اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > الاقسام المميزة > الموضوعات العامة

الموضوعات العامة قسم يختص بعرض الموضوعات و المعلومات العامة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #16  
قديم 22-12-2013, 02:13 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي


القانون

انعدام القانون - القانون والعادة - الثأر - الغرامات

المحاكم - المحنة - المبارزة - العقاب - الحرية البدائية

يأتي القانون مصاحبا للملكية والزواج والحكومة ؛ فأحط المجتمعات تدبر أمرها بغير قانون ؛ يقول "ألفرد رسل ولاس" : "لقد عشت مع جماعات الهمج في أمريكا الجنوبية وفي الشرق ، ولم أجد بينهم قانون ولا محاكم سوى الرأي العام الذي يعبر عنه أهل القرية تعبيرا حرا ، فكل إنسان يحترم حقوق زملائه احتراما دقيقا ، فالاعتداء على هذه الحقوق يندر وقوعه أو يستحيل ، إن الناس جميعا في مثل هذه الجماعة متساوون تقريبا" ؛ وكذلك كتب "هرمان ملفيل" Herman Melville شيئا كهذا عن أهل جزيرة ماركساس Marqusas فقال : "أثناء وجودي بين قبيلة "التايبي" Typees لم يُقَدّم أحد قط للمحاكمة بتهمة الاعتداء على غيره من الناس ؛ وسار كل شيء في الوادي سيرا هادئا متسقا على صورة لا تجد لها مثيلا في الجماعات المسيحية مهما انتقيت منها خيرها وأصفاها وأنقاها ؛ وإن في هذا القول مني لجرأة أستبيحها لأنه قول الصدق" ؛ ولقد أقامت حكومة الروسيا القديمة دورا للمحاكم في جزر ألوشيا لكنها لم تصنع شيئا قط مدى خمسين عاما، ويقول "برِنتُنْ" Printon : "كانت الجرائم والاعتداءات في قبيلة إراكوا من القلة في ظل نظامهم الاجتماعي بحيث تكاد لا تجد ما يبرر أن نقول أن لهم قانونا للعقوبات" ، هذه هي الظروف المثالية أو ربما كانت صورتها المثالية من خلفنا نحن - التي يتمنى الفوضويون عودتها .

لكن هذه الصورة يجب أن تعدل بعض التعديل ؛ فالجماعات الفطرية تتمتع بحرية نسبية من قيود القانون ؛ أولاً لأنها محكومة بعادات هي في صرامتها وفي استحالة الخروج عليها كأي قانون ، وثانياً لأن جرائم ال*** في أول الأمر تعتبر مسائل خاصة يقضى فيها بالثأر الشخصي الذي تُسفح فيه الدماء.

إن التقاليد لتكوّن أساسا ثابتا مكينا تراه مستقرا تحت الظواهر الاجتماعية كلها ؛ فهي بمثابة الصخرة الراسخة في أسفل البناء ، وقوامها ألوان الفكر وضروب الفعل التي خلع عليها مر الزمان هالة من تقديس ، وهي تُمِدُّ المجتمع بشيء من الثبات والنظام إذا ما انتفى القانون أو تغير أو اضطرب ؛ فالتقاليد فيما تعطيه للجماعة من استقرار تشبه الوراثة والغرائز فيما تعطيانه من استقرار للنوع البشري ، كما تشبه العادات بالقياس إلى الفرد الواحد ؛ والتقاليد هي الاطراد المكرور الذي يحفظ للناس عقولهم في رءوسهم لأنه إذا لم تكن لدى الإنسان هذه القنوات التي ينزلق فيها التفكير والعمل انزلاقا لا شعوريا يسيرا ، لاضطر العقل أن يتردد إزاء كل شيء وسرعان ما يلوذ بالجنون مهربا ؛ والغرائز والعادات والتقاليد والأوضاع الاجتماعية كلها تتحدد وفق قانون اقتصادي يستغني بالقليل عن الكثير، لأن العمل الآلي هو أنسب طريقة يستجيب بها الإنسان للمثير الخارجي إذا تكرر، أو للموقف المعين إذا تجدد حدوثه ؛ أما التفكير الأصيل والتشديد في السلوك فهو اضطراب في مجرى الاطراد ، ولا يستطيعه الإنسان إلا في الحالات التي يريد فيها أن يغير من سلوكه المألوف بحيث يلائم الموقف الذي يحيط به ، أو في الحالات التي يأمل فيها أن يكافأ على تشديده وتفكيره كسبا موفوراً .
فإذا أضيف إلى هذا الأساس الطبيعي وهو التقاليد ، تأمين يأتيه من السماء عن طريق الدين ، وأصبحت تقاليد آبائنا هي كذلك ما تريده لنا الآلهة من سلوك ، عندئذ تصبح التقاليد أقوى من القانون ، ويبعد الإنسان عن حريته البدائية بعدا جوهريا ً؛ إنك إذا جاوزت حدود القانون فقد كسبت إعجاب نصف الناس الذين يحسدون في أعماق نفوسهم كل من يستطيع أن يتغلب بذكائه على هذا العدو القديم ؛ أما إذا جاوزت حدود التقاليد فأنت قمين أن تصطدم بمقت الجميع لأن التقاليد تنشأ من الناس أنفسهم ، بينما يفرض عليهم القانون فرضا من أعلى ؛ القانون عادة مرسوم قضى به السلطان ، أما التقاليد فهي الانتخاب الطبيعي لألوان السلوك التي ثبتت صلاحيتها في خبرة المجتمع، والقانون يأخذ في حلوله محل التقاليد حين تحل الدولة محل الأسرة والقبيلة والعشيرة والمجتمع القروي ، وكلها أنظمة طبيعية ؛ ثم يتم حلول القانون محل التقاليد حين تظهر الكتابة ، وتتدرج القوانين في انتقالها من تشريع يهبط إلى الخلف عن طريق ذاكرات الشيوخ والكهنة ، إلى نظام تشريعي صريح مكتوب على ألواح، لكن حلول القانون محل التقاليد لم يكمل في يوم من الأيام ؛ وستظل التقاليد حتى النهاية هي القوة الكامنة من وراء القانون حين يقرر الإنسان أي نوع من السلوك ينبغي أن يسلك ، وحين يحكم على أنواع السلوك بالخير والشر ؛ ستظل التقاليد حتى النهاية هي القوة الكامنة وراء العرش ، "هي الحكم الأخير الذي يقضى في حياة الإنسان".
وأول المراحل في تطور القانون أخذ الإنسان لنفسه بالثأر فيقول الرجل من البدائيين : "إن الثأر ثأري وسأرد عن نفسي ما لَحِقَ بي" ، وكل فرد من القبائل الهندية التي تسكن "كاليفورنيا السفلى" هو لنفسه الشرطي وهو الذي يقيم لنفسه ميزان العدل بما تسعفه قوته من الثأر؛ ففي مجتمعات بدائية كثيرة إذا حدث لشخص "أ" أن اغتال شخصا آخر هو "ب" كانت النتيجة أن ي*** "أ" على يد ابن "ب" أو صديقه. ولنرمز له بالحرف "جـ"، ثم ي*** هذا الابن أو الصديق على يد شخص رابع هو "د" يكون ابن "أ" أو صديقه وهكذا حتى تنتهي أحرف الهجاء، وإنك لترى أمثلة للثأر في أنقى العائلات الأمريكية دماً في يومنا هذا، ولقد امتد الثأر ما امتد القانون نفسه في عصور التاريخ ، وهو يظهر في "القصاص" المذكور في القانون الروماني؛ والقصاص يلعب دورا كبيرا في تشريع حمورابي، وتراه في أمر "موسى" بأن تكون "العين بالعين والسن بالسن" وهو ما يزال كامناً وراء الكثرة الغالبة من العقوبات القضائية حتى اليوم .
والخطوة الثانية نحو القانون والمدنية من حيث التصرف إزاء الجريمة هي الأخذ بالتعويض بدل الثأر، فكثيرا جداً ما استعمل الرئيس سلطته أو نفوذه لكي يحافظ على حسن العلاقات بين أفراد جماعته - ليحمل الأسرة الراغبة في الأخذ بالثأر على أن تستبدل بالدم المطلوب ذهباً أو متاعاً ؛ ثم ما هو إلا أن نشأت "تَعْرِيفة" قانونية، تحدد كم من المال ينبغي أن يدفع ثمناً للعين وكم للسن وكم للذراع وكم للحياة، وقد توسع حمورابي في تشريعه على هذا الأساس ؛ وقد كان أهل الحبشة غاية في الدقة في العقوبة بالقصاص بحيث إذا سقط صبي من أعلى الشجرة على زميله وقتـله ، فإن القاضي يحكم بأن ترسِلَ الأم الثكلى ابناً آخر من أبنائها ليسقط من أعلى الشجرة على عنق الصبي الذي اقترف الذنب أول مرة ، والعقوبات التي تُقَدَّر في حالات التعويض ، قد تختلف باختلاف جنـس المعتدي والمعتدى عليه ، وعمره ومنزلته ، فالفيجيون - مثلاً - يعتبرون السرقة الطفيفة يأتيها إنسان من سواد الناس ، أشنع إجراما من القتـل يقترفه الرئيس وهذا ما حدث طوال تاريخ القانون ، ففداحة الجريمة كانت دائماً تقل بعلو منزلة المجرم ولما كانت هذه الغرامات أو التعويضات التي تدفع اجتناباً للثأر، تتطلب تقديراً للجريمة وللتعويض بحيث يتلاءمان ، اتخذت خطوة ثالثة نحو القانون وهي قيام المحاكم، حيث كان الرؤساء أو الكهنة أو الشيوخ يجلسون مجلس القضاة ليقضوا فيما ينشب بين الناس من خلاف ، ولم تكن هذه المحاكم دائماً مجالس تقضي كما يقضي القضاة ، بل كثيرا ما كانت مجالس لإصلاح ذات البين ، فكانت تصل بالمتخاصمين إلى حل يرضيهما معاً بصورة ودية ؛ ولبث الالتجاء إلى المحاكم اختيارياً لدى كثير من الشعوب مدى قرون طوال ، وكان المعتدى عليه إذا لم يُرْضه الحكم الصادر في شأنه ، يباح له أن يأخذ ثأره بيده .
وفي حالات كثيرة كان البت في أمر الخصومات يتم في صورة عراك يجري على مرأى من الناس بين المتخاصمين ، وكان هذا العراك يختلف في مدى إراقته للدماء ، من مباراة في الملاكمة لا يترتب عليها شيء من الأذى - كما هو الحال بين الإسكيمو الحكماء - إلى مبارزة تنتهي بالموت ؛ وكثيراً ما لجأ البدائيون إلى اصطناع المحنة في فض مشكلاتهم ، غير أنهم لم يقيموها على أساس النظرية التي سادت في القرون الوسطى بأن الله سيكشف عن المجرم عن طريق المحنة بقدر ما أقاموها على أساس من أمل بأن المحنة مهما بلغت من بعدها عن العدل ، ستختم نزاعاً قد تضطرب له القبيلة أجيالا عدة إذا لم يلجأ في فضه إلى المحنة ومن أمثلة ذلك أن المتَّهِمَ والمتَهَمَ كليهما يطلب إليهما أن يختار كل منهما صحفة طعام من بين صحفتين إحداهما مسمومة، وقد ينتهي هذا الاختيار بأن يأخذ الصحفة المسمومة من هو بريء (والعادة ألا يكون أثر السم مما يستحيل الخلاص منه) لكن الخصومة تنتهي بهذا، ما دام الفريقان يعتقدان في غير إرغام بعدالة مبدأ المحنة؛ وقد كانت العادة عند بعض القبائل أن المذنب إذا اعترف بذنبه مد ساقه للمعتدى عليه ليطعنها برمحه ؛ أو يُطْلب إلى المتهم أن يصمد للرماح يقذفه بها متهموه، فإذا أخطأته الرماح جميعاً، أعلنت براءته، أما إذا أصابه ولو رمح واحد، حكم بإدانته وفُضَّ الخلاف .
وهكذا هبط مبدأ المحنة خلال العصور، بادئاً من تلك الصور البدائية إلى قوانين موسى وحمورابي ثم إلى العصور الوسطى ؛ والمبارزة ضرب من ضروب المحنة ، وقد ظن المؤرخون أنها قد انقضى عهدها ، لكنها في طريقها إلى العودة من جديد في أيامنا هذه ، وهكذا ترى الفارق بين الإنسان البدائي والإنسان الحديث ضيقاً صغيراً في بعض جوانب الحياة ، وإن تاريخ المدنية لقصير .
ورابع الخطوات التي خطاها القانون في تطوره ، هي أن تعهد الرئيس أو تعهدت الدولة أن يحول دون الاعتداء وان يُنزل العقاب بالمعتدي ؛ وليس بين فض النزاع وإنزال العقاب بالمعتدين وبين محاولة اتقاء وقوع النزاع إلا خطوة واحدة ؛ بهذا لم يَعُد الرئيس قاضياً وكفى ، بل أصبح إلى جانب ذلك مشرعاً يسنُّ القوانين ، وأضيفت إلى مجموعة القوانين العامة الشائعة بين الناس ، والتي استمدوها من تقاليدهم مجموعة أخرى من "القوانين الوضعية" التي مصدرها مراسيم الحكومة ؛ ففي الحالة الأولى تصعد القوانين من أسفل ، وفي الحالة الثانية تهبط على الناس من أعلى ؛ وفي كلتا الحالين ترى القوانين مصطبغة بمسحة السلف الغابر، وتشم فيها رائحة الأخذ بالثأر الذي جاءت تلك القوانين بديلاً له ؛ لقد كان العقاب في الجماعات البدائية قاسياً لأن تلك الجماعات لم تكن آمنة على حياتها ، ولذلك ترى صرامة العقاب تقل كلما ازداد النظام الاجتماعي استقراراً .
وتستطيع القول بصفة عامة أن "حقوق" الفرد في المجتمع الفطري أقل منها في حالة المدنية؛ فأينما وجَّهت النظر وجدت الإنسان يولد مكبلا بالأغلال : أغلال الوراثة والبيئة والتقاليد والقانون ؛ والفرد في الجماعة البدائية يتحرك في شبكة من القوانين التي تبلغ بصرامتها وتفصيلاتها حداً يجاوز المعقول ، فألف تحريم يحدد سلوكه وألف إرهاب يشل إرادته ؛ أن أهل زيلندة الجديدة كانوا فيما يبدو للعين يعيشون بغير قانون ، لكنهم في حقيقة أمرهم كانت التقاليد تتحكم في كل مظهر من مظاهر حياتهم؛ كذلك أهل البنغال تسيرهم التقاليد التي لا قِبَل لهم بتغيرها أو معارضتها ، فتحدد لهم طريقة الجلوس والقيام والوقوف والمشي والأكل والشرب والنوم ؛ فالفرد أوشك ألا يكون في عرفهم كائناً مستقلاً بذاته في البيئة الفطرية ، ولم يكن يتمتع بالوجود الحق إلا الأسرة وإلا القبيلة والعشيرة والمجتمع القروي ، فهذه الهيئات هي التي تملك الأرض أو تباشر السلطان ، ولم يصبح للفرد وجود واقعي متميز من وجود مجموعته إلا بعد أن ظهرت الملكية الخاصة التي هيأت له سلطاناً اقتصادياً ، وبعد أن ظهرت الدولة التي اعترفت له بوجود قانوني وحقوق محددة ؛ إن الحقوق لا تأتينا من الطبيعة ، لأن الطبيعة لا تعرف من الحقوق إلا الدهاء والقوة ؛ إنما الحقوق مزايا منحتها الجماعة للأفراد على اعتبار أنها تؤدي إلى الخير العام؛ ولذا فالحرية ترف اقتضاه اطمئنان الحياة، والفرد الحر ثمرة أنتجتها المدنية، وعلامة تُمَيّزُها .


آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 22-12-2013 الساعة 02:18 PM
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 22-12-2013, 03:57 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

الأسرة

وظيفتها في المدنية - موازنة القبيلة والأسرة - نمو العناية الأبوية - عدم أهمية الوالد - انفصال الجنـسين - حق الأمومة - منزلة المرأة- وظائفها - أعمالها الاقتصادية - الأسرة الأبوية - إخضاع المرأة

لما كانت الحاجات الأساسية للإنسان هي الجوع والحب ، كانت الوظائف الرئيسية للتنظيم الاجتماعي هي تهيئة الموارد الاقتصادية ودوام البقاء من الوجهة البيولوجية ؛ فاتصال النسل في سلسلة من الأبناء حيوي كاتصال الطعام ؛ لهذا ترى المجتمع يضيف دائماً إلى الأنظمة الاجتماعية التي من شأنها أن تهيئ الراحة المادية والنظام السياسي ، أنظمة أخرى من شأنها أن تديم بقاء الإنسان في نسله ؛ ولقد لبثت القبيلة - حتى قيام الدولة قُرب بداية المدنية التاريخية بحيث أصبحت للنظام الاجتماعي مركزاً رئيسياً دائماً - لبثت القبيلة حتى ذلك العهد تتولى هذه المهمة الدقيقة ، مهمة تنظيم العلاقة بين الجنـسين وبين الأجيال المتعاقبة ، بل أنه حتى قيام الدولة ، ظلت مقاليد حكومة الإنسان مستقرة في تلك الجماعة التي هي أعمق الأنظمة التاريخية جذوراً - وهي الأسرة، إنه لبعيد الاحتمال أن يكون الإنسان الأول قد عاش في أسرات متفرقة، حتى في مرحلة الصيد ؛ لأن ضعف الإنسان في أعضائه الفسيولوجية التي يدافع بها عن نفسه ، كان قمينا أن يجعل منه فريسة للكواسر التي لم تزل تجوس في مناكب الأرض ؛ فالعادة في الطبيعة أنه إذا ما كان الكائن العضوي ضعيف الإعداد للدفاع عن نفسه وهو فرد ، لجأ إلى الاعتصام بأفراد من نوعه ، لتعيش الأفراد جماعة تستعين بالتعاون على البقاء في عالم تمتلئ جنباته بالأنياب والمخالب والجلود التي يستحيل ثَقِبها، وأغلب الظن أن قد كانت هذه هي حالة الإنسان أول أمره ، فأنقذ نفسه بالتماسك في جماعة الصيد أولاً فالقبيلة ثانياً ؛ فلما حلت العلاقات الاقتصادية والسيادة السياسية محل القربى كمبدأ للتنظيم الاجتماعي ، فقدت القبيلة مكانتها التي كانت تجعل منها قوام المجتمع ؛ وحل محلها في أسفل البناء الأسرة ، كما حلت الدولة محلها في قمته ؛ وعندئذ تولت الحكومة مشكلة استتباب النظام ، بينما أخذت الأسرة على نفسها أن تعيد تنظيم الصناعة وأن تعمل على بقاء الجنـس .
ليس من طبيعة الحيوانات الدنيا أن تعنى بنسلها ، لذلك كانت إناثها تقذف بيضها في كميات كبيرة ، فيعيش بعضها وينمو، بينما كثرتها الغالبة تُلتَهم أو يصيبها الفساد ؛ إن معظم السمك يبيض مليون بيضة في العام ؛ وليس بين السمك إلا أنواع قليلة تبدي شيئاً من العطف على صغارها ، وترى في خمسين بيضة تبيضها الواحدة منها في العام عدداً يكفي أغراضها ؛ والطيور أكثر من السمك عناية بالصغار، فيفقس الطائر كل عام من خمسة بيضات إلى اثنتي عشرة كل عام؛ وأما الحيوانات الثـديية التي تدل باسمها على عنايتها بأبنائها، فهي تسود الأرض بنسل لا يزيد عن ثلاثة أبناء في المتوسط لكل أنثى في العام الواحد ؛ إن القاعدة العامة في عالم الحيوان كله هي أن خصـوبة النسل وفناءه يقلان معاً كلما ازدادت عناية الأبوين بالصغار؛ والقاعدة العامة في عالم الإنسان من أول نشأته هي أن متوسط المواليد ومتوسط الوفيات يهبطان معاً كلما ازدادت المدنية صعوداً ؛ إن عناية الأسرة بأبنائها إذا ما حسُنت، مكنت النشء من مدة أطول يقيمونها تحت جناح الأسرة فيكمل تدريبهم ونموهم إلى درجة أكبر، قبل أن يُقذف بهم ليعتمدوا على أنفسهم، وكذلك قلة المواليد تصرف المجهود البشري إلى اوجه أخرى من النشاط بدل استنفاذه كله في عملية النسل.

ولما كان يُعهد إلى الأم بأداء معظم ما تقتضيه العناية بالأبناء من خدمات ، فقد كان تنظيم الأسرة في أول أمرها (ما استطعنا أن ننفذ بأبصارنا خلال ضباب التاريخ) قائماً على أساس أن منزلة الرجل في الأسرة كانت تافه وعارضه ، بينما مهمة الأم فيها أساسية لا تعلوها مهمة أخرى ؛ والدور الفسيولوجي الذي يقوم به الذكر في التناسـل، لا يكاد يستوقف النظر في بعض القبائل الموجودة اليوم ، وربما كان الأمر كذلك في الجماعات البشرية الأولى ، شأن الرجل من الإنسان في ذلك شأن الذكر من صنوف الحيوان التي تناديها الطبيعة للتناسـل فيطلب العشير عشيره ويتكاثر النسل دون أن يؤرق وَعْيَهم أن يحللوا هذه العملية إلى أسباب ونتائج ؛ فسكان جزائر "تروبرياند" Trobriand لا يعزون حمل النساء إلى الاتصال بين الجنـسين بل يعللونه بدخول شبح في جوف المرأة ، وأن هذا الشبح ليدخل جوفها عادة إذ هي تستحم ؛ فتقول الفتاة في ذلك "لقد عضتني سمكة" ويقول مالينوفسكي Malinowski : وسألت من يكون والد طفلِ وُلِدَ سفاحاً ، أجابوني كلهم بجواب واحد: إنه طفل بغير والد لأن الفتاة لم تتزوج ؛ فلما سألتُ في تعبير أصرح : "من ذا اتصل بالمرأة اتصالاً فسيولوجياً فأنْسَلَت ، لم يفهموا سؤالي . . . ولو أجابوا كان الجواب : إنه الشبح هو الذي وهبها طفلها" ؛ وكان لسكان تلك الجزيرة عقيدة غريبة وهي أن الشبح أسرع إلى دخوله امرأة أسلمت نفسها لكثير من الرجال في غير تحفظ ؛ ومع ذلك فإذا ما أراد النساء أن يجتنبن الحمل، آثرن ألا يستحممن في البحر إذا علا مَدُّه، على أن يمتنعن عن اتصالهن بالرجال وأنها لعقيدة ممتعة لا بد أن قد أراحت الناس من عناء كبير كلما أعقب استسلام المرأة للرجل نتيجةً تسبب شيئاً من الحيرة ، وما كان ألذها عقيدة لو أنها أنتُحلتْ للأزواج كما انتحلت لعلماء الأجنـاس البشرية.

