|
|
|
#1
|
|||
|
|||
|
المصاعب والفتن جزء لا يتجزّأ من طبيعة الحياة، لا يمكن أن ينفكّ عنها، ولن تخلو الحياة أبداً من الشدائد والخطوب، وما الموت والحياة وما بهما من المظاهر والأحداث إلا جزءٌ من الاختبار الأعظم للوجود، قال تعالى: { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (تبارك:2).
و لم تزل البلايا والفتن تتنزّل على الناس على قدر اختلاف دينهم: (يبتلى العبد على قدر دينه، ذاك، فإن كان صلب الدين ابتُلي على قدر ذاك، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على قدر ذاك) رواه أحمد، فالبلاء ثوبٌ ارتدته المجتمعات والأمم جميعها، وهو اطّراد يتماشى مع حقيقة الاختبار الذي قدّره الله تعالى على العباد ليرى المُصلح من المُفسد. على أن هناك حالة أخرى مغايرة لتلك الحالة السُننيّة، حالةٌ تزداد فيها صور البلاء وتتنوّع، وتنهمر على الناس كالمطر، فيكون وقعها شديداً على النفوس، حتى يصل الأمر بالواحد إذا خُيّر بين الحياة –برونقها وجمالها- وبين الممات –على شدّته- أن يختار الممات على البقاء، على نحوٍ لا يتلاءم ما هو مطبوعٌ في الجبلّة من حب الدنيا وكراهية الموت، وهذه قضيّةٌ لابد من التوقّف عندها، وأن نستجلي حقيقتها، ونكشف سرّها، وذلك بإعمال العقل تفكّراً وتدبّراً في علامةٍ من علامات الساعة التي ستكون آخر الزمان. فلنتجّه إذن إلى كتب السنّة لنجد خبر الصادق المصدوق –صلى الله عليه وسلم-، والذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، ونصّه كالآتي: (لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه) متفق عليه. ويحسن بنا أن نربط الحديث السابق بأحاديث أخرى كي تكتمل الصورة، وهي: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمُسي كافراً، أو يُمسي مؤمناً ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا) رواه مسلم. وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يأتي على الناس زمانٌ، الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر) رواه الترمذي وأحمد. وحديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (إن من ورائكم أيامُ الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله). قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أجر خمسين منكم) رواه الترمذي وأبو داود وأحمد. وحتى نفهم سرّ المفاضلة المعكوسة التي سيجريها الناس بين الحياة والممات آخر الزمان، علينا أن نعقد مقارنةً بين الحال في الماضي والواقع المعاصر: لقد كان الرعيل الأوّل متمسّكاً بالكتاب والسنّة، ملتفّاً حول النبي عليه الصلاة والسلام باعتباره منبعاً للتشريع ومبلّغاً للوحي، وكان الناس يؤمنون بأن الحاكميّة لله في الأمور كلّها، وألاّ فلاح في الدنيا ونجاة في الآخرة إلا من خلال المنهج الربّاني والتشريع الإلهي. أما في زماننا اليوم، فغربةٌ للدين، وضياعٌ للهويّة، وانقلابٌ للموازين، وتهميشٌ للمنهج الرّباني، ومحاربةٌ للاستقامةٌ، وتزيينٌ للباطل وشرعنةٍ له، وهجماتٌ شرسةٌ بالليل والنهار لإقصاء الدين عن مناحي الحياة، وتأسيسٌ لمفاهيم جديدة تنطلق من ثنايا الحضارة الماديّة المعاصرة، واستغلالٌ للقوّة الإعلاميّة ومؤسساتها العملاقة، في ترسيخ العلمنة ونقد الدين، وظهورٌ لدعاةٍ على أبواب جهنّم يزعمون ألاّ سبيل للتقدّم والازدهار، والنهضة والاستقرار، إلا من خلال القفز على "الموروث المقدّس" والاستقلال عنه، واعتبارها نصوصاً تجاوزها