية الأمريكية، وهى القيم التى تعرفت عليها بنفسى ولمستها وقدرتها خلال سنوات دراستى فى نيويورك، وبالتالى نالت من تقدير الشعوب العربية والإسلامية للدعوة الأمريكية لنشر الديمقراطية ونالت من مصداقية مواقف الولايات المتحدة الأمريكية فى احترام الكرامة الإنسانية. لقد روجت الولايات المتحدة وحلفاؤها للعنف وللفرقة الثقافية التى أعادت العالم إلى مراحل مبكرة من التاريخ الإنسانى. لكننى بوصفى مديرا عامّا للوكالة الدولية للطاقة الذرية كنت أشعر بالقلق الشديد من تشويه صورة المنظمات الدولية بما فى ذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتبعية. كنت أخشى أن ينظر إلى هذه المنظمات على أنها أصبحت أداة طيعة فى يد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، لكن أكثر ما كان يصعب علىّ قبوله هو تيقنى من أن الولايات المتحدة وحلفاءها القريبين لم يكن فى نيتهم أبدا أن يأخذوا نتائج التفتيش بجدية إلا إذا كان من شأنها أن تدعم الدعوة إلى تغيير النظام بالقوة المسلحة. ومنذ مطلع التسعينيات كنت أدرك أن نظام حظر انتشار الأسلحة النووية قد دخل مرحلة جديدة تقوم على رغبة بعض الدول فى تطوير برامج تسلح نووى سرية لتحقيق مكتسبات سياسية وأمنية، وإمكان استخدام أساليب الخداع فى تحقيق ذلك، وما تعلمته من الحرب على العراق أن هذا الخداع المتعمد لم يكن بالضرورة مقصورا على دول صغيرة تحكم بصورة ديكتاتورية. وفى ظل هذه المتغيرات الجديدة فإن حيادية الوكالة الدولية للطاقة الذرية وقدرتها على التزام المهنية والاستقلالية والتحقق من المعلومات وتوثيقها لأقصى درجة ممكنة أصبحت أكثر أهمية من أى وقت مضى. تطرح علينا الحرب على العراق عددا من الأسئلة الصعبة، فإذا كان المجتمع الدولى يريد أن يعيش فى ظل حكم القانون فلا بد له من تحديد ما ينبغى عليه القيام به إذا ما قام البعض بخرق القانون الدولى بصورة تتسبب فى خسائر كبيرة فى الأرواح بين المدنيين وحول مَن ينبغى أن يتحمل مسؤولية شن حروب بالمخالفة لميثاق الأمم المتحدة خاصة عندما يثبت أن هذه الحرب شُنت على أساس معلومات خاطئة وانتقائية، بل وعلى أساس من تضخيم لهذه المعلومات غير الصحيحة. وحسب ميثاق الأمم المتحدة فلا يحق لأى دولة أن تستخدم القوة ضد دولة أخرى إلا فى حال الدفاع عن النفس إذا ما تعرضت للهجوم، كما زعم البعض أنه يمكن القيام بالشىء نفسه وقائيا فى حال ما كان هناك خطر داهم محدق على دولة ما، خاصة فى عصر الأسلحة النووية. أما الرغبة فى تغيير الأنظمة فلا يمكن أن يعد سببا مشروعا لشن حرب من دولة ضد أخرى. وفى كل الأحوال فإنه عندما تُشَن الحروب فإن اتفاقية جنيف الرابعة واضحة فى تأكيدها على ضرورة حماية المدنيين، كما أن القانون الدولى الإنسانى يؤكد عدم جواز الاستخدام العشوائى للقوة. وفى مقال نشره فى مجلة «نيوزويك» تحت عنوان «إشكالية الانشقاق» ثم قام بتطويره بعد ذلك فى كتاب تحت عنوان «حرب ضرورة وحرب اختيار»، يقول «ريتشارد هاس» إنه تناقش مع «رايس» فى يولية 2002 فى مسألة الاستعدادات الأمريكية للحرب على العراق، وإنه فى ذلك الحين قالت له «رايس» إنه لا داعى للنقاش مطولا لأن الرئيس «بوش» قد عقد العزم فى ما يخص العراق، وكان واضحا من إجابتها أنه قرر شن الحرب. ولم يكن «هاس» الوحيد الذى أدلى بشهادة كتلك، فقد قام بذلك العديد من المصادر القريبة من دائرة صنع القرار