|
|
|
#1
|
||||
|
||||
|
ثواب القرآن
قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(1). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾(2). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَننَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ولاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا﴾(3). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ﴾(4). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾(5). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾(6). وَحَبْلُ اللهِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾(7). وَقَالَ -تَعَالَى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(8). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾(9). ثُمَّ إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَدَ مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى كَلاَمِهِ، فَأَحْسَنَ الأَدَبَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهِ، بِالاعْتِبَارِ الْجَمِيلِ، وَلُزُومِ الْوَاجِبِ لاتِّبَاعِهِ، وَالْعَمِلِ بِهِ - أَنْ بَشَّرَهُ اللهُ مِنْهُ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَوَعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلَ الثَّوَابِ؛ فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(10). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾(11)). قال محمد بن الحسين: (فَكُلُّ كَلاَمِ رَبِّنَا حَسَنٌ لِمَنْ تَلاَهُ، وَلِمَنِ اسْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هَذَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- صِفَةُ قَوْمٍ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَتَبَّعُوا مِنَ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- مِمَّا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مَوْلاَهُمْ الْكَرِيمُ، يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ رِضَاهُ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ، سَمِعُوا اللهَ قَالَ: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(12). فَكَانَ حُسْنُ اسْتِمَاعِهِمْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّذَكُّرِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَسَمِعُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾(13). وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ عَنِ الْجِنِّ فِي حُسْنِ اسْتِمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لِمَا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَوَعَظُوهُمْ بِمَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ بِأَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾(14). وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾(15)). قال محمد بن الحسين: (وَقَدْ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي سُورَةِ ق: ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾(16). مَا دَلَّنَا عَلَى عَظِيمِ مَا خَلَقَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَجَائِبِ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَعَظِيمَ شَأْنِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ وَعَظِيمَ شَأْنِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ وَمَا أَعَدَّ فِيهَا لأَوْلِيَائِهِ، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾(17)... إِلَى آخِرِ الآيَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(18). فَأَخْبَرَ -جَلَّ ذِكْرُهُ- أَنَّ الْمُسْتَمِعَ بِأُذُنَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدًا بِقَلْبِهِ مَا يَتْلُو وَمَا يَسْتَمِعُ؛ لِيَنْتَفعَ بِتِلاَوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَبِالاسْتِمَاعِ مِمَّنْ يَتْلُوهُ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَثَّ خَلْقَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(19). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(20)). قال محمد بن الحسين: (هَلْ تَرَوْنَ -رَحِمَكُمُ اللهُ- إِلَى مَوْلاَكُمُ الْكَرِيمِ، كَيْفَ يَحُثُّ خَلْقَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا كَلاَمَهُ؟! وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلاَمَهُ عَرِفَ الرَّبَّ -عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرِفَ عَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَرِفَ عَظِيمَ تَفَضُّلُهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَعِرَفَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ فَرْضِ عِبَادَتِهِ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، فَحَذِرَ مِمَّا حَذَّرَ مَوْلاَهُ الْكَرِيمُ، وَرَغِبَ فِيمَا رَغَّبَ فِيهِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ عِنْدَ تِلاَوَتِهِ لِلْقُرَآنِ، وَعِنْدَ اسْتِمَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ الْقُرْآنُ لَهُ شِفَاءً، فَاسْتَغْنَى بِلاَ مَالٍ، وَعَزَّ بِلاَ عَشِيرَةٍ، وَأَنِسَ بِمَا يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ هَمُّهُ عِنْدَ تِلاَوَةِ السُّورَةِ إِذَا افْتَتَحَهَا: مَتَى اتَّعِظُ بِمَا أَتْلُو؟ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ: مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ؟! وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: مِتَى أَعْقِلُ عَنِ اللهِ الْخِطَابَ؟ مَتَى أَضَّجِرُ؟ مَتَى أَعْتَبِرُ؟ لأَنَّ تِلاَوَتَهُ لِلْقُرْآنِ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ لاَ تَكُونُ بِغَفْلَةِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ). وفي المسألة الثالثة: بدأ يذكر المؤلف ثواب تلاوة القرآن، واستشهد بآية سورة فاطر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(21). وهذه الآية سماها أهل العلم: آية القُرَّاء؛ حيث بَيَّن الله -تعالى- فيها الثواب العظيم المترتب للذين يقرؤون القرآن الكريم، ويداومون على تلاوته، ويحافظون على أوامره، ويطبقونها في حياتهم؛ ولهذا ذكر الله -تعالى- الركن الثاني من أركان الإسلام في الأجر والثواب لأهل القرآن، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ﴾. وهذا يدل على أن الذي يقرأ القرآن ويتلوه، عليه أن يعمل به، فمَن تلاه حقَّ تلاوته، دَلَّه إلى العمل، وإلى كل خير من الأعمال الصالحة، ومن أعظمها وأجلِّها الصلاة. وأجور أهل القرآن عظيمة وكثيرة ومتعددة، أجملها الله -تعالى- في هذه الآية التي هي آية القراء، وسَمَّى قراءةَ القرآن والمداومةَ عليها التجارةَ النافعةَ، وهي التجارة الرابحة، التي لا يتطرق إليها بوار ولا كساد ولا فساد، فالأجر متحقق، والثواب متحقق من الله -جل وعلا، ووعده حق، وكلامه صدق: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(22). وبيَّن النبي -عليه والصلاة السلام- تفصيلاً الأجر المترتب على التلاوة بيانًا دقيقًا واضحًا في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عند الترمذي، قال -عليه الصلاة والسلام: « مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ فِيهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بَعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ: آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»(23). فإذا كان قارئ القرآن يأجر على تلاوته بالحرف الواحد، وأنه إذا قرأ هذا القرآن حصل على أجور متعددة ومضاعفة من الله -جل وعلا، وإذا كان العلماء قد عَدُّوا آيات القرآن الكريم، وأنها تربو على ستة آلاف، فكيف بالحروف؟! |
|
#2
|
||||
|
||||
|
ومن ثواب هذا القرآن الكريم -أيضًا- أنه يهدي قُرَّاءَه إلى الحق: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾(24). والمسلم يدعو ربه وجوبًا سبعة عشر مرة في كل يوم أن يجعله من أهل الهداية، في قوله -تعالى- في سورة الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾(25). فضلاً عما يقوله في صلوات النوافل وغيرها، فهو يطلب من ربه أن يثبته على طريق المستقيمين الذين أنعم الله -تعالى- عليهم، فهو كتاب هداية.