الزمن، وأنّه قد آن الأوان –بزعمهم- أن نفكّر بعيداً عن المنطلقات الدينيّة، واستبدالها بالتفسيرات العصريّة التي تُفرغ النصوص من محتواها. وهذه الحال من الغربة قد حذّر النبي –صلى الله عليه وسلم- من وقوعها، فقال عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء) رواه مسلم. ومن جملة الفتن المعاصرة: كثرة الشبهات وتعدد وسائل التغذية لها، ومساعدة وسائل الاتصال الحديثة لبروزها وظهورها، ومن ثمّ: وصولها إلى قطاعٍ كبير من الناس، وسعي كثيرٍ من المرتزقة وباسم الدين أن يخالفوا إجماعات العلماء وأصول الشريعة كسباً للمال أو تحقيقاً للشهرة، حتى بات المرء يحار مما تقذفه شرائط الأخبار والإعلانات المبوّبة من فتاوى عجيبة، وآراء غريبة، يندى لها الجبين، ويدهش لها الحكيم، ويحار لها الحليم. وبعد أن كان المسلك في أمر الشبهات إماتتُها ودفنُها، ما عاد يُجدي ذلك في ظلّ هذا الانتشار الإعلامي، فاضطرّ العلماء اضطراراً إلى الحديث عن أمورٍ كان يسوؤهم إظهارها للعلن نظراً لما تسبّبه من بلبلةٍ للناس، وأصبحت القنوات الإعلاميّة وتحت شعار (مناقشة الآخر) تأتي بالمشكّكين في كلّ أنواع الثوابت الدينيّة بدءاً بوجود الله، ومروراً بقضايا التوحيد والبدعة وغير ذلك من الأمور، ومثل هذا الغزو الفكري غير المعهود زلزل معتقد الكثيرين وأودى بهم إلى الحيرة والضياع. أما الشهوات فحدّث عنها ولا حرج: ما تركت بلداً إلا ودخلته، ولا جهةً إلا استوطنتها، فهي كالوباء في الهواء، يدخل كلّ بيت، وساعدت التكنولوجيا على الانتشار المذهل لها، وكثرت الشكاية من غلبة الشهوة وعدم القدرة على ردّها، حتى باتت مجاهدة النفس تتطلّب عزيمة وإرادةً أكثر مما كان الحال عليه في السابق، وشتّان بين (طهارة) الماضي (وقذراة) الحاضر، وحار الآباء كيف يحصّنون أبناءهم من أتون الشهوات وكيف يردعون سيولها المتتابعة، ووسائل تأثيرها المدمّرة ، ولسان حال الواحد منهم يقول: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم ومن فتن هذا الزمان: سياسات التنكيل والإذلال التي تُمارس على من قال لا إله إلا الله، ومحاربة من يسعون إلى إصلاح المجتمعات وتربيتها من قِبَل بعض الديكتاتوريّات المعاصرة –والتي تساقط بعضها في ربيع الثورات-، ناهيك عن الزجّ بأهل الاستقامة في السجون، ومساومتهم بكل الوسائل على ترك رسالتهم الشريفة، وممارسة وسائل ال***** والقمع من دون قانونٍ يبرّر أو يسمح، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وينتهي بنا المطاف إلى الحديث عن فتنة إزهاق النفوس المحرّمة وسفك الدماء المعصومة، تارةً باسم الدين، ومن منطلق الغلوّ والتطرّف، ومفارقة الجماعة المسلمة، وأحياناً باسم شعاراتٍ أرضيّة، كالقوميّة والوطنيّة، ومحاربة الإرهاب، ومقاومة المحتلّ، وكانت النتيجة: *** الأنفس بغير حق، واستحلال الحرمات، وإشاعة الذعر في المجتمعات، والإخلال بالأمن والاستقرار، والأفعال الطائشة التي تنتهي بالخراب والدمار، تبعاً لهذه الأفكار المضلّلة، والمباديء المنحرفة، والأفهام المعوجّة، والآراء الشاذّة. ولن تقف القاطرة عند هذا الحدّ، بل الأشبهُ ومن خلال دراسة الأحاديث النبويّة وفهم دلالات ألفاظها، أن مظاهر الفساد، وأنواع الفتن، وألوان التقلّبات والتغيّرات، ستوغل في البعد عن منهج الله، وستتفاقم صورها على ذات الوتيرة، وهي ثمرةٌ لتقصير المجتمعات في التمسّك بحبل النجاة الموصول بالسماء. لأجل هذه الفتن وغيرها مما لا يتّسع المقام لذكره، لم يتردّد من جاء ذِكرُه في الحديث الشريف في تفضيل الحياة على الممات؛ فلأن يقبض الله روحه وهو على السلامة في الدين، خيرٌ له من الموت على حالٍ وهو لا يدري كيف تكون نهايته، وبأيّ شيءٍ يُختم له، وهل سيُرزق الثبات على الدين؟ وقد استشرف عبدالله بن مسعود رضي الله عنه هذه الحقيقة، وعبّر عنها بصورةٍ تجسّد ذلك الصراع المرير بين الاستمرار في المقاومة والاصطبار على الحق، وبين مخاوف الفتنة في الدين، فقد أُثر عنه قوله: "سيأتى عليكم زمان، لو وجد فيه أحدكم الموت يباع لاشتراه" ذكره الإمام الداني في كتاب السنن الواردة في الفتن. وفي تلك الحال من الفتن المتلاطمة كالبحر اللجّي، تكون المحافظة على جوهرة الدين كالقبض على الجمر صعوبةً ومجاهدة، وعلى قدر المشقّة يكون الأجر، فيكافيء الله سبحانه وتعالى الثابتين بمضاعفة الأجر، بحيث يُصبح أجر الواحد منهم بأجر عمل خمسين فرد، ليس منّا، ولكن من الصحابة رضي الله عنهم، وهذه المضاعفة ليس لها نظيرٌ في السنّة، الأمر الذي يدلّ على عظم ثواب العاملين في هذه الأحوال الصعبة. يقول الإمام القرطبي: "كأن في الحديث إشارةٌ إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين، ويقل الاعتناء بأمره، ولا يبقى لأحدٍ اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه نفسه، وما يتعلق به، ومن ثمّ عظم قدر العبادة أيام الفتنة، كما أخرج مسلم من حديث معقل بن يسار مرفوعاً: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)" والمقصود بالهرج: أيّام الفتن واختلاط الأمور. ولعلّ قائلاً أن يقول: كأنّ في قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (يا ليتني كنت مكانه) يجعل في تمنّي الموت مندوحةً، ومعلومٌ ما ورد في النصوص من ذمّ هذا المسلك، كيف وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍّ نزل به) متفقٌ عليه، ويندفع هذا التعارض بمعرفة الدوافع التي تجعل الناس يتمنّون الموت آخر الزمان، فالظاهر أنه ليس سخطاً على مقدور، ولا قنوطاً من رحمة العزيز الغفور، إنما هو الخوف من الضعف والسقوط في أودية الهلاك، والله سبحانه وتعالى قال في كتابه: { وخلق الإنسان ضعيفا} (النساء:28). يوضّح الإمام ابن عبدالبرّ ذلك فيقول: " ظن بعض الناس أن هذا الحديث معارض لنهيه -صلى الله عليه وسلم- عن تمنّي الموت، وليس كما ظن وإنما هذا خبر أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس من فساد الحال في الدين، وضعفه وخوف ذهابه، لا لضرٍّ ينزل بالمؤمن يحطّ خطاياه" وقول الإمام وجيهٌ، ويدلّ على جواز الدعاء بالموت إن كان لمصلحة دينية، وهو خوف الفتنة في دينه، أو شوقاً إلى لقاء الله تعالى، ومما يُستدلّ به تتمّة الحديث الذي ينهى عن تمنّي الموت، وفيه: (فإن كان لا بد فاعلا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي). ونختم بلطيفةٍ ذكرها الإمام ابن حجر، تتعلّق بالمذكور في حديثأبي هريرة من تمنّي الموت عند القبر، يقول الحافظ: "ويؤخذ من قوله –صلى الله عليه وسلم-: (حتى يمر الرجل بقبر الرجل) أن التمني المذكور إنما يحصل عند رؤية القبر، وليس ذلك مراداً بل فيه إشارةٌ إلى قوة هذا التمني، لأن الذي يتمنى الموت بسبب الشدة التي تحصل عنده قد يذهب ذلك التمني أو يخفّ عند مشاهدة القبر والمقبور، فيتذكر هول المقام، فيضعف تمنيه، فإذا تمادى على ذلك دلّ على تأكد أمر تلك الشدة عنده، حيث لم يصرفه ما شاهده من وحشة القبر، وتذكر ما فيه من