وأما أهل مالنيزيا فقد عرفوا أن الحمل نتيجة الاتصال بين الجنـسين ، لكن الفتيات اللائي لم يتزوجن يُصْرِرْن على أن حملهن قد سبّبه لهن لون من الطعام أكلنه وحتى بعد أن أدركوا وظيفة الذكر في التناسل ، كانت العلاقات الجنـسية من الاضطراب بحيث لم يكن يسيراً عليهم أن يحددوا لكل طفل أباه ؛ ونتيجة ذلك هي أن المرأة البدائية الأولى قلما كانت تعنى بالبحث عمن يكون والد طفلها ؛ أن الطفل طفلها هي ، وهي لا تنتمي إلى زوج بل إلى أبيها - أو أخيها - وإلى القبيلة ، لأنها إنما تعيش مع هؤلاء ، وهؤلاء هم كل الأقارب الذكور الذين يعرفهم الطفل على أنهم ذوو قرباه ، لهذا كانت روابط العاطفة بين الأخ وأخته أقوى منها بين الزوج وزوجته ، وفي كثير من الحالات كان الزوج يقيم مع أسرة أمه وقبيلتها ، لا يرى زوجته إلا زائراً متستراً ، وحتى في المدنية القديمة كان الأخ أعز عند المرأة من زوجها ، فزوجة "انتافرنيز" أنقذت أخاها لا زوجها من غضبة "دارا" كذلك "انتجونا" ضحت بنفسها من أجل أخيها لا من أجل زوجها "فالفكرة القائلة بأن زوجة الرجل هي أقرب إنسان في الدنيا إلى قلبه ، فكرة حديثة نسبياً، ثم هي فكرة لا تراها إلا في جزء صغير نسبياً من أجزاء الجنـس البشري" .
إن العلاقة بين الوالد والأبناء في المجتمع البدائي هي من الضعف بحيث يعيش الجنـسان منفصلين في عدد كبير من القبائل ؛ ففي استراليا وغيانة البريطانية الجديدة ، وفي إفريقية وميكرونيزنا ، وفي أسام وبورما ، وبين الألوشيين والإسكيمو والساموديين ، وهنا وهناك من أرجاء الأرض ، قد ترى إلى اليوم قبائل لا تجد فيها للحياة العائلية أثراً فالرجال يعيشون معتزلين النساء ، ولا يزورونهن إلا لماما ، حتى الطعام ترى كلا من الفريقين يأكل بعيداً عن الأخر ؛ وفي شمالي بابوا لا يجوز للرجل أن يرى مجتمعاً بامرأة أمام الناس حتى وإن كانت تلك المرأة أم أبنائه ؛ والحياة العائلية ليست معروفة في "تاهيتي" على الإطلاق ، ومن انفصال الجنـسين على هذا النحو تنشأ العلاقات السرية - التي تراها في كل الأجنـاس البدائية، وهي مَهْرب يلوذ به الرجال في كثير من الحالات فراراً من المرأة ؛ وهذه العلاقات السرية لها شبيه في حياتنا الحاضرة وإن اختلفت في وجهها فهذه وليدة تلك.
إذن فابسط صور العائلة هي الأم وأبناؤها تعيش بهم في كنف أمهم أو أخيها في القبيلة ؛ وهذا النظام نتيجة طبيعية للأسرة عند الحيوان ، التي تتكون من الأم وصغارها ، وهو كذلك نتيجة طبيعية للجهل البيولوجي الذي يتصف به الإنسان البدائي ؛ وكان لهذا النظام العائلي بديل آخر في العهد الأول ، وهو "الزواج الذي يضيف الزوج إلى أسرة زوجته" ، إذ يقضي هذا النظام أن يهجر الزوج قبيلته ليعيش مع قبيلة زوجته وأسرتها ويعمل من أجلها أو معها في خدمة والديها ؛ فالأنساب في هذه الحالة يُقتَفَى أثرها في جانب الإناث، والتوريث يكون عن طريق الأم ؛ حتى حق العرش أحياناً كان يهبط إلى الوارث عن طريق الأم لا عن طريق الزوج ؛ على أن هذا الحق الذي للأمومة ليس معناه سيطرة المرأة على الرجل ؛ لأنه حتى إن وَرَّثَت الأم أبناءها فليس لها على ملكها هذا الذي تُورثه إلا قليل من السلطان ؛ وكل ما في الأمر أن الأم كانت وسيلة تَعَقُّب الأنساب ، لأنه لولا ذلك لأدى إهمال الناس عندئذ في العلاقات الجنـسية وإبـاحيتهم إلى انبهام معالم القُربى ، نعم إن للمرأة نفوذاً في أي نظام اجتماعي كائناً ما كان ولو إلى حد محدود، هو نتيجة طبيعية لخطر مكانتها في المنزل، ولأهمية وظيفتها في التصرف في الطعام ولاحتياج الرجل إليها وقدرتها على رفضه ؛ ولقد شهد التاريخ أحياناً حاكمات من النساء بين بعض قبائل إفريقية الجنوبية ، ولم يكن في مستطاع الرئيس في جزر "بليو" أن ينجز شيئاً هاماً إلا إذا استشار مجلساً من عجائز النساء ، وكان للنساء في قبيلة "إراكوا" حق يعادل حق الرجال في إبداء الرأي وفي التصويت إذا اجتمع مجلس القبيلة ؛ وكان للنساء بين هنود سنكا قوة عظيمة قد تبلغ بهن حق اختيار الرئيس ، هذا كله صحيح، لكنها حالات نادرة لا تقع إلا قليلاً ، أما في أكثر الحالات فمنزلة المرأة في المجتمعات البدائية كانت منزلة الخاضع التي تدنو من الرق ؛ فعجزها الذي يعاودها مع الحيض، وعدم تدريبها على حمل السلاح ، واستنفاذ قواها من الوجهة البيولوجية بسبب الحمل والرضاعة وتربية الأطفال ، كل ذلك عاقها في حربها مع الرجال، وقضى عليها أن تنزل منزلة دنيا في كل الجماعات إلا أدناها وأرقاها ؛ ولم يستتبع تقدم المدنية بالضرورة أن ترفع مكانة المرأة ، ففي اليونان أيام بركليز كتب عليها أن تكون مكانتها أقل من مكانتها بين هنود أمريكا الشمالية ؛ إن مكانة المرأة ترتفع أو تهبط تبعاً لاختلاف أهمية الرجل في القتال ، أكبر منها تبعاً لازدياد ثقافة الرجال وتقدم أخلاقهم .
كانت المرأة في مرحلة الصيد تكاد تؤدي الأعمال كلها ما عدا عملية الصيد نفسها ؛ وأما الرجل فكان يسترخي مستريحاً معظم العام في شيء من الزهو بنفسه ، لقاء ما عرض نفسه لمصاعب الطراد وأخطاره ، كانت المرأة تلد الأطفال بكثرة وتربيهم وتحفظ الكوخ أو الدار في حالة جيدة ، وتجمع الطعام من الغابات والحقول وتطهي وتنظف وتصنع الثياب والأحذية ؛ فإذا انتقلت القبيلة من مكان لم يكن الرجل ليحمل سوى أسلحته لأنه كان مضطرا أن يكون على أهبة الاستعداد لملاقاة العدو إذا هجم ، وإذن فقد كان على النساء أن يحملن كل ما بقى من متاع ، والنساء من قبيلة "البوشمن" كن يُستخدمن خادمات وحاملات للأثقال ، فإذا تبين أنهن أضعف من أن يسايرن الركب في رحلته، تُركن في الطريق ، ويروي أن سكان نهر مَرِى الأدنى حين رأوا قطيعاً من الثيران ظنوا أنهم زوجات الرجال البيض ، وإن ما تراه بين الرجال والنساء اليوم من تفاوت في قوة البدن لم يكد يكون له وجود فيما مضى ، وهو الآن نتيجة البيئة وحدها أكثر منه أصيلا في طبيعة المرأة والرجل : كانت المرأة إذ ذاك - لو استثنيت ما يقعدها أحياناً من عوامل بيولوجية - مساوية للرجل تقريباً في طول قامته ، وفي القدرة على الاحتمال وفي سعة الحيلة والشجاعة ؛ ولم تكن بعد قد أصبحت مجرد زينة وتحفة ، أو مجرد لعبة جنـسية، بل كانت حيواناً قوي البنية قادراً على أداء لعمل الشاق مدى ساعات طويلة ، بل كانت لها القدرة - إذا دعت الضرورة - على المقاتلة حتى الموت في سبيل أبنائها وعشيرتها ؛ قال رئيس من رؤساء قبيلة "تشبوا" Chippewas "خلق النساء للعمل ، فالواحدة منهن في وسعها أن تجر من الأثقال أو تحمل منها ما لا يستطيعه إلا رجلان ، وهن كذلك يقمن لنا الخيام ويصنعن الملابس ويصلحنها ويدفئننا في الليل.. . إنه ليستحيل علينا أن نرحل بغيرهم ، فهن يعملن كل شيء ولا يكلفن إلا قليلاً ؛ لأنهن ما دمن يقمن بالطهي دائماً ، فأنهن يقنعن في السنين العجاف بلعق أصابعهن"

إن معظم التقدم الذي أصاب الحياة الاقتصادية في المجتمع البدائي كان يعزى للمرأة أكثر مما يعزى للرجل ، فبينما ظل الرجل قروناً مستمسكاً بأساليبه القديمة من صيد ورعي ، كانت هي تطور الزراعة على مقربة من محال السكنى ، وتباشر تلك الفنون المنزلية التي أصبحت فيما بعد أهم ما يعرف الإنسان من صناعات ؛ ومن "شجرة الصوف" - كما كان الإغريق يسمون نبات القطن - جعلت المرأة تغزل الخيط وتنسج الثياب القطنية ؛ وهي التي - على أرجح الظن - تقدمت بفنون الحياكة والنسج وصناعة السلال والخزف وأشغال الخشب والبناء ، بل هي التي قامت بالتجارة في حالات كثيرة ؛ والمرأة هي التي طورت الدار، واستطاعت بالتدريج أن تضيف الرجل إلى قائمة ما استأنسه من حيوان، ودربته على أوضاع المجتمع وضروراته التي هي من المدنية أساسها النفسي وملاطها الذي يمسك أجزاء البناء ؛ لكن لمّا تقدمت الزراعة وزاد طرحها ، أخذ ال*** الأقوى يستولي على زمامها شيئاً فشيئاً ؛ وكذلك وجد الرجل في ازدياد تربية الماشية مصدراً جديداً للقوة والثروة والاستقرار؛ حتى الزراعة التي لابد أن تكون قد بدت لعمالقة العصر القديم الأشداء عملاً باردا ً، أقبل عليها الرجل آخر الأمر بعد أن كان يضرب جوالاً في مناكب الأرض ، وبذلك انتزع الرجال من أيدي النساء زعامتهن الاقتصادية التي توفرت لهن حيناً من الدهر بسبب الزراعة ؛ وكانت المرأة قد استأنست بعض الحيوان ؛ فجاء الرجل واستخدم هذا الحيوان نفسه في الزراعة ، وبذلك تمكن من أن يحل محلها في الإشراف على زراعة الأرض ؛ هذا إلا أن استبدال المحراث بالمعزقة قد تطلب شيئاً من القوة البدنية ، وبذلك مكن للرجل أن يؤكد سيطرته على المرأة ؛ أضف إلى ذلك أن ازدياد ما يملكه الإنسان مما يمكن تحويله من مالك إلى مالك ، كالماشية ومنتجات الأرض ، أدى إلى إخضاع المرأة للرجل إخضاعاً جنـسياً ، لأن الرجل طالبها بالإخلاص له إخلاصاً يبرر له أن يورث ثروته المتجمعة إلى أبناء تزعم له المرأة أنهم أبناؤه ؛ وهكذا نفذ الرجل بالتدريج خطته ، واعترف للأبوة في الأسرة ، وبدأت الملكية تهبط في التوريث عن طريق الرجل ، واندحر حق الأمومة أمام حق الأبوة ، وأصبحت الأسرة الأبوية - أي التي يكون أكبر الرجال سناً على رأسها - هي الوحدة الاقتصادية والشرعية والسياسية والخلقية في المجتمع ؛ وانقلب الآلهة وقد كانوا قبل ذلك نساء في أغلبهم ، انقلبوا رجالاً ذوي لحى هم للناس بمثابة الآباء ، يحيط بهم من النساء "حـريم" كالذي كان يحلم به ذوو الطموح من الرجال في عزلتهم .

كان هذا الانتقال إلى الأسرة الأبوية - الأسرة التي يحكمها الوالد - ضربة قاضية على منزلة المرأة ؛ فقد باتت هي وأبناؤها ، في أوجه الحياة الهامة جميعاً ، ملكاً لأبيها أو لأخيها الأكبر، ثم ملكاً لزوجها ، إنها اشتُريت في الزواج كما كان العبد يشرى في الأسواق سواء بسواء ؛ وهبطت ميراثاً كما يهبط سائر الملك عند وفاة الزوج ، وفي بعض البلاد "مثل غانة الجديدة ، وهبرديز الجديدة ، وجزر سليمان ، وفيجي ، والهند وغيرها" كانت تشنق وتدفن مع زوجها الميت ، أو كان يطلب أليها أن تنتحر، لكي تقوم على خدمته في الحياة الآخرة وأصبح للوالد الحق في أن يعامل زوجاته وبناته كما يشاء ويهوى إلى حد كبير جداً ؛ فيهبهن ، ويبيعهن ، ويعيرهن ، لا يحده في استعمال حقه هذا إلا الظروف الاجتماعية التي تفسح المجال لآباء غيره في استعمال حقوق مثل حقه ، وبينما احتفظ الرجل بحقه في الاتصال الجنـسي خارج داره ، طولبت المرأة - في ظل الأنظمة الأبوية - بالعفة التامة قبل الزواج ، وبالإخلاص التام بعد الزواج ، وهكذا نشأ لكل جنـس معيار خاص يحكم به على عمله.

إن خضوع المرأة بصفة عامة، وقد كان موجوداً في مرحلة الصيد ، ثم ظل موجوداً - في صورة أخف - خلال الفترة التي ساد فيها حق الأمومة في الأسرة ازداد الآن صراحة وغلظة ؛ ففي الروسيا القديمة ، كان الوالد عند زواج ابنته يضربها ضرباً رقيقا بسوط ، ثم يعطي السوط للزوج ليدل على أن ضربها قد أنيطت به منذ اليوم يد لا يزال الشباب يجري في عروقها ؛ وحتى الهنود الأمريكيون الذين ظل حق الأمومة سائداً فيهم لم يرتفع عنهم قط ، كانوا يعاملون نساءهم معاملة خشنة ويكلفونهن بأقذر الأعمال ، وغالباً ما ينادونهن بلفظ الكلاب وحياة المرأة في كل مكان على وجه الأرض كانت تقوم بثمن أرخص من ثمن الرجل ، وإذا ولد الأمهات بنات ، فلا تقام الأفراح التي تقام عند ولادة البنين حتى أن الأمهات أحياناً لي***ن بناتهن الوليدات ليخلصنهن من الشقاء ؛ والزوجات في فيجي يشتريهن الرجال كما يشاءون ، وغالباً ما يكون الثمن المدفوع بندقية ، وفي بعض القبائل لا ينام الرجل وزوجته في مكان واحد خشية أن يضعف نفس المرأة من قوة الرجل ، بل إن أهل فيجي لا يرون من المناسب أن ينام الرجل في بيته كل ليلة ، وفي كالدونيا الجديدة تنام المرأة في حظيرة بينما ينام الرجل في الدار ، وفي فيجي كذلك يسمح للكلاب بالدخول في بعض المعابد ، أما النساء فحرام عليهن دخول المعابد إطلاقاً وهذا الإقصاء للمرأة عن المجتمعات الدينية موجود في الإسلام حتى يومنا هذا، نعم إن المرأة بغير شك قد تمتعت في كل العصور بهذا الضرب من السيادة الذي ينشأ عن استمرار الحديث ، وقد تفلح المرأة في إخجال الرجل أو إرباكه أو هزيمته أحياناً لكن الرجل مع ذلك هو السيد والمرأة هي الخادمة ، فكان الرجل من قبيلة "الكفير" يشتري النساء كما يشتري الرقيق ، وإنما يشتريهن ليكن له ضمان الحياة حتى مماته ، لأنه إذا حاز عدداً من الزوجات كافيا ً، فسيظل ما بقى له في الحياة من سنين مستريحاً من عناء العمل ، وعليهن العمل كله ، ويعتبر بعض القبائل في الهند القديمة نساء الأسرة جزءاً من الأملاك التي تورث جنباً إلى جنب مع الحيوان الداجن ؛ حتى الوصية الأخيرة من وصايا "موسى" لم توضح الفرق في هذا الصدد توضيحاً ظاهراً ، وفي بلاد الزنوج الأفريقية كلها ، لا يكاد النساء يختلفن عن الرقيق إلا في كونهن مصدراً للمتعة الجنـسية إلى جانب النفع الاقتصادي ؛ ولقد كان الزواج في بدايته صورة من صور القوانين التي تضبط الملكية ، وجزءاً من التنظيم الاجتماعي الذي يدبّر أمر العبيد .
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 26-12-2013, 10:04 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

العناصر الخلقية في المدنية

لما كان المجتمع يستحيل قيامه بغير نظام ، والنظام لا يكون بغير قانون ، قلنا أن نعممها قاعدةً من قواعد سير التاريخ ، بأن قوة التقاليد تتناسب تناسباً عكسياً مع كثرة القوانين ، كما أن قوة الغـريزة تتناسب تناسباً عكسياً مع كثرة الأفكار ؛ وبعض القواعد لابد منه حتى يعايش الناس بعضهم بعضاً ، وقد تختلف هذه القواعد في الجماعات المختلفة ، لكنها ينبغي أن تكون في جوهرها واحدة في الجماعة الواحدة ؛ وقد تكون هذه القواعد مواضعات أتفق عليها الناس أو تقاليد أو أخلاقاً أو قوانين ؛ فأما المواضعات فهي صور من السلوك وجد الناس أنها نافعة لحياتهم ، والتقاليد مواضعات قبلتها الأجيال المتعاقبة ؛ والأخلاق هي التقاليد التي ترى الجماعة ألا غنى عنها لسعادتهم وتقدمهم بعد أن تعلمت من الانتخاب الطبيعي الذي يُبقى على الصالح ويزيل الفاسد خلال ما يصادفه الناس من تجارب يجرونها في الحياة فيخطئون هنا وهناك ، هذه التقاليد الحيوية أو الأخلاق في الجماعات البدائية التي لا تعرف قانوناً مكتوبا تنظم كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية ؛ وتكسب النظام الاجتماعي اطراداً وثباتاً ؛ وهذه التقاليد إذا ما انقضى عليها الزمن وخلع عليها سحره شيئاً فشيئاً ، فإنها بطول تكرارها تصبح للفرد طبيعة ثانية ؛ إن جاوز حدودها شعر بالخوف أو القلق أو العار- وذلك هو أصل الضمير أو الحس الأخلاقي الذي أختاره دارِون ليكون أظهر فاصل يفرّق بين الحيوان والإنسان والضمير في مراحل تطوره العليا يصبح وعياً اجتماعيا- أي شعور الفرد بأنه ينتمي إلى جماعة معينة وأنه مدين لها بشيء من الولاء والاحترام ؛ وما الأخلاق سوى تعاون الجزء مع الكل ، ثم تعادل كل جماعة مع كل أعظم فالمدنية ، بطبيعة الحال كانت تستحيل بغير أخلاق.

الزواج

معنى الزواج - أصوله البيولوجية - الشيوعية الجنــسية - زواج التجربة - زواج الجماعة - زواج الفرد - تعدد الزوجات - قيمته في تحسين النسل - الزواج من غير العشيرة - الزواج مقابل الخدمة - وبالأسر - وبالشراء - الحب البدائي - وظيفة الزواج الاقتصادية

أول مهمة تؤديها التقاليد التي هي قوام التشريع الخلقي لجماعة من الجماعات ، هي أن تنظم العلاقة بين الجنـسين لأنها مصدر دائم للنزاع والاعتداء وإمكان التدهور ؛ والصورة الأساسية لهذا التنظيم الجـنـسي هي الزواج الذي يمكن تعريفه بأنه اتحاد العشيرين للعناية بالنسل ؛ وهو تنظيم يختلف ويتغير من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان حتى لقد اجتاز خلال تاريخه كل صورة ممكنة ، وكل تجربة ممكنة من العناية التي كان يبديها البدائيون بالنسل دون أن يكون بين العشيرين اتحاد في المعيشة ، إلى ما نراه في عصرنا الحديث من اتحاد العشيرين في المعيشة بغير نسل يعنيان به.

كان الزواج من ابتكار أجدادنا من الحيوان ؛ فبعض الطيور فيما يظهر يعيش معيشة الأزواج التي تنسل في رباط بين الزوجين لا يعرف الطلاق ، وبين الغورلا والأورانجوتان يدوم اتصال الوالدين حتى نهاية فصل الإنسال ، ولاتصالها هذا علامات كثيرة تشبه فيه بني الإنسان ، وكل محاولة تحاولها الأنثى في اتصالها في ذكر آخر، يعاقبها عليها عشيرها عقاباً صارما . ويقول "دى كرسبيني" De Crespigny عن الأورانج في بورنيو "إنها تعيش في أسر : الذكر والأنثى وصغيرهما" يقرر الدكتور سافدج Dr. Savage عن الغورلا "إنه من المألوف أن ترى الوالدين جالسين تحت شجرة يتسليان بالفاكهة يأكلانها وبالسمر يَسمُران به، بينما يأخذ أبناؤهما في القفز حولهما والوثب من غصن إلى غصن في مرح وزئاط" . وإذن فالزواج أعمق في التاريخ من بني الإنسان .

والمجتمعات التي تخلو من الزواج نادرة ، لكن الباحث الخبيث يستطيع أن يجد منها عدداً يكفيه ليصور به مرحلة انتقال من الفوضى الجنــسية التي تسود الحيوان الأدنى إلى صنوف الزواج التي أخذ بها الإنسان البدائي؛ ففي "فوتونا" Futuna و "هواي" معظم الناس لم يتزوجوا إطلاقاً ، وأهل "لوبو" Lubu تعاشروا في إبـاحية وبغير اختيار أو تحديد ، ولم يكن في رءوسهم فكرة الزواج ، وكذلك بعض القبائل في بورنيو كانت تعيش حياتها الجنـسية بغير أن يكون الزواج هو الرباط الذي يربط الزوجين ، ولذلك كانت العلاقة بين العشيرين أسهل انحـلالا مما نراه بين الطيور، ولدى بعض شعوب الروسيا البدائية "كان الرجال يستعملون النساء بغير تمييز بحيث لم يكن لامرأة زوج معلوم".

ولقد وصف الواصفون أقزام أفريقيا بأنهم لا يصطنعون أنظمة الزواج في حياتهم، بل تراهم "يشبعون غرائـزهم الحيوانية إشباعاً كاملا بغير ضابط" ؛ لكن هذا "التأميم للنساء" الذي يقابل الشيوعية البدائية في الأرض والطعام ، زال في مرحلة مبكرة بحيث لم يعد من آثاره اليوم إلا قليل، ومع ذلك فقد لبثت بعض ذكرياته عالقة في الأذهان في صور مختلفة : في شعور كثير من الشعوب الفطرية بأن وحدانية الزوجة- التي يعرفونها بأنها احتكار رجل واحد لامرأة- ينافي الطبيعة ويجافي الأخلاق، وفي الأعياد التي نقيمها على فترات معلومة ونتحلل فيها من القيود الجنـسية مؤقتاً ) ولا يزال هذا الشعور موجوداً بصورة ضعيفة في بعض أعيادنا ( وفي مطالبة المرأة بأن تُسلم نفسها لأي رجل يطلبها قبل أن يُسمح لها بالزواج - كما هي الحال في "معبد مايْلتّا" Mylitta في بابل-، وفي عادة إعارة الزوجة، وهي عادة ضرورية بالنسبة إلى كثير من أخلاق الكرم كما يعرفها البدائيون، وفي حق الليلة الأولى ؛ وهو حق كان يتمتع به الشريف في أوائل العهد الإقطاعي في أوربا، وربما كان الشريف في ذلك يمثل حقوق القبيلة القديمة ، وذلك الحق هو أنه يجوز للشريف أن يَفُض بكـارة العروس قبل أن يؤذن للعريس بمباشرة الزواج.