من الثواب المترتب عليه أنه يهدي صاحبه إلى طريق الحق، ويعصمه من الفتن، ومن الابتلاءات، ومن الزيغ، ومن الضلال، ومن الفساد، ومن الشهوات، ومن الشبهات. فإذا تلا هذا القرآن حصل له هذا الخير العظيم والثواب الجزيل، وحصل له -أيضًا- الشفاء الحسي والمعنوي الذي يطلبه في حياته، سواء ما يتعلق بالأمراض الروحية أو الأمراض البدنية، فإنه في هذا القرآن الكريم؛ كما قال -سبحانه وتعالى- في الآية التي ذكرها المؤلف: ﴿وَننَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ﴾(26). وشفاء هنا نكرة؛ فتَعُمّ كل شفاء، وليست معرفة، وهذا من الثواب لقارئ القرآن الكريم. فإذا تلا المسلم القرآن بنية خالصة لله، وابتغاء الأجر والثواب من الله -تعالى؛ فسوف تشمله إن -شاء الله تعالى- هذه الأجور العظيمة، التي جاءت في هذه الآيات، ومنها: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾(27). اعتصموا بكتاب ربهم الذي جاءهم من عند الله -تعالى، كما قال -سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾(28). ولهذا نعلم أن القرآنَ الكريم والاعتصامَ به طريقُ الاجتماع والائتلاف، وطريق النصرة والتمكين في هذه الدنيا، وقد فَسَّر العلماء قول الله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾. أن المراد بحبل الله: القرآن، وقيل: الإسلام، وقيل: الجماعة، وهذه الأمور كائنة بأهل القرآن؛ الذين تلووا القرآن حق تلاوته، وإذا أقبلوا عليه، وعملوا بما فيه تحصل لهم هذه الأجور العظيمة، والحفظ الكبير من الفتن التي يقع فيها كثير من الناس المعرضين عن هدي القرآن الكريم؛ ولهذا بَيَّن الله -تعالى- في الآية التي ذكرها المؤلف في سورة الزمر أن أهل الإيمان الذين تعلقت قلوبهم بربهم -جل وعلا- هم الذين يتأثرون بهذا القرآن الكريم، وتقشعر جلودهم وأبدانهم، قال الله -تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾(29). أي: إلى هذا القرآن العظيم. ثم جاءت المسألة التي بعدها، وهي مسألة الاستماع للقرآن الكريم، التي ذكر فيها المؤلف أن الله -تعالى- رَغَّب عباده في الاستماع إلى هذا القرآن الكريم، والاستماع إلى القرآن الكريم هو عمل بما أمر الله -تعالى- به، فضلاً عن تلاوته، فالذي يستمع إلى القرآن الكريم يحصل له الأجر، بخلاف الأجر الذي يقرأ فيه القرآن الكريم، وبهذا يمكن أن نجمل أن الاستماع إلى القرآن الكريم فيه بشارتان: البشارة الأولى: وتكون في الدنيا، وهي حصول الرحمة لسامع القرآن؛ قال الله -تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(30). فهذه بشارة من الله -تعالى، وهذه الرحمة إذا حصلت لقارئ القرآن بهذا المسلم فقد حصل له كل خير؛ ولهذا قال -تعالى- في آية أخرى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾(31). فإذا رحم الله -تعالى- عبدَه فقد قربه منه؛ لأن الرحمة تدعو إلى فعل الخير، وأن يرحم الإنسان نفسه أولاً، ويبعدها عن المعاصي والذنوب والسيئات، ويقربها إلى الطاعات والحسنات، ولا يسمح لها أن تقع فيما يخالف أمر الله، ويرحم نفسه بأن تكون وَقَّافَة عند حدود الله، ثم يرحم غيره من عباد الله، وينشر هذه الرحمة التي حصلت له من الله -تعالى- إلى الناس بالتواصل، وفعل الخير، وصلة الأرحام، وحسن الكلام، والتسبيح والتهليل، والرحمة بالفقراء والمساكين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذه الرحمة تجمع الإحسان، فإذا أحسن الإنسان دلَّ على ذلك على الرحمة، فقد قال الله -تعالى- في سورة الأعراف: ﴿ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(32). فالذي يفعل الإحسان قريب من الله -تعالى، ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. فيرحم نفسه ويرحم غيره، ويحسن في عمله، ويحسن في تعامله، فيكون بذلك قريب من الله -تعالى، فإذا حقق الإحسان الذي هو أعلى مراتب الدين، وإذا حافظ على الصلاة وشعائر الدين، دلَّ على ذلك على الرحمة في قلبه، وأنه قريب من الله -تعالى، وبهذا يدلك على القرب من الله هذه الصلاة الذي يحافظ عليها، فإنه قريب من الله، قال الله -تعالى- لنبيه -عليه الصلاة والسلام: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾(33). فإذا أكثرت السجود اقتربت من الله -تعالى، وهذا هو ثمرة الرحمة التي بشر الله -تعالى- بها عباده المؤمنين. ومن البشارة في الدنيا: حصول الهداية؛ ولهذا بيَّن الله -تعالى- في سورة الزمر -كما ذكر المؤلف- قال: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾، فثمرة ذلك: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(34)، وتفسير المصنف تفسير لطيف حينما فسر قوله -تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾. أي: يتبعون أحسن ما يقربهم إلى الله -تعالى؛ لأن القرآن كله كلام الله -تعالى، وهو حسن، كما قال -سبحانه: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾(35). فالقرآن كله حسن، فتفسير المؤلف بديع ولطيف، حينما قال: يتبعون أحسن ما يقربهم إلى الله -تعالى- من الأعمال الصالحة، فهذه بشارة وهي الهداية. ولنعلم أن الذي ينال هذه البشارة في حياته لا يتوقف عليها، بل يطلب المزيد والزيادة في هذه الهداية، فإذا حافظ على هذه الهداية في الصلاة والصيام والزكاة والحج وتلاوة القرآن والذكر، وكل عمل خير، رغبت نفسه في الزيادة، ولم يقف عند هذا الحد، وهذا تجده ظاهرًا عند عباد الله الصالحين، الذين يتسابقون في فعل الخيرات، ولا يقفون عند حد، وبهذا إذا حصلت لك الهداية فسوف تدفعك إلى الزيادة، كما قال الله -تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾(36). وقال -تعالى: ﴿وَيزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾(37). يعني: أنهم يزدادون هداية على هداية، فإذا قرأ في الأسبوع -مثلاً- ثلاثة أجزاء، طلب الزيادة بأنه سيقرأ سبعة أو ثمانية أجزاء، إلى أن يختم القرآن في سبعة أيام، أو في ثلاثة أيام، وإذا أقبل على حفظ القرآن، ورغبت نفسه واستنار قلبه بهذا القرآن حفظ جزءًا، ثم تشتاق نفسه إلى حفظ أكثر، وهكذا إلى أن يُتِمَّ القرآن الكريم. فالعبادة تدعو صاحبها إلى الزيادة، فالحسنة تنادي الحسنة كما أن السيئة -والعياذ بالله- تنادي السيئة، فالسيئة الخبيثة تجر صاحبها إلى سيئة أرفع، ثم إلى سيئة أعلى، ثم إلى سيئة أعظم، إلى أن يألف هذه السيئة، والحسنات كذلك. فالإنسان يتبع الحسنة الحسنة دائمًا؛ لأن الإنسان لا يخلو من سيئات في حياته، لكن إذا كانت حسناته كثيرة غلبت على السيئات، كما قال الله -تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾(38). فاستماع القرآن الكريم يزيد في الهداية بوعد الله -جل وعلا، أيضًا قراءة القرآن الكريم يحصل بها اطمئنان القلب، وهذا من البُشْرى، قال الله -تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(39). فإذا اطمئن قلبك اطمأننت في هذه الدنيا، ولو كنت فقيرًا أو مريضًا أو مبتلًى، فاطمئنان القلب سعادة عظيمة للإنسان، فإذا كان فقيرًا لا يدخل إليه قلق ولا اضطراب ولا خوف، وإذا كان مريضًا يكثر من تحميد الله -تعالى- وشكره على هذه النعمة، وعلى هذا الابتلاء، فلا يخاف ولا يقلق من الموت، بل اطمئن قلبه، فصارت لديه سعادة وهدوء بال، لا يشعر بها إلا مَن عايشها في حياته، ومن تأمل القرآن الكريم، وَجَد وجوهًا كثيرة لهذه البشرى في هذه الحياة الدنيا لمن يستمع القرآن الكريم. ولا أدَلَّ على ذلك مما ذكره الله -تعالى، وساقه المؤلف من الجن المكلفين بعبادة ربهم، أولئك النفر الذين جاؤوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يقرأ، واستمعوا إلى تلاوته، وأثر فيهم ذلك القرآن الكريم، فانطلقوا إلى قومهم يبلغون هذا القرآن الكريم، وشهدوا بأنه مصدق لما بين يديه. |
|
#3
|
||||
|
||||
|
إذن حينما سمعوا القرآن ازدادوا، ولم يكتفوا بالسماع فحسب، بل ضموا إلى ذلك أن بَلَّغوا قومهم، ﴿وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾(40)، فرجعوا إلى قومهم وبلغوهم ما سمعوه، وهذه هداية، وهي أن الله -تعالى- يوفق العبد ويهديه إلى أن يبلغ ما تحمله من علم وأمانة، ولا يكتفي به لنفسه، وهذا من حب الخير وفعله بإخوانك المسلمين.