الأهوال، عن استمراره على تمني الموت". ثم نقول: قد أوصانا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالثبات في مواجهة الفتن، ولا فتنة أعظم من فتنة الدجّال، الذي يُجري الله على يديه من الخوارق ما يزلزل عقائد الناس وثوابتهم، ففي مثل هذه الفتنة جاءت النصيحة النبويّة : (يا عباد الله اثبتوا) رواها الترمذي وابن ماجة، ولن يصلح أمر ديننا ولا دنيانا إلا بالصبر، وهو العامل الأهم على الثبات، نسأل الله أن يجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
__________________
![]() |
|
#2
|
|||
|
|||
|
{ كل نفس ذائقة الموت} (آل عمران: 185)، هذه هي الحقيقة الأبدية والقاعدة الكلية التي ليس فيها استثناء، فالموت باب سيدخله الجميع ويشربون كأسه، ولم يجعل الله سبحانه وتعالى لأحدٍ الخلد في الدنيا، ولكنّه أجلٌ مكتوب، وعمرٌ محسوب، وهذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالعاقل من التمس نعيماً لا موت فيه. وإذا أجرينا مقارنةً بين الكيفيّة التي كان الناس يموتون فيها سابقاً، وبين ما آل إليه الحال في أيامنا هذه، لوجدنا مفارقةً تسترعي الانتباه، ففي السابق كان الموت يحل بالناس لأسباب الحرب: طعنةٍ برمح، أو ضربةٍ بسيف، أو رميةٍ بسهم، أو نزفٍ لجراح، وكذلك لأسبابٍ مرضيّة والتاريخ يذكر لنا كيف كان الناس يعانون من أمراضٍ مزمنةٍ تلزمهم الفراش أوقاتاً متطاولةً، حتى ينتهي بهم المطاف إلى مغادرة الدنيا، وثمة أسبابٌ أخرى تتفق مع ما سبق في سمةٍ واحدة: أن الموت كان يحلّ بصاحبه شيئاً فشيئاً، وقلما نسمع عن حلول الموت فجأة وبغتةً. بينما في العصر الحاضر، نلحظ تزايد حالات الموت الفجائي الذي لا يُمهل صاحبه، ونستطيع القول أن مظاهرَ وأسباباً جديدةً قد برزت إلى الوجود، وكلها ترتبط بظاهرة الموت الفجائي وتسبّبه، وسوف نتطرّق إليها لاحقاً. إذن، فالموت فجأةً هو أمرٌ طاريءٌ على تاريخ البشريّة، صحيحٌ أنه كانت له صورٌ في السابق، إلا أنه لم يكن بمثل هذه الكثافة التي نراها هذه الأيام، فهل لهذه الظاهرة المعاصرة علاقةٌ بالحديث عن أشراط الساعة وعلاماتها؟ بالعودة إلى السنة نجد أن تزايد حالات الموت الفجائي علامةٌ أشار إليها النبي –صلى الله عليه وسلم- وبيّنها ووضّحها تمام الوضوح، والعمدة فيها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (إن من أمارات الساعة أن يظهر موت الفجأة)، رواه الطبراني وحسّنه الألباني. فقوله –صلى الله عليه وسلم-: (أن يظهر موت الفجأة) يدل على أن هذه الحالة كانت موجودةً في السابق وإنْ بشيءٍ من القلّة، فلم تكن ظاهرةً عامّةً ولكن حالات معدودة يمكن وصفها بالندرة، ثم يؤول الحال –بمقتضى الحديث السابق- إلى بروز هذه الظاهرة وتزايد حالاتها وتناميها بحيث يلحظها الجميع. نعم: لقد كان موت الفجأة موجوداً في السابق، ونمثّل له بما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري، من قول الإمام البخاري: اغتنم في الفراغ فضل ركوع* فعسى أن يكون موتك بغتة كم صحيح مات من غير سقم *ذهبت نفسه الصحيحة فلتة ثم قال الحافظ بعدها: " وكان من العجائب أنه هو وقع له ذلك أو قريبا منه، كما سيأتي في ذكر وفاته". وينسب الحافظ كذلك إلى الإمام النووي قوله أن جماعة من الأنبياء والصالحين قد ماتوا كذلك بغتةً ودون إمهال. ثم نعرج إلى حديثٍ آخر كثيراً ما يُذكر في سياق الحديث عن موت الفجأة، لربّما يفهمه البعض على غير وجهه، وهو حديث عبيد بن خالد السلمي رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: (موت الفجأة أخذةُ أَسَف) رواه أحمد وأبو داود. إذا غضضنا الطرف عن الاختلاف اليسير في مسألة وقف الحديث ورفعه في ظلّ وجود عدد من العلماء الذين يصحّحونه، فإن وصف النبي –صلى الله عليه وسلم- لموت الفجأة بأنه: (أخذةُ أَسَف) قد تُفهم بأنها حالةٌ تستوجب الذمّ، فالأسف من حيث الأصل اللغوي هو الغضب، ومنه قوله تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} (الزخرف: 55). وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: هل موت الفجأة بحد ذاته مذموم؟ أو أنه –كما يُقال- أمارةٌ على سوء الخاتمة؟؟ في الحقيقة أن هذه المسألة بحاجةٍ إلى بيانٍ وتفصيل، فالنصوص الشرعيّة من حيث الأصل لا تدلّ على أن الموت السريع دون معالجة السكرات التي يراها الناس في المحتضرين ذات دلالةٍ مذمومة بحيث يُظن بصاحبها ظنّ السوء، ليس الأمر كذلك، وهذا ما يشير إليه كلام العلماء وله دلائل من الشرع، فقد بوّب الإمام البخاري باباً في صحيحه وعنونه بـــ: " باب موت الفجأة البغتة" وأورد بعده حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن أمي افتلتتْ نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: (نعم) ، والمقصود بالافتلات : الموت بغتةً. يعلّق الإمام بدر الدين العيني قائلاً: " هذا بابٌ في بيان حال الموت فجأة، ولم يبيّنه –أي البخاري- اكتفاءً بما في حديث الباب بأنه غير مكروه، لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يظهر منه كراهيته لمّا أخبره الرجل بأن أمه افتلتت نفسها". والفيصل في المسألة أن الذمّ في موت الفجأة لا من حيث الأصل، ولكن من حيث ما يترتّب عليه، فميّت الفجأة لا تتاح له الفرصة في أن يُلقّن الشهادة كما هو الحال للمحتضرين الآخرين، وقد لا يكون مستعدّاً للقاء الله، بخلاف من تقدّمت له الدلائل وساق الله تعالى له من الشواهد على قرب مفارقته للدنيا، فاستعدّ للقاء خالقه ومولاه، وليس هذا بحاصلٍ لمن يفجؤه الموت. ثم إن الذين يموتون على هذا النحو لا يتوقّعون موتاً ولا ينتظرونه؛ لعدم قيام أماراته لديهم، كمرضٍ، أو كبر سنّ، أو جروحٍ، أو نحو ذلك، وبالتالي يكون حرصهم على كتابة الوصية وإعدادها أقلّ من غيرهم، ولأجل هذه المعاني يمكن أن يُقال: إن للموت -على نحوٍ غير مباغتٍ- مزيّةٌ على من فجأه الموت، وهذا المنحى قد أشار إليه العلماء في معرض شرح الحديث السابق. يقول ابن بطال: "والأسف: الغضب، ويحتمل أن يكون ذلك، والله أعلم، لما في موت الفجأة من خوف حرمان الوصية، وترك الإعداد للمعاد، والاغترار الكاذبة، والتسويف بالتوبة". ويمكن النظر إلى موت الفجأة من زاويةٍ أخرى، بأن يقال: هو يختلف باختلاف متعلّقه، فإن تعلّق بأهل الصلاح والتقوى، كان رحمةً من الله لأصحابه؛ إذ خفّف عنهم سكرات الموت وصانهم من معالجة شدّته، وإن تعلّق بأهل الفسق والفجور كان نقمةً من الله عليهم، إذ لم يمهلهم حتى يتوبوا ويتداركوا أمرهم، وبذلك يكون رحمةً للصالحين، ونقمةً على الكافرين والفاسقين، والنظر إلى المسألة من هذا المنظور واردٌ على ألسنة الصحابة رضي الله عنهم، فقد أُثر عن عبد الله بن مسعود وعائشة رضي الله عنهما قولهم : "هو أَسَف على الفاجر، وراحة للمؤمن". ومن معالم انتشار موت الفجأة في العصر الحاضر ظهور عددٍ من الأمراض المسبّبة له، ولم تكن تُعرف من قبل أو لم يكن لها ذاك الانتشار، كحدوث الجلطة الدماغيّة، والسكتة القلبية، وهبوط