بمن فيهم سفير بريطانيا لدى الولايات المتحدة الأمريكية «كريستوفر ماير» الذى قال إن قرار الحرب اتخذه «بوش» و«بلير» فى قمة جمعتهما فى كامب ديفيد فى عام 2002. كما أشارت تقارير أخرى إلى أن المحافظين الجدد كانوا ينادون بحسم بعد هجمات الحادى عشر من سبتمبر بإنزال العقاب على دولة عربية ومسلمة، وأن كثيرين اقترحوا أن تكون العراق الهدف لذلك وطبقا لتلك التقارير فإن حرب العراق كانت حربا مبنية على إيديولوجية خيالية تهدف إلى تحويل العراق إلى واحة للديمقراطية كنموذج يحتذى ويُغيّر من شكل الخريطة الجيو سياسية فى الشرق الأوسط. ولم يُخفِ «بلير» و«بوش» أن تغيير النظام فى العراق كان من أهدافهما الرئيسية، بغض النظر عما ساقاه من مبررات لشن الحرب على العراق. وهناك الكثير من الشهادات التى تشير إلى تعاون بينهما فى التجهيز لذلك من خلال تضخيم ادعاءات حول برامج لأسلحة الدمار الشامل لم يكن لها وجود فى الواقع. وكان من اللافت أنه بعد الحرب وفى شهر سبتمبر 2003 اضطر نائب الرئيس الأمريكى (تشينى) إلى الاعتراف بأنه أساء الحديث قبل الحرب، وبأن أمريكا لم يكن لديها أبدا دليل على امتلاك صدام حسين لأسلحة نووية. لقد أدلى «بوش» و«بلير» بتصريحات لم يكن لها أساس من الصحة بما فى ذلك المعلومات المضللة حول استيراد العراق لشحنات من اليورانيوم عالى التخصيب من النيجر، وحديث «بلير» على أن العراق بحوزته أسلحة كيميائية يمكن تفعيلها للهجوم فى خلال 45 دقيقة، وفى ذلك لم يعبأ أى من الاثنين كثيرا بالأرواح التى أُزهقت جراء هذه الحرب والتى كانا يشيران إليها بأنها عمليات قتل غير مقصود مما يقع فى أثناء العمليات العسكرية. ويبقى السؤال حول ما يجب فعله، هل يجب على الأمم المتحدة أن تطلب الرأى القانونى من محكمة العدل الدولية حول مدى قانونية الحرب على العراق، وإذا ما جاءت الفتوى بأن الحرب غير قانونية، وكذلك إذا ما أخذ فى الاعتبار مئات الآلاف الذين أزهقت أرواحهم فى تلك الحرب، فى هذه الحالة ألا يجب على المحكمة الجنائية الدولية أن تحقق فى ما إذا كان ما حدث يمثل جريمة حرب وأن المتسبب فيها يجب توقيفه ومحاكمته؟ وهل يمكن للعراق أن تطالب بالتعويض عن الأضرار التى لحقت بها بالمخالفة للقانون الدولى ومن جراء حرب شُنت على أساس معلومات غير صحيحة؟ إننا إذا ما أردنا أن نعيش فى عالم يحكمه القانون فلا يمكن أن نقصر المقاضاة على جرائم الحرب على الخاسرين أمثال «سلوبودان ميلوسوفيتش» أو عمر البشير اللذَيْن عاشا فى مناطق تعرضت للقمع لفترات طويلة، لأننا إذا ما أردنا أن تكون لقواعد القانون شرعية فيجب أن تطبق بالمساواة على الجميع، وإلا فإننا كمجتمع دولى سنكون مدانين بتطبيق معايير مزدوجة. ويبقى سؤال أخير: هل لدينا كمجتمع دولى القدرة والشجاعة على اتخاذ التدابير اللازمة التى تحول أن لا تتكرر مأساة حرب العراق مرة أخرى أبدا؟ الفصل الرابع كان عام 2002 يقترب من نهايته، وبعد أقل من شهر من عودة مفتشى الأمم المتحدة إلى العراق، وجد العالَم نفسه مرة أخرى فى مواجهة الملف النووى لكوريا الشمالية.