البشارة الثانية: وتكون في الآخرة، وتقدمت البشارة الأولى وهي في الدنيا، ولها وجوه متعددة ذكرتُ بعضها، وفي الآخرة أيضًا لها وجوه متعددة منها: أن صاحب القرآن الذي قرأ القرآن واستمع إليه، يخاطب يوم القيامة، ويقال له: اقرأ وارقِ ورَتِّل كما كنت ترتل في الدني(41)، وأنه يوم القيامة في ذلك اليوم العظيم، تأتيه سورة البقرة وسورة آل عمران -وهما الزهراوان- كما أخبر بذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- تأتيان في ذلك اليوم العظيم كالغمامتين أو كالغيايتين تُحَاجَّان عن صاحبهم(42)، وقد جاء في بعض الأحاديث أن القرآن يأتي يوم القيامة بلسان وعينين يحاجُّ عن صاحبه، وهذا من البشارة له في الآخرة. ومن البشارة أيضًا: أنه -أي القرآن- يكون شفيعًا له يوم القيامة، كما جاء في الحديث: «الْقُرْآنُ وَالصِّيَامُ يَشْفَعَانِ لِصَاحِبِهِمَا، فَالْقُرْآنُ يَقُولُ: حَرَمْتُهُ النَّوْمَ فِي اللَّيْلِ. وَالصِّيَامُ يَقُولُ: أَظْمَأْتُهُ فِي النَّهَارِ وَجَوَّعْتُهُ فِيهِ، فَيَشْفَعَانِ لِصَاحِبِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(43). وهذه من البشارة العظيمة لأهل القرآن: التالين له، والمستمعين. ثم تأتي المسألة الأخرى، وهي: التمثيل الذي ذكره المؤلف، وقد اكتفى بتمثيل سورة واحدة من سور القرآن الكريم، وهي سورة ق؛ وبَيَّن المؤلف بعضًا من مقاصدها وموضوعاتها التي جاءت فيها، والوجوه -والله أعلم- أن هذه السورة سورة عظيمة، كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحافظ عليها ويقرأها، فقد قرأها في صلاة الجمعة، وقرأها في العيدين، وقرأها في صلاة الفجر؛ لما فيها من المواعظ والعبر والقصص، وفيها: إشادة بالقرآن الكريم وبيان فضله، وفيها: ذكر البعث والنشور، وإقامة الحجة على المشركين الذين أنكروه، وفيها: ذكر لبعض الأمم وقصصهم، وفيها: مِنَن من الله -تعالى- على عباده، مثل: هذه الأرض وهذه السماء، فالسماء تمطر، والأرض تنبت، وفيها: تذكير بالخلق الأول، ونهاية الناس في هذه الحياة الدنيا وهو الموت، وذكر الله -تعالى- فيها المحاضرة بين القرينين، وذكر الله -تعالى- فيها أيضًا: الجنة والنار، وما أعده الله -تعالى- لأهل الجنة، وما أعده الله لأهل النار، وخلق السماوات والأرض، ثم ختمها بما بدأها أيضًا، قال: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾(44). وقال في آخرها: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾(45). فبدأها بالقرآن، وختمها بالقرآن الكريم، فتأمل في مثل هذه السورة، وما فيها من المواعظ، وما فيها من العبر، وما فيها من المناسبات والدلالات العظيمة، فعلى الإنسان أن يقرأها، ويقرأ ما جاء فيها من التفسير؛ حتى يقف على المعاني، ويتدبر ذلك. من المسائل أيضًا: الحث على تدبر هذا القرآن العظيم الذي أنزله الله، وبَيَّن فضله وشرفه، وبَيَّن مكانته وقدره، وأمرنا بأن نتدبره، والتدبر هو التفكر والتأمل والتذكر لما في هذا القرآن من العبر والمواعظ والأوامر والنواهي والقصص، وما جرى للأقوام السابقة، وما أعده الله لأهل الإيمان، وما توعد به أهل الكفر. فالذي يقرأ القرآن عليه أن يقرن ذلك بالتدبر كما قال الله -تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(46)، وقال -تعالى- منكرًا على أولئك القوم على المنافقين الذين أعرضوا عن القرآن: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾(47)، وكذلك أنكر عليهم استفهام إنكار فقال في سورة محمد: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(48)، وهاتان الآيتان جاءتا في سياق ذكر أحوال المنافقين الذين يستمعون ولا ينتفعون، فكانوا يجلسون مجلس النبي -عليه الصلاة والسلام- ويستمعون القرآن والمواعظ، لكنهم معرضون بقلوبهم، فإذا خرجوا