ثم حلت بالتدريج محل هذه العلاقات التي لم تعرف التحديد ألوان من اتحاد الرجل والمرأة كانت بمثابة التجريب ، فعند قبيلة "أورانج ساكاي" Orang Sakai في ملقا ، كانت المرأة تعـاشر كل رجل من رجال القبيلة حيناً ، حتى إذا ما أتَمَّت الدورة بدأت من جديد ، وبين قبيلة "ياكوت" Yakuts في سيبريا ، وقبيلة "بوتوكودو" Botocudos في جنوب أفريقيا ، والطبقات الدنيا في التبت ، وكثير غير هذه من الشعوب ، كان الزواج تجريبياً خالصاً بمعنى أن كلاًّ من الزوجين له الحق في فض العلاقة إذا شاء وبغير أن يبدي لذلك سبباً أو يُطالب بالسبب؛ وعند قبيلة "بوشمن" "يكفي أقل خلاف بين الزوجين لانحـلال الزوجية، ولا يلبث الزوجان أن يجد كل منهما زوجاً آخر ، " وعند قبيلة "داماترا" Damatras فيما يروى "سير فرانسز جولتُن" Sir Fancis Galton- "يتبدل الزوج مرة كل أسبوع تقريباً ، وقلما استطعتُ أن أعرف إلا بعد استقصاء وبحث- من ذا كان زوجاً مؤقتاً لهذه السيدة . أو تلك في وقت معين" وكذلك في قبيلة "بايلا" ينتقل النساء من رجل إلى رجل ويَتُركنَ زوجاً لينتقلن إلى زوج آخر بمحض اختيارهن ؛ والفتيات اللائى كِدنَ لا يجاوزنَ العشرين ، تجد للواحدة منهنَ في كثير من الحالات أربعة أزواج أو خمسة كلهم أحياء "وكلمة الزواج في هواي معناها في الأصل"تجربة" ، وقد كان الزواج في تاهيتي منذ قرن حراً من القيود وينحل لغير سبب ما دام الزوجان لم يَنسِلا ، أما إن أنجبا طفلاً فلهما أن يقتـلاه دون أن يقع عليهما لوم من المجتمع ، أو هما يقومان على تربيته وبذلك يبدءان حياة دائمة الصلات ، بحيث يتعهد الرجل للمرأة أن يعولها في مقابل رعايتها للطفل ، التي أخذتها الآن على عاتقها.

وكتبَ "ماركو بولو" عن قبيلة في آسيا الوسطى ، كانت تسكن إقليم "بين" Peyn "وهي تعرف الآن باسم كيريا" Keria في القرن الثالث عشر ، يقول : "إذا سافر رجل متزوج بحيث بَعُدَ عن بلده ليغيب في رحلته عشرينَ يوماً ، فلزوجته الحق - إذا شاءت- أن تتزوج من رجل آخر ؛ والمبدأ صحيح كذلك بالنسبة للرجال ، فيتزوجون حيث أقاموا" وهكذا ترى الأساليب الجديدة التي أدخلناها في زواجنا وأخلاقنا حديثاً قديمة في أصلها.

يقول "لترنو" Letourneau عن الزواج : "لقد جُرّبت كل صورة من صور الزواج ، مما يتفق مع طول بقاء المجتمعات الهمجية والوحشية ، ولا يزال بعضها اليوم قائماً لدى أجنـاس مختلفة ، دون أن يطوف بأذهان أهلها أية فكرة من الأفكار الخلقية التي تسود أوروبا عادةً " ، فهناك تجارب أجريت في العلاقة بين الزوجين إلى جانب التجارب التي أجريت لاختبار مدة الزواج ؛ ففي حالات قليلة نرى "زواجاً جماعياً" بمعنى أن تتزوج طائفة من رجال ينتمون إلى جماعة من طائفة من النساء تنتمين إلى جماعة أخرى ، بحيث يكون الزواج جَمِعَّياً بين الطائفتين ؛ وفي التبت مثلاً كانت العادة أن تتزوج طائفة من الأشقاء طائفة من الشقيقات، بحيث تقوم الشيوعية الجنـسية بين الطائفتين ، لكل رجل أن يعـاشر كل امرأة ؛ ولقد روى قيصر عادة شبيهة بهذه في بريطانيا القديمة وكان من بقاياها عادة الزواج بزوجة الأخ بعد موته ، وقد شاعت عند اليهود الأقدمين وغيرهم من الشعوب القديمة ، وضاق لها صدر "أونان" ضيقاً شديداً.

فما الذي حدا بالناس أن يستبدلوا بالحالة البدائية التي كان الزواج فيها أقرب شيء إلى الفوضى، زواجاً فردياً ؟

إنه مما لا شك فيه أن الشـهوة الجـسدية ليست هي التي دفعت الناس إلى نظام الزواج ، لأنك لا تجد في الكثرة الغالبة من الشعوب الفطرية الا قليلاً - ذلك إن وجدت شيئاً على الإطلاق - من القيود المفروضة على العلاقات الجنـسية قبل الزواج ؛ ولان الزواج بكل ما يسببه من مضايقات نفسيه وبكل ما فيه من قيود ، يستحيل عليه أن ينافس الشيوعية الجنـسية في إشباعها للميول الجنـسية عند الإنسان ؛ كلا وليس نظام الزواج الفردي بمهيىء في بدايته جوا لتربية الأطفال يبدو بالبداهة أنه خير لتربيتهم من عناية الأم وأسرتها وعشيرتها؛ إذن فلا بد أن يكون الدافع إلى الزواج وتطوره عوامل اقتصادية قوية الأثر، وأرجح الظن ) وهنا ينبغي أن نتذكر مرةً أخرى أننا لا نعرف من بدايات الأشياء إلا قليلاً ( أن هذه العوامل التي دفعت إلى نظام الزواج كانت مرتبطة بنشأة نظام الملكية.

جاء الزواج الفردي نتيجة لرغـبة الرجل في أن يسترقَّ لنفسه رقيقاً بثمن رخيص، ونتيجةً أيضاً لرغـبته في توريث مِلكه لأبناء غيره من الرجال ؛ وظهر من صور الزواج صورة تبيح للعشير أن يتعدد عشراؤه، فاتخذت صورة تعدد الأزواج للزوجة الواحدة كما هي الحال في قبيلة "تودا" Todas وبعض قبائل التبت ، وإنما تظهر هذه العادة حيثما زاد عدد الرجال على عدد النساء زيادة كبيرة ، لكنها عادة سرعان ما تَنتَفي على يد الرجل القوي الغلاب ، ولم نعد نفهم من نظام تعدد العشراء للعشير الواحد إلا إحدى صورتيه . ألا وهي تعدد الزوجات للزوج الواحد ؛ ولقد ظن رجال الدين في العصور الوسطى أن تعدد الزوجات للزوج الواحد نظام ابتكره محمد ابتكاراً لم يُسبق إليه ، لكنه في الواقع نظام سابق للإسلام بأعوام طوال ، لأنه النظام الذي ساء للعالم البدائي وهنالك من الأسباب عِدَّة عملت كلها على تعميم هذا النظام ونشره أولها أن حياة الرجال في المجتمع الأول كانت أشد ***اً وأكثر تعرضاً للخطر بسبب اضطلاعهم بالصيد والقتال ، ولذا زاد الموت في الرجال عليه في النساء ، واطراد الزيادة في عدد النساء يضع أمام المرأة اختياراً بين حالتين : فإما تعدد الزوجات للرجل الواحد ، وإما عزوبة عقيمة ليس عنها محيص لبعض النساء، لكن مثل هذه العزوبة للمرأة لا تنظر إليها بعين الرضى شعوب تريد نسبة عالية من الولادة تقابل بها نسبة عالية في الوفاة ، ولذا ترى أمثال تلك الشعوب تزدري المرأة العانس والمرأة العقيم ، وثاني هذه الأسباب أن الرجال يميلون إلى التنوع ، فالأمر كما عبر عنه زنوج أنجولا أنهم : "لم يكن في وسعهم أن يأكلوا دائماً طعاماً واحداً" ، كذلك يحب الرجال أن تكون عشيراتهم في سن الشباب ، والنساء يكتهلن بسرعة في المجتمعات البدائية ، بل أن النساء أنفسهن كنَّ أحياناً يُحَبّذن تعدد الزوجات ، حتى يباعِدنَ بين فترات الولادة دون أن يُنقِصنَ عند الرجل شـهوته وحبه للنسل ، وأحياناً ترى الزوجة الأولى ، وقد أنهكها عبء العمل ، تشجع زوجها على الزواج من امرأة ثانية حتى تقاسمها مشقة العمل ، وتنسل للأسرة أطفالاً يزيدون من إنتاجها وثرائها ، فالأبناء عند هؤلاء الناس كسب اقتصادي، والرجال بمثابة من ينتفع بالزوجة انتفاعه برأس المال ، يستولدها الأبناء الذين يقابلون الربح في رأس المال ؛ ففي الأسرة الأبوية ، لا تكن الزوجة وأبناؤها إلا بمنزلة العبيد لرأس الأسرة وهو الرجل ، وكلما ازداد الرجل زوجات ازداد مالاً ؛ وقد كان الفقير يتزوج من زوجة واحدة ، لكنه كان ينظر إلى ذلك نظرته إلى وصمة العار . وينتظر اليوم الذي يعلو فيه إلى المنزلة العالية التي ينزلها صاحب الزوجات الكثيرة في أعين الناس .

ولا شك أن تعدد الزوجات لاءم حاجة المجتمع البدائي في ذلك الصدد أتم ملاءمة ، لأن النساء فيه يزدن عدداً على الرجال ؛ وقد كان لتعدد الزوجات فضل في تحسين النسل أعظم من فضل الزواج من واحدة الذي نأخذ به اليوم ، لأنه بينما ترى أقدر الرجال وأحكمهم في العصر الحديث هم الذين يتأخر بهم الزواج عن سواهم ، وهم الذين لا ينسلون إلا أقل عدد من الأبناء ، ترى العكس في ظل تعدد الزوجات ، الذي يتيح لأقدر الرجال أن يظفروا- على الأرجح- بخير النساء ، وأن ينـسلوا أكثر الأبناء ؛ ولهذا استطاع تعدد الزوجات أن يطول بقاؤه بين الشعوب الفطرية كلها تقريباً ، بل بين معظم جماعات الإنسان المتحضر، ولم يبدأ في الزوال في بلاد الشرق إلا في عصرنا الحاضر ؛ لأنه قد تآمرت على زواله بعض العوامل ؛ فحياة الزراعة المستقرة حَدَّت من *** الحياة التي كان يحياها الرجال وقللت من أخطارها ، فتقارب الجنـسان عددا ً؛ وفي هذه الحالة أصبح تعدد الزوجات المكشوف، حتى في الجماعات البدائية ، ميزة تتمتع بها الأقلية الغنية وحدها أما سواد الناس فلا يجاوزون الزوجة الواحدة ؛ ثم يخففون وطأة ذلك على نفوسهم بالزنـا ، بينما ترى أقلية أخرى آثرت العزوبة راضية أو كارهة ، فعادلت بهذا الامتناع ما يستولي عليه الأغنياء من زوجات كثيرات ، وكان عدد الجنـسين كلما أقترب من التعادل زادت الغيرة في الرجل على زوجته ، والحرص في الزوجة على زوجها ؛ لأنه لما كان العدد قريباً من التساوي في الجنـسين تعذر على أقوياء الرجال أن يعددوا زوجاتهم ، لأنهم في مثل هذه الحالة لا يجدون كثرة من الزوجات إلا إذا اغتـصبوا زوجات الآخرين أو من سيكنَّ زوجات للآخرين ، وإلا إذا أساءوا ) في بعض الحالات ( إلى زوجاتهم ، نقول إنه في مثل هذه الحالة يتعذر تعدد الزوجات بحيث لا يستطيعه إلا أوسع الرجال حيلة ، هذا إلى أنه لما ازداد تراكم الثروة في أيدي بعض الرجال ، وكره هؤلاء أن يبعثروا ثروتهم هذه في توريث عدد كبير من الأبناء لا يصيب الواحد منهم إلا قدر ضئيل ، آثر هؤلاء أن يُفَرّقوا بين الزوجات "فزوجة رئيسية" ومحظيات، حتى لا يقتسم الإرثَ إلا أبناء الزوجة الرئيسية ، ولبث الزواج على هذه الحالة في آسيا حتى عصرنا الذي عاصرناه بجيلنا ، ثم أصبحت الزوجة الرئيسية بالتدريج هي الزوجة الواحدة ، وأما المحـظيات فقد تعرضنَ لإحدى حالتين ، فإما بقينَ خلـيلات وراء الستار ، وإما عُدِل عنهن إطلاقاً ، وذلك فضلاً عن أثر المسيحية حين دخلت عاملاً جديداً ؛ فجعلت نظام الزوجة الواحدة في أوربا - بدل تعدد الزوجات - هو النظام الذي يرتضيه القانون ، وهو الصورة التي تظهر فيها العلاقة الجنـسية ؛ لكن نظام الزوجة الواحدة - شأنه شأن الكتابة ونظام الدولة - نظام صناعي نشأ والمدنية في وسطى مراحلها ، وليس هو بالنظام الطبيعي الذي يتصل بالمدنية في أصول نشأتها .

ومهما يكن أمر الصورة التي يتخذها الزواج فقد كان إجباراً بين الشعوب البدائية كلها تقريباً ، ولم يكن للرجل الأعزب منزلة في المجتمع ، أو عُدَّ مساوياً لنصف رجل فحسب . كذلك كان إجباراً على الرجل أن يتزوج من غير عشيرته . ولسنا ندري إن كانت هذه العادة قد نشأت لأن العقل البدائي داخله الشك فيما يترتب على زواج الأقارب من سوء النتائج أو لأن التصاهر بين الجماعات أوجد تحالفاً سياسياً مفيداً بينها ، أو زاد هذا التحالف قوة إن كان موجوداً بالفعل ، وبهذا زاد التنظيم الاجتماعي تقدماً وقللَ من أخطار الحروب ؛ أو لأن انتزاع زوجة من قبيلة أخرى قد أصبح معدوداً بين الناس من علامات الرجولة التي اكتمل نضوجها ؛ أو لأن نشأة الصبي بين قريباته يقلل من قيمتهن في عينه، وبُعدَ القريبات عنه يزيد في سحرهن ؛ وعلى كل حال فقد كان هذا التحديد في اختيار الزوجة عامّا شاملا لكل الجماعات الأولى تقريباً ؛ وعلى الرغم من أن الفراعنة والبطالسة والإنكا قد وُفّقوا إلى تحطيمه بأن أقبلوا على الزواج الأخ بأخته ، إلا أنه ظل قائماً بين الرومان كما يعترف به القانون الحديث ؛ وهذا التقليد لا يزال له أثره في سلوكنا - عن شعور أو لا شعور- حتى يومنا هذا.

فكيف كان يتاح للرجل أن يظفر بزوجته من قبيلة أخرى ؟ لما كانت الأسرة التي ترأسها الأم هي النظام السائد ، كان يطلب إلى الزوج في كثير من الحالات أن يعيش مع عشيرة المرأة التي أراد زواجها ؛ فلما تطور نظام الأسرة الأبوية ، سمح للخطيب أن يأخذ عروسه معه إلى عشيرته ، على شرط أن يقيم فترة معلومة قبل ذلك في خدمة أبيها ، فمثلاً خدم يعقوب لأبانَ في سبيل زواجه من "لِيحة" و "راشيل" لكن الخطيب كان أحياناً يقتضب الأمر باصطناعه للقوة الصريحة الغاشمة ؛ وكان من حسنات الرجل ومميزاته أن يأخذ زوجته من أهلها قسرا ً، فذلك يجعل منه أمةً رخيصة من جهة ، كما يستولدها عبيداً من جهة أخرى، وهي إذا ما ولدت له هؤلاء الأطفال العبيد، ازدادت بعبوديتها له صلةً وربطا ؛ ومثل هذا الزواج الذي يتم بطريق الاغتـصاب، لم يكن القاعدة الشاملة ، لكنه كان يقع في العالم البدائي حيناً بعد حين ، فالنساء عند هنود أمريكا الشمالية جزء من أسلاب الحرب ، ولقد كان هذا السبـي للنساء من الشيوع بحيث ترى الأزواج وزوجاتهم في بعض القبائل يتكلمون لغات مختلفة ، فلا يفهم الزوج لغة زوجته ولا الزوجة لغة زوجها ؛ ولبث السـلاف في الروسيا والصرب يأخذون بزواج الاغتـصاب أحياناً حتى القرن الماضي ؛ ولا تزال آثار هذه العادة قائمة في قيام العريس بدور المغتصب لعروسه في بعض احتفالات الزواج ؛ وعلى كل حال فقد كانت نتيجة طبيعية لما كان بين القبائل من حروب كادت لا تنقطع ، كما كانت بداية طبيعية للحرب الناشبة بين الجنـسين التي لا تسكن بالمهادنة إلا فترات قصيرة ، ولا تنام فتـنتها إلا نوماً قلقاً بغير أحلام .

فلما زادت الثروة بات أيسر على الخطيب أن يدفع لوالد العروس هدية ثمينة - أو مبلغ من المال - ثمناً لابنته ، من أن يخدم عشيرةً غير أهله للحصول عليها ، أو يخاطر بما عسى أن يترتب على اغتـصابها من قتـال وإراقة للدمـاء ؛ ونتيجة ذلك أن اصبح الزواج بالشراء تحت أشراف الوالدين ، هو القاعدة السائدة في المجتمعات الأولى وحدثت خلال ذلك حلقات وسطى تم فيها الانتقال ؛ فأهل مالينزيا كانوا يسلبون زوجاتهم سلباً ، لكنهم كانوا يعودون بعدئذ فيجعلون هذه السرقة مشروعة بأن يدفعوا لأسرة الزوجة مبلغاً من المال ؛ كذلك عند بعض أهالي غانة الجديدة كان الرجل يخطف الفتاة ، وبينما هما في مخبئهما، يرسل أصدقاءه ليساوموا أباها في ثمنها ؛ وأنه لممَّا ينير طريق التفكير أمامنا أن نذكر كيف يَسُهلُ التغلب بالمال على مقاومة الناس لوضع من الأوضاع الخلقية ؛ فيروى عن أم من قبيلة "ماوري" Maroi أنها أخذت تبكي بصوت عالٍ ، وتستنزل أمر اللعنات على الشاب الذي أختطفَ ابنتها ، حتى جاءها هذا الشاب بهدية هي غطاء من الصوف ، فقالت ؛ "هذا كل ما أردته ، أردت أن أظفر بهذا الغطاء الصوفي فجعلتُ أصيح بالبكاء" ، لكن ثمن العروس كان يزيد عادةً على غطاء من الصوف ، فثمنها عند الهوتنتوت ثور أو بقرة ، وعند قبيلة "كرو" Croo ثلاثة أبقار وشاة ، وعند "الكفير" يتراوح ثمنها من ست أبقار إلى ثلاثين ، حسب المنزلة التي تنزلها أسرة الفتاة في المجتمع ، وبين "التوجو" Togos ثمنها ستة عشر ريالاً تدفع نقداً ، وستة ريالات تدفع عَيناً .

والزواج بالشراء يسود أصقاع أفريقيا جميعاً ، وهو النظام المألوف في الصين واليابان . وكان شائعاً في الهند القديمة وعند اليهود القدماء ، وفي أمريكا الوسطى قبل عهد كولمبس ، وفي بيرو ، بل لا تزال أمثلة منه في أوربا اليوم وهو تطور طبيعي لنظام الأسرة الأبوية ، لأن الوالد يملك ابنته ، وفي وسعه أن يتصرف فيها بما يراه مناسباً لا يحدد حقه في هذا إلا حدود ضئيلة ؛ ويعبر عن هذا هنود أورنوكو بقولهم أن الخطيب يجب عليه أن يدفع للوالد ثمن تربيته لفتاة سينتفع بها هو ويحدث أحياناً أن تُعرض الفتاة في معرض للعرائس أمام جماعة من الرجال قد يكون منهم لها خطيب ؛ وكذلك من عادة أهل الصومال أن يُزيّنوا العروس أفخر الزينة ، ويعرضوها على ظهر جواد أو ماشيةً على قدميها ، في جو يفوح بالعطور لعلها تستثير الخطاب فيدفعوا فيها ثمناً أغلى وليس لدينا مدون واحد يدل على أن امرأة عارضت في زواجها بالشراء ، بل الأمر على نقيض ذلك، كان النساء يفاخرنَ بما يدفع لهنَ ثمناً ، ويحتقرنَ المرأة التي تسلم نفسها في الزواج بغير ثمن لأنهنَ يعتقدن أنَ الزواج الذي يعقد الحُبّ أواصره بغير ثمن مدفوع ، يكون فيه الزوج الشرير كاسباً كسباً عظيما لم يدفع لقاءه شيئاً ومن جهة أخرى كان من المألوف أن يرد والد العروس ما دفعه العريس هديةً أخذت تزداد قيمتها على مر الأيام حتى قاربت ما يدفعه العريس ؛ ثم أخذ الأباء الأغنياء يتوسعون تدريجياً في هذه الهدايا ، لكي ييسروا لبناتهم الزواج ، حتى ظهر نظام المهر تدفعه العروس لخطيبها ، وهكذا حل شراء والد العروس لزوج أبنته محل شراء الخطيب لزوجته ، أو قل أن الشراءين يسيران جنباً إلى جنب.

في شتى هذه الصور والصنوف التي يتخذها الزواج ، لا تكاد تقع فيها على أثر من الحب والعاطفة ؛ نعم قد تجد حالات قليلة من زواج الحب بين قبيلة البابوا في غينا الجديدة ، وكذلك قد تجد بعض حالات الحب في غيرها من الشعوب البدائية ) والحب هنا معناه إخلاص متبادل لا منفعة متبادلة ( لكن هذه الحالات النادرة التي تصادفها لا شأن لها بالزواج ، ففي أيام البساطة الأولى كان الرجال يتزوجون ليشتروا عملاً رخيصاً ويكسبوا أبوة مُربحة ويضمنوا وجبات منتظمة من الطعام ، يقول "لاندر" Lander : يحتفل أهل "ياريبا" Yariba بالزواج دون أن يثير ذلك في نفوسهم أقل اهتمام ، فتفكير الرجل في حيازة زوجة لا يزيد على تفكيره في قطع سنبلة من القمح ، لأن الحب أمر ليس له وجود لأنه لما كانت العلاقة الجنـسية أمراً مباحاً قبل الزواج ، فإن عاطفة الرجل لا تجد من السدود ما يختزنها ، وقلما يكون لها أثر في اختيار الزوجة ؛ وللسبب نفسه ، أعني تلاحق الشـهوة وتنفيذها بغير فاصل من زمن ، ليس لديهم ما يبرر أن يجلس الشاب مفكراً في طوية نفسه ، في عاطفته التي احتبست في صدره والتي من أجل احتباسها أخذت تُزَين له الحبيب المُشتَهَى ، مما يؤدي عادةً إلى الحـب العاطفي عند الشباب ؛ إن مثل هذا الحـب وظهوره مرهون بالمدنية التي أقامت الأخلاق سدودا أمام الشـهوة، هذا إلى أن الثروة وازديادها قد مكنت بعض الرجال أن ينفقوا ، وبعض النساء أن يصنعنَ ، ما يقتضيه الحـب العاطفي من علامات الترف والرقة ؛ فالبدائيون أفقر من أن يعرفوا عاطفة الحـب ؛ ولذلك قلما تجد في أغانيهم شعراً يدور حول الحـب ؛ ولما ترجم المبشرون المسيحيون الكتاب المقدس إلى لغة قبيلة "ألجونكون" Algonquins لم يجدوا كلمة في لغتهم تعبر عن "الحـب" ؛ ويصف الواصفون قبيلة الهوتنتوت بأنهم "باردون في الزواج ولا يأبه أحد من الزوجين بالآخر" وكذلك في ساحل الذهب "لا يظهر بين الزوج وزوجته من علائم الحـب شيء حتى ولا مظاهره الخارجية " وقل هذا كذلك في أهل استراليا البدائيين ؛ يقول "كاييه" Caillie إذ هو يتحدث عن زنجي من السنغال : "سألت بابا لماذا لا يمرح أحياناً مع زوجاته، فقال إنه لو فعل لتعذر عليه بعدئذ أن يملك زمامهن" ؛ ولما سئل رجل من أهل استراليا الوطنيين لماذا أراد أن يتزوج ، فأجاب صادقاً بأنه إنما أراد الزوجة لتهيئ له الطعام والشراب والحطب ، ولتحمل له المتاع أثناء الرحيل والتقـبيل الذي لا يستغني عنه الأمريكيون فيما يظهر ، لا تعرفه الشعوب البدائية ، أو هم يعرفونه معرفة الشيء المزدَرَي .

