|
#1
|
|||
|
|||
![]()
في مثل هذه الأزمات الهائلة، يتخلى الكثيرون عن المسئولية، سواء كان جهادًا أو غيره من الأعمال، فماذا نفعل في مثل هذه المواقف؟الرسول
![]() ![]() كان أهم شيء فعله ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() يا تُرى هل يوجد أحد مثل رسول الله ![]() مستحيل! مهما قرأت في التاريخ والسير أو المعارك، من المستحيل أن تجد مثل ذلك الموقف أبدًا؛ إذا فكر القائد في النجاة بنفسه، فلا شك أن الجنود سيحبطون إحباطًا يمنعهم من أية مقاومة، أما إذا ثبت القائد وتقدم، وجاهد وضحَّى بنفسه، فهذا من أعظم الدروس التربوية لجيشه ولأمته، وإلا فلماذا تُعطى الراية في المعارك لأفضل الناس وأقواهم وأشجعهم؟ لأن الناس تبعٌ لراياتهم وقائدهم، فإذا هرب الشجاع الذي يحمل الراية، فلا شك أن غيره سيهرب وسينهزم؛ فلذلك نجد أن أشد القتال دائمًا يدور حول الراية، ليس لمجرد *** رجل شجاع، ولكن لأن سقوط الراية سيؤثر معنويًّا في كل الجيش. والرسول ![]() ![]() ![]() وهذه رسالة إلى كل المسئولين عن عمل، والذين يديرون أعمالاً جماعية للأمة الإسلامية، ثبات القائد يعني ثبات الجنود، وتضحية الرئيس تعني تضحية المرءوسين. هذه هي الخطوة التي فعلها الرسول ![]() الأمر الثاني وهو في غاية الأهمية، فقد ركز الاعتماد على الموثوق فيهم من الجنود، فالقائد كفرد لا يستطيع أن يفعل شيئًا بدون الجنود، حتى وإن ثبت فلا بد أن يكون معه جنود. الزعيم لا يأتي بالنصر إلا إذا كان معه أمة، لكن يتفاوت الناس في إمكانياتهم وأخلاقهم، وفي تربيتهم، وفي تاريخهم، ومن أجل ذلك يتفاوت الناس في درجة الاعتماد عليهم؛ فهناك من يعتمد عليه في أمور، وهناك من يعتمد عليه في أمور أخرى، وهناك من لا يعتمد عليه بالكُلِّيَّة في أمر من الأمور، والقائد المحنك والرئيس الذكي هو الذي يدرك بوضوح إمكانيات من حوله، يعرف الأعمال البسيطة التي يستطيع الجميع القيام بها، ويعرف الأعمال الصعبة التي لا يقوم بها إلا بعض الرجال، كما يعرف الأعمال شديدة الصعوبة التي لا يفلح في أدائها إلا أقل القليل من الرجال، وكلما ازدادت حكمة القائد أدرك المستوى الدقيق لكل من حوله، وبالتالي لا يكلف أحدًا من جنوده فوق طاقته، وبناءً على ذلك يحقق نسبة نجاح كبيرة. وتعالوا بنا لنرى كيف طبّق الرسول ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ولكن من هؤلاء الذين وثق فيهم الرسول ![]() إنهم أصحاب الشجرة، أصحاب بيعة الرضوان الذين شهدوا صلح الحديبية، والذين فتحوا خيبر بعد ذلك، وهم الذين قال الله ![]() ويجب أن نعلم أن هؤلاء بايعوا قبل ذلك على عدم الفرار، ولا شك أنهم لو تذكروا هذه البيعة، بيعة الرضوان، لعادوا فورًا إلى القتال؛ لأنهم يقينًا لم يبايعوا هذه البيعة نفاقًا؛ لأن الله I ذكر في كتابه أنه علم ما في قلوبهم، وهؤلاء نزلت عليهم السكينة قبل ذلك، وهم على أبواب مكة في سنة 6 هجرية كما نعلم، وليس معهم إلا سلاح المسافر، نزول السكينة عليهم في هذا اللقاء في حُنَيْن سيحدث إن شاء الله بشرط أن يعودوا، وهؤلاء وإن كانوا ألفًا وأربعمائة فقط من اثني عشر ألفًا إلا أن الواحد منهم بمائة، وإن شئت فقل: بألف أو بأكثر من ألف. وهؤلاء إذا ثبتوا فكل الناس بعد ذلك ستثبت بثباتهم؛ فلذلك وجّه الرسول ![]() ![]() ثم إن الرسول ![]() ثم إنه خص أكثر وأكثر، فنادى على الخزرج: يا بني الخزرج، يا بني الخزرج. ثم إنه خص أكثر وأكثر فنادى على بني حارثة من الخزرج، وهم من خير دور الأنصار كما قال ![]() فماذا كان ردُّ فعل أصحاب الشجرة، والأنصار، والخزرج، وبني حارثة؟ وأترك لكم العباس يصوِّر ردَّ فعل هؤلاء ![]() أي عادوا بسرعة كالبقر الذي يدافع عن أولاده الصغار، وقال الأنصار في لحظة واحدة وبصورة جماعية وبحماسة لافتة للنظر: يا لبيك، يا لبيك[3]. سبحان الله! جاءوا من كل مكان في أرض الموقعة، وعلى الرغم من كل الأزمة التي يعيشها المسلمون إلا أنهم أتوا من كل مكان، حتى إنهم لا يرون الرسول ![]() ![]() ![]() ![]() أي حميت الحرب واشتدت الحرب، وبدأ المسلمون في قتال دامٍ فعلاً، فالذين اجتمعوا حول الرسول ![]() أبو بكر الصديق. وعمر بن الخطاب. وعلي بن أبي طالب. والعباس. وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. والفضل بن العباس. وأيمن بن عبيد، وهو ابن أم أيمن. وأسامة بن زيد، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. فهؤلاء قد ثبتوا من البداية، ثم جاء الأنصار كما ذكرنا حتى كملوا مائة، ثم بدأ المسلمون يتوافدون من كل مكان، وأمسك الرسول ![]() فدخل التراب في عيون وأنوف جميع الكفار، وكانت نقطة تحوُّل فارقة في موقعة حُنَيْن، وكانت البداية ثبات القائد الأعلى ![]() ![]() كان أول شيء فعله ![]() ![]() إذن فليتذكر الجميع الآن أن النصر من عند الله ![]() ![]() ثم رفع ![]() وما النصر إلا من عند الله سبحان الله في هذه اللحظات العظيمة عولج المرض الخطير الذي أصيب به المسلمون يوم حُنَيْن، فقد أدركوا بما لا يدع مجالاً للشك أن الناصر الحقيقي هو الله ![]() ![]() وانتقلت هذه الآية في لحظات يسيرة وسريعة من المفاهيم النظرية إلى الوقائع العملية، ولما تغير واقع المسلمين بهذه الصورة أذن الله ![]() أنزل ربنا I على جنود الرحمن من المؤمنين السكينة، فقاتلوا بثبات وقوة، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 26]. ونزع الخوف من قلوبهم فلم يروا خمسة وعشرين ألف مقاتل أو أكثر، فثبتوا في أرض القتال، وأنزل الله ![]() ![]() وفي لحظات يفر جيش المشركين من جيش المسلمين، كيف حدث هذا؟! كيف فرَّ أكثر من خمسة وعشرين ألف مقاتل في عُدَّة حسنة، وفي مواقع إستراتيجية جيدة، وفي حالة معنوية عالية من اثني عشر ألفًا تفرقوا هنا وهناك؟! كيف؟! لا تسألوا عن الأسباب المادية، فقط قل: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [الأنفال: 10]. لقد فر المشركون يوم حُنَيْن في لحظات معدودة، وانطلقوا يفرون في كل مكان، فالرعب قد ملأ قلوبهم، وتركوا وراءهم أموالهم وأنعامهم، وأكثر نسائهم وأولادهم. سبحان الله! وصف الله ![]() ومن العذاب أن تأخذ قرار الفرار، ومن العذاب أن تهرب، وأنت الأكثر عددًا وعدة، ومن العذاب أن تتنازل عن حصاد السنين من المال والأنعام في لحظة واحدة، ومن العذاب أن تتخلى عن زوجتك وأولادك، ومن العذاب أن تشعر أن كل شيء يطاردك حتى الجماد. تخيلوا هذا الكلام حقيقة! فهذا عمرو بن سفيان الثقفي كان من المشركين الذين فروا في حُنَيْن -وقد أسلم وحسن إسلامه بعد ذلك والحمد لله- يقول: فانهزمنا، فما خُيِّلَ إلينا إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا، فأعجرت[7] حتى دخلت الطائف[8]. أي أسرعت على فرسي من شدة خوفي؛ لأنه يتخيل أن الأرض كلها تطلبه، وهذا هو العذاب بعينه. وعذّب الذين كفروا، وفر الجيش المشرك في ثلاثة اتجاهات؛ فقد فرَّ جزء إلى أوطاس (جانب من جوانب وادي حُنَيْن)، وجزء فر