كما أخبر الله: ﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾(49)، ماذا قال حين في كلامه؟! ألم تعلموا ما تكلم به وهو كلام عربي تعرفونه فكيف لا تفهمونه؟! إذن هم أعرضوا عن القرآن وأعرضوا عن أمر الله -تعالى-؛ ولهذا فإن التدبر الوارد في قوله -تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾(50)، يحتمل أمرين: الأمر الأول: أن القارئ عليه أن يتدبر المعاني والدلالات والمقاصد التي أرشد الله -تعالى- عباده إليها، وهي كثيرة، فكل هذا الدين قائم عليها؛ كالصلاة والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة التوحيد ونبذ الشرك ونبذ الفسق والنفاق، هذه أوامر فلا يليق بقارئ القرآن أن يخالفها، فهو يقرأ قوله -تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾(51)، ثم هو يكذب في حديثه، فهذا لم يتدبر القرآن، فمهما كانت الأحوال فإنه لا يكذب في الحديث بل عليه أن يصدق؛ لأن الصدق صفة أهل الإيمان؛ ولهذا ذكر الله -تعالى- في هذه الآية الإيمان وصفة أهل التقوى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. فالصادق في قوله اتصف بصفة التقوى والإيمان، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن الكريم، لكن هذا نوع من أنواع تدبر المعاني والدلالات والمقاصد لكل ما يقرأه الإنسان، لا أن يقرأ حروفًا وكلمات فحسب، وإنما يقرأ كلام الرب -جل وعلا- ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(52). الأمر الثاني: وهو أن يتأمل القارئ دلالة بلاغة القرآن الكريم في اللفظ، وأنه من عند الله، وأن الذي جاء به صادق فيما قال، إذن نتأمل بلاغة هذا القرآن الكريم، وأنه جاء على أفصح اللغات، فلا يدانيه كلام ولا تدانيه بلاغة ولا فصاحة ولا بيان؛ ولهذا فالله -جل وعلا- تحدى العرب وهم اللد البلغاء والألسن الفصحاء أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال -تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(53)، أي: معينًا في البيان والبلاغة وتنميق العبارات، وهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله. ولهذا إذا وقفت على آيات جامعة مانعة لها دلالة عظيمة كقوله -تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة﴾(54)، إذا وقفت على هذه الآية تجدها قد جمعت معاني عظيمة ودلالات كبيرة، والعرب كانوا يقولون: ال*** أنفى لل***، والآية جاءت بشيء أوسع وأعم وأشمل من هذا، حياة للناس جميعًا، حياة لهم في أنفسهم وفي دينهم وفي أموالهم وفي اجتماعهم وفي سياستهم وفي أمنهم وفي أوطانهم، في كل شأن من شؤون الحياة؛ ولهذا فالله -سبحانه وتعالى- ذكر الحياة فقال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، وأيضًا الحياة نكرة وليست معرفة، لو كانت معرفة لكانت محصورة على جزء من الحياة، لكن اللفظ جاء نكرة فتذهب فيه النفس كل مذهب من أنواع الحياة التي تخطر ببال الإنسان، فألفاظه قليلة وعباراته معانيها عظيمة. |
|
#5
|
||||
|
||||
|
الآثار المروية في أخلاق حملة القرآن عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وهذا الأثر أصله في صحيح البخاري ومسلم بألفاظ مختلفة، أما هذا الأثر فقد أخرجه أبو داود وأحمد، وذكر عبد الله بن مسعود هنا طريقة من طرق قراءة القرآن الكريم، لكنه حذر منها ونهى عنها؛ وهي طريقة الهذ أو الهذرمة في القرآن الكريم، والهذ هو قراءة القرآن الكريم على وجه السرعة بلا تأمل ولا تدبر، وقد يكون في هذه القراءة إخلال بالآيات أو إسقاط لبعض الحروف بسبب العجلة في القراءة؛ ولهذا نهى عبد الله بن مسعود أن يهذ كهذ الشعر؛ لأن الشعر يلقى بعجلة وسرعة بلا تأمل ولا تدبر، وإنما هم الشاعر أن يلقي هذه الكلمات المنمقة بصوته ليظهر الفصاحة والبيان والمعاني فيما يقوله دون أن