كوريا الشمالية: 2003 وما بعدها عضو جديد فى النادى النووى ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا تبقى كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية فى مواجهات لا تنتهى. أحيانا تقترب هذه المواجهة من حافة الهاوية، وأحيانا أخرى تبتعد عنها ليعود الصراع عند الحافة مرة ثانية.. وهكذا. وملف التفاوض حول البرنامج النووى الكورى يتأرجح بين الحركة والسكون بناء على مواقف تتخذها كوريا الشمالية أو الولايات المتحدة، بينما العالم يتابع دون أن يستطيع أن يؤثر كثيرا أو قليلا على تفاعلات هذه القضية النووية. كانت الشعلة النووية قد انتقلت منذ فترة طويلة إلى «كيم جونج إيل»، ابن «كيم إيل سونج»، دون تغيير يُذكر. وكان الاتفاق الإطارى مع الولايات المتحدة يحدد خطوات معينة كمحاولة للتوصل إلى حل للتوترات القائمة، منها أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم مفاعلَيْن نوويَّيْن يعملان بالماء الخفيف مقابل تجميد كوريا الشمالية لعملياتها النووية المعروفة. غير أن شعورا بالإحباط كان يسود فى كوريا الشمالية بسبب تأخر الولايات المتحدة فى تسليم هذين المفاعلين. وكان الأمريكيون يشعرون كذلك بالإحباط لأن النظام لم يَنْهَر ولا هم عرفوا أكثر مما كانوا يعرفون عن الأنشطة النووية السابقة لكوريا الشمالية. وبين هذا وذاك حاولت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قدر استطاعة مفتشيها الموجودين على الأرض فى «يونج بيون» التأكد من تجميد نشاط المنشآت النووية لكوريا الشمالية المحددة فى الاتفاق الإطارى، لكن دون أن يكون لدى الوكالة ومفتشيها القدرة على التحقق من أى أنشطة نووية أخرى قد تكون موجودة فى أماكن أخرى فى كوريا الشمالية. وفى وقت من الأوقات لاحت فى الأفق احتمالات لتحسن العلاقة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية، حيث استَقبلت وزيرة الخارجية الأمريكية «مادلين أولبرايت» بحفاوة، قرب نهاية ولايتها، مبعوثا عن الزعيم الكورى الذى كان بدوره قد تقدم بالدعوة للرئيس الأمريكى لزيارة بلاده، بل إن «كيم جونج إيل» نفسه استقبل «أولبرايت» بحرارة بالغة خلال زيارتها لكوريا الشمالية. وبعد ذلك أبدى وزير الخارجية الجديد «كولين باول» نيته فى استمرار الحوار مع كوريا الشمالية، وأعلن عن ذلك بقوله إن إدارة الرئيس «جورج بوش» (الابن) «تنوى الاستمرار فى الحوار الذى بدأته إدارة الرئيس كلينتون مع بيونج يانج». غير أن الرئيس «بوش» (الابن) كانت له رؤية أخرى، فأعلن لدى استقباله زعيم كوريا الجنوبية «كيم داى جونج» فى أعقاب حصول الأخير على جائزة نوبل للسلام لاتباعه سياسة الشمس المشرقة للحوار والتقارب مع كوريا الشمالية أن واشنطن غير راغبة فى الحوار مع النظام الكورى الشمالى. وبعد أشهر قليلة كان «بوش» (الابن) قد وضع كوريا الشمالية مع العراق وإيران فى ما وصفه بـ«محور الشر»، بل إنه وصف زعيم كوريا الشمالية بالطفل المدلل وبأنه قزم. وبعد أشهر من ذلك الحديث، ظهرت علامات، ولو محدودة، لحدوث تحسن ما مع البدء فى بناء أحد المفاعلَيْن اللذَيْن كانت واشنطن وعدت بتقديمهما لـ«بيونج يانج» لإنشاء برنامج نووى سلمى، رغم تأخرها فى ذلك عدة سنوات. وفى أعقاب تلك الخطوة استقبلت «بيونج يانج» رئيس وزراء اليابان «يونيشيرو كيوزومى» فى ما وصف وقتها بأنه اختراق دبلوماسى. وفى خلال تلك الزيارة أعلن الزعيمان الكورى واليابانى عن اعتزام بلديهما تطبيع العلاقات فى ما بينهما. ولكن حدث تحول مفاجئ جراء معلومات أدلى بها مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون شرق آسيا «جيم كيلى» فى تقرير أعده لواشنطن بناء على لقاءات أجراها مع كبار