إلى منطقة نخلة، والجزء الثالث والرئيسي فر إلى مدينة الطائف. فقد فر الجميع بهذه الصورة المخزية المشينة، وهرب معهم قائدهم مالك بن عوف الذي دفعهم إلى هذه المهزلة العسكرية، واندفع المسلمون خلفهم هنا وهناك يطاردونهم في كل مكان، فقد توجهت سرية إلى أوطاس، وأخرى إلى نخلة، وتوجه الجيش الرئيسي بقيادة الرسول ![]() ![]() ![]() وبلغ السبي من النساء في هذه الموقعة ستة آلاف من النساء، وهذا رقم هائل! وتجاوز عدد الإبل أربعة وعشرين ألفًا، والأغنام أربعين ألفًا، والفضة كانت تزيد على أربعة آلاف أوقية من الفضة، أي حوالي مائة وخمسين كيلو جرامًا من الفضة. نصر هائل فعلاً، لم يتوقعه، ولم يحلم به أحد، فمعركة حُنَيْن من المعارك العجيبة فعلاً بكل المقاييس. وتخيلوا شهداء المسلمين في هذه الموقعة الضروس خمسة فقط! وكان ***ى المشركين سبعين فردًا. والذي يشاهد الأعداد الهائلة المشتركة في هذه الموقعة: اثني عشر ألفًا يحاربون أكثر من خمسة وعشرين ألفًا، يتخيل أن الضحايا سيكونون بالمئات، بل بالآلاف، ولكن ذلك لم يحدث، فقد انقسمت المعركة ببساطة إلى جزأين لا ثالث لهما، جزء أول فر فيه المسلمون دون قتال تقريبًا، والجزء الثاني فر فيه المشركون دون قتال تقريبًا كذلك. هذه النتائج الهائلة، والغنائم العظيمة جاءت دون قتال يذكر، فرّ وكرّ، ثم كر وفر. وهكذا تغيرت الأحداث في دقائق، وانقلب النصر إلى هزيمة، وتحولت الهزيمة إلى نصر، وكان الفارق هو تغير قلبي لا يراه أحد من البشر، لكن الله ![]() ولا يخفى علينا أن حُنَيْنًا تتكرر كثيرًا في حياتنا، فما أكثر توكُّلنا على الطبيب الماهر المشهور للدرجة التي تمنعنا أحيانًا من رفع الأيدي إلى الله I لطلب الشفاء منه، وهو الشافي! ولا أقصد طبعًا عدم التداوي، فالتداوي أمر نبويّ، ولكن الاعتماد على الطبيب، ونسيان رب الطبيب، هذا لا يُقبل. وكثيرًا ما نثق بمال الأغنياء من البشر، وننسى أن نرفع أيدينا بالدعاء لله الغني الرازق الذي بيده ملكوت السموات والأرض! وكثيرًا ما نوقن في توصية من كبير أو واسطة إلى عظيم، ولا نلجأ إلى الكبير العظيم المتعال I! وكثيرًا ما نطرق كل الأبواب، ولا نطرق باب الرحمن I! وكثيرًا ما نسأل كل البشر، ولا نسأل المنّان الكريم! وكثيرًا ما نطمئن لما في أيدينا، ولا نطمئن إلى ما في يدي الله مالك السموات والأرض وما بينهما! لقد ذكرت لكم مرارًا أن حُنَيْنًا تتكرر في حياتنا كثيرًا، فنفرّ ونفشل، ونهرع ونخاف ونفزع، ولن نثبت وننتصر ونأمن إلا بما فعله الأولون، ولن يكون ذلك أيضًا إلا بأخذ بالأسباب مع الاعتماد الكامل على ربِّ الأسباب I، ولن يكون ذلك إلا بفقهٍ عميق للتاريخ، وقراءة متأنية للسيرة، واتّباع دقيق لمنهج سيد البشر وأعظم الخلق وإمام الرسل محمد ![]() د. راغب السرجاني [1] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء - مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص358. [2] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل دور الأنصار (3578). مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم (2511). [3] المباركفوري: الرحيق المختوم ص358. [4] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين (1775). [5] رواه مسلم (1777)، وأحمد (2762)، وحسنه شعيب الأرناءوط. [6] ابن كثير: السيرة النبوية 3/626. [7] أعجرت: أسرعت. [8] ابن كثير: السيرة النبوية 3/631. [9] رواه أبو داود (2501)، وصححه الألباني.