الدورة الدموية، وارتفاع نسبة البوتاسيوم في الدم أو زيادة معدّل حموضته، أو حدوث ما يُسمّى بالرجفان البطيني، وكلّها أمورٌ تسبّب الموت السريع لصاحبه، والواقع يشهد بارتفاع معدّل الوفيات عالميّاً بسبب هذه الأعراض دون تفريقٍ بين صفوف الشباب والمتقدّمين في العمر؛ إذ لا علاقة لها بعامل السنّ. ومن أسباب موت الفجأة ولا شك: ما أبدعته عقول البشريّة من أنواع الأسلحة الحديثة من قنابل وصواريخ ومعدّات حربيّة، ت*** من الناس وتسفك من الدماء ما لم يكن في عصور السيوف والرماح، فضلاً عن الأسلحة النوعية ذات الدمار الشامل، كالقنبلة النووية والقنبلة الهيدروجينيّة، وما أخبار هيروشيما وناجازاكي عنّا ببعيد، حيث تسبّبت القنبلتان اللتان أُلقيت في المدينتين المذكورتين آنفاً إلى حصد أروحِ ما يزيد عن مائةٍ وأربعين ألف شخصٍ في غمضة عين، وهي كارثةٍ لم يُمْحَ عارُها عن جبين التاريخ الإنساني. ومن الصور الحديثة لموت الفجأة: ما تسبّبه حوادث الطرق ، وتعرّض الناس لهذه المخاطر بسبب إهمال بعض السائقين وقيادتهم على نحوٍ متهوّر، فضلاً عن الخسائر البشريّة الحاصلة جرّاء الاصطدام أو تجاوز الطريق أو انفجار العجلات، وما يحصل أحياناً من الأعطال الميكانيكيّة في السيارة، ومثل هذا الكلام ينسحب على وسائل النقل الأخرى كالقطارات والطائرات. ويمكن أن يُضاف إلى ما سبق، كثرة الزلازل في الآونة الأخيرة، وما تسبّبه من آثارٍ تدميريّة و***ى بالعشرات، ومعلومٌ أن عدداً ليس باليسير منها لا يمكن التنبّؤ به من قبل هيئة الأرصاد الجويّة، وقد لا تستمرّ تلك الزلال أكثر من عشرين أو ثلاثين ثانية كما يذكر المختصّون، فحينها يمكن وصف ضحايا هذه الزلازل بأن الموت قد أخذهم بغتةً. هذا هو موت الفجأة، وانسلال الروح على حين غرّة، فلا مقدّمات ولا علامات، ولا أمارات ولا دلالات، ولا إمهال ولا إخطار، فلْيحذر كلّ الحذر المتهاونون الغافلون، الذين غرّهم طول الأمل، وغرّهم بالله الغرور، ولينتبهْ المسوّفون للتوبة، والمنشغلون بحطام الدنيا ومتاعها، ولا بد من المحاسبة الجادة للنفس والعودة إلى الله تعالى، قبل أن يفجأ الموت، ولات حين مندم، قال الله تعالى: { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين* أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين* أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} (الزمر:56-58). وخاتمة الكلام أن ننوّه على أحاديث لم تصح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في الباب: الأول: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة؟ فقال: " راحةٌ للمؤمن، وأخذة أسف للفاجر "، رواه أحمد وفيه عبيد الله بن الوليد - وهو الوصافي - متروك، وعبد الله ابن عبيد الله بن عمير لم يسمع من عائشة، ولكن الحديث صحّ من طرقٍ أخرى موقوفاً عليها رضي الله عنها. وأما الحديث الثاني فهو عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوّذ من موت الفجأة، وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت. رواه الطبراني في معجمه الكبير قال الهيثمي: فيه عثمان بن عبد الرحمن القرشي وهو متروك. والثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرّ بجدار أو حائطٍ مائل، فأسرع المشي، فسئل عن ذلك، فقال: (إني أكره موت الفوات)، رواه أحمد، وفيه إبراهيم بن إسحاق، ضعفه غير واحد من الأئمة، وقال عنه البخاري: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك.