المسؤولين فى كوريا الشمالية. وحتى يومنا هذا لم يتكشف الكثير مما جاء فى هذه اللقاءات، ولكن يبدو أن «كيلى» قد وجه خلالها اتهاما لكوريا الشمالية بإدارة برنامج سرى لتخصيب اليورانيوم. وحسب ما نقله «كيلى» إلى واشنطن فإن ما أثاره حول البرنامج السرى الكورى لتخصيب اليورانيوم قد قوبل بإقرار من الجانب الكورى، غير أن ذلك تم دون أن تظهر تفاصيل فى ذلك الوقت حول طبيعة هذا البرنامج أو مداه. وطالبت الولايات المتحدة الأمريكية بالتفتيش على البرنامج المذكور، وهو الأمر الذى تسرب للصحافة مصحوبا باتهامات لكوريا الشمالية بخرق الاتفاق الإطارى القائم بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية لإيقاف برنامجها النووى مقابل حصولها على مفاعلَيْن نوويين للأغراض السلمية. وبدلا من أن تسعى للحصول على المزيد من المعلومات حول برنامج التخصيب السرى ومعالجتها فى نطاق الاتفاق الإطارى، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية تأثيرها على «كيدو» وهى منظمة كان قد تم إنشاؤها من قِبل واشنطن وسيول وطوكيو لتنفيذ الاتفاق الإطارى لوقف عمليات شحن الوقود النفطى الثقيل إلى كوريا الشمالية. وبالفعل تم وقف مفاجئ لهذه الشحنات التى كانت بيونج يانج تعتمد عليها كثيرا فى توليد الطاقة. وجاء الرد عنيفا من كوريا الشمالية التى أعلنت انتهاء العمل بالاتفاق الإطارى مع الولايات المتحدة الأمريكية، لوقفها شحنات الوقود. كما أعلنت بيونج يانج اعتزامها إعادة العمل بمفاعل يونج بيون، بل إنها هددت بطرد مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية واستئناف نشاط نووى متقدم وصولا إلى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ولم يكن الأمر مجرد تهديد، بل شرعت بالفعل كوريا الشمالية فى مطالبة مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية برفع الأختام وأجهزة الاستطلاع عن منشآت يونج بيون. وقد أجرينا اتصالات عديدة مع المسؤولين فى كوريا الشمالية لمحاولة إقناعهم بمراجعة موقفهم. كان ذلك فى عطلة أعياد الميلاد، وكنت أتابع الأمر من فندق كنت أقضى فيه عطلة نهاية العام مع أفراد أسرتى فى أحد منتجعات ****انكا. وأتذكر أننى أدليت بحديث لقناة «سى إن إن» الإخبارية الأمريكية حول هذا الشأن من غرفتى بالفندق، معتمدا على ترتيبات قام بها ابنى مصطفى. فى الوقت نفسه كنت على اتصال دائم بأعضاء مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى فيينا. وقد حاولت مع زملائى فى فيينا إبداء كل ما يمكن من حجج لإثناء بيونج يانج عن القيام بأى تصرف متسرع. فى السادس والعشرين من ديسمبر أدليت ببيان أدنت فيه الخطوات التى اتبعتها كوريا الشمالية، معتبرا هذه الخطوات مدعاة للقلق من انتشار التسلح النووى، بل إننى ذهبت إلى أبعد من ذلك واتهمت كوريا الشمالية باتباع سياسة حافة الهاوية فى ما يتعلق بالانتشار النووى. لكن كل ذلك لم يؤثر فى قرار كوريا الشمالية التى أصر المدير العام لإدارتها للطاقة النووية على أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بسحب مفتشيها فورا، وهو ما اضطرنا للامتثال له. وفى اجتماع عاجل لمجلس المحافظين تمت إدانة قرارات ومواقف كوريا الشمالية، ومطالبتها بإعادة العمل بالتدابير المقررة من قِبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبعد هذا الاجتماع بأربعة أيام أعلنت