يتأمل أو يتدبر، قال: (لاَ تنثرُوهُ نثرَ الدقلِ)، أي: لا تنثروا القرآن، والضمير عائد إلى قراءة القرآن الكريم، والدقل هو رديء التمر أو هو اليابس منه؛ لأن التمر اليابس إذا نثر خرجت له أصوات وتتابع بعضه مع بعض بسرعة كما يكون في الشعر، فنهى القارئ أن يهذه هذ الشعر أو ينثره نثر الدقل، بل أمر -رضي الله عنه- القارئ أن يقف عند هذه الكلمات القرآنية ويتأملها ويعلم ما فيها من العجائب والدلالات والمعاني والهدايات، وأن يتحرك قلبه كما يتحرك لسانه بهذه التلاوة، فإذا قرأ القرآن الكريم فعليه أن يستشعر هذا القرآن فيتأثر به قلبه وبدنه، قال -تعالى: ﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾(2). ولا يحرص الإنسان على أن ينهي السورة أو الجزء أو الحزب في وقت سريع دون تأمل ولا تدبر، فهذا ورد النهي عنه؛ لأن الله -تعالى- قال: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾(3)، أي: يعملون به حق العمل، (2) الزمر: 23. (3) البقرة: 121. |
|
#6
|
||||
|
||||
|
مراتب تلاوة القرآن
ومن خلال هذا الأثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- يجرنا إلى ذكر مراتب التلاوة، فإذا كان عبد الله بن مسعود نهى عن هذه الطريقة في التلاوة؛ وهي الهذ أو الهذرمة أو النثر، إذن فما الطريقة الصحيحة في تلاوة القرآن الكريم؟ ومن خلال هذا الأثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- يجرنا إلى ذكر مراتب التلاوة، فإذا كانعبد الله بن مسعود نهى عن هذه الطريقة في التلاوة؛ وهي الهذ أو الهذرمة أو النثر، إذن فما الطريقة الصحيحة في تلاوة القرآن الكريم؟ ذكر العلماء أربع مراتب لتلاوة القرآن، هي: الترتيل، ثم التحقيق، ثم الحدر، ثم التدوير. المرتبة الأولى: الترتيل، هي المرتبة التي جاء بها القرآن الكريم، والترتيل يعني الترسل في التلاوة والتأني والتمهل، والتبيين بألفاظ القرآن الكريم كما قال الله -تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾(2)، أي: بينه تبيينًا، وقال -سبحانه: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾(3)، وقال -جل ذكره: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾، أي: على تمهل، ﴿ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾(4)؛ ولهذا لما نزل القرآن الكريم على النبي -عليه الصلاة والسلام- بادر بالعجلة في التلقي محبة في هذا القرآن وخوفًا ألا يضيع منه شيء، قال الله -تعالى: ﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾(5). فالله يأمر نبيه أن يقرأ كما يقرأ جبريل -عليه السلام، فجبريل يقرأ ثم هو يتلقى، كما قال الله -تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾(6)، فالترتيل هو التأني والتمهل والترسل في التلاوة، وقال -تعالى: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾(7)، أي: لا تعجل في قراءته، ولا تعجل في تلقيه، فأمره ربه -جل وعلا- أن يطمئن في الأخذ وفي التلاوة؛ لأن ترتيل القرآن الكريم بهذه الصورة التي فيها التأني والتمهل والترسل ثمرتها أن يتدبر القارئ ما يقرأ، وأن يفهم ويتأمل ثم بعد ذلك يعمل بما قرأ، فترتيل القرآن الكريم هو الذي جاء في القرآن، وهو الذي فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- وحث أصحابه عليه لما فيه من الحكم والفوائد. المرتبة الثانية: التحقيق، والتحقيق مرتبة قريبة من الترتيل، لكن التحقيق يستعمل في رياضة اللسان، وفي مقام التعليم وفي بيان مخارج الحروف وصفاتها، وفي زيادة ضبط وتعليم، فهو يقوم في مقام التعليم، فيعلم القارئ من يقرأ عليه كيف ينطق الحرف، ويعلمه كيف يخرج هذا الحرف، ومن أي مخرج هو؟ مثل أن يقول: إذا أردت أن تعرف مخرج الحرف فسكِّنه، وأدخل عليه همزة القطع، فستعرف مخرج هذا الحرف، مثلاً: القاف، أدخل عليها همزة قطع وسكنها فتقول: (أَقْ)، فهي من أقصى الحلق، وفي الباء: (أَبْ)، فهي من طرف اللسان، حينئذ يبدأ في القراءة، فإذا قرأ مثلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، فهو يقول لهم: بِسم الله، (يوضح الكسرة)، ولا يقول، بَسم الله (الكسرة غير واضحة)، فهو يبين كسرة الحرف وفتحته وضمته، وكان المتقدمون في السابق يكتبون قواعد تسمى بالقاعدة البغدادية ويكتبون كل حرف ثلاثة مرات: الكتابة الأولى فتحة، والثانية ضمة، والثالثة كسرة؛ وبذلك أتقنوا الحروف وأتقنوا ضبطها ومخارجها ومعرفة مخرج كل حرف، فهذا يدخل في التحقيق، والعلماء قد تكلموا عن مخارج الحروف وصفاتها، وبينوا عدد مخارج الحروف، وبينوا عدد صفاتها، فهذا من الأهمية بمكان لقارئ القرآن أن يعرف هذه المخارج في مقام الإقراء وفي مرتبة التحقيق، فضبط القراءة وإتقانها وتجويدها لا يكون إلا في مرتبة التحقيق؛ ولهذا فالتحقيق داخل في الترتيل، فالذي ضبط التحقيق يستطيع أن يقرأ قراءة مرتلة ولا يخل بشيء من الأحرف ولا الكلمات. ومن مقامات التحقيق أنه يتعرض للوقف والابتداء، فيعرف متى يقف، ومتى يبتدئ، ومتى يصل... إلى غير ذلك من الأمور متعلقة بالتحقيق، وبعض أهل العلم لم يفرق بين الترتيل والتحقيق، وجعلهما مرتبة واحدة، وسأذكر كلام أهل العلم وأيهما أفضل، بعد سياق هذا العرض. المرتبة الثالثة: الحدر، وهو السرعة في القراءة مع المحافظة على أحكام التلاوة، وفيه تكثير للحسنات؛ لأن الإنسان يقرأ كثيرًا إذا حدر، فإذا قرأ كثيرًا أخذ أجرًا كثيرًا، كما تقدم في الحديث أن قارئ القرآن يؤجر على كل حرف من أحرف القرآن الكريم. والمرتبة الرابعة: التدوير، وهو حالة متوسطة بين مرتبة الترتيل ومرتبة الحدر، ويكون مع المحافظة على أحكام الحروف والوقف والابتداء والمخارج والصفات، وأكثر أهل الأداء أخذوا بهذا النوع من أنواع مراتب القراءة وهو التدوير، ونقل ذلك ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب زاد المعاد، وبنى على ذلك مسائل. إذن علمنا أن مراتب القراءة هي: الترتيل والتحقيق والحدر والتدوير، فالترتيل فيه تأنٍ في التلاوة، والحدر: فيه سرعة مع ضبط، والسؤال الآن: أيهما أفضل؛ الترتيل أم الحدر؟ ذكرنا في أول الكلام أن الترتيل يصحبه التدبر والتأمل والتفكر، وهذا هو المقصود من التلاوة، أما الحدر فإن فيه كثرة ثواب لكثرة القراءة، إذن يوجد مذهبان لأهل العلم في هذه المسألة: ما الأفضل الترتيل أم الحدر؟ ذهب عبد الله بن مسعود -كما سبق في الأثر- وابن عباس -رضي الله عنهما- وغيرهما من الصحابة والتابعين إلى أن الترتيل مع قلة القراءة أفضل من الحدر الذي فيه سرعة للقراءة، واحتجوا بحجج منها: أن المقصود من القراءة هو: الفهم والتدبر والفقه والعمل بما يقرأ، وليس الكثرة، وتلاوته بتأنٍ وتدبر وسيلة إلى فهم معانيه، وهذا يكون في التأني، والقرآن الكريم كما هو معلوم نزل ليعمل به لا أن يكون يقرأ فقط. |
|
#7
|
||||
|
||||
|
وقال بعض السلف: نزل ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً، فأهل القرآن المتدبرون لآياته ومعانيه هم العالمون بآياته العاملون بما فيه وإن لم يحفظوه كله عن ظهر قلب، وهذا كان حال الصحابة، فالصحابة لم يحفظوا القرآن كلهم، وإنما حفظه بعضهم، لكن الذي يحفظ القرآن ويكثر من تلاوته وهو لا يفهمه ولا يعمل به فليس من أهل القرآن الذين ورد فيهم الفضل، وترتب على قراءتهم الأجر؛ ولهذا تعلمون أن فرقة الخوارج كانوا أهل قرآن، وكانوا يقرؤون القرآن ويكثرون من تلاوته، ولكنه لا يجاوز حناجرهم ولا تراقيهم، ولكنهم يكثرون من التلاوة ولا يعلمون بما فيه؛ ولهذا وقعوا فيما وقعوا فيه من المخالفات؛ لأنهم لم يعملوا به، فهذا وجه من وجوه الترجيح أو في بيان فضل الترتيل على الحدر.