__________________
![]() |
|
#3
|
|||
|
|||
|
للتجارة والوجود البشري خطٌّ زمني واحد، حدث بينهما التلازم والاشتراك تبعاً لارتباط حاجات الأفراد ببعضهم، فكلٌّ محتاجٌ لما في يد الغير، وليس في الناس من هو مستغنٍ عن غيره تمام الغنى، ذلك هو أساس التجارة وفلسفتها. وقد تنوّعت صور التجارة وطرائق المعاملات المالية بين الناس منذ القدم، كان منها ما هو قائمٌ على مبدأ الترافق وركيزة العدل، وكان منها في المقابل ما هو ناشيءٌ على ظلم العباد، وما هو قائمٌ على الغش والاحتكار والاستغلال، وأكل أموال الناس بالباطل. وكانت مهمّة الوحي الإلهي ممثّلةً بالشرعة الربانية الفصل بين تلك الأساليب المالية والمعاملات التجارية، وفرزها بين مشروع وممنوع، وصحيحٍ وباطل، وطيّب وخبيث، وحلال وحرام، وبطبيعة الحال فإن الربا على رأس هرم المعاملات المالية المحرّمة. وليس الحديث هنا عن الخبث اليهودي زمن النبوّة في تسويق الربا وإقناع الناس به، ثم إسقاطهم في مستنقعاته الآسنة، ولا عن الممارسات الربوية في العصر الجاهلي بشقّيه: ربا الفضل وربا النسيئة، ولكنه البيان لواقعٍ مالي غيبي تنبّأ به من لا ينطق عن الهوى، رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم-، وتحدّث عنه، فلنستمع إلى تلك النبوءة: عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (بين يدي الساعة يظهر الربا، والزنا، والخمر) رواه الطبراني. فالربا –حسب ما نفهمه من الحديث ونقرؤه في التاريخ- كان موجوداً في السابق وصوره ماثلةٌ في المجتمعات، بعضها شديد الوضوح، ومنها ما هو دون ذلك، لكن الشأن في عصرٍ مستقبلي بالنسبة إلى فجر الإسلام، يُصبح فيه التعامل بالربا ممارسةً عامّةً وظاهرة سائدةً في الأمم والمجتمعات. وقد صور النبي –صلى الله عليه وسلم- ما يؤول إليه أمر الناس من الانخداع بزخرف الرّبا والاغترار به، والوقوع في براثنه، في حديثٍ رواه لنا أبو هريرة رضي الله عنه، يحدّث فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ليأتين على الناس زمانٌ لا يبقى منهم أحد، إلا آكل الربا، فمن لم يأكل، أصابه من غباره) رواه أصحاب السنن، والحاكم في المستدرك، والطبراني في معجمه، وفي رواية عند أبي داوود لفظها: (فإن لم يأكله أصابه من بخاره). فالحديث السابق يُظهر عموم البلوى بالتعامل بالرّبا عند الجميع، فمستقلٌّ ومستكثر، منهم من يتعاطاه دون أن يخالجه حياءٌ من الله، ومنهم من يضطرّ إليه اضطراراً بحيث تُصبح له رخصةً في معاملاته كحالةٍ فرديّةٍ وواقعة خاصّة، ومنهم من يأكل الربا الصريح، ومنهم من يحيق به ويصل إليه من أثره، بأن يكون موكلاً أو متوسطاً فيه، أو كاتباً أو شاهداً، أو معاملاً للمرابي أو محامياً له، أو مرتبطاً معه بشراكةٍ تجاريّةٍ تقتضي اختلاط المال الحلال بالحرام، أو عاملاً في مؤسّسةٍ ربويّة بعملٍ لا علاقة له بتعاطي المال الربوي وتصريفه، كأن يكون سائقاً أو حارساً أو موظّف استقبال ونحو ذلك، أو متقاضياً راتبه عبر مؤسّسةٍ ربويّة، أو على الأقل: ولداً لمن يتعامل بالرّباً أو قريباً مباشراً له، ليس له مناصٌ من أكل ماله واستخدامه، وغير ذلك من الصور المؤلمة التي تجسّد انتشار الرّبا وتغلغله في جنبات الحياة. يقول المناوي: "وفي رواية من بخاره، وهو ما ارتفع من الماء من الغليان كالدخان، والماء لا يغلي إلا بنارٍ توقد تحته"، ثم بيّن