كوريا الشمالية انسحابها من معاهدة حظر انتشار السلاح النووى، وقام فنيون كوريون بإيقاف عمل كل أجهزة المراقبة التى كانت الوكالة قد قامت بوضعها ثم تبع ذلك إصلاحات أجراها الفنيون من قِبل كوريا الشمالية لإعادة تشغيل المفاعل، حيث بدؤوا بنقل قضبان الوقود إلى المفاعل، واتخذوا عدة خطوات للبدء فى إعادة معالجة الوقود المستنفد. وقمت بمطالبة بيونج يانج بصورة علنية بالعودة عن هذا القرار، معربا عن اعتقادى بأن الخطوات التى تتخذها لا تسهم فى تحقيق السلام والاستقرار فى شبه الجزيرة الكورية. وعُقدت بعد ذلك لقاءات على المستوى الوزارى بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية للبحث عن مخرج دبلوماسى من هذه الأزمة. على أنه كان من الواضح أن الضرر قد وقع فعلا، على الأقل فى المدى القصير. وكان الفريق المتشدد من المحافظين الجدد فى واشنطن يشعر بالارتياح لما حدث لأنهم كانوا يرون أن مجرد الحوار مع النظام الحاكم فى كوريا الشمالية هو أمر لا يمكن القبول به، بل إنهم كانوا يرون فى الاتفاق الإطارى الخاص بوقف النشاط النووى لكوريا الشمالية مقابل حصول بيونج يانج على مفاعلَيْن للأغراض السلمية هو بمثابة مكافأة لكوريا الشمالية عما قامت به من خرق لتعهداتها المقررة فى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ومع أنه يمكن القول بالفعل إن هذا الاتفاق كان يتضمن الكثير من النقائص، إلا أن البديل عنه كان أسوأ بكثير من الاتفاق نفسه. وبطبيعة الأمور قام مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإحالة الأمر إلى مجلس الأمن، ولكن المجلس لم يتخذ أى إجراء، حيث كان المجلس مشغولا حينئذ، كبقية العالم، بالكارثة التى كانت فصولها تتداعى فى العراق. لكن السبب الحقيقى فى ذلك كان موقف الصين، التى لها حق الفيتو والتى كانت تصر على أن حل ملف كوريا الشمالية وغيره من الملفات المماثلة يتطلب الحوار والتفاوض وليس المواجهة. وفى إبريل من عام 2003 استضافت الصين مباحثات مباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية، فى محاولة للجوء إلى الدبلوماسية وراء الأبواب المغلقة، لكن هذه المباحثات لم تُحرز سوى تقدم محدود، أعقبها إبداء المطالب والاتهامات العلنية ورفض العروض. وبعد تلك المباحثات بفترة قصيرة أعلنت كوريا الشمالية تخليها عن آخر تعهداتها فى ما يخص منع انتشار الأسلحة النووية، وهو اتفاق بينها وبين جارتها الجنوبية لإبقاء شبه الجزيرة الكورية خالية من الأسلحة النووية وهو الاتفاق الذى كان قد تم توقيعه بين الكوريتين فى 1992. ولكن ذلك لم يَحُل دون استمرار الصين فى جهودها الهادفة للتوصل إلى حل تفاوضى للأزمة فى كوريا الشمالية، فدعت للمفاوضات السداسية، وهى سلسلة ممتدة من المفاوضات تجمع كوريا الشمالية والصين وكلا من الولايات المتحدة واليابان وروسيا وكوريا الجنوبية. ولم يكن للوكالة الدولية للطاقة الذرية أى دور فى المحادثات السداسية. والواقع أن السنوات التى أعقبت خروج كوريا الشمالية من معاهدة حظر الانتشار فى 2003، كانت، من الناحية العملية، معتمة تماما من وجهة نظر الوكالة، حيث لم تصلنا أى معلومات عما يجرى ولم يكن لدينا أى وجود فى كوريا الشمالية آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 24-09-2012 الساعة 02:12 PM |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|