وعلى وجه التعميم ، نقول أن "الهمجي" يزاول أموره الجنـسية بروح فلسفية ، لا يكاد يزيد عن الحيوان فيما يساوره من قلق ميتافيزيقي أو ديني ؛ إنه لا يفكر في الأمر بينه وبين نفسه ، كلا ولا يطير بعاطفته في سمائه، بل الجنـس عنده أمر طبيعي كالطعام سواء بسواء ، ولا يحاول قط أن يُزَيّن لنفسه الدوافع ، فليس في الزواج عنده شيء من التقديس ، وقلما يسرف في الاحتفال به ، بل هو في رأيه عملية تجارية صريحة ، ولا يخطر بباله أبداً أنه مما يخجله أن يُخضِع عاطفته للاعتبارات العملية في اختياره لزوجته ، بل العكس هو أولى عنده بإثـارة الخجل ، ولو استباح لنفسه من الغرور ما نستبيحه نحن لأنفسنا ، لسألنا عما يبرر التقليد الذي جرينا عليه وهو أن نربط رجلاً بامرأة إلى آخر الحياة تقريباً ، لا لشيء سوى أن الرغبة الجنـسية قد ربطت بينهما ببرقها الخاطف لمحة واحدة من الزمن ، فالزواج عند الرجل البدائي لا يُنظر إليه على أساس التنظيم الجنـسي ، بل على أنه تعاون اقتصادي ولذلك كان يريد من المرأة ، بل المرأة تريد من نفسها أن تكون نافعة نشيطة أكثر منها رشيقة جميلة (ولو أنه يقدر هذه الصفات فيها) ، إذ لابد أن تكون له كسباً اقتصادياً ، لا خسارة لا كسب من ورائها ، وإلا لما فكر "الهمجي" الواقعي في الزواج إطلاقاً ، الزواج عنده شركة تدر ربحاً ، لا ضرب من ضروب الدعـارة الخاصة ، إنه طريقة تجعل الرجل والمرأة إذا ما تعاونا في العمل ، أنجح في الحياة منهما لو عمل كل منهما مستقلا عن زميله ؛ فحيثما وَجدَت في تاريخ المدنية مرحلة لا تكون فيها المرأة كسباً اقتصادياً في زواجها للرجل ، فأعلم أن الزواج قد انهار بناؤه ، وأحياناً تنهار المدنية بانهياره .
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 26-12-2013, 10:06 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mr.hani مشاهدة المشاركة
كتاب قمة فى الروعة
قرأته اكثر من مرة
ودائما اشتاق الى قراءته اكثر واكثر
شكرا لك
جزاك الله خيرا وبارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 28-12-2013, 11:14 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

الأخلاق الاجتماعية

طبيعة الفضيلة والرذيلة - الجشع – الخيـانة - العنـف – القتـل – الانتـحار - انخراط الفرد في جماعة - الإيثار - الكرم - أوضاع السلوك - تحديد القبيلة للأخلاق - الأخلاق البدائية بالقياس إلى الأخلاق الحديثة - الدين والأخلاق

من بين واجبات الوالدين أن ينقلوا إلى الأبناء تشريع الأخلاق ، لأن الطفل أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان ؛ وإنه ليتلقى إنسانيته شيئاً فشيئاً كلما تلقى جانباً من التراث الخلقي والعقلي الذي خلفه له الأسلاف ؛ والطفل من الوجهة البيولوجية سيئ الإعداد للمدنية ، لأن غرائزه تهيئه للمواقف الرئيسية والتقليدية ولا تشتمل إلا على الاستجابة للمثيرات التي توافق الغابة أكثر من موافقتها للمدنية ؛ كل رذيلة كانت يوماً ما فضيلة ضرورية في تنازع البقاء ، ولم نسمها رذيلة إلا لأنها تلكأت في وجودها بعد زوال الظروف التي كانت تستلزم وجودها - فليست الرذيلة- إذن- ضربا من السلوك الراقي ، بل هي في العادة ارتداد بالإنسان إلى سلوكه القديم الذي حل مكانه سلوك جديد ؛ فمن الغايات التي ينشد تحقيقها التشريع الخلقي أن يوائم نزوات الطبيعة البشرية التي لم تتغير- أو التي تتغير ببطء- مع حاجات الحياة الاجتماعية وظروفها المتغيرة .
لبث الجشع وحب التملك والخيـانة والقسوة والعنـف أمورا نافعة للحيوان وللإنسان مدى أجيال بلغت في طولها حداً تعذر معه على كل ما لدينا من قوانين وتربية وأخلاق ودين أن تزيلها إزالة تامة ؛ ولا شك أن لبعضها- حتى في يومنا هذا- قيمة في حفظ البقاء ، فالحيوان يتخم نفسه طعاماً لأنه لا يعلم متى عساه أن يجد القوت مرة أخرى ، وهذا الارتياب في ظروف المستقبل هو منشأ الجشع ؛ فالرجل من قبيلة "ياقوت" يأكل أربعين رطلا من اللحم في يوم واحد وكذلك تروا قصص كهذه - وأن تكن أقل منها بطولة - عن الإسكيمو والسكان الأصليين في استراليا ، وأن الاطمئنان الاقتصادي الذي هو من نتائج المدنية لمن حداثة العهد بحيث يتعذر عليه أن يزيل هذا الجشع الطبيعي في الإنسان ، الذي لا يزال يظهر في حب التملك الذي لا يشبع ، حتى لتراه يدفع الرجل الحديث أو المرأة الحديثة إذ هما في قلق من الحياة ، أن يَخزُنا الذهب أو غيره من السلع التي يمكن تحويلها إلى طعام إذا ما طرأ طارئ مفاجئ ؛ وليس الجشع للشراب كالجشع للطعام لأن معظم الجماعات الإنسانية قد احتشدت حول ينابيع الماء ؛ ومع ذلك فشراب المسكرات يوشك أن يعم الإنسان جميعاً ، وهم لا يطلبونه عن جشع بقدر ما يطلبونه ليدفئوا في أنفسهم برودة يحسونها ، أو ليمحوا من ذاكرتهم هما يشقيهم - وقد يطلبونه لمجرد أن ما تحت أيديهم من الماء لا يصلح شراباً.
والخيـانة ليست عريقة القدم كالجشع ، ذلك لأن الجوع أسبق إلى الوجود من الملكية ؛ ولعل"الهمج" البدائيين في أبسط صورهم أكثر الناس أمانة "فالكلمة يقولونها مقدسة" كما يقول "كولبن" Kolben عن قبيلة الهوتنتوت "وهم لا يصطنعون شيئاً مما تعرفه أوروبا من وسائل الفساد والخيانة" ؛ لكن هذه الأمانة الساذجة زالت بتقدم وسائل المواصلات التي ربطت أجزاء الأرض بعضها ببعض ، لأن وسائل أوروبا استطاعت بعدئذ أن تعلم هذا الفن الدقيق للهوتنتوت ؛ فالخيـانة بصفة عامة تنشأ مع المدنية ؛ لأنه في ظل المدنية يزداد المجال الذي يتطلب دهاء السياسة أتساعاً ، إذ تزداد الأشياء التي تغري الإنسان بالسرقة ، وتربيتنا لأبنائنا تنشئهم على المهارة في ذلك ؛ فإذا ما تقدمت الملكية بين البدائيين جاءهم في أثرها الكذب والسرقة.

وأما جرائم الافتئات والاعتداء فهي قديمة قدم الجشع ؛ فتقاتـل الناس على الطعام والأرض والمرأة قد روى الأرض بدماء البشر ، ولم ينج من ذلك جيل واحد من الأجيال وغشى نور المدنية الواهن المتقطع ببطانة من ظلام ؛ كان الإنسان البدائي قاسياً إذ كان حتماً عليه أن يكون كذلك ؛ فقد علمته الحياة أن تكون ذراعه على استعداد للضرب دائماً ، وأن يكون له قلب يستسيغ " القتـل الطبيعي " وأسْوَدُ الصحائف التي تصادفكَ وأنت تقرأ علم الأجناس البشرية ، هي تلك التي تروي لك عن التعـذيب الذي يسود الحياة البدائية ، وعن الفرح الذي ينتشي به كثير من البدائيين رجالا ونساء - فيما يظهر - إذا ما أنزلوا بأحد ألما ، وكثير من هذه القسوة كان من لوازم الحرب ، ففي حدود القبيلة الواحدة ، تجد أساليب التعامل أقل وحـشية ، فيعامل بعضهم بعضا - بل يعاملون عبيدهم - برقة لا تقل في شيء عما تعهده المدنية في ذلك لكن لما كان الناس مضطرين اضطراراً أن يقتـلوا أبان القتال ، فقد علمهم هذا أن يقتـلوا كذلك أيام السلم ؛ وكم من البدائيين لا يرون وسيلة لفظ النزاع إلا إن مـات أحد المتنازعين ؛ وكثير من القبائل لا يرتاع أبناؤها إذا أغتـال إنسان إنساناً - حتى إن كان القتيـل من أبناء العشيرة نفسها - بمثل الجزع الذي كنا نحن المحدثين نقابله به ؛ فأهل "فويجي" Fuegians لا يعاقبون القاتـل بأكثر من نفيه حتى ينسى زملاؤه جريمـته ؛ وقبائل الكفيـر تعد القاتـل نجــساً ، ويطالبونه بتسويد وجهه بالفحم ، ولكنه بعدئذ أن غسل جسده ومضمض فمه وصبغ جلده بلون بني قبلوه في الجماعة من جديد ، وأما همج "فوتونا" Futuna فهم - مثلنا - يعدون القاتــل بطلا ؛ وفي بعض القبائل ترفض المرأة أن تتزوج من رجل لم يقتــل أحدا في قتـال ، سواء في ذلك أكان القتـال سليم الأساس أم فاسدة ؛ ومن هنا نشأت عادة اصطياد الرءوس التي لا تزال باقية في الفلبين حتى اليوم ؛ وعند قبيلة "دياك" Dyak يكون للرجل الذي يعود من مثل هذا الصيد البشري بأكبر عدد من الرءوس، أن يختار من يشاء من بنات القرية ، والبنات يشتـهينه زوجا لأنهن يدركن أنهن قد يصبحن - بلقاء مثل هذا الزوج - أمهات لرجال شجعان أقوياء .

حيث يغلو الطعام ترخص الحياة ، فأبناء الإسكيمو لا مندوحة لهم عن قتـل والديهم إذا ما أصبح هؤلاء من الشيخوخة بحيث لا يقوون على شيء ، ولا يصلحون لشيء فالامتناع عن قتـلهم في مثل هذه الحالات يعتبر مجافاة لواجب البنوة ، وحياة الرجل البدائي رخيصة على نفسه لأنه يقتـل نفسه في اندفاع لا ينافسه فيه إلا اليابانيون ؛ وإذا ما أسئ إلى شخص فأنتـحر أو أنزل بنفسه الأذى ، فالمسيء لا بد أن يجري مجراه في ذلك وإلا عُدَّ منبوذاً من المجتمع ، وما أقدم الانتحـار تخلصا من الدنس والعـار ؛ وكل شيء قد يكفي سبباً للانتحار ، فقد أنتحر بعض الهنديات من شمالي أمريكا لأن أزواجهن قد استباحوا لأنفسهم لومهن ، وأنتحر شاب من جزيرة "تروبرياند" لأن زوجته دخنت كل ما كان لديه من تبغ.

وأخذت المدنية على نفسها فيما أخذت أن تحول الجشع عند الإنسان إلى اقتصاد ، والاعتداء إلى حجاج ، والاغتيال إلى مقاضاة ، والانتحار إلى فلسفة ؛ وما كان أعظمه من تقدم للإنسان حين رضى القوي أن يأكل الضعيف بوساطة القانون ؛ وأن الجماعة لتفنى إذا ما سمحت لأبنائها أن يقف بعضهم من بعض نفس الموقف الذي يشجعهم أن يقفوه جماعةً إزاء غيرها من الجماعات، فالتعاون الداخلي هو أول قانون للتنافس الخارجي، وتنازع البقاء لا ينتهي بتعاون الأفراد بعضهم مع بعض، إنما هو ينتقل إلى الجماعة بعد أن كان للفرد، ولو تساوت الظروف في جماعتين إلا في أن إحداهما يستطيع أعضاؤها من أسر وأفراد أن يتحد بعضهم مع بعض، فهي التي تستطيع أن تسبق الأخرى في ميدان التنافس سبقا يتناسب مقداره . مع مقدار ما بداخلها من تعاون ؛ ومن هنا كان لكل جماعة تشريع أخلاقي تلقنه لأفرادها ، وتبني لهم في أفئدتهم ميولا اجتماعية تقلل من الحرب الطبيعية التي هي من شأن الأحياء ، وإنما تفعل الجماعة ذلك لأن هؤلاء الأفراد هم حلفاؤها وأركانها المستورة؛ وهي تؤيد طائفة من الخصال أو العادات في الفرد من شأنها أن تعود بالنفع على الجماعة، ولذا تسميها فضائل؛ كما تنفر النفوس من أضدادها بأن تسميها رذائل؛ وبهذه الطريقة ينخرط الفرد - في ظاهرة إلى حد ما - في سلك الجماعة، والحيوان فيه يصبح مواطنا .
لم يكن - أو كاد ألا يكون - توليد العواطف الاجتماعية في نفس "الهمجي" بأصعب من إثارة هذه العواطف اليوم في قلب الإنسان الحديث، فلئن كان تنازع الحياة قد شجع على قيام الشيوعية، فقد عزز تنازع الملك الشعور بالفردية؛ وربما كان الإنسان البدائي أسرع من الإنسان المعاصر استعداداً للتعاون مع زملائه فقد كان أيسر عليه من الإنسان المعاصر أن يتماسك اجتماعياً مع زملائه لأن الأخطار والمصالح التي كانت تربط بالجماعة كانت أقوى منها الآن، كما كانت أملاكه أقل من أن تجعله يتفَّرد بمصالح من دون زملائه ؛ لقد كان الإنسان البدائي عنيفاً جشعاً ، لكنه كان كذلك رحيما كريما ، مستعداً لاقتسام ما معه حتى مع الغرباء، ولتقديم الهدايا لأضيافه فكل قارئ يعرف كرم البدائيين كيف كان يدفعهم في قبائل كثيرة إلى حد تقديم زوجة المضيف أو ابنته إلى نزيل بيته، ورفض مثل هذه التحية أثناء الضيافة يعتبر عندهم إيذاء شديدا لشعورهم : لشعور المضيف وشعور المرأة في آن معاً ، وإن ذلك لمن المشكلات التي يصادفها المبشرون ؛ والمعاملة التي يعامل بها الضيف إبان إقامته تتوقف على الطريقة التي عالج بها أمثال هذه التبعات في أول قدومه ؛ ويظهر أن الإنسان البدائي قد كان يشعر نحو امرأته شعور الغيرة على ملكه لا شعور الغيرة الجنـسية ، فلا يسيء إليه أن تكون زوجته قد "عرفت" رجالا غيره قبل زواجها منه، ولا يؤذيه أنها الآن تضاجع ضيفه ، لكنه يثور بالغضب - باعتباره مالكا لا باعتباره عاشقاً - إذا ما رآها تضـاجع رجلا بغير استئذانه ؛ وبعض الأزواج في أفريقيا يعيرون زوجاتهم إلى الغرباء لتسهيل أمور لهم عند هؤلاء.
إن قواعد المجاملة كانت من التعقد لدى معظم الشعوب الساذجة بمثل ما عليه لدى الأمم الراقية فكل جماعة لها طرائقها الرسمية في الاستقبال والتوديع ، فإذا ما التقى شخصان فقدي تحاكان بالأنوف أو يتشمم أحدهما الآخر ، أو يضرب كل منهما زميله ضرباً رقيقا ولكن هؤلاء الناس - كما أسلفنا - يستحيل أن يقبل أحد منهم أحداً ؛ وبعض القبائل الغليظة كانت أحسن أدبا من متوسط الإنسان الحديث، فصيادو الرءوس البشرية من قبيلة " دياك " يقال عنهم أنهم"وديعون مسالمون" في حياتهم المنزلية ، وهنود أمريكا الوسطى يعتبرون حديث الرجل الأبيض بصوت عال وسلوكه الغليظ من علامات سوء تربيته وثقافته البدائية .

إن كل الجماعات البشرية تقريبا تكاد تتفق في عقيدة كل منها بأن سائر الجماعات أحط منها؛ فالهنود الأمريكيون يعدون أنفسهم شعب الله المختار ، خلقه "الروح الأعظم" خاصة ليكون مثالا يرتفع إليه البشر، وقبيلة من القبائل الهندية تطلق على نفسها "الناس الذين لا ناس سواهم" وأخرى تطلق على نفسها "الناس بين الناس" وقال "الكاربيون" "نحن وحدنا الناس" ، وكان الإسكيمو يعتقدون أن الأوربيين إنما ارتحلوا إلى جرينلندة لينقلوا عنهم طرائق العيش الصحيحة والفضائل ونتيجة ذلك أن الإنسان البدائي لم يكن يدور في خلده أن يعامل القبائل الأخرى ملتزما نفس القيود الخلقية التي يلتزمها في معاملته لبني قبيلته ، فهو صراحة يرى أن وظيفة الأخلاق هي تقوية جماعته وشد أزرها تجاه سائر الجماعات، فالأوامر الخلقية والمحرمات لا تنطبق إلا على أهل قبيلته، أما الآخرون فما لم يكونوا ضيوفه ، فمباح له أن يذهب في معاداتهم إلى الحد المستطاع .

ليس التقدم الخلقي في التاريخ متمثلا في تحسن التشريع الخلقي بمقدار ما هو متمثل في توسيع الدائرة التي يطبق فيها، فأخلاق الإنسان الحديث ليست بالضرورة أسمى من أخلاق البدائي، ولو أن التشريعيين الخلقيين قد يختلفان فيما بينهما اختلافا بيناً من حيث المضمون والتنفيذ والأداء ، لكن الأخلاق الحديثة في الأيام العادية تتسع نطاقا بحيث تشمل عدداً أكبر من الناس عن ذي قبل- ولو أن هذا التوسع قد أخذ يقل تدريجيا ذلك أنه لما جعلت القبائل تحتشد في وحدات أكبر تسمى دولاً ، فاضت قواعد الأخلاق عن حدود القبيلة؛ ثم لما اتصلت الدول بوسائل المواصلات أو بالخطر المشترك، تسللت الأخلاق من دولة إلى دولة خلال الحدود، وطفقَ فريق من الناس يطبق قواعده الخلقية على الأوروبيين جميعا، ثم على ال*** الأبيض كله، ثم أخيراً على البشر أجمعين، وربما لم يخل عصر من العصور من أصحاب المثل العليا الذين تمنوا أن يحبوا الناس جميعا حبهم لجيرانهم، وربما كانت أصواتهم دائما صيحات في واد بلقع من قوميات وحروب ؛ لكن عدد هؤلاء الناس أو حتى نسبتهم العددية إلى غيرهم، قد زادت اليوم على الأرجح، ولئن خلت السياسة من الأخلاق ، فهنالك أخلاق في التجارة الدولية لسبب بسيط هو أن هذه التجارة يستحيل قيامها بغير شيء من القيود والقانون والثقة، فإن بدأت التجارة في القرصنة ، فقد صعدت إلى قمة الأخلاق .
ذلك لأن الجماعات الإنسانية قد ارتضت أن تقيم تشريعاتها الخلقية على أساس من المنفعة الاقتصادية والسياسية الصريحة، إذ الفرد لم تهيئه طبيعته بميول التي تميل به نحو إخضاع مصالحه الشخصية لمصالح المجتمع، أو نحو طاعة القوانين المحرجة للصدور إذا لم يكن ثمة من الوسائل المنظورة ما يفرضها عليه بالقوة ؛ فلكي تقيم المجتمعات على الأفراد حارساً غير منظور، ولكي تقوي فيهم الدوافع الاجتماعية ضد الدوافع الفردية بما تثيره فيهم من آمال قوية ومخاوف قوية، فإنها استخدمت الديانة وإن لم تخترعها، ولقد عبر الجغرافي القديم "سترابو" عن أكثر الآراء تقدماً في هذا الموضوع منذ تسعة عشر قرنا فقال :
إنك في معاملتك لحشد من النساء، على أقل تقدير ، أو معاملتك لأية مجموعة من الناس اجتمعت كما اتفق، لا تستطيع بالفلسفة أن تؤثر فيهم، أنك لا تستطيع أن تؤثر فيهم بالعقل أو أن تقنعهم إقناعا بضرورة الوقار والورع والأيمان كلا، بل لا بد لهم من الخوف الديني أيضاً . ولا يمكن إثارة هذا الخوف في نفوسهم بغير الأساطير والأعاجيب ؛ فالصواعق والدروع والصولجانات والمشاعل ورماح الآلهة ، كل هذه الأساطير ، وكذلك منها اللاهوت القديم من أوله إلى آخره؛ لكن مؤسسي الدول حرصوا على هذه الأشياء باعتبارها عفاريت يُفزعون بها السُّذج من الناس؛ ولما كانت هذه طبيعة الأساطير ( الميثولوجيا ) ثم لما احتلت الأساطير مكانتها في إطار الحياة المدنية والاجتماعية كما احتلت مكانتها كذلك في تاريخ الوقائع الملموسة ، فقد تمسك القدماء بنظمهم في تربية أطفالهم وطبقوها حتى سن النضوج ، وآمنوا بأنهم يستطيعون بوساطة الشعر أن يهذبوا أية فترة من فترات الحياة عند الناشئ ؛ أما اليوم ، وبعد أن مرَ هذا الزمن الطويل ، أصبح التاريخ وأصبحت الفلسفة في مقدمة ما يربى به النشء؛ مع أن الفلسفة لا تصلح إلا للقليل، بينما الشعر أصلح منها للشعب بصفة عامة" .
إذن فسرعان ما تسبغ العقيدة الدينية على الأخلاق لونا من التقديس، لأن ما هو فوق الطبيعة يضيف أهمية يستحيل أن تكتسبها من تلقاء نفسها الأشياء التي نعرفها بالتجربة الحسية والتي نفهمها بردها إلى أصولها، فالخيال أيسر وسيلة من العلم في حكم الناس؛ ولكن هل كانت هذه الفائدة الخلقية هي أصل العقيدة الدينية وأساسها؟


آخر تعديل بواسطة aymaan noor ، 29-12-2013 الساعة 12:10 AM
رد مع اقتباس
  #21  
قديم 30-12-2013, 05:12 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

الدين

الملاحدة البدائيون

إذا عرفنا الدين بأنه عبادة القوى الكائنة فوق الطبيعة. فلابد لنا منذ البداية أن نلاحظ أن بعض الشعوب- فيما يبدو- ليس لهم ديانة على الإطلاق فبعض قبائل الأقزام في أفريقيا لم يكن لهم عقيدة أو شعائر دينية يقيمونها بحيث يراها المشاهدون ؛ ولم يكن لهم طوطم ولا أصنام ولا آلهة ؛ وكانوا يدفنون موتاهم بغير احتفال ، فإذا ما فرغوا من دفنهم لم يبدُ عليهم ما يدل على إنهم يهتمون لأمرهم بعد ذلك إطلاقاً ، بل أعوزتهم حتى الخرافة ، ذلك لو أخذنا بأقوال الرحالة فلم نظن بأقوالهم الإسراف الذي يعز على التصديق ؛ وأما أقزام "الكامرون" فلم يعترفوا إلا بآلهة الشر وحدها ، ولم يحاولوا قط إرضاء هؤلاء الآلهة على أساس أن المحاولة في هذه السبيل عبث لا يجدي ؛ وقبيلة "في ذا" في سيلان اعترفت باحتمال وجود الآلهة وخلود الروح ، لكنهم لم يجاوزوا ذلك الحد بحيث يؤدون الصلاة أو يقدمون القرابين ؛ وسأل أحدهم سائلٌ عن الله فأجاب في حيرة فيلسوف حديث : "أيكون على صخرة أم على تل من تلال النمل الأبيض أم على شجرة ؟ إني لم أر قط إلهاً! " ؛ وهنود أمريكا الشمالية تصوروا إلها لكنهم لم يعبدوه ، وظنوا- كما ظن أبيقور- أنه أبعد من أن يعنى بأمورهم ، وقال هندي من قبيلة "أبيبون" ما عساه أن يحير عالماً من علماء الميتافيزيقا ، إذ قال في لهجة كونفوشية "إن آباءنا وأجدادنا كانت تغنيهم هذه الأرض وحدها ، لا يرجون شيئاً سوى أن يُنبت لهم السهل كلأ ويفجر لهم ماء لتَطعمَ جيادُهم وتشرب ؛ إنهم لم يشغلوا أنفسهم أبداً بما يجري في السماء ، وبمن ذا عسى أن يكون خالق النجوم وحاكمها" ، ولما كان الإسكيمو يُسألون من ذا صنع السماوات والأرض ، كانوا يجيبون دائماً بقولهم "لسنا ندري" ، وسئل رجل من "الزولو" : "إذا رأيت الشمس تشرق وتغيب ، وإذا رأيت الشجر ينمو ، فهل تعرف من خالقها ومن حاكمها؟ " أجاب في بساطة بقوله "كلا ، فنحن نراها ، لكننا لا نستطيع أن نعلم أنىّ جاءت ، ويظهر أنها جاءت من تلقاء أنفسها" .
على أن هذه حالات نادرة الوقوع ، ولا يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقاداً سليما ؛ وهذه ، في رأي الفيلسوف ، حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية ، فهو لا يكفيه أن يعلم عن الديانات كلها أنها مليئة باللغو الباطل، لأنه معنى قبل ذلك بالمشكلة في ذاتها ، أعني مشكلة العقيدة الدينية من حيث قِدمَ ظهورها ودوام وجودها ، فما أساس هذه التقوى التي لا يمحوها شئ من صدر الإنسان ؟ .