وجه المناسبة بين الربا وبين الدخان والغبار، بأن الغبار إذا ارتفع من الأرض أصاب كل من حضر، وإن لم يكن المصاب به قد أثاره، كما يصيب البخار إذا انتثر من حضر وإن لم يتسبب فيه، ثم قال: "وهذا من معجزات النبي –صلى الله عليه وسلم- فقل من يسلم في هذا الوقت من أكل الربا الحقيقي فضلا عن غباره". وما أشنع التعامل بالربا، وما أسوأ عاقبته وأشدّ عقوبته، لم يتوعّد الله سبحانه وتعالى أحداً بالحرب كما توعد أصحاب الرّبا، قال الله تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين *فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} (البقرة:278-279)، ووعد صاحبه بمحق المال: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم} (البقرة:276)، وتوعّده باللعنة، فعن جابر رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه" رواه مسلم. وأكل الربا من كبائر الذنوب، بل هو من السبع الموبقات، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (اجتنبوا السبع الموبقات) ثم ذكر منها: (أكل الربا) متفق عليه، بل بلغ من شناعته أن ورد فيه الوعيد الشديد الآتي: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم ، أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد، وصحّ في حديثٍ آخر: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله) رواه الطبراني. ولو نظرنا إلى الواقع المعاصر لرأينا كيف تحوّلت الممارسات الفرديّة أو المحدودة للربا في الماضي، إلى واقعٍ آخر مغايرٍ تماماً، واقعٍ جعل من التعاملات الربويّة عصباً للحياة الاقتصاديّة المعاصرة، وقواماً للدول والمجتمعات، وسبباً في نشوء علاقات مطّردة طويلة الأمد تقوم بين الدول المانحة والدول المقترضة، ومن المعلوم أن أمثال هذه القروض الربويّة تؤول إلى ممارسة الاستبداد والابتزاز على جميع الأصعدة، ومدخلاً للتحكّم في القرارات السياسية والمواقف، بل تنتج أنماطاً من العبوديّة المغلّفة والتبعيّة الفكريّة والحضاريّة. ولقد تطوّرت صور التعامل الربوي وتعدّدت أدواته ومتعلّقاته، حتى أصبح علماً يُدرّس، ونظريّاتٍ تؤسّس، ومدارس ربويّة مختلفة التوجّهات، فضلاً عن تأسيس أسواقٍ عالميّة للبورصات، والمتاجرة بالأسهم والمستندات، ويبع الديون، ونشأة البنوك والمصارف صاحبة اليد الطولى في انتشار الربا وذيوع التعامل به. ومن إفرازات هذا الواقع الربوي المستنزف للخيرات والموارد: أزمات الرهن العقاري وبيع الأصولي، وما تسبّبه من نتائج كارثيّة اهتزّت لأجله أركان دولٍ عظمى، وأعلنت بسببه إفلاس دولٍ صغرى، فضلاً عن انتشار البطالة، والحديث عن الكساد الكبير الذي عصف بالعالم في بدايات القرنين الماضي والحالي، حيث بدأ الأمر بـــ"عطسة" اقتصاديّة، وانتهى بوباء مالي عصف بالبشريّة، الأمر الذي أسهم في انهيار مؤسساتٍ ماليةٍ عملاقة، ناهيك عن السجون التي امتلأت بالمقترضين العاجزين عن سداد الفوائد الربوية. وبعد: آن الأوان ليدرك الجميع أن شريعة الله سبحانه وتعالى قائمةٌ على أساس تحقيق المصالح ودرء المفاسد، من خلال تحقيق الموازنة الدقيقة بين الأغنياء والفقراء، فلا استغلال لأحدهما على حساب الآخر كما هو الحال في التعاملات الربويّة التي لا ترحم الشعوب الجائعة التي تبحث عن حاجاتها الملحّة .
__________________
![]() |
![]() |
| العلامات المرجعية |
|
|