__________________
![]() |
#2
|
|||
|
|||
![]()
المسلمون يصلون إلى وادي الجعرانة
رجع الرسول ![]() ![]() وهي نعمة من الله ![]() ![]() اختلاف القدماء في تقسيم الرسول لغنائم حنين إن كُتَّاب السير اختلفوا فيما فعله ![]() ![]() ومنهم من قال: إن الرسول ![]() الرأي الذي نميل إليه والحقيقة أننا نميل إلى هذا الرأي الأخير، وهذا الرأي يتفق مع الشرع والعقل والنقل، وعندنا لذلك أكثر من دليل: أولاً: هذه الغنائم ليست ملكًا لرسول الله ![]() ![]() ثانيًا: لو كان هناك تغيير في تقسيم الغنائم لتوقعنا أن يذكر ![]() ثالثًا: ما رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك عن عمرو بن عبس ![]() ![]() وهذا تصريح من الرسول ![]() ![]() ![]() رابعًا: لو راجعنا أرقام الغنائم ومن وُزِّع عليهم، لأدركنا أنه من المستحيل أن يكون الرسول ![]() ![]() ![]() وهذا غير الشياه، أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، وغيرها من السبي ستة آلاف، ولم يرد أنه ![]() خامسًا: هل كان يرضى أفراد القبائل من الأعراب ومن قريش بإعطاء زعمائهم فقط، أم أنهم لا يرضون أبدًا إلا إذا أخذوا شيئًا ولو قليلاً؟ أي لو أعطينا زعيم قبيلة غطفان مائة من الإبل، فهل سيرضى ألفان أو ثلاثة آلاف غطفاني عدم إعطائهم. لا شك أن قلوب الجميع كانت تهفو إلى الغنيمة، فكل هؤلاء الناس كانوا في حاجة إلى تأليف القلوب؛ لذلك نحن نرى أن تسعة وتسعين بالمائة من المسلمين الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية، وبعد فتح خيبر يحتاجون إلى تأليف القلوب، ولن يترفع منهم عن هذه الغنيمة إلا قليل القليل، أمثال خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، والعباس، وهم بعض الأفراد المعدودين، أما الجميع فسيحتاج إلى تأليف. ودليل ذلك أن الرسول ![]() ![]() ![]() ![]() إنه كلام غريب ولا يقبل، وأصحاب الشجرة هم الذين أدوا ما عليهم، والذين دافعوا، وكافحوا كيد المشركين؛ فإعطاء ألف وأربعمائة لا يؤثر مطلقًا في إعطاء عشرة آلاف وستمائة، فليس هناك أي داعٍ من حرمانهم من الغنيمة الشرعية المستحقة، وهي أربعة أخماس الغنائم. استدراك.. والرد عليه وقد يقول قائل: إن هناك من يعكر صفو هذا التحليل، وهو أمران: الأول: رواية البخاري ومسلم عن أنس بن مالك؛ لذلك أعطى الرسول ![]() والأمر الثاني: ما جاء في رواية البخاري ومسلم أن الأنصار قد وَجَدُوا في أنفسهم بعد توزيع الغنائم. أي حزنوا، ولو كانوا قد أخذوا، فماذا يحزنهم؟ وهذان الأمران إن شاء الله سنردُّ عليهما فيما بعد. إن الشرع والمنطق والنقل يقول: إن الرسول ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() كانت غنائم حُنين -كما قلنا قبل ذلك- أربعة وعشرين ألفًا من الإبل، وأربعين ألفًا من الشياه، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، هذا غير ستة آلاف من السبي. إن أربعة أخماس الغنيمة تساوي 19200 من الإبل، و32 ألف شاة، و3200 أوقية من الفضة، و4800 من السبي، وهذه الأربعة الأخماس وزعها الرسول على 12 ألفًا، وكانوا يقيمون الجمل الواحد بعشرة من الشياه. على ذلك لو حسبت الحسبة سوف تجد أن كل واحد من أفراد الجيش سوف يأخذ إما جملين، وإما 20 من الشياه، وبعض الكتب تقول: إن الواحد من 12 ألفًا كان يأخذ أربعة من الجمال، أو أربعين شاة، ولكن عندما نحسبها سوف نجد أن هذا الكلام غير مقبول؛ لأن الواحد كان يأخذ جملين أو عشرين من الشياه، أو أن يكون عدد الغنائم أكثر من ذلك. ولكن الثابت والصحيح أن عدد الغنائم أربعة وعشرين ألفًا من الإبل، وأربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، فوجب أن تكون هذه التقسيمة كما نقول، وهي جملان أو عشرون من الشياه، وبذلك نستطيع أن نوزع الغنائم على 12 ألفًا، وبعد ذلك نقسّم الفضة، كل واحد يأخذ ربع أوقية من الفضة، وكان السبي يقسم بمعرفة الرسول ![]() ![]() ![]() ![]() وقفة مهمة أما بالنسبة للخمس المتبقي فهذا يحتاج إلى وقفة طويلة، هذا المال مِلك للدولة، والرسول كقائد يوجّهه في الوجه الأصلح للدولة؛ قد يشتري به السلاح، وقد يفتدي به الأسرى، وقد تُعطَى منه الهبات لأهل النجدة، والبأس في الحرب، وقد تُعطَى منه الرواتب والأجور، وقد يدخل في مشروعات الدولة المختلفة. المهم أن القائد ينفقه في الوجه الأصلح للدولة، والرسول ![]() ![]() ويعلم الرسول ![]() ![]() ![]() عَلِم الرسول ![]() نَعَمْ، إن الإيمان الذي يكون سببه حب المال إيمانٌ ضعيف، ولكن هذا يكون في البداية فقط، وإذا دخل في محاضن التربية الإسلامية يبدأ الإيمان في الرسوخ تدريجيًّا حتى يصبح الإيمان أغلى عنده من المال، وهذا يحتاج إلى وقت، والرسول ![]() ![]() ولكننا نجد معوِّقًا لهذا الأمر، وهذا المعوق يحتاج إلى دراسة؛ لأن الرسول ![]() وهؤلاء الأنصار والمهاجرون هم الذين اجتهدوا يوم حُنين، وكان الرسول ![]() ![]() ![]() ![]() الحقيقة أن الرسول ![]() لا ننكر أن هناك ضررًا نفسيًّا وماديًّا سيقع على الأنصار والمهاجرين، ولكن الضرر الأكبر هو اضطراب الدولة الإسلامية وعدم استقرارها، فقام الرسول بتطبيق قاعدة دفع أكبر الضررين وجلب أكبر المنفعتين، ورأى الرسول ![]() ![]() وهذا الكلام نجد له تطبيقات كثيرة وعملية سوف نراها بعد ذلك في الفتوح، وفي أحداث الفتنة، وفي مواقف أخرى كثيرة سنراها في أكثر من موقف من مواقف التاريخ. ولا شك أن هذا هو الأفضل والأحكم؛ لأنه في الأساس اختيار نبويّ أقرَّه رب العالمين I، ولم ينزل وحي يعارض هذا القرار. ونحن نعلم أن هناك أناسًا لن تقبل بهذه القسمة، ويظنون أن فيها جورًا، ولكننا نتذكر أن هذا هو فعل النبي ![]() ![]() جاء رجل من الأعراب إلى الرسول ![]() ![]() ![]() فغضب الرسول ![]() ونجد هنا أن الرسول ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ولكن هذه القصة أوضحت بصورة كبيرة بعض أحوال المسلمين الجدد، وأن هذه القصة ما كانت حدثًا عارضًا في يوم حُنين، وإنما تكررت كثيرًا عند تقسيم غنائم حُنين. ولا شك أن هذا كله كان يتراكم في ذهن الرسول ![]() وهناك موقف آخر من رجل أعرابي، وهذا الموقف قد جاء في البخاري ومسلم، وهو يوضِّح طبيعة ونفسيات الأعراب الذين كانوا يشاركون في حُنين، يقول أبو موسى الأشعري ![]() ![]() ![]() ![]() وكان الرسول ![]() ![]() أي سوف أعطيك. فردَّ الأعرابي في غلظةٍ تعبر عن نفسية منحرفة، فقال: قد أكثرت عليَّ مِن أبشر؟ هذا الرد من الأعرابي قد أثر جدًّا في نفسية الرسول ![]() فقالا: قبلنا. ونرى في هذه القصة غلظة الأعراب الذين أسلموا حديثًا، ولم تُربَّ أخلاقهم بعدُ في الإسلام. وشئنا أم أبينا، فإن هذه النوعية من الناس، وهذه الفئة من المسلمين ستظل موجودة إلى يوم القيامة، فإما أن نعترف بالواقع ونتعايش معه، ونتعامل معهم على هذا الأساس، وإما أن نعيش في مثاليات وهميّة ليس لها مكان على أرض الواقع، مع كل ما يحمله هذا النهج الأخير من خطورة على الأمم. ونريد أن نلفت الأنظار إلى نقطة مهمَّة قبل الخوص في تفصيلات ما حدث عند تقسيم الخمس على الزعماء والسادة، وهو أنه لولا ثقة الرسول ![]() ![]() ولنرَ ما فعله الرسول ![]() د. راغب السرجاني [1] البخاري: أبواب المساجد، باب قول النبي ![]() [2] رواه النسائي (4139)، وأبو داود (2694)، وأحمد (6729)، وحسنه الألباني.
__________________
![]() آخر تعديل بواسطة abomokhtar ، 30-01-2013 الساعة 08:18 AM |
#3
|
|||
|
|||
![]()
غنائم حنين والأنصار
تكلمنا عن توزيع غنائم حُنَيْن، وتقسيم أربعة أخماس الغنائم على الجيش بكامله، ثم توزيع الخمس المتبقي على المُؤَلّفة قلوبهم من طلقاء مكة وزعمائها، وكذلك زعماء القبائل العربية المختلفة، وكان توزيعًا سخيًّا، فقد بلغ نصيب البعض مائةً من الإبل، وتجاوز هذا الرقم للبعض الآخر، وكانت العلة في ذلك هو عمل النبي ![]() ![]() ![]() فَهِم كثير من الصحابة هذا الموقف، ولكن هذا الفهم لم يكن من الجميع، بل غضبت مجموعة من الصحابة لهذا الفعل، فقد شعرت هذه المجموعة أنها حرمت ما تستحقه، وكانت هذه المجموعة من الأنصار، وغضب كثير منهم؛ لأن النبي ![]() حقائق تاريخية قبل أن نلقي اللوم على أحدٍ لا بد من مراجعة بعض الحقائق التاريخية المهمة: أولاً: على أكتاف الأنصار قامت الدولة الإسلامية الأولى، وقبل ظهور الأنصار لم يكن للمسلمين وطن يجمعهم بل كانوا مشتتين في الأرض، فالبعض في مكة، والبعض الآخر في الحبشة، ومجموعة في القبائل، جعل الله ![]() ![]() ثانيًا: أخذ الأنصار منذ اللحظة الأولى في دخولهم الإسلام القرار في مواجهة الأحمر والأسود من الناس، فكانوا على علم أن إسلامهم يعني مفارقة العرب قاطبة، ومنه قطع الحبال التي بينهم وبين اليهود، ومواجهة العالم، وقد فعلوا ذلك بمنتهى التجرد. ثالثًا: صغر حجم المال في أعين الأنصار، بل لعله كان منعدمًا، لدرجة أنهم لا يرون لأنفسهم حقًّا في أموالهم الشخصية، ويعطونها للآخرين بطيب نفس قلّ أن يوجد مثله في البشر، وذكرنا مقاسمتهم لأموالهم بينهم وبين المهاجرين ![]() ![]() حتى الفقير من الأنصار كان ينفق في سبيل الله، ويؤثر غيره على نفسه، وهو محتاج، وهذا ما طُبع عليه الأنصار بشهادة رب العالمين لهم. رابعًا: اشترك الأنصار في كل غزوات الرسول ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() خامسًا: كانت حالة الأنصار فقيرة على خلاف ما يتوقع الكثيرون، وذكرنا ذلك في حديثنا عند بداية العهد المدني، والقارئ للسيرة يظن أن الأنصار كانوا أغنياء لكثرة عطاء الأنصار وكرمهم، مع أن حالة المدينة الاقتصادية كانت منخفضة جدًّا، وليس أدل من ذلك مواقف الجوع الكثيرة التي مرت بها المدينة المنورة، ومن أشهرها حصار الأحزاب في أواخر العام الخامس الهجري، وقبل هذه الواقعة بثلاث سنوات، كانت المدينة في حالة فقر شديد، فكان معظم الأنصار فقراء. سادسًا: هذه النقطة من الأهمية بمكان ولا بد من وضعها في أذهاننا كخلفية رئيسية لغضب وحزن الأنصار بعد تقسيم غنائم حُنَيْن، فبعد أن حدثت الغزوة في حُنَيْن وفر معظم الجيش، نادى النبي ![]() فالأنصار هم رجال الأزمات، وفرسان المواقف الصعبة، فقالوا دون تردد: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك يا رسول الله، يا لبيكاه. ثم عادوا ووقفوا حول النبي ![]() ![]() ![]() هذا تاريخ الأنصار منذ إسلامهم وحتى هذه اللحظة، ومكانتهم في الإسلام لا ينكرها أحد، وكان ![]() ![]() ![]() وكرش الرجل أي: خاصته، وعيبة الرجل: موضع سره، ثم قال: "وَلَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ". هذه خلفية لا بد منها قبل التحدث عن موقف الأنصار من غنائم حُنَيْن، وضَعْ نفسك مكان الأنصار، فبعد هذه المواقف التي حدثت منهم، والانتصارات التي حققوها واقعًا وتاريخًا، إذا بثمرات النصر الصعب، والتضحية المتكررة توزع على الآخرين. موقف الأنصار ووجد الأنصار في أنفسهم وَجْدًا عظيمًا إلى أن قال بعضهم: إذا كانت الشدة فنحن نُدْعى، وتُعطى الغنائم غيرنا. وقد ورد ذلك في الصحيحين عن أنس ![]() ![]() وكان موقفًا في غاية الصعوبة ولافتًا للنظر، وقال بعض الأنصار: إن كان من أمر الله صبرنا، وإن كان من أمر الرسول ![]() ففي قولهم الالتزام بالحكم للشرعي، فلا بد من السمع والطاعة إذا صدر الأمر من الله، ولو كان اختيارًا بشريًّا من رسول الله ![]() مثل تقريبي وقبل أن نلوم الأنصار على معاتبتهم لرسول الله ![]() فكأنهم لم يأخذوا شيئًا مقارنة بينهم وبين المؤلفة قلوبهم، أو لم يعط الأنصار شيئًا من الخمس المتبقي من الغنيمة، فظاهر الأمر أن الأنصار لم يأخذوا كالمؤلفة قلوبهم، وكان الموقف في غاية الصعوبة، ونعذر الأنصار فيه تمامًا، بل كان الأنصار في غاية الأدب فيما دار بينهم وبين رسول الله ![]() ![]() موقف سعد بن عبادة وعلى الرغم من كل ما ذكرناه، وعلى الرغم من المثل الذي أوضحنا به الصورة، فهذا الموقف لم يكن من عامة الأنصار، بل كان من بعض شباب الأنصار، وما يدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك ![]() ![]() ![]() وكان سعد بن عبادة ![]() ![]() فقال له النبي ![]() فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي. فأنا أشعر بما يشعرون به، وإن لم أُبْدِ ذلك. ونضع في حسباننا أن الأنصار بشر، وجُبِل البشر على حب المال، فإذا كان هذا المال حلالاً صرفًا، فما المانع من طلبه؟ خاصة إذا كنت سببًا في هذا المال، وهناك أمر آخر في غاية الأهمية، كان الأنصار يخشون أن يتركهم النبي ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() فقد خافوا من تغير الأحداث، وأن النبي ![]() ![]() ![]() ومن الأمور المهمة التي ينبغي ذكرها عظمة سعد بن عبادة والأنصار ![]() علاج الرسول لهذه الأزمة هذه بوادر أزمة خطيرة، فسريان مثل هذا الشعور في نفس هذه الطائفة المهمة من الجيش قد يؤدي إلى كوارث مستقبلية، وقد تعصف هذه الكوارث بالدولة الإسلامية، وما الحل إذا بدأت مجموعة من الجنود بالانسلاخ عن جيش المسلمين؟ وبنظرة إلى منهج النبي ![]() أولاً: عدم التغافل عن النار التي تحت الرماد، وكان الموقف الشرعي والعقلي لرسول الله ![]() ![]() ![]() ولم يتغافل النبي ![]() ثانيًا: أراد النبي ![]() ![]() فقالوا: لا، إلا ابن أخت لنا. فقال ![]() فالشاهد في ذلك أن كل الحاضرين من الأنصار. ثالثًا: مما ساعد على حل المشكلة حرصه ![]() ![]() رابعًا: علل النبي ![]() ![]() ولم يعطهم لأدائهم المتميز، أو كفاءتهم في القتال، أو لأنهم أهله وقبيلته وعشيرته، بل يعلم النبي ![]() ![]() خامسًا: لفت النبي ![]() ![]() ![]() فلا بد من النظرة المتوازنة، حتى لا يشعروا بالغبن أو الظلم، ولم يترك النبي ![]() ![]() ![]() ![]() فهو يعدِّد نعمًا من نعم كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، وهل هذه النعم أثقل أم المائة الناقة التي أخذها هذا أو ذاك؟ وقد بدأ النبي ![]() من المؤكد أن الجميع لم ينسوا هذا الأمر، وكانت الكلمات ثقيلة جدًّا وقعت كالصخر على أسماع الأنصار ![]() بعد هذا العلاج الذي قدمه النبي ![]() ![]() ![]() فقال الأنصار في أدب جم: وبماذا نجيب يا رسول الله؟ ولله ولرسوله المن والفضل، وما أخذناه كان أكثر بكثير مما منع منا. فعالج النبي ![]() ![]() وإن كان أدب الأنصار منعهم من ذكر فضلهم على النبي ![]() ![]() ![]() ثم استخدم رسول الله ![]() ![]() إن كانوا هم قد رجعوا بالنوق والشياه، فقد رجعتكم برسول الله ![]() ![]() ثم بدأ في الدعاء فقال: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ". فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله ![]() ثم كانت الوسيلة الأخيرة وهي التذكير بالآخرة، فقال ![]() قد نعطش في حياتنا لنُروى من الحوض، قد يُؤْثر علينا غيرنا فنقبل طمعًا في ما عند الله، وقد نبيع الدنيا بكاملها لنشتري الآخرة، "ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة". وبعد هذه الكلمات التي لامست أسماع الأنصار، قالوا وبمنتهى الصدق: رضينا بالله ورسوله حظًّا وقسمًا. وخرج المسلمون من الأزمة، ونجح النبي ![]() منهج النبي في علاج هذه الأزمة بمراجعة منهج النبي ![]() 1- حل الأزمة بسرعة وعدم التغافل عن النار تحت الرماد وعدم التسويف. 2- الحيلولة ضد انتشار الأزمة، وحل الأزمة مع أهلها فقط. 3- لقاء أصحاب الأزمة بصورة مباشرة دون وساطة. 4- الصراحة والوضوح وراء الفعل الذي أغضب أصحاب الأزمة، وما هو السبب الحقيقي وراء إحداث الأزمة. 5- النظر بتوازن إلى الموقف، ولفت أنظار أصحاب الأزمة إلى ما حصلوه من إيجابيات. 6- الاعتراف بقيمة أصحاب الأزمة، وفضل أصحاب الأزمة، ورفع معنوياتهم. 7- تهوين حجم الخسارة التي خسرها أصحاب الأزمة إن كانت هينة فعلاً. 8- تحريك عواطف ومشاعر أصحاب الأزمة، إلى جوار إقناع عقولهم. 9- الدعاء المخلص لهم أن يرحمهم الله ![]() 10- التذكير بالآخرة، وأن المرء في الدنيا لا يعدم أن يخسر شيئًا ليكسب الجنة. فتلك عشرة كاملة، وبهذا يتضح لنا أن السيرة النبوية هي منهج عملي للخروج من كل أزمة تواجهنا في حياتنا مهما تفاقمت، وصدق الرسول الكريم ![]() وما كانت هذه الوسائل تجدي في حل الأزمة لولا أن قلوب الأنصار مخلصة، وأن درجة إيمانهم عالية، وأن هدفهم فعلاً الجنة، وأن حياتهم بكاملها كانت في سبيل الله. د. راغب السرجاني
__________________
![]() |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|