1- مصادر الدين

الخوف - الدهشة - الأحلام - النفس - الروحانية

الخوف- كما قال لوكريشس- أول أمهات الآلهة ، وخصوصاً الخوف من الموت ، فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار ، وقلما جاءتها المنيَّةُ عن طريق الشيخوخة الطبيعية ، فقبل أن تدب الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل ، كانت كثرة الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف أو بمرض غريب يفتك بها فتكا ، ومن هنا لم يصدق الإنسان البدائي أن الموت ظاهرة طبيعية وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة ، ففي أساطير سكان بريطانيا الجديدة الأصليين ، جاء الموت نتيجة خطأ أخطأته الآلهة ، فقد قال الإله الخير "كامبيناتا" إلى أخيه الأحمق "كورفوفا" : "اهبط إلى الناس وقل لهم يسلخوا جلودهم حتى يتخلصوا من الموت ، ثم أنبئ الثعابين أن موتها منذ اليوم أمر محتوم" فخلط "كورفوفا" بين شطري الرسالة بحيث بلغ سر الخلود للثعابين ، وقضاء الموت للإنسان ؛ وهكذا ظن كثير من القبائل أن الموت مرجعه إلى تقلص الجلد ، وأن الإنسان يخلد لو استطاع أن يبدل بجلده جلداً آخر .

وتعاونت عدة عوامل على خلق العقيدة الدينية ، فمنها الخوف من الموت ، ومنه كذلك الدهشة لما يسبب الحوادث التي تأتي مصادفة أو الأحداث التي ليس في مقدور الإنسان فهمها ، ومنها الأمل في معونة الآلهة والشكر على ما يصيب الإنسان من حظ سعيد ، وكان أهم ما تعلقت بهدهشتهم وما استوقف أنظارهم بسره العجيب هما الجنـس والأحلام ، ثم الأثر الغريب الذي تحدثه أجرام السماء في الأرض والإنسان ؛ لقد بهت الإنسان البدائي لهذه الأعاجيب التي يراها في نومه ، وفزع فزعا شديداً حين شهد في رؤاه أشخاص أولئك الذين يعلم عنهم علم اليقين أنهم فارقوا الحياة ؛ لقد دفن موتاه بيديه ليحول دون عودتهم ؟ لقد دفن مع الموتى ألوان الطعام وسائر الحاجات حتى لا يعود الميت من جديد فيصبّ عليه لعنته ، بل كان أحيانا يترك للميت الدار التي جاءه فيها المـوت ، وينتقل هو إلى دار أخرى ، وفي بعض البلدان كان الإنسان البدائي يُخرج الجثة من الدار خلال ثقب في الحائط، لا من بابها ، ثم يدور بها حول الدار ثلاث دورات سريعة ، لكي تنسى الروح أين المدخل إلى تلك الدار فلا تعاودها أبدا .

مثل هذه الأحداث التي كانت تصادف الإنسان البدائي في حياته ، أقنعته بأن كل كائن حي له نفَس أو حياة دفينة في جوفه ، يمكن انفصالها عن الجسد إبان المرض والنوم والموت ؛ جاء في كتاب من كتب "بوبانشاد" في الهند القديمة : "لا يوقظنَّ أحد نائماً إيقاظاً مفاجئاً عنيفاً ؛ لأنه من أصعب الأمور علاجا أن تضل الروح فلا تعرف طريقها إلى جسدها" وليست الروح بقاصرة على الإنسان وحده ، بل إن لكل شئ روحا ً، والعالم الخارجي ليس مـواتاً ولا خلواً من الإحساس ، لكنه كائن حي دافق الحياة . ولو لم يكن الأمر كذلك- هكذا ظن الفلاسفة القدامى- لكان العالم مليئاً بالأحداث التي يستحيل تعليلها ، مثل حركة الشمس ، أو البرق الذي يصعق الأحياء ، أو تهامس الشجر ، وهكذا تصور الناس الأشياء والحوادث مشخصة قبل أن يتصوروها جوامد أو مجردة ؛ وبعبارة أخرى سبقت الديانة الفلسفة ؛ وهذه الروحانية في النظر إلى الأشياء هي ما في الدين من شعر ، وما في الشعر من دين ؛ وقد نشاهدها في أبسط صورها ، في عيني الكلب الدهِشتَين إذ يرقب بهما ورقة حملته الريح أمامه ، فربما ظن إزاءها أن لها روحا تحركها من باطنها ، وهذا الشعور نفسه هو الذي تصادفه في أعلى درجاته عند الشاعر فيما ينظم من قصيد ؛ ففي رأي الإنسان البدائي- وفي رأي الشعراء في كل العصور- أن الجبال والأنهار والصخور والأشجار والنجوم والشمس والقمر والسماء ، كلها أشياء مقدسة لأنها العلامات الخارجية المرئية للنفوس الباطنية الخفية ؛ وكذلك الحال مع اليونان الأقدمين إذ جعلوا السماء هي الإله "أورانوس" ، والقمر هو الإله "سلين" ، والأرض هي الإلهة "جى" ، والبحر هو الإله "بوزيدن" ، وأما الإله "بان" ففي كل أرجاء الغابات في وقت واحد ؛ والغابات في رأي الجرمان الأقدمين كانت في أول أمرها عامرة بالجن والشياطين والسحرة والمَرَدة والأقزام وعرائس الجن وإنك لتلمس هذه الكائنات الجنية مبثوثة في موسيقى "فاجنر" وفي مسرحيات "إبسِن"الشعرية ؛ والفلاح الساذج في إيرلندة لا يزال يؤمن بوجود الجنيات ، ويستحيل أن يُعترف بشاعر أو كاتب مسرحي على أنه من رجال النهضة الأدبية هناك إلا إذا أدخل الجنيات في أدبه ، وإن في هذه النظرة الروحانية لحكمةً وجمالاً ، فمن الخير الذي يشرح الصدور أن تعامل الأشياء معاملتك للأحياء ؛ والنفس الحساسة- كما يقول أرهف الكتاب المعاصرين حساسية- ترى كأنما :

"الطبيعة أخذت تتبدى في هيئة مجموعات كبرى من كائنات حية مستقل بعضها عن بعض ؛ بعضها مرئي وبعضها خفي ، لكنها جميعاً من طبيعة العقل ، ثم هي جميعاً من طبيعة المادة ، وهي كذلك جميعاً تمزج في أنفسها بين العقل والمادة فتكون بذلك سر الوجود العميق... إن العالم ملئ بالآلهة ! فمن كل كوكب ومن كل صخرة ينبثق وجود يثيرنا بنوع من الإحساس الذي ندرك به كثرة ما هنالك من قوى شبيهة بقوى الآلهة ، فمنها القوي ومنها الضعيف ، ومنها الجليل ومنها الضئيل ، تتحرك كلها بين السماء والأرض لتحقق غاياتها التي كتمتها في أجوافها سراً" .
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 30-12-2013, 09:02 PM
ام علاء ام علاء غير متواجد حالياً
نجم العطاء
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
المشاركات: 3,636
معدل تقييم المستوى: 18
ام علاء is just really nice
افتراضي

استاذى الرائع..خالص تحياتى وتقديرى
__________________
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 30-12-2013, 10:59 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ام علاء مشاهدة المشاركة
استاذى الرائع..خالص تحياتى وتقديرى
خالص شكرى و تقديرى لحضرتك أستاذتى الفاضل أم علاء
لمرورك الكريم

جزاك الله خيرا و بارك الله فيك
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 31-12-2013, 01:48 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

2- المعبودات الدينية

الشمس - النجوم - الأرض – الجنـس - الحيوان - الطوطمية - الانتقال إلى مرحلة الآلهة البشرية - عبادة الأشـباح - عبادة الأسلاف

لما كان لكل شيء روح ، أو إله خفي، إذن فالمعبودات الدينية لا تقع تحت الحصر، وهي تقع في ستة أقسام: ما هو سماوي ، وما هو ارضي ، وما هو جنـسي ، وما هو حيواني ، وما هو بشري ، وما هو إلهي ؛ وبالطبع لن يتاح لنا قط أن نعلم أي الأشياء في هذا العالم الفسيح كان أول معبود للإنسان ؛ وربما كان القمر بين المعبودات الأولى ؛ فكما أننا اليوم نتحدث في أغانينا الشعبية عن "الرجل الذي يسكن القمر" كذلك صورت الأساطير الأولى القمر رجلا شجاعا أغـوى النساء وسبب لهن الحيض مرة كلما ظهر ؛ ولقد كان القمر إلها محببا للنساء ، عَبدَنَه لأنه حاميهن بين الآلهة ؛ وكذلك اتخذ القمر الشاحبُ مقياسا للزمن ، فهو في ظنهم يهيمن على الجو ، ويُنزل من السماء المطر والثلج ، حتى الضفادع تضرع للقمر بالدعاء لينزل لها المطر .

ولسنا ندري متى حلت الشمس محل القمر سيدة على دولة السماء ، عند الديانة البدائية ؛ وربما حدث ذلك حين حلت الزراعة محل الصيد ، فكان سير الشمس محدداً لفصول البذر وفصول الحصاد ، وأدرك الإنسان أن حرارة الشمس هي العلة الرئيسية فيما تدره عليه الأرض من خيرات ؛ عندئذ انقلبت الأرض في أعين البدائيين إلهة تخصبها الأشعة الحارة ، وعبد الناس الشمس العظيمة لأنها بمثابة الوالد الذي نفخ الحياة في كل شيء حي ومن هذه البداية الساذجة هبطت عبادة الشمس إلى العقائد الوثنية عند الأقدمين ولم يكن كثير من الآلهة فيما بعد سوى تشخيص للشمس وتجسيد لها ؛ ألم يَقضِ اليونان على أناكسجوراس بالنفي لأنه استباح لنفسه أن يذهب بالظن مذهبا مؤداه أن الشمس ليست إلها ، بل هي كرة من النار تقرب في حجمها من"بلبونيز" ؟ وكذلك استبقت العصور الوسطى بقية من عبادة الشمس في الهالات التي كان الناس يصورونها حول رءوس القديسين ، وإمبراطور اليابان في أيامنا هذه معدود عند معظم شعبه بأنه تجسيد لإله الشمس، الحق أنك لا تكاد تجد خرافة من خرافات العصر القديم إلا ولها لون من الحياة القائمة بيننا اليوم ؛ إن المدنية صنيعةُ أقلية من الناس أقاموا بناءها في أناة واستمدوا جوهرها من حياة الترف ؛ أما سواد الناس وغمارهم فلا يكاد يتغير منهم شئ كلما مرت بهم ألف عام .

وكل نجم شأنه شأن الشمس والقمر ، يحتوي إلهاً وهو بذاته إله ، ويتحرك بأمر روح كامن في جوفه ؛ وهذه الأرواح في ظل المسيحية أصبحت ملائكة تَهدي سواء السبيل ، أو إن شئت فقل أصبحت لأفلاك السماء قادةً تسلك بها في مسالكها ، حتى "كبلر" لم يبلغ من النظرة العلمية مبلغا يحمله على إنكارها ؛ والسماء نفسها كانت إلهاً عظيما ، تقام لها العبادة في تبتل لأنها هي التي تنزل الغيث أو تحبسه ؛ وكثير من القبائل البدائية يستعمل كلمة "الله" لتعني "السماء" ولفظ الله عند "اللوباري" و "الدنكا" معناها المطر ، وكذلك كانت السماء عند المنغوليين هي الإله الأعظم ، وكذلك الحال في الصين ، وفي الهند الفيدية أيضاً ، معنى كلمة الله هو "السماء الوالدة" ، والله عند اليونان هو زيوس أو السماء "مرغمة السحاب" وهو "أهورا" عند الفرس ، أي السماء الزرقاء .

ولا نزال في أيامنا هذه نضرع إلى "السماء" أن تقينا الشرور، ومعظم الأساطير الأولى تدور حول محور واحد ، وهو الخصب الذي نتج عن تزاوج الأرض والسماء.

لأن الأرض هي الأخرى كانت إلها ، وكل مظهر رئيسي من مظاهرها كان يقوم على أمره إله ؛ فللشجر أرواح كما لبني الإنسان سواء بسواء ، وقطعُ الشجرة معناه *** صريح ؛ وكان الهنود في أمريكا الشمالية أحياناً يعزون هزيمتهم وانحلالهم إلى أن البيض قد قطعوا الأشجار التي كانت أرواحها تقي "الحُمرَ" من الأذى ؛ وفي جزر "مولقا" كانوا يعتبرون الأشجار أيام الإزهار حوامل أجنة ، فلا يجيزون إلى جوارها ارتفاع الصوت أو إشعال النار أو غير ذلك من عوامل الاضطراب حتى لا يفسدوا على الأشجار الحبليات سكونها ، وإلا لجاز أن تسقط ثمارها قبل نضجها كما تجهض المرأة إن ألم بها الفزع ، وكذلك في "أبوينا" Aboyna لا يؤذن بالأصوات العالية على مقربة من الأرز إذا ما أزهرت سنابله خشية أن يصيبه الإجهاض فينقلب أعواداً من القش العقيم و"الفال" القدماء عبدوا أشجار غابات معينة كانت لديهم مقدسة ، وكذلك القساوسة "الدرديون" Druid في إنجلترا مجدوا دِبْقَ أشجار البلوط ، الذي لا يزال يوحي إلينا بشعيرة من الشعائر المحببة إلى نفوسنا ؛ وأقدم عقيدة دينية في آسيا- مما تستطيع أن تتعقبه إلى أصوله التاريخية - هي تقديس الأشجار وينابيع الماء والأنهار والجبال فكثير من الجبال كان أماكن مقدسة ، اتخذتها الآلهة مقراً ترسل منه ما شاءت من صواعق ؛ وأما الزلازل فليست سوى آلهة ضجروا أو ضاقوا صدراً فهزوا أكتافهم ويعلل أهل "فيجي" الزلازل بأن إله الأرض يتقلب في نومه ؛ وإذا ما زلزلت الأرض عند قبيلة "ساموا" أخذوا يقرضون الأرض بأسنانهم ويبتهلون إلى الإله "مافوِي" Mafuie أن يسكن خشية أن تتمزق الأرض كلها إرباً إرباً ؛ والأرض عند الناس في شتى النواحي المعمورة تقريباً هي "الأم الكبرى" فاللغة الإنجليزية التي كثيراً ما تكون بمثابة الرواسب التي تجمعت فيها العقائد البدائية أو اللاشعورية ، تشير حتى اليوم بصلة القربى بين المادة والأمومة (مادة معناها Matter والأم معناها Mother) وليس "إشترَ" و"سبيل" و"دميتر" و"سيريز" و"أفروديت" و"فينَس" و"فْرِييا" إلا صوراً متأخرة نسبياً لإلهات الأرض الأوليات اللائى خلعن من خصوبتهن خصوبة على الأرض فأخرجت من جوفها الخيرات ؛ وما رواه الناس عن ولادة هؤلاء الإلهات وزواجهن وعن موتهن وعودتهن منتصرات إلى الحياة ، إن هو إلا رموز أو تعليل لظهور النبات ثم جفافه ، والتجديد الملحوظ الذي يطرأ على حياة النبات حيناً بعد حين ؛ وهذه الإلهات تدلب أنـوثتهن على أن الإنسان البدائي قد ربط بين الزراعة والمرأة ؛ فلما أصبحت الزراعة هي الصورة السائدة في الحياة الإنسانية ، كانت إلاهات النبات هي سيدة الإلاهات جميعاً ؛ ومعظم الأرباب في العصر القديم كان من النساء ، ثم حل محلهن الآلهة الذكور ، حين ظهرت الأسرة الأبوية فوق الأرض ظافرة.

وكما يرى العقل البدائي فيما يقول من شعر عميق سراً إلهيا في نمو الشجرة ، كذلك يرى يداً إلهية في حمل الجنين أو ولادته ؛ إن "الهمجي" لا يعرف شيئاً عن البويضة والجرثومة المنـوية ، لكنه يرى الأعضاء الظاهرة أمام عينيه ، التي تشترك معاً في هذه العملية فيؤلهها ، فهي كذلك تكمن فيجوفها الأرواح ولا بد من عبادتها ، أليست هذه القُوى الخلاقة العجيبة في سرها ، أعجب الكائنات جميعاً ؟ ففيها تظهر معجزة الخصوبة والنمو أوضح مما تظهر في تربة الأرض نفسها؛ وإذن فلا بد أن تكون اقرب ما تجسد فيه الآلهة قوتها ، وتوشك الشعوب البدائية جميعاً أن تعبُدَ الجنـس على صورة من الصور أو شعيرة من الشعائر ؛ ولم يكن أدناها ، بل أعلاها مدنية ، هو الذي عبر عن هذه العبادة تعبيراً كاملا ؛ وسنرى هذه العبادة في مصر والهند وبابل وآشور واليونان والرومان ؛ كان الناس يجلون الوظيفة الجنـسية والجانب الجنـسي من آلهتهم البدائية إجلالا عظيما لا لأنهم يرون في ذلك شيئاً من الفاحشة بل لأنهم يرتبطون ارتباطاً وجدانياً بالخصوبة في المرأة وفي الأرض ؛ ولذلك عبدوا بعض الحيوان كالعجل والثعبان لآن لهما- فيما يظهر- القوة الإلهية في الإنسال ، أو قُل إنهما يرمزان لتلك القوة فلا شك أن الثعبان في قصة عدن رمز جنـسي يمثل العلاقة الجنـسية باعتبارها أساس الشر كله ، ويوحي بأن اليقظة الجنـسية هي بداية الخير والشر ، وربما يشير كذلك إلى علاقة أصبحت مضرب الأمثال بين سذاجة العقل ونعيم الفردوس .

وتكاد لا تجد حيواناً في الطبيعة كلها- من الجُعل (الجعران) المصري إلى الفيل عند الهندوس- لم يكن في بلد ما موضع عبادة باعتباره إلها : فهنود "أوجبوا" Ojibwa أطلقوا اسم "طوطم" على حيوانهم الخاص الذي يعبدونه ، وعلى العشيرة التي تعبده ، وعلى كل عضو من تلك العشيرة ؛ ثم جاء علماء الأجنـاس البشرية فأخذوا هذه الكلمة وجعلوها اسما على مذهب "الطوطمة" الذي يدل دلالة غامضة على أية عبادة لشيء معين- وعادة يكون الشيء المعبود حيواناً أو نباتاً- تتخذه جماعة ما موضع عبادتها ؛ ولقد وجدنا أنواعاً مختلفة من الطواطم في أصقاع من الأرض ليس بينها رابطة ظاهرة ، من قبائل الهنود في شمالي أمريكا ، إلى أهل أفريقيا وقبيلة "درافيد" Daraviians في الهند ، وقبائل استراليا ؛ ولقد أعان الطوطم باعتباره شعاراً دينياً . على توحيد القبيلة التي ظن أعضاؤها أنهم مرتبطون معاً برباطه ، أو هبطوا جميعاً من سلالته ؛ فقبيلة "إراكو" تعتقد - على نحو شبيه بما يذهب إليه دارون - أنهم سلالة التزاوج بين النساء وبين الدببة والذئاب والغزلان ، وأصبح الطوطم- باعتباره شعاراً أو رمزاً- علامة مفيدة تدل على ما بين البدائيين من قُربى ، وتميزهم بعضهم من بعض ، ثم أخذ على مر الزمن يتطور في صور عَلمانية فكان منه التمائم والشارات ، كهذا الذي تتخذه الأمم من شعارات لها كالأسد أو النسر ، أو الأيل الذي تتخذه الجمعيات التي تعمل على الإخاء بين الناس ، أو هذه الحيوانات الخرساء التي تصطنعها الأحزاب السياسية عندنا اليوم ، لتمثيل رسوخ الفيلة أو صخب البغال ؛ وكانت الحمامة والسمكة والحَمل ، في رمزية العقيدة المسيحية إبان نشوئها، بقايا القديم في تمجيد الطواطم ؛ بل إن الخنزير الوضيع كان يوماً طوطما لليهود السابقين للتاريخ ؛ وفي معظم الحالات كان الطوطم محرماً لا يجوز لمسه ؛ ويجوز أكله في بعض الظروف ، على أن يكون ذلك من قبيل الشعائر الدينية ، فهو بذلك يرمز إلى أكل الإنسان لله أكلا تعبديا ، وقبيلة "غالا" في الحبشة تأكل السمكة التي تعبدها في احتفال ديني رصين ، ويقول أبناؤها : "إننا نشعر بالروح تتحرك فينا إذ نحن نأكلها" ؛ وما كان أشد دهشة المبشرين الأطهار ، إذ هم يبشرون بالإنجيل لقبيلة "غالا" أن وجدوا بين هؤلاء السذج شعيرة شديدة الشبه بالقُداس عند المسيحيين .

ويجوز أن قد كان الخوف أساس الطوطمة ، كما هو أساس كثير من العبادات ، وذلك بأن يكون الإنسان قد عَبَدَ الحيوان لقوته ، فلم يَرَ بُدّاً من استرضائه ، فلما أن طهر الصيدُ الغابة من وحشها ، ومهد الطريق للطمأنينة تتوفر في الحياة الزراعية ، قَلّت عبادة الحيوان ولو أنها لم تزُل تمام الزوال ؛ وربما استمدت الآلهة البشرية الأولى طبعها من الآلهة الحيوانية البشرية لها بديلا ؛ والانتقال من أولئك إلى هؤلاء واضح في القصص المشهورة التي تروى لنا تحول الصورة الإلهية ، والتي تراها في "أوفد" الشاعر ، وفي كل شاعر من قبيلة من تراهم في لغات الأرض جميعاً ، فتصف لنا تلك القصص كيف كانت الآلهة ، أو كيف صارت حيوانية الصورة ، وبعدئذ ظلت صفات الحيوان لاحقة بالآلهة لا تبرحها ، كما تظل رائحة الاصطبل لاحقة بمكانه حتى بعد تحويله قصراً ريفياً منفيا ؛ حتى في "هومر" الذي كان قد بلغ من الرقي مبلغاً بعيدا ً، ترى الإلهة "جلوكوبس أثيني " لها عينا بومة ، و "هيري بوبس" لها عينا بقرة ؛ والآلهة أو الغيلان في مصر وبابل ، بوجوهها الإنسانية وأجسادها الحيوانية تبين مرحلة الانتقال نفسها ، وتعترف بالحقيقة عينها ، وهي أن كثيراً من الآلهة البشرية كانت يوماً آلهة حيوانية .
ومع ذلك فمعظم الآلهة البشرية قد كانوا- فيما يظهر- عند البداية رجالا من الموتى ضخموا بفعل الخيال ؛ فظهور الموتى في الأحلام كان وحده كافياً للتمكين من عبادتهم ، لأن العبادة إن لم تكن وليدة الخوف ، فهي على الأقل زميلته ؛ وخصوصاً من كانوا أقوياء إبان حياتهم ، فألقوا الخوف في نفوس الناس ؛ هؤلاء يرجح جداً أن يُعبدوا بعد موتهم ، ولذلك تجد الكلمة التي معناها "إله" عند كثير من الشعوب البدائية ، معناها في الحقيقة "رجل ميت" ؛ وحتى اليوم ، ترى كلمة "Spirit" في الإنجليزية وكلمة "Geist" في الألمانية معناهما إما روح وإما شبح ؛ وكان اليونان يتبركون بموتاهم على نحو ما يتبرك المسيحيون بالقديسين ؛ ولقد بلغت العقيدة في استمرار حياة الموتى- وهي عقيدة تولدت في بدايتها من الأحلام- مبلغاً عظيما حتى جعل البدائيون أحياناً يرسلون الرسائل لموتاهم بمعنى الكلمة الحرفي الدقيق ؛ ففي قبيلة من القبائل ، إذا ما أراد الرئيس أن يبعث بخطاب لميت، أسمعه لعبدٍ ثم قطع رأس العبد ليؤدي الرسالة ، فإذا نسى الرئيس شيئاً كان يريد ذكره في الخطاب ، أرسل عبداً آخر بنفس الطريقة ليكون "حاشية" للخطاب الأول .