وقالوا أيضًا: إن القرآن جاء بهذا قال -تعالى: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾(8) وقال: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾(9)، فهنا جاء بالفعل ثم أكده بعد ذلك بالمصدر، فقال -تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ وهذا التأكيد للثبات على هذا النوع من أنواع القراءة، وأن يداوم الإنسان عليه؛ لأنه وسيلة إلى التدبر والفهم، وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرأ كذلك، كما نقل عنه -عليه الصلاة والسلام- في أحاديث كثيرة تقول حفصة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم: "كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها"(10)، ولما سئل أنس(11) -رضي الله عنه- عن قراءة النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "كانت قراءته مدا"(12)، فيمد الرحيم، وهذا مد عارض للسكون، وفيه ثلاثة أوجه: القصر والتوسط والمد، ونقل كثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- صفة قراءة النبي -عليه الصلاة والسلام- كما نقلت ذلك أيضًا أم سلمة(13). والقول الثاني: ذهب إليه بعض أهل الأداء وبعض أصحاب الشافعي ورجحوا أن الحدر أفضل، قالوا: لأن فيه كثرة للقراءة وكثرة القراءة أفضل حينئذ، واحتجوا على ذلك بما ورد في الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود وصححه الترمذي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: « مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ: آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»(14)، وقالوا: لأن بعض السلف كان يكثر من القرآن، بل بلغ الأمر ببعضهم إلى أن يختم في الليلة، بل زاد على ذلك أن يختم في ركعة، كما ورد ذلك عن عثمان -رضي الله عنه- فقد ورد أنه أحيا القرآن كله في ركعة(15)، وورد عن تميم الداري(16) أنه قرأ القرآن في ليلة(17)، وورد عن سعيد بن جبير(18) أنه أيضًا قرأ القرآن في ركعة(19)، وورد أيضًا عن علقمة بن قيس(20) من أكابر تلامذة عبد الله بن مسعود أنه ختم القرآن في ليلة(21)، قالوا: لأن هذا كان من عادة السلف أنهم يقرؤون القرآن كثيرًا، وهذه الروايات عن هؤلاء الصحابة والتابعين أخرجها أبو عبيد في فضائل القرآن، وأخرجها أيضًا البيهقي، وأخرجها ابن ماجه، وقد صحح أسانيدها ابن كثير في فضائل القرآن في مقدمة التفسير، وقال الذهبي معلقًا على ذلك: هذا خلاف السنة. إذن هؤلاء الصحابة أو التابعون اجتهدوا في طلب الخير، وفي التزود من قراءة القرآن الكريم، لكن السنة جاءت بخلاف ذلك، وهذا يظهر لك جليًّا وواضحًا في وصية النبي -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمرو بن العاص حينما جاءه قال له -عليه الصلاة والسلام: « كَمْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟». قال: أقرأه في ليلة، قال: « اقْرَأْهُ فِي شَهْرٍ». قال: إني أطيق أكثر من ذلك، حتى أوصله -عليه الصلاة والسلام- إلى سبع ليال(22). قال العلماء: هذه مدة كافية لمن أراد أن يختم القرآن الكريم وهو يتأمل ويتدبر ما فيه من المعاني، فالأخذ بوصية النبي -عليه الصلاة والسلام- أولى حينئذ، وإن كان بعض الصحابة والتابعين اجتهدوا وقرؤوا القرآن في ليلة كاملة، ولكن فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- وتوجيهه لعبد الله بن عمرو بن العاص هو الأولى في الأخذ، وورد في بعض الروايات أنه يختمه في ثلاث ليال كما سيأتي. إذن القول المختار والصواب أن ثواب قراءة الترتيل والتدبر الترتيل المقرونة بالتدبر والتفهم والفقه أعلى وأجل أرفع قدرًا من القراءة بالحدر، ولكن في كلٍّ خير، قالوا: إن قراءة الحدر أكثر عددًا وقراءة الترتيل أكثر ثوابًا، ومثلوا لذلك بمثال وهو: أن يكون لدى الإنسان جوهرة فيبيعها بألف، هذا هو الترتيل، وإنسان عنده أربع جواهر وباعها بألف أيضًا، لكن هذه عددها خمس وهذه واحدة، أو كأن يكون إنسان عنده عبد نفيس يبيعه بألف وآخر عنده خمسة من العبيد فيبعهم بألف أيضًا؛ لأن ذاك أنفس منهم وأعلى عنده. فلا يقال إن الحدر مردود ولا يقرأ به إنسان،بل أخذ به أكثر أهل الأدب، فقد أخذ به ابن كثير(23) والكسائي(24) وأبو عمرو البصري(25) في بعض الروايات عنه، فلهذا فضله ولهذا فضله، لكن أيهما أولى؟ الأولى الترتيل؛ لأن الترتيل هو فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي نزل به القرآن الكريم، وفي الترتيل معرفة المواقف على الآيات، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يقف على رؤوس الآيات حتى ولو اختلف المعنى، ولكن كيف يختلف المعنى؟ تأتي آية مرتبطة في المعنى بالتي بعدها في مثل قوله -تعالى: ﴿ فَوَيلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾(26)، فهذا وعيد للمصلين، لكن هل هو لكل المصلين؟ هذا لبعض المصلين المخالفين وهم الساهون في صلاتهم؛ ولهذا قال -تعالى: ﴿ فَوَيلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾(27). وحينئذ على القارئ أن يقرآ: ﴿فَوَيلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾، ويقف، ثم يقول: ﴿فَوَيلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ فيجمع بين الأمرين؛ بين السنية في الوقف على رؤوس الآيات، وبين ارتباط معنى الآية، ومثل قوله -تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾(28)، إذا قال ذلك وسكت لم يتم المعنى، وهو قد وقف على رأس الآية، ولا يتم المعنى إلا بقوله -تعالى: ﴿وَيبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾(29)، فيقول القارئ: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾، ويقف، ثم يرجع ويقول: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾، فجمع بين الأمرين، بين الوقف على رؤوس الآيات وبين اتصال المعنى. |
![]() |
| العلامات المرجعية |
|
|