ثم تدرجت عبادة الأشباح حتى أصبحت عبادة للأسلاف ؛ فقد بات الناس يخافون موتاهم جميعا ويعملون على استرضائهم خشية أن يُنزلوا لعناتهم على الأحياء فيجلبوا لهم الشقاء ؛ وكأنما كانت هذه العبادة للأسلاف مهيأة على نحو يجعلها ملائمة لتدعيم المجتمع من حيث سلطانه ودوامه ، وللتمكين من روح المحافظة على القديم والاحتفاظ بالنظام ؛ حتى لقد شاعت شيوعاً سريعاً في كل أرجاء المعمورة فازدهرت في مصر واليونان وروما ، ولا تزال قائمة ومستولية على النفوس بقوة في اليابان والصين الآن ؛ وإن كثيراً من الشعوب ليعبدون أسلافهم دون أن يكون لديهم إله ؛ ولقد عمل هذا الاتجاه على ربط أواصر الأسرة ربطاً وثيقاً ؛ على الرغم من كراهة الخلف لهذا النظام وكذلك كان لكثير من المجتمعات البدائية بمثابة إطار خفي ينتظم الأفراد في مجموعة متماسكة ؛ وكما أن القهر أنهى إلى أن يكون ضميراً ، فكذلك الخوف تطور حتى أصبح حُبّاً ؛ فشعائر عبادة الناس لأسلافهم ، التي يرجح أنها كانت وليدة الخوف في أول الأمر ، قد أثارت في القلوب بعدئذ شعور الرهبة ، ثم تطور أخيراً إلى ورع وتقوى ؛ وكذلك ترى الاتجاه في الآلهة أن يبدءوا في صورة الغيلان المفترسة ثم ينتهون في صورة الآباء الذين يحبون أبناءهم ؛ وهكذا يتحول الصنم المعبود على مر الزمن إلى مثل أعلى منشود، كلما عملت زيادة الاطمئنان والأمن والشعور الخلقي لدى العابدين على الحد من وحشية آلهتهم كما تصوروها أولا ، وتحوير ملامحهم تحويراً يلائم الطور الجديد ؛ إن البطء في سير المدنية ليتمثل في تأخر المرحلة التي أحس فيها الناس بحب آلهتهم .

إن فكرة إله بشري لم تظهر في مراحل التطور الطويلة إلا أخيراً ؛ وقد برزت في صورة واضحة بعد اجتيازها لمراحل كثيرة أخرجتها من تصور الإنسان لمحيط خضم أو لحشد كبير من الأرواح والأشباح تحيط بكل شيء وتعمر كل شيء ؛ ثم انتقل الإنسان من خوفه وعبادته لأرواح غامضة المعالم مبهمة الحدود ، إلى تمجيد القوى السماوية والنباتية وال***ية ، ثم إلى خشوعه للحيوان وعبادته للأسلاف ، والأرجح أن تكون فكرة الإنسان عن الله بأنه "أب" قد تفرعت عن عبادة الأسلاف ، لأن معناها في الأصل هو أن الناس قد هبطوا من الآلهة بأجسامهم ، لا بأرواحهم فقط ولذا لا تجد في اللاهوت البدائي حداً فاصلا متميزاً من حيث النوع بين الآلهة والناس ؛ فعند اليونان الأقدمين- مثلا- كان الأسلاف آلهة والآلهة أسلافا ؛ وتلت ذلك خطوة أخرى في التطور ، حين ميَّزَ الناس من بين هؤلاء الأسلاف الخليط رجال ونساء بعينهم ، كان لهم امتياز خاص دون سائر الأسلاف ، فأسبغوا عليهم لونا أوضح من الربوبية الصريحة ؛ وبهذا أصبح أعلام الملوك آلهة حتى قبل موتهم أحياناً ؛ لكننا إذا ما بلغنا من التطور هذه المرحلة فقد بلغنا المدنية التي دونها التاريخ .
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 31-12-2013, 10:05 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

3- طرائق الدين

السحر - طقوس الزراعة - أعياد الإبـاحة - أساطير الإله

المبعوث - السحر والخرافة - السحر والعلم - الكهنة

لما تصور الإنسان البدائي عالما من الأرواح يجهل طبيعتها وغاياتها ، فقد عمل على استرضائها واجتلابها في صفه لمعونته ومن هنا كانت إضافته إلى الروحانية التي هي جوهر للديانة البدائية ، سحرا هو بمثابة الروح من شعائر العبادة البدائية ؛ فقد تصور البولينيزيون خضما حقيقيا مليئا بقوة السحر وأطلقوا عليه اسم "مانا" وكان الساحر في رأيهم إنما يُقطر لهم قطرات ضئيلة من هذا المورد الذي لا ينتهي ، والذي يستمد منه قدرته على السحر ؛ وكان ما يسمى "بالسحر التمثيلي" هو أول الطرائق التي كسب بها الإنسان بأداء أشباه الأفعال التي يريد من الآلهة أن يؤدوها له ، كأنه بذلك يغريهم بتقليده ، فمثلا إذا أراد الناس أن يستنزلوا المطر ، صَبَ الساحر ماء على الأرض ، والأفضل أن يصبه من أعلى الشجرة ؛ ويحكى عن قبيلة الكفيـر أنها حين تَهددَها الجفافُ ، طلبوا إلى مبشر أن يذهب إلى الحقول ويفتح مظلته ؛ وفي سومطره ، تصنع المرأة العقيم صورة طفل تضعها على حجرها راجية أن يجيئها بعد ذلك الجنين ؛ وفي "أرخبيل بابار" تصنع المرأة - إذا ما أرادت لنفسها الأمومة - عروسا من قطن أحمر ، وتقوم بحركات إرضاعها ، وتقول صيغة سحرية معلومة ؛ ثم تبعث إلى القرية بمن يشيع أنها حملت ، فيجيء أصدقاؤها لتهنئتها ؛ الحق أنه لا يستطيع أن يرفض تحقيق هذا الخيال إلا واقع عنيد ؛ وفي قبيلة "دياك" في بورنيو ، إذا أراد الساحر أن يخفف آلام امرأة تضع ، يقوم هو نفسه بحركات الوضع على سبيل التمثيل ، لعله بذلك يوحي بقوة سحره إلى الجنين أن يظهر ، وأحيانا يدحرج الساحر حجرا على بطنه ثم يسقطه على الأرض ، أملا أن يقلده الجنين المستعصي فتسهل ولادته ؛ وفي العصور الوسطى كانوا يسحرون الشخص بأن يغزو الدبابيس في تمثال من الشمع يمثل صورته وهنود بيرو يحرقون الناس ممثلين في دُماهم ، ويطلقون على هذا اسم إحراق الروح ، وليس سواد الناس في العصر الحاضر بأرقى من هذا السحر البدائي في تخريفهم .

كانت طرائق الإيحاء بالتمثيل تُستخدم بصفة خاصة لإخصاب التربة ، فأرباب العلم في زولو يشوون الأعضاء التنـاسلية للرجل إذا مات في ***وانه ، ثم يطحنونها ويسحقونها رماداً يذر فوق الحقول ؛ وبعض الشعوب تختار للربيع ملكاً وملكة من بين رجالها ونسائها ، وتزوجهما في حفل علني ، لعل التربة تصغي إلى الحفل ومغزاه فتسرع إلى أزهار النبات ؛ بل إنهم في بعض البلدان يضيفون إلى مثل ذلك الحفل أن يقوم العروسان فعلا بعملية التزاوج علنا ، حتى لا يتركوا للطبيعة - على الرغم من أنها ليست سوى طين بارد جامد - عذراً بأنها لم تفهم الواجب الذي طلبَ إليها أداؤه ؛ وفي جاوة ، يتصل الفلاحون وزوجاتهم اتصالا جنـسياً في حقول الأرز ليضمنوا خصوبة إنتاجها ذلك لأن البدائيين لم يفهموا نمو النبات بلغة النتروجين ، بل فهموه - بالطبع دون أن يعلموا أن للنبات ذكوراً وإناثاً - على نفس الأساس الذي كانوا يعللون به إثمار المرأة ؛ ثم أليس في استعمالنا لكلمات مثل إثمار للطبيعة وللمرأة معاً ، ما يذكرنا بعقيدتهم تلك وما تنطوي عليه من شعر ؟

وتقام أعياد يختلط فيها الجنـسان اختلاطاً بغير ضابط ، وهي في معظم الحالات إنما تقام في فصل البذر ، بمثابة أمر يوقف القوانين الخلقية حيناً ( وهي تذكر الناس بما كان في علاقاتهم الجنـسية في أيامهم الماضية من حرية نسبية ) والغاية من هذه الأعياد إخصاب زوجات مَن بهم عقم من الرجال من جهة ، وإيحاء للأرض في فصل الربيع بأن تخرج عن تحفظها الذي لازمته أيام الشتاء ، لتتقبل ما بذروهُ فيها من بذور ، وتهيئ نفسها لإخراج نتاج طيب من القوت ، وتقام هذه الأعياد عند عدد كبير من الشعوب الفطرية ، وخصوصاً بين أهل كامرون في الكونغو ، والكفير ، والهوتنتوت ، والبانتو ، وفي ذلك يقول "هـ. رولي" H. Rowley وهو من رجال الدين في بانتو :
"إن أعياد الحصاد شبيهة في خصائصها بأعياد "باخوس" ( عند اليونان ) ... فأنه يستحيل على إنسان أن يشاهدها دون أن يأخذه الخجل... فهم لا يكتفون في هذه الإباحة الجنـسية الكاملة بضمَّ من تنصّر حديثاً ، بل لا يكتفون بضمَّ من طالَ أمد تنصره ، لكنهم يغرون أي زائر وقفَ ليشاهد حفلهم بالانغماس معهم في إباحتهم ؛ عندئذ لا يحول الناس حائل دون الانغماس في الدعارة ، وهم لا ينظرون إلى الزنـا نظرة فيها أثر من معنى البشاعة ، بسبب الظروف التي تحيط بهم حينئذ ، بل أنهم لا يسمحون لرجل حضر الاحتفال أن يضاجع زوجته" .
وتظهر أعياد كهذه في عصور المدنية التي دونّها التاريخ ، فاحتفالات "باخي" عند اليونان ، وأشباهها في روما وفي فرنسا إبان العصور الوسطى وفي إنجلترا وسائر الاحتفالات التهريجية التي نشاهدها في عصرنا ، كل هذه من قبيل الأعياد الإبـاحية القديمة .

على أن شعائر الزراعة هذه تتخذ في بعض البلاد هنا وهناك صورة أقل ظرفاً مما ذكرنا - كما هي الحال عند البونيين Pawness وعند هنود جوايا كيل ؛ فرجل يضحى به في وقت البذر حتى تخصب الأرض بدمائه - وفيما بعد خفت الصورة بعض الشيء ، فاكتفوا ب*** الحيوان قرباناً- ؛ حتى إذا ما حلّ موسم الحصاد فسّروه بأنه بعث للرجل الذي مات ضحيةً ، فكانوا يخلعون عليه قبل موته وبعده جلال الآلهة ؛ ومن هذا الأصل نشأت الأسطورة التي تروى في ألف صورة مختلفة كيف يموت الله في سبيل شعبه ، ثم يعود إلى الحياة بعدئذ ظافراً ؛ وعمل الشعر على زخرفة السحر حتى حوله ضرباً من اللاهوت ، واختلطت الأساطير تروى عن الشمس بشعائر الزراعة اختلاطاً فيه تناسق وانسجام ، بحيث أصبحت الأسطورة التي تروى عن موت الإله وعودة ولادته ، لا يقتصر مدلولها على موت الشتاء وعودة الحياة إلى الأرض في الربيع بل جاوزت ذلك إلى الانقلابين الآخرين : الصيفي والخريفي ، وما يعقب ذلك من قصر النهار وطوله ؛ ذلك لان حلول الليل لم يكن إلا جزءاً من هذه المأساة ؛ فإله الشمس يموت كل يوم مرة ويولد كل يوم مرة، فكل غروب له بمثابة الاستشهاد على الصليب ، وكل شروق هو بعث له ونشور .
والظاهر أن التضحية بالإنسان - التي ذكرنا من شتى صنوفها مثلاً واحداً - قد أخذ بها الإنسان في كل الشعوب تقريباً ، فتظهر ها هنا يوماً وهنالك يوماً ، فقد وجدنا في جزيرة كارولينا في خليج المكسيك تمثالاً كبيراً معدنياً أجوف لإله مكسيكي قديم ، فوجدنا فيه رفات كائنات بشرية ، لا شك أنها ماتت بالحرق قرباناً لله ، وكلنا يسمع عن "مُلُخْ" الذي كان الفينيقيون والقرطاجنيون ، وغيرهما من الشعوب السامية حيناً بعد حين ، يقدمون له القرابين من بني الإنسان ؛ ولقد شهد عصرنا الحاضر هذه العادة قائمة في روديسيا وربما كان منشأ هذه العادة أكل البدائيين للحوم البشر ، فظنوا أن الآلهة تستمرئ من الطعام ما يستمرئون ؛ ولما كانت العقيدة الدينية أبطأ تغيراً من سائر العقائد، ثم لمّا كانت الشعائر الدينية أبطأ تغيراً من العقائد نفسها ، فقد امتنع الإنسان عن أكله للحم الإنسان ، وبقى التقليد قائماً بالنسبة للآلهة ؛ ومع ذلك فقد تغيرت حتى هذه الشعائر الدينية بفضل تطور الأخلاق ، بحيث طفق الآلهة يقلدون عبادهم في الزيادة من اصطناع الرقّة ، واستسلموا للوضع الجديد فقبلوا لحم الحيوان طعاماً بدل لحم الإنسان ، فَضُحّى بغزال بدل التضحية بافجينيا ( في أساطير اليونان ) كما ضُحّى بكبش بدل التضحية بابن إبراهيم ؛ ومضى الزمان في تقدمه ، فحرمت الآلهة حتى هذا الحيوان ، لأن الكهنة آثروا أنفسهم بالطعام الشهي ، وأخذوا يأكلون كل ما يمكن أكله من الضحية المقدمة ، ثم يهبون الآلهة على م*** القربان أمعاء الضحية وعظامها .

ولما كان الإنسان الأول يؤمن بأن قوة ما يأكله تنتقل إليه ، فقد كان من الطبيعي أن ترد على خاطره فكرة أكل الإله ؛ ففي كثير من الحالات كان يأكل لحم الإله البشري ويشرب دمه ، ذلك الإله الذي عبده وسمّنه استعداداً للتضحية به ؛ لكن الطعام كثرت موارده وضمن الإنسان اطراده، فانتهى ذلك إلى زيادة الرحمة في فؤاده، ولذلك استبدل بالتضحية الإلهية رموزاً على هيئتها ، واقتنع بأكلها ، ففي المكسيك القديمة، كان يصنع تمثال لله من الغلال والحبوب والخضر ، يعجن بدماء صبيان يضحّى بهم لهذه الغاية ، ثم يأكلونه على أنه بديل ديني لأكل الله نفسه ؛ وأشباه هذه الاحتفالات الدينية وجدناها بكثرة في القبائل البدائية ، وكانت العادة أن يطلب إلى الناس أن يصوموا عن الطعام فترة قبل أكل التمثال المقدس ، وكان الكاهن ساعتئذ يقول بعض العبارات السحرية ليحول بها التمثال المأكول إلى إله حقيقي .

ولئن بدأ السحر بالخرافة فإنه ينتهي بالعلوم ، فألوف من أغرب العقائد جاءت نتيجة للفكرة ا لروحانية القديمة ، ثم نشأ عنها صلوات وطقوس عجيبة ؛ فقبيلة "كوكى" Kukis كانت تلهب حماسة أبنائها في القتال بزعمها لهم أن الأعداء القتـلى سيكونون لهم عبيداً في الحياة الآخرة ؛ ولكنك من ناحية أخرى ترى الرجل من قبيلة "بانتو" Bantu إذا قتـل عدواً له ، حلق رأس نفسه ، وطلى نفسه بروث الماعز ، ليمنع روح الميت من العودة إليه والفتك به ، وتكاد الشعوب البدائية كلها تجمع على فعل اللعنات وشر "العين الحاسدة" فلم يشك الأستراليون الأصليون في أن اللعنة ينطق بها الساحر القوي ، تقضي على حياة اللعين وإن يكن منه على بعد مائة ميل ؛ وبدأت العقيدة في السحر في أوائل مراحل التاريخ الإنساني ، ولم تَزل عن الإنسان قط زوالا تاما ؛ وعبادة الأصنام وغيرها مما يكون له قوة سحرية كالتمائم ، أرسخ في القِدَم من السحر نفسه وأثبت منه جذوراً في النفوس ؛ ولما كانت التمائم تُحَددُ لها مناطق القوة ، بمعنى أن يكون لكل تميمة أثر في ناحية معينة دون غيرها ، فإنك ترى بعض الشعوب تُثقِل أنفسها بأحمال منها لكي يكونوا على أهبة الاستعداد لكلما عسى أن تفجأهم به الأيام والأحجية إن هي إلا صورة متأخرة في الظهور ، ومَثل من الأمثلة التي تعاصرنا ، من الأصنام أو ما إليها من ذوات القوة السحرية ، فنصف سكان أوروبا يلبسون المُدليَات والتمائم ليستمدوا بواسطتها وقاية و معونة من وراء الطبيعة ؛ إن تاريخ المَدنية ليعلمنا في كل خطوة من خطوات سيره ، كم تبلغ قشرةُ الحضارة من الرقة والوهن ، وكيف تقوم المدنية على شفا جُرُف هارٍ فوق قمة بركان لا يخمد سعيره ، من وحشية بدائية وخرافة وجهل مكبوت ، إن المدنية العصرية ليست سوى غطاء وضع وضعاً على قمة العصور الوسطى ، ولا تزال تلك العصور ولن تزال باقية .

ولا يسع الفيلسوف إلا أن يَقبَل راضياً هذا الفقر من الإنسان إلى معونة مما فوق الطبيعة تبعث في نفسه الطمأنينة ؛ ويجد لنفسه العزاء في علمه بأن الأدب المسرحي والعلوم تنشأ عن السحر ، كما ينشأ الشعر عن مذهب الروحانية ؛ فقد بين لنا "فريزر" Frazer - في شيء من المبالغة لا نستغربه من مبدع موهوب - أن أمجاد العلم تمتد بجذورها إلى سخافات السحر ؛ لأنه كلما أخفق الساحر في سحره استفاد من إخفاقه هذا استكشافاً لقانون من قوانين الطبيعة ، يستعين بفعله على مساعدة القوى الطبيعية في إحداث ما يريد أن يحدثه من ظواهر ؛ ثم أخذت الوسائل الطبيعية تسود وترجح كفتها شيئاً فشيئاً ، ولو أن الساحر كان دائماً يخفي هذه الوسائل الطبيعية ليحتفظ بمكانته عند الناس ، ما استطاع إلى إخفائها من سبيل ، بأن يعزو الظاهرة التي أحدثها للسحر الذي استمده من القوى الخارقة للطبيعة - وهذا شبيه جداً بأهل هذا العصر حين يعزون الشفاء الطبيعي لوَصفَات وعقاقير سحرية ؛ وعلى هذا النحو كان السحر هو الذي أنشأ لنا الطبيب والصيدلي ، وعالم المعادن ، وعالم الفلك .

لكن الطريق أقصر بين الفلكي والساحر منها في سائر ضروب العلماء ؛ ذلك لأنه لما تعددت طقوس الدين وتعقدت ، لم يَعد الرجل العادي يقدر على استيعابها جميعاً ، والإلمام بها جميعاً ومن هنا نشأت طبقة خاصة أنفقت معظم وقتها في مهام الدين ومحافله ؛ وأصبح الكاهن باعتباره ساحراً ، بما له من قدرة على الذهول الروحي وتلقي الوحي وتوجيه الدعاء المستجاب ، أقر بصلة بإرادة الأرواح أو الآلهة بحيث يستطيع تحويل تلك الإرادة إلى ما فيه نفع الإنسان ؛ ولما كان هذا الضرب من العلم والمهارة هو في رأي البدائيين أهم ضروب العلم والمهارة جميعاً ، ثم لما تصوروا أن القوى الخارقة للطبيعة لها أثرها في حياة الإنسان عند كل منعطف في الطريق ، فقد أصبحت قوة رجال الدين مساوية لقوة الدولة ؛ وجعل الكاهن ( أو القسيس ) منذ أقدم العصور إلى أحدثها ينافس الجندي المقاتل في سيادة الناس والإمساك بزمامهم ، حتى لقد راح الفريقان يتناوبان ذلك ، وحسبنا في التمثيل لذلك أن نسوق مصر ، ودولة اليهود وأوروبا في العصور الوسطى أمثلة .

إن الكاهن لم يخلق الدين خلقاً ، لكن أستخدمه لأغراضه فقط ، كما يستخدم السياسي ما للإنسان من دوافع فطرية وعادات ؛ فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو ألاعيب كهنوتية ، إنما نشأت عن فطرة الإنسان بما فيها من تساؤل لا ينقطع وخوف وقلق وأمل وشعور بالعزلة ؛ نعم إن ا لكاهن قد أضر الناس بإبقائه على الخرافة وباحتكاره لضروب معينة من المعرفة ، لكنه مع ذلك عمل على حصر الخرافة في نطاق ضيق ، وكثيراً ما كان يحمل الناس على إهمال شأنها ، وهو الذي لقن الناس بداية التعليم والتهذيب ، وكان بمثابة المستودع وأداة التوصيل بالنسبة للتراث الثقافي الإنساني المتزايد ؛ وكان عزاء للضعيف في استغلال القوى له استغلالاً لم يكن عنهم نصرف ولا محيص ؛ كما أصبح الفعل الفعال الذي أعان الدين على تغذية الفنون ، وتدعيم بناء الأخلاق الإنسانية المترنح بدعامة من القوة العليا ؛ فلو لم يجد الناس بينهم كاهناً لخلقوه لأنفسهم خلقاً .
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 01-01-2014, 02:17 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

4- مهمة الدين الخلقية

الدين والحكومات - المحرمات الجنـسية - تأخر الدين - التحول العلماني

الدين دعامة الأخلاق بوسيلتين أساسيتين هما الأساطير والمحرمات ؛ فالأساطير هي التي تخلق العقيدة فيما وراء الطبيعة ، ثم يكون من شأن هذه العقيدة أن تضمن بقاء أنواع من السلوك يريد المجتمع ) أو يريد الكهنة ( بقاءها ؛ فما يرجوه الفرد في السماء من ثواب وما يخشاه لديها من عقاب يضطره اضطراراً أن يذعن للقيود التي يفرضها عليه سادته أو جماعته ؛ فالإنسان ليس بطبعه مطيعاً رقيقاً طاهراً وليس شيء كالخوف من الآلهة - وذلك بعد القهر الذي خضع له الفرد قديماً فأنشأ في نفسه الضمير - أخضع الإنسان لهذه الفضائل التي لا تتفق وطبيعته إخضاعها مطرداً صامتاً ؛ فأنظمة الملكية والزواج تتوقف إلى حد ما على العقوبات الدينية وهي تميل إلى فقدان قوتها في العصور التي يسود فيها الشك الديني ؛ بل الحكومة نفسها التي هي أهم أداة اجتماعية اصطنعها الإنسان ، وأبعد أداة عن طبيعة الإنسان ، كثيرا ما استعانت بالتقوى وبالكاهن ، كما فعل أذكياء الهراطقة مثل نابليون وموسوليني اللذين لم يلبثا أن كشفا عن هذه الحقيقة ؛ ومن هنا كان ثمة "ميل إلى قيام دولة دينية كلما نشأت الدساتير"؛ فلئن كانت قوة الرئيس البدائي تستمد الزيادة من السحر والعرافة ، فإن حكومتنا نفسها تستمد بعض القوة من اعترافها السنوي "بإله المهاجرين" .
وأطلق أهل "بولنيزيا" كلمة "تابو" ( ومعناها التحريم ) على ما يحرمه الدين ؛ فلما تقدمت المجتمعات البدائية بعض الشيء ، اصطنعت هذه الحُرُمات الدينية مكانة هي التي أصبحت فيظل المدنية مكانة القوانين ؛ وكانت صيغة التحريم عادةً سالبة : فبعض الأفعال وبعض الأشياء أعلن عنها أنها "مقدسة" أو "نجـسة" وكان اللفظان في الواقع يعنيان نذيراً واحداً ، وهو أن تلك الأفعال أو الأشياء لا يجوز لمسها ؛ "فتابوت العهد" مثلاً كان محرماً ، ويُروى عن "عُزّى" أنه سقط صعقاً عند لمَسِه لمنعِه من السقوط ؛ ويؤكد لنا "ديودورس" عن المصريين القدماء أنهم أكل بعضهم بعضاً إبان المجاعة ، فذلك آثر عندهم من الاعتداء على تحريم أكل الحيوان الذي اتخذته القبيلة طوطماً لها ؛ وإنك لتجد في معظم الجماعات البدائية عدداً كبيرا جداً من هذه المحرمات ، فكلمات معينة وأسماء معينة ما كان لها قط أن تُنطق ، وأيام معينة وفصول معينة كانت من المحرمات بمعنى أن ال*** لم يكن يؤذن به خلالها ؛ وكل معرفة البدائيين بحقائق الغذاء وبعض جهلها بتلك الحقائق ، كان سبيلها إليهم تحريمات معينة أقامها الناس على ألوان الطعام ، فهُم لم يلقنوا مبادئ الصحة عن طريق العلم أو عن طريق الطب العَلماني بقدر ما لقنوها عن طريق الدين .

وكانت المرأة أهم ما اتجه إليه التحريم عند البدائيين فآلاف الخرافات نشأت عن المرأة لتجعلها ، آناً بعد آن ، مُحرمَة اللمس ، خطرةً ، "نجـسة" ؛ إن منشئ الأساطير في أنحاء العالم لم يكونوا أزواجاً موفقين ، لأنهم متفقون جميعاً على أن المرأة أساس الشر كله ، فلم يقتصر هذا الرأي على الديانتين اليهودية والمسيحية ، بل جاوزهما إلى مئات من الأساطير الوثنية ؛ وأدق التحريمات البدائية كان خاصاً بالمرأة إبان حيضها ، فكل من لَمسها أو كل ما لمسها في هذه الفترة فَقدَ فضيلته إن كان إنساناً ، وضاعت فائدته إن كان غير ذلك ؛ فحرمَّ "الماكوزى" Macusi من أهل غيانة البريطانية على نسائهم أن يستحممن إبان حيضهن خشية أن يُسَممن الماء ، كما حرموا عليهن الذهاب إلى الغابة في مثل هذه الفترات ، حتى لا تعضَّهن الثعابين غراماً بهن ؛ حتى الولادة كانت عندهم نجسة ، وكان على الأم بعدها أن تطهر نفسها في كثير جداً من الطقوس الدينية ؛ والعلاقة الجنـسية حرام في معظم القبائل البدائية ، ليس فقط إبان فترات الحيض ، بل كذلك أثناء الحمل والرضاعة ، ولعل هذه التحريمات قد أنشأها النساء أنفسهن بما لهن من إدراك سليم وما يبغين لأنفسهن من وقاية وراحة ، لكن الأصول سرعان ما تُنسى ، وتنظر المرأة فإذا هي "مشوبة" وإذا هي "نجـسة" ؛ وانتهى بها الأمر إلى أن توافق الرجل على وجهة نظره ، وراحت تشعر بالعار في حيضها ، بل في حملها ؛ ومن التحريمات وأمثالها نشأ الحياء ونشأ الشعور بالخطيئة ، والنظر إلى العلاقة الجنـسية على أنها نجـاسة ، وكذلك نشأ التقشف وعزوبة الرهبان ونشأ إخضاع النساء .

ليس الدين أساس الأخلاق ، لكنه عون لها ، فقد يمكن تصور الأخلاق بغير دين ، وليس الأمر النادر أن تتطور الأخلاق في طريقها إلى التقدم بينما يبقى الدين لا يأبه لها ، أو يقاومها مقاومة عنيدة ؛ ففي الجماعات الأولى ، وفي بعض الجماعات المتأخرة ، كانت الأخلاق فيما يظهر على أتم استقلال عن الدين ، وفي مثل هذه الحالة لا يُعنى الدين بقواعد السلوك ، بل يُعنى بالسحر والطقوس وتقديم القرابين ، والرجل الطيب عندئذ هو من يؤدي محافل الدين أداء المطيع ، ويمدها بماله في ولاء وإخلاص ؛ والدين بصفة عامة لا يَرعى الخير المطلق ) إذ ليس هناك خير مطلق (، بل يرعى معايير السلوك التي وطدت نفسها بحكم الظروف الاقتصادية والاجتماعية ؛ وهو كالقانون يلتفت إلى الماضي ليستمد منه أحكامه ، وهو قمين أن يتخلف في الطريق كلما تغيرت الظروف وتغيرت معها الأخلاق ؛ فقد تعلم الإغريق مع الزمن أن يمقتوا مضاجعة المحارم ، مع أن أساطيرهم كانت ما تزال تمجد الآلهة الذين يفعلون ذلك ، والمسيحيون يصطنعون نظام الزوجة الواحدة بينما إنجيلهم يُحلل تعدد الزوجات ؛ وامتنع الرق امتناعاً تاماً بينما المتدينون كانوا يدافعون عن قيامه بشواهد من الإنجيل لا تُنقض ؛ وفي يومنا هذا نرى الكنيسة تقاتل قتال الأبطال لتقيم تشريعاً خلقياً قضت عليه الثورة الصناعية قضاء مبرماً لا شك فيه ؛ فالعوامل الأرضية هي التي تسود آخر الأمر، والأخلاق توائم بين نفسها وبين المستحدثات الاقتصادية شيئاً فشيئاً ، ثم يتحرك الدين كارهاً فيوفق بين نفسه وبين الأخلاق الجديدة ؛ إن الوظيفة الخلقية للدين هي أن يحافظ على القيم القائمة ، أكثر مما يخلق قيماً جديدة .

ومن هنا كان من علامات المراحل العليا في كل مدنية أن يحدث التجاذب بين الدين والمجتمع ؛ يبدأ الدين بمَدَد من السحر يقدمه للناس في حيرتهم وارتباكهم ؛ ثم يصعد إلى قمة مجده بمَدَد من وحدة الأخلاق والعقيدة يقدمها للناس فتجيء هذه الوحدة معُينة أكبر العون للسياسة والفن ؛ ثم ينتهي بقتال يفنى فيه فناء المنتحر دفاعاً عن قضية الماضي الخاسرة ؛ ذلك لأنه كلما تقدمت المعرفة أو تغيرت تغيراً متصلاً ، اصطدمت بالأساطير واللاهوت اللذين يتغيران تغيراً بطيئاً بطئاً لا يُحتمَل ؛ وعندئذ يشعر الناس برقابة رجال الدين على الفنون والآداب كأنها أغلال ثقيلة وحائل ذميم ، ويتخذ التاريخ الفكري في مثل هذه المرحلة صيغة النزاع بين العلم والدين" ؛ والأنظمة التي تبدأ في أيدي رجال الدين ، مثل القانون والعقاب ، والتربية والأخلاق ، والزواج والطلاق ، تميل نحو الإفلات من رقابة الدين لتصبح أنظمة دنيوية ، حتى ليعدها الدين أحياناً خارجة عليه ، والطبقات المستنيرة تطرح وراء ظهورها اللاهوت القديم ، ثم - بعد شيء من التردد - تطرح معه التشريع الخلقي ؛ عندئذ تصبح الفلسفة والأدب مناهضة لرجال الدين ، وترتفع حركة التحرير إلى عبادة العقل عبادة المتفاني ، تكبو فيما يشبه الشلل الذي تسببّه خيبةُ الأمل إزاء كل عقيدة وكل فكرة ؛ ويتدهور السلوك الإنساني إذا ما سُلِبَ دعائِمَه الدينيةَ ، فينقلب ضرباً من الفوضى الأبيقورية ؛ بل إن الحياة نفسها ، وقد حَرَمتها ما فيها من إيمان يبعث العزاء في النفوس ، تصبح عبئاً ثقيلا للفقير الشاعر بفقره ، وللغني الذي مَلَّ غناه آن معاً ، وفي النهاية ينحدر المجتمع وتنحدر معه عقيدته الدينية نحو السقوط معاً في ميتة واحدة كأنهما الجسد والروح ، على أنه سرعان ما تنشأ أسطورة أخرى بين الناس إذ هم ينوءون تحت هذا العبء الفادح، أسطورة تَصبّ الأمل الإنساني في قالب جديد ، وتمد الجهد الإنساني بحماسة جديدة، ثم تبنى مدنية جديدة بعد أن تنقضي قرون في حالة من الفوضى .
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 02-01-2014, 11:36 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

العناصر العقلية في المدنية


الفصل الأول

الآداب

اللغة - بطانتها الحيوانية - أصولها البشرية - تطورها - نتائجها - التربية - التقليد - الكتابة - الشعر


كانت الكلمة بدايةَ الإنسان لأنه بالكلمة أصبح الإنسان إنساناً ؛ فلولا هذه الأصوات الغريبة التي نسميها أسماء كلية لا نحصر الفكر في الأشياء الجزئية أو الخبرات الجزئية التي يذكرها الإنسان أو يدركها عن طريق الحواس ، وخصوصاً حاسة النظر ؛ وأغلب الظن أنه لولا هذه الأسماء الكلية لما استطاع الفكر أن يدرك الأنواع باعتبارها متميزة عن الأشياء الجزئية ، ولا أن يدرك الصفات متميزة عن أشيائها التي تتصف بها ، ولا أن يدرك الأشياء مجردة عن صفاتها ؛ إنه لولا الكلمات التي هي أسماء لأنواع لاستطاع الإنسان أن يفكر في هذا الإنسان وهذا وذاك ، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يفكر في "الإنسان" بصفة عامة ، لأن العين لا ترى الأنواع بل ترى الأشياء الجزئية ؛ ولقد بدأت الإنسانية حين جلس مِسخّ نصفه حيوان ونصفه إنسان ، جلس متربعاً في كهف أو شجرة ، يشحذ رأسه شحذاً ليخلق أول اسم من الأسماء الكلية ، أول رمز صوتي يدل على طائفة من أشياء متشابهة : كاسم منزل الذي ينطبق على المنازل كلها ، وإنسان الذي يدل على أفراد الإنسان جميعاً ، وضوء الذي معناه كل ضوء لمع على يابس أو ماء ؛ ومنذ ذلك الحين ، انفتح أمام التطور العقلي للإنسان طريق جديد ليست له نهاية يقف عندها ذلك لأن الكلمات للفكر بمثابة الآلات للعمل ، والإنتاج يتوقف إلى حد كبير على تطور الآلات .

ولما كان تصويرنا لأوائل الأشياء لا يزيد أبداً عن حَدس وتخمين ، فَلِخيالنا أن يرسل لنفسه العنان في تصور بداية الكلام ؛ يجوز أن تكون أول صورة بدت فيها اللغة - ويمكن تعريف اللغة بأنها اتصال عن طريق الرموز - صيحة حبّ بين الحيوان والحيوان ؛ وإنك لترى في صيحات النذير والفزع ، وفي مناداة الأم لصغارها ، وفي الزقزقة والنقنقة التي يعبر بها الحيوان عن فرحه بصوته أو باتصاله بعشيره من الجنـس الآخر ، واجتماعه أفراداً ليتبادل الأصوات من شجرة إلى شجرة ، إنك لترى في هذا كله الخطوات التمهيدية التي يجهد الحيوان نفسه في اجتيازها لكي يصل الإنسان إلى الذروة العليا ، ذروة الكلام ؛ ولقد وُجِدَت فتاة حوشية تعيش مع الحيوان في غابة بالقرب من شالون في فرنسا ، فلم يكن لها من الكلام إلا صرخات ودمدمات كريهة الوقع على المسامع ؛ هذه الأصوات الحية التي تنبعث في الغابات قد لا تكون ذات معنى لآذننا التي تحضَرت ، فنحن في هذا كالكلب المتفلسف "ريكيه" Requet الذي يقول عن "السيد برجريه" Bergeret "إن كل ما ينبعث به صوتي له معنى ، أما سيدي فيجري من فمه هراء" ؛ ولاحظَ "وِتمَن" Whitman و "كريج" Craig علاقة عجيبة بين أفعال الحمام وصيحاته ؛ واستطاع "ديبون" Dupont أن يميز اثنى عشر صوتا مختلفا يستعملها الدجاج والحمام ، وخمسة عشر صوتاً تستعملها الكلاب ، واثنين وعشرين صوتاً تستعملها الماشية ذوات القرون ، ووجد "جارنَر" Garner أن القردة تمضي في لغوها الذي لا ينتهي بعشرين صوتاً على الأقل ، مضافاً إليها عدد كبير من الإشارات ؛ ومن هذه اللغات المتواضعة نشأت ، بعد تطور قصير المراحل ، الثلاثمائة كلمة التي تكفي بعض القبائل البشرية المتواضعة .

ويظهر أن الإشارات كانت لها الأهمية الأولى ، وللكلام المنزلة الثانية في تبادل الفكر في العصور الأولى ؛ وإنك لتلاحظ أنه إذا ما أخفق الكلام في الأداء ، وثبَت الإشارات من جديد إلى الطليعة ؛ ففي القبائل الهندية في أمريكا الشمالية ، التي تستعمل من اللهجات ما لا يقع تحت الحصر ، يجيء العروسان من قبيلتين مختلفتين فيتبادلان الفكر ويتفاهمان بالإشارات أكثر من الكلام ، ولقد عَرف "لويس مورجان"Lewis Morgan عروسين ظلا يستخدمان إشارات صامته مدى ثلاثة أعوام ؛ وكان التفاهم بالإشارات من الأهمية في بعض اللغات الهندية بحيث تعذر على أفراد قبيلة "أراباهو" Arapaho - كما يتعذر على بعض الشعوب الحديثة - أن يتحدثوا في الظلام ؛ وربما كانت أول الألفاظ الإنسانية صيحات تعبر عن العواطف كما هي الحال عند الحيوان ، ثم جاءت ألفاظ الإشارة مصاحبة للإشارة بالجسم لتدل على الاتجاه ، ثم تلَت ذلك أصوات مقلدة جاءت في أوانها المناسب لتعبر عن الأشياء والأفعال التي يمكن محاكاة أصواتها ، ولا تزال كل لغة من لغات الأرض تحتوي على فئات من هذه الألفاظ التي تحاكي بأصواتها الأشياء والأفعال ، على الرغم من آلاف السنين التي مضت مليئة، بالتغيرات والتطورات التي طرأت على اللغة - مثل: زئير، همس، تمتمة ، قهقهة ، أنين ، زقزقة الخ وعند قبيلة "تكونا" Tecuna في البرازيل القديمة لفظ يقلد صوت المسمى تقليداً تاما يدلون به على الفعل "يعطس" وهو "هايتشو" وربما كانت هذه البدايات وأمثالها أساساً للكلمات الأولية في كل لغة من اللغات ؛ وحصر "رينان" Renan الألفاظ العبرية في خمسمائة كلمة أصلية ، وحصر "سكيت" Skeat كل الألفاظ الأوربية تقريباً في نحو أربعمائة كلمة أصلية .

ولا تحسبنَّ لغات الشعوب الفطرية بدائية بالضرورة ، إذا أردنا بكلمة "بدائية" في هذا السياق أي معنى من معاني البساطة في التركيب ، نعم إن كثيراً منها بسيط في ألفاظه وبنائه ، لكن بعضها معقد البناء كثير الكلمات مثل لغاتنا ، بل هو أرقى في التكوين من اللغة الصينية ومع ذلك فتكاد اللغات البدائية كلها أن تحصر نفسها في حدود الحـسي والجزئي ؛ وهي بصفة عامة فقيرة في الأسماء الكلية والمجردة ؛ فسكان استراليا الأصليون يطلقون اسماً على ذيل الكلب واسماً آخر على ذيل البقرة ، ولكن ليس في لغتهم كلمة تدل على "ذيل" بصفة عامة وأهل تسمانيا يطلقون على كل نوع من الشجر اسماً ، لكن ليس لديهم كلمة واحدة تدل على "الشجرة" بصفة عامة ، وكذلك هنود "تُشكتُو" Choetaw يطلقون اسماً على السنديانة السوداء ، وآخر على السنديانة البيضاء ، وثالثاً على السنديانة الحمراء ؛ لكنهم لا يعرفون كلمة واحدة تدل على السنديانة بصفة عامة ، ثم بالطبع ليس لديهم كلمة تدل على الشجرة عامة ؛ ولا شك أن أجيالاً من الناس تعاقبت قبل أن يستطيع الإنسان أن ينتهي من اسم العَلم إلى الاسم الكلي ؛ وفي قبائل كثيرة لا تجد ألفاظاً تدل على الألوان مجردة عن الأشياء الملونة ، كلا ولا تجد عندها كلمات لتدل على مجردات مثل : نغمة ، جنـس ، نوع ، مكان ، روح ، غريـزة ، عقل ، كمية ، أمل ، خوف ، مادة ، شعور...الخ ، فمثل هذه الألفاظ المجردة تتكون وتتزايد - فيما يظهر - مع تقدم الفكر ، لأن بينها وبين الفكر علاقة السبب والمسبب ؛ وهي بعد تكوينها تصبح أدوات تعين على دقة التفكير ، ورموزاً تدل على الحضارة .

ولما كانت الألفاظ تعود على الناس بكل هذه المزايا ، فقد حسبوها نعمة إلهية وشيئاً مقدساً ، بحيث أصبحت مادة تصاغ منها صبغ السحر ، وهي تزداد في أعين الناس تقديساً كلما ازدادت فراغاً من المعنى ؛ ولا تزال في يومنا مقدسة إذا استخدمناها في الأسرار الخفية ، حين تتحول "الكلمة" إلى "لحم" - مثلا - إن الألفاظ لم تكن وسيلة التفكير الواضح فحسب ، بل كانت سبيلاً لإصلاح التنظيم الاجتماعي كذلك ، لأنها ربطت بين الأجيال المتعاقبة ربطاً عقلياً وثيق العرى ، بأن هيأت لهم وسيلة أصلح للتربية من جهة ، ولنقل المعارف والفنون من جهة أخرى ؛ فبظهور ألفاظ اللغة ظهرت أداة جديدة تصل الأفراد بعضهم ببعض بحيث يمكن للمذهب الواحد أو العقيدة الواحدة أن تصُبَّ أفراد الشعب في قالب واحد متجانس ؛ وفتحت طرقاً جديدة لنقل الآراء وتبادلها ، وزادت عمق الحياة زيادة عظيمة ، كما وسَّعَت نطاقها ومضمونها ، فهل تعرف اختراعاً آخر يساوي في قوته ومجده هذا الاختراع ، اختراع الاسم الكلي ؟.

وأعظم هذه المزايا التي لألفاظ اللغة - بعد توسيعها للفكر - هي التربية ؛ فالمدنية ثروة زاخرة تجمعت على الأيام من الفنون والحكمة وألوان السلوك والأخلاق ، ومن هذه الثروة الزاخرة يستمد الفرد في تطوره غذاء لحياته العقلية ، ولولا أن هذا التراث البشري يهبط إلى الأجيال جيلاً بعد جيل ، لماتت المدنية موتاً مفاجئاً ، فهي مَدِينة بحياتها إلى التربية .

التربية بدايات ضئيلة من الشعوب البدائية ، إذ التربية عندهم - كما هي عند الحيوان - هي قبل كل شيء نقل لضروب المهارة تدريب الناشئ تدريباً يصوغ له شخصيته ، فهي علاقة مفيدة سليمة بين العلم والتعلم في تلقين طرائق العيش ؛ وهذا التعليم العملي المباشر شجع عند الطفل البدائي نمواً سريعاً ؛ ففي قبائل "أوماها" يكون الولد وهو في سن العاشرة تقريباً قد تعلمَ معظم فنون أبيه ، مستعداً للحياة ؛ وفي قبائل "الألوت" Aleuts غالباً ما يؤسس الولد داراً لنفسه وهو في العاشرة ، وأحياناً يختار زوجة وهو في هذه السن ؛ وفي نيجيريا يترك الأطفال وهم في السادسة أو الثامنة دور آبائهم ليبنوا لأنفسهم أكواخاً ويزودوا أنفسهم بالقوت من الصيد والسماكة ، والعادة أن ينتهي شوط التربية حين تبتدئ الحياة الجنـسية ، ولما كان نضجهم يأتي مبكراً فإن خمودهم يأتي كذلك مبكراً، ففي ظروف الحياة عندهم ينضج الصبي في الثانية عشرة من عمره ويشيخ في الخامسة والعشرين ، وليس معنى ذلك أن "الهمجي" له عقلية الطفل ، بل معناه أنه لم يكن له حاجات الطفل الحديث ولا فُرَصه ؛ وهو لم يتمتع بمثل ما يتمتع به الناشئ الحديث من مراهقة طويلة آمنة ، تسمح بنقل التراث الثقافي نقلاً يكاد يكون كاملاً ، وتضمن تدريبه على ضروب أكثر ومرونة أكبر في الاستجابة للبيئة التي بعدت من الصورة الفطرية والتي زادت فيها عوامل التغير .

كانت بيئة الإنسان الفطري ثابتة نسبياً ، ولم تكن تتطلب القدرة العقلية ، بل تطلبت الشجاعة وتكامل الشخصية ؛ فكان الوالد البدائي يركّز اهتمامه في بناء شخصية ولده كما تركّز التربية الحديثة اهتمامها في تدريب القوة العقلية ؛ فقد كان يعنيه أن يبني رجالا ، لا أن يكوّن العلماء ؛ ومن هنا كانت طقوس إدماج الناشئ في القبيلة ، تلك الطقوس التي كانت في الشعوب الفطرية تعلن بلوغ الناشئ سن النضج وتعترف له بعضوية الجماعة ؛ ترمي إلى اختبار شجاعته أكثر مما تقصد إلى قياس معرفته ؛ وكانت مهمتها أن تُعِدَّ الشباب لمشاق الحرب وتبعات الزواج ؛ وهي في الوقت نفسه فرصة تتاح للكبار أن يمرحوا ويفرحوا بإيقاع الأذى على الآخرين ؛ وبعض هذه الطقوس "يبلغ من البشاعة ومن إثارة النفس حداً تتعذر معه الرؤية وتصعب الرواية" ؛ ففي قبيلة "الكفير" - وهذا مثل معتدل - كان الصبيان الذين يطلبون عضوية القبيلة يُمتحنون بعمل شاق في النهار وحرمان من النوم في الليل ، حتى يسقطوا من الإعياء ؛ لكي يزداد القائمون بامتحانهم يقيناً بصلابة هؤلاء الصبيان ، كانوا يضربونهم بالسّياط "على فترات قصيرة وبغير رحمة حتى يَنزَّ الدم من أجسادهم" وكان ذلك يؤدي إلى *** نسبة كبيرة من الغلمان ؛ لكن الكبار - فيما نظن - كانوا ينظرون إلى الأمر نظرة الفيلسوف ؛ وربما كانوا بفعلهم هذا يسبقون الانتخاب الطبيعي ويضيفون إلى عوامله عاملاً جديداً ؛ وكانت هذه الطقوس الممتحنة عادة علامة انتهاء المراهقة والاستعداد للزواج ؛ وكانت العروس تلح في أن يثبت عريسها قدرته على تحمل الألم ؛ وكانت هذه الطقوس عند كثير من القبائل تدور حول عملية الختان ، فإذا تحرك الشاب أثناء إجرائها أو صرخ ، ضربه أهله ضرباً ، ورفضته عروسه المنتظرة - التي وقفَت لتشهد العملية في عناية وانتباه - على أساس أنها لا تريد أن تتزوج من فتاة .

لم تكن التربية البدائية تنتفع بالكتابة إلا قليلاً ، أو لم تكن تنتفع بها إطلاقاً ، فليس يدهَشُ الإنسانُ الفطري لشيء دهشته لاستطاعة الأوربيين أن يتصل أحدهم بالآخر - وبينهما مسافة بعيدة - بواسطة خطوط سوداء تُخَطُّ على قطعة من الورق ؛ وقد تعلمت قبائل كثيرة الكتابة بمحاكاتها لمن جاءوا لاستغلالها من المتحضّرين ، لكن بعض القبائل - كما هو الحال في شمالي إفريقية - لبث أمياً على الرغم من خمسة آلاف عام أخذت هذه القبائل تتصل خلالها بالأمم الكاتبة اتصالا متقطعاً ؛ أما القبائل الساذجة التي تعيش معظم حياتها عيشاً معتزلاً بالنسبة إلى سواها ، وتنعم بالسعادة التي تنجم عن جهل الإنسان بتاريخه الماضي ، فلا تحسّ بالحاجة إلى الكتابة إلا قليلاً ، ولقد قويت ذاكراتهم بسبب انعدام المخطوطات التي تساعدهم على حفظ ما يريدون الاحتفاظ به ، فتراهم يحتفظون ويَعُون ؛ ثم ينقلون ما حفظوه وما وَعَوه إلى أبنائهم بتسميعهم إياه ؛ وإنما هم يحفظون ويعون ويُسَمعون كل ما يرونه هاماً في الاحتفاظ بحوادث تاريخهم وفي نقل تراثهم الثقافي ؛ ويجوز أن يكون الأدب قد بدأ حين بدأ تدوين هذا المحفوظ وتدوين الأغاني الشعبية ؛ ولا شك أن اختراع الكتابة قد صادف معارضة طويلة من قبل رجال الدين ، على اعتبار أنها في الأرجح ستؤدي إلى هدم الأخلاق وتدهور الإنسان ، فتروي أسطورة مصرية إنه لما كشف الإله تحوت للملك تحاموس عن فن الكتابة ، أبى الملك الطيب أن يتلقى هذا الفن لأنه يهدم المدنية هدماً ؛ وقال في ذلك : "إن الأطفال والشبان الذين كانوا حتى الآن يُرغَمون على بذل جهدهم كله في حفظ ما يتعلمونه ووعيه ، لن يبذلوا مثل هذا الجهد "إذا ما دخلت الكتابة" ولن يروا أنفسهم في حاجة إلى تدريب ذاكراتهم" .

وبطبيعة الحال ليس في وسعنا أكثر من التخمين إذا أردنا أن نقول شيئاً عن أصل هذه اللعبة العجيبة ؛ فيجوز إنها كانت نتيجة تفرعت عَرَضاً عن صناعة الخزف كما سنرى فيما بعد ، وذلك بأن نشأت عن رغبة الناس في إثبات "العلامات التجارية" على ما يصنعونه من آنية خزفية ؛ ويجوز أن تكون زيادة التجارة بين القبائل قد اقتضت اصطناع مجموعة من العلامات المكتوبة ، وأن تكون أولى صورها تصاوير غليظة أتفق عليها الناس لتدل على السلع التي يتبادلونها في تجارتهم وعلى ما يقوم بينهم من حساب ؛ لأنه ما دامت التجارة قد وصلت قبائل يتكلمون لغات مختلفة ، بعضها ببعض ، فلا بد من اتخاذ وسيلة للتدوين وللتفاهم يفهمها الطرفان المتعاملان معاً ؛ وفي وسعنا أن نفترض أن قد كانت الأرقام بين أول طائفة من الرموز المكتوبة ، وإنها في معظم الحالات كانت تتخذ صورة خطوط متوازية تمثل الأصابع ؛ ولا نزال نستعمل كلمة "أرقام" (في اللغة الإنجليزية) التي تدل على ذلك الأصل المخطوط ، حين نريد أن نقول "أعداد" ؛ ثم لا تزال كلمات مثل كلمة "خمسة" في اللغات الإنجليزية والألمانية واليونانية ، ترتدُّ إلى أصل لغوي معناه "يد" ؛ وكذلك الأرقام الرومانية تشير بصورتها إلى أصابع اليد ، فالعلامة التي معناها خمسة "V" تصــــــــور يـــــداً مفتوحـــة ، والتي معناها عشرة "X" تتركب من علامتين من علامات الخمسة تقابلتا عند زاويتيهما ؛ وكانت الكتابة في بدايتها - كما لا تزال عند أهل الصين واليابان - ضرباً من الرَّسم أي كانت ضرباً من الفن ؛ فكما أن الإنسان كان يستخدم الإشارات حين كانت تتعذر عليه الكلمات ، فكذلك استخدم الصور لينقل أفكاره عَبر المكان وخلال الزمان ؛ فكل كلمة وكل حرف مما نستعمله اليوم كان فيما سبق صورة ، كما هي الحال الآن في العلامات التجارية وفي التعبير عن أبراج السماء ؛ والصور الصينية البدائية التي سبقت الكتابة كانت تسمى "كوروان" ومعناه الحرفيّ "صور للإشارات " ؛ وكانت القوائم الطوطمية كتابة تصويرية ، أو كانت - كما يقترح "ماسون" Mason رسماً تدونه القبائل لتعبر به عن نفسها ؛ فبعض القبائل كان يستعمل عصيًّا محزوزة لتذكّرهم بشيء أو ليبعثوا بها رسالة ؛ وبعضها الآخر - مثل "هنود الجُنكِوِن" Algonquin لم يكتف بحزّ العصيّ ، بل رسم عليها أشكالاً تجعلها صوراً مصغرة للقوائم الطوطمية ؛ أو ربما العكس هو الصحيح ، أي أن هذه القوائم الطبيعية كانت صورة مكبرة للعصيّ المحزوزة ، وكان هنود بيرو يحتفظون بمدوّنات طويلة من الأعداد ومن الأفكار ، بأن يعقدوا حبالاً مختلفة الألوان بالعُقَد والعُرَى ؛ وربما ألقى شيء من الضوء على أصل هنود أمريكا الجنوبية إذا عرفنا أن هذه العادة نفسها سادت بين سكان الأرخبيل الشرقي وأهل بولينزيا .

ولما أهاب "لاَوتسي" Lao-Tse بقومه الصينيين أن يعودوا إلى الحياة الساذجة ، اقترحَ عليهم أن يرتدُّوا إلى ما كانوا يصنعونه من حِبال معقودة وتظهر صور من الكتابة أرقى مما ذكرنا بين الشعوب الفطرية آنا بعد آن ، فلقد وجدنا رموزاً هيروغليفية في جزيرة "إيستر" في البحار الجنوبية ؛ وكشفنا الغطاء في إحدى جزر "كارولينا" عن مخطوط يتكون من واحد وخمسين رمزاً مقطعياً تصور أعداداً وأفكاراً ، وأن الرواية لتروي كيف حاول رؤساء جزيرة إيستر وكهنتها أن يحتفظوا لأنفسهم بكل معرفة تتصل بالكتابة ، : وكيف كان الناس يحتشدون مرة في كل عام ليسمعوا المدوّنات وهي تُقرأ عليهم ؛ فبديهي أن الكتابة كانت في مراحلها الأولى شيئاً غامضاً مقدساً ، ولفظة "هيروغليف" معناها نقش مقدس ، ولسنا على يقين من أن هذه المخطوطات البولينيزية لم يكن مصدرها إحدى المدنيَّات التاريخية ؛ لأن الكتابة - على وجه العموم - علامة تدل على الحضارة ، وهي من أوثق المميزات التي تفرق بين أهل المدنيَّة وأبناء العصور البدائية .

الأدب في أول مراحله كلمات تقال أكثر منه حروفاً تكتب "على الرغم من أن الكلمة في الإنجليزية تنتمي في أصلها اللغوي إلى ما يدل على الكتابة" ؛ وهو ينشأ في ترانيم دينية وطلاسم سحرية ، يتغنى بها الكهنة عادةً ، وتنتقل بالرواية من ذاكرة إلى ذاكرة ؛ والكلمة التي معناها الشعر عند الرومان ، وهي "Carmina" تدل على الشعر وعلى السحر في آن واحد ؛ والكلمة التي معناها نشيد عند اليونان ، وهي "Ode" معناها في الأصل طلسم سحريّ ، وكذلك قل في الكلمتين الإنجليزيتين "Tune" و "Lay" والكلمة الألمانية "Lied" وأنغام الشعر وأوزانه ، التي ربما أَوحَى بها ما في الطبيعة وحياة الجسد من اتساق ، قد تطورت تطوراً ظاهراً على أيدي السحرة الذين أرادوا أن يحتفظوا وينقلوا ثم يزيدوا من "التأثير السحريّ لأشعارهم" ويعزو اليونان أول ما قيل من شعر في البحر العُشاري إلى كهنة دلفي ، الذين ابتكروا هذا البحر ليستخدموه في نظم نبوءاتهم ، وبعدئذ أخذ الشاعر والخطيب والمؤرخ يتميز بعضهم من بعض شيئاً فشيئاً ، ويتجهون اتجاهاً دنيوياً في فنونهم ، بعد أن اتحدوا جميعاً في هذا الأصل الكهنوتي، فأصبح الخطيب مُشيدا رسمياً بأعمال الملك أو مدافعاً عن الآلهة ، وبات المؤرخ مسجلاً لأعمال الملك ، والشاعر مغنياً لأناشيد كانت في الأصل مقدسة ، ومعبراً و حافظاً لأساطير البطولة ، وموسيقيَّا صاغ أقاصيصه صياغة الألحان ليعلّم بها الشعب وملوكه جميعاً ؛ وهكذا كان لأهل فيجي وتاهيتي وكالدونيا الجديدة خطباء ومؤرخون رسميون ، عليهم أن يخطبوا الناس في المحافل العامة ، وأن يثيروا حماسة المقاتلين في القبيلة بذكر أعمال أجدادهم والإشادة بمجد أمتهم التليد الذي لا تضارعها فيه أمة أخرى ؛ وكان للصومال شعراء محترفون يطوفون من قرية إلى قرية ينشدون الأناشيد مثل الشعراء المنشدين والشعراء الطوافين الذين عرفتهم العصور الوسطى ، ولم تكن أشعارهم التي يتغنون بها عن الحب إلا في حالات نادرة ، وأما في أكثر الحالات فقد كانت تقال عن البطولة البدنية أو حومة القتال أو علاقة الآباء بأبنائهم ، وهاك مثلاً من الشعر مأخوذاً عن أحد الآثار القديمة في جزيرة إيستَر ، وهو رثاء والد لابنته أبعدتها تصاريف الحروب عنه :

إن ركوب ابنتي لمتون البحار

لم تُفسده عليها قط قبائل الأعداء

إن ركوب ابنتي لمتون البحار

لم يفسده عليها التآمر من أهل هونيتي

فما فتئت ظافرة في كل حروبها

هل أغرَوها بشرب الماء المسموم

من الزجاجة الحجرية السوداء ؟ هذا مستحيل

هل يمكن لأحزاني أن يقلّ سعيرها

بينما يفصلني عن ابنتي خضمُّ البحار ؟

أواه يا ابنتي ، أواه يا ابنتي !

إنه لطريق مائي فسيح

ذلك الذي أمدّ بصري خلاله تجاه الأفق

يا ابنتي ، أواه يا ابنتي !
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 03-01-2014, 09:13 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

الفصل الثاني

العلم

البدايات - الرياضة - الفلك - الطب - الجراحة

يرى هربرت سبنسر ذلك الأخصائي العظيم في جمع الشواهد للوصول إلى النتائج ، أن العلم – كالأدب - بدأ بالكهنة ، واستمد أصوله من المشاهدات الفلكية التي كانت تحدد مواقيت المحافل الدينية ، ثم صِينَ في كنف المعابد ونُقِلَ عَبر الأجيال باعتباره جزءاً من التراث الديني ؛ ولسنا نستطيع الجزم برأي في هذا ، لأن البدايات لا تمكننا من معرفتها ، سواء في العلم أو في غيره ؛ وكل ما نستطيعه هو التخمين والظن ؛ فيجوز أن يكون العلم - شأنه في ذلك شأن المدنيَّة بصفة عامة - قد بدأ مع الزراعة ؛ فالهندسة في أولها كانت عبارة عن قياس الأرض المزروعة ؛ وربما أنشأ علمَ الفلك حسابُ المحصول والفصول الذي يستدعي مشاهدة النجوم وإنشاء التقويم ؛ ثم تقدم الفلك بالملاحة ، وطَورَت التجارة علم الرياضة ، كما وضعت فنونُ الصناعة أسس الطبيعة والكيمياء .
وربما كان العدُّ من أول ما شهد الإنسان من صور الكلام ، ولا يزال العدُّ في كثير من القبائل يتم على صورة تبعث على الابتسام ببساطتها ؛ فقد عَدَّ "التسمانيون" إلى العدد اثنين لم يجاوزوه : "بارمَرِى ، كالاباوا ، كاردِيا" – يعني : "واحد، اثنين ، كثير" والهولنديون الجدد ليس لديهم كلمات للفظتي ثلاثة أو أربعة ، بل هم يطلقون على ثلاثة كلمة "اثنين - واحد" وعلى أربعة كلمة "اثنين- اثنين" ؛ وأهل "دامارا" لا يقبلوا أن يبادلوا غنمتين بأربع عصي ، لكنهم يقبلون أن يبادلوا غنمة بعَصَوَين ، ثم يكررون العملية مرة أخرى ؛ ولقد كان العَدُّ وسيلته الأصابع ، ومن هنا نشأ النظام العشري ؛ ولما أدرك الإنسان فكرة العدد اثني عشر ، والأغلب أن يكون أدركه بعد حين من الزمن ، فرح به لأنه كان مريحاً للنفس بقبوله القسمة على خمسة من الأعداد الستة الأولى ؛ وهنا وُلد النظام الاثنا عشري في الحساب ، وهو نظام لا يزال قائماً ، لا يريد لنفسه الزوال ، في المقاييس الإنجليزية حتى اليوم ؛ فاثنا عشر شهراً تكوّن عاما ، واثنا عشر بنساً تكون شلناً ، و "الدستة" اثنا عشر ، و "الجروسة" اثنا عشر "دستة" والقدم اثنا عشر بوصة ؛ أما العدد ثلاث عشر ، فهو على عكس سالفه ، يأبى الانقسام ، ولذا أصبح بغيضاً عند الناس ، ومبعثاً للتشاؤم إلى الأبد ؛ ولما أضيفت أصابع القدمين إلى أصابع اليدين ، تكونت فكرة العشرين ؛ ولا يزال استعمال هذا العدد في العدّ ظاهراً في قول الفرنسيين "أربع عشرينات" ليدلوا على "ثمانين" ؛ وكذلك استخدمت أجزاء أخرى من البدن معايير للقياس ، فاليد كلها "للشبر" والإبهام للبوصة "اللفظتان في اللغة الفرنسية ينوب عنهما لفظة واحدة تؤدي المعنيين" والذراع حتى المرفق للذراع ؛ والذراع كلها لمقياس آخر "يسمى ذراع الهندازة" والقدم للقدم ؛ وفي عصر متقدم ، أضيف الحصوات إلى الأصابع لتعين على عملية العدّ ؛ ولا تزال الكلمة الإنجليزية للعدّ ، "Calculate" تشير بأصلها اللغوي إلى أصلٍ معناه "حجر صغير" مما يدل على صغر المسافة التي تفصل القدماء السذج عن المحدثين ، ولقد تمنى "ثورو" Thoreau أن يحيا هذه الحياة البدائية الساذجة ، وأجاد التعبير عن حالة كثيراً ما تعاود الإنسان فقال : "إن الرجل الأمين لا يكاد يجد الحاجة إلى عدّ يجاوز به أصابع يديه ، وقد يضيف إليها أصابع قدميه في حالات نادرة ؛ ثم يكدس ما بقى له بعد ذلك في كتلة واحدة ؛ فرأيي هو أن نُجري أمورنا على نسق الاثنين أو الثلاثة ، لا على نسق المائة أو الألف ، فبدل المليون ، عُدَّ ستة فقط، وسجل حسابك على ظفر إبهامك" .

وربما كانت بداية الفلك في قياس الزمن بحركات الأجرام السماوية وكلمة "مقياس" نفسها " في اللغة الإنجليزية measure" وكلمة شهر "month"- بل ربما كانت كلمة إنسان man أيضاً وهو الذي يقوم بالقياس - كل هذه الكلمات تَرتَدُّ - بغير شك - إلى أصل لغويَّ معناه القمر "moon" ذلك لأن الناس قاسوا الزمن بدورات القمر قبل قياسه بالأعوام بزمن طويل ؛ فالشمس - مَثَلُها في ذلك مَثَلُ الأب لم تستكشف إلا في وقت متأخر نسبيا ؛ وحتى اليوم ترانا نحسب موعد عيد الربيع "Easter" بأوجه القمر ؛ وكان لأهل بولنيزيا تقويمَّ ، العامُ فيه ثلاثة عشر شهراً ينظمها القمر ؛ فلما رأوا أن سنتهم القمرية تختلف اختلافا بيّنا عن مواكب الفصول ، أسقطوا شهراً قمرياً ، وبذلك استعادوا التوازن بين سنتهم وبين الفصول ؛ لكن استخدام الأجرام السماوية على هذا النحو المتزن كان شـذوذاً بالقياس إلى التخبط في استخدامها للتنجيم ، فالتنجيم قد سبق علم الفلك ، وربما دام وجوده على الرغم من ظهور علم الفلك ؛ ذلك لأن النفوس الساذجة أكثر اهتماما بالكشف عما يخبئه لها الغيب منها بمعرفة الزمن ؛ فنشأت ألوف الخرافات عن تأثير النجوم في خُلُق الإنسان ونصيبه المقدور ، ولا يزال كثير من هذه الخرافات مزدهراً في يومنا هذا وربما لم تكن هذه الخرافات خرافات بالمعنى الصحيح ، ويجوز أن تكون ضربا آخر من الخطأ في التعليل ؛ وما العلم نفسه إلا الضرب الأول من ذلك الخطأ .

والإنسان البدائي لا يصوغ شيئاً من قوانين علم الطبيعة ، ويكتفي بممارستها من الوجهة العملية ؛ فلئن لم يكن في مقدوره أن يقيس مسار المقذوف في الفضاء ، إلا أنه يستطيع أن يصوب سهامه نحو الهدف فلا يخطئ ؛ ولئن لم يكن لديه رموز كيماوية، إلا أنه يستطيع أن يميز بلمحة سريعة أي النباتات سام وأيها طعام ، بل يستطيع أن يستخدم الأعشاب استخداماً دقيقاً في شفاء أمراض البدن ؛ والأرجح أن يكون أول من أمتهن حرفة الطب هن من النساء ، لا لأنهن الممرضات الطبيعيات للرجال فحسب ، ولا لأنهن جعلن من فن التوليد - أكثر مما جعلن من مهنة الارتزاق - أقدم المهن جميعاً فحسب ؛ بل لأن اتصالهن بالأرض كان أوثق من اتصال الرجال بها ، فأتاح ذلك لهن علما أوسع بالنبات ، ومكنَهن من التقدم بفن الطب ، ومَيَّزنَه عن التجارة بالسحر التي كان يقوم بها الكهنة ؛ فمنذ أقدم العصور حتى عصر يقع في حدود ما تعيه ذاكرتنا ، كانت المرأة هي التي تباشر شفاء المرضى ؛ ولم يلجأ المريض عند البدائيين إلى طبيب يشفيه أو إلى ساحر إلا إذا أخفقت المرأة في أداء هذه المهمة .

وإنه لما يثير الدهشة في نفسك أن تعلم كم من الأمراض كان يشفيها هؤلاء البدائيون على الرغم من قصور علمهم بالأمراض ؛ فالمرض عند هؤلاء السُّذَّج - فيما بدا لهم - كان نتيجة لحلول قوة غريبة عنه أو روح غريبة في بدنه - وهو تصور لا يختلف من حيث الجوهر عن النظرية التي تسود الطب الآن من تعليل المرض بدخول الجراثيم في الجسم ؛ وأوسع طرق العلاج شيوعا بين البدائيين هو اصطناع رُقيَةٍ سحرية من شأنها أن تسترضي الروح الشريرة التي حَلَّت في البدن العليل ؛ لعلها تنزاح عنه ؛ وإذا أردت أن تعرف مدى رسوخ هذه الطريقة في أفئدة الناس بحيث لا تزول عنها أبداً ، فاقرأ قصة "خنزير جادارين" Gadarene Swine ، وحتى اليوم ترى الناس يعللون الصرع بحلول روح شرير في البدن ؛ وبعض العقائد الدينية المعاصرة تنص على طرائق معينة لإخراج مثل هذا الروح الشرير من جسم العليل إذا أريد شفاؤه ؛ والكثرة الغالبة من الناس تعترف بالصلاة والدعوات على أنها تعين على الشفاء مع أقراص الدواء ؛ وربما كان البدائيون يقيمون طريقتهم في العلاج على نفس الأساس الذي يقيم عليه أحدث الطب طريقته ، ألا وهو الشفاء بقوة الإيحاء ؛ غير أن أفاعيل أولئك الأطباء الأولين كانت أشد استلفاتاً للنظر بأساليبها المسرحية ، مما يصطنعه خلفاؤهم الذين ازدادوا عنهم حضارة ؛ فقد كانوا يحاولون طرد الروح الحالّ في جسم المريض بتخويفه بما يلبسونه له من أقنعة مفزعة ، وما يغطون به أجسادهم من جلود الحيوان ، وبصياحهم وهذيانهم وتصفيقهم بالأيدي ، و "الشخشخة" بالصفائح وامتصاص الشيطان من الجسم المريض بواسطة أنبوبة مجوفة ؛ فكما كان يقول المثل السائر : "الطبيعة تشفى المريض، والعلاج يسرُّ المريض" وأما قبائل "بورورو" Bororos البرازيلية فقد تقدمت بالعلم خطوة حين كانت تطلب إلى الوالد شرب الدواء ليشفى بذلك طفله المريض ، ولقد كان الطفل يشفى في اطّراد كاد أن يكون شاملا كاملاًا .

وإلى جانب الأعشاب الطبية نجد بين الأساليب الصيدلية الكثيرة التي كان يلجأ إليها الإنسان البدائي ، صوفاً من المخدرات المنومة التي أريد بها أن تخفف الألم وتهوّن الجراحات ؛ فسموم مثل Curare الذي كثيراً ما يضعونه على أطراف سهامهم ؛ ومخدرات مثل نبات القنَّب والأفيون والكافور ، هي أقدم تاريخاً من التاريخ ؛ حتى ليرجع أحد المخدرات الشائعة بيننا اليوم إلى استخدام سكان بيرو لنبات الكوكا لهذه الغاية ؛ ويحدثنا "كارتييه" Cartier كيف كان أهل "إراكوا" يشفون مرض الإسقربوط بلحاء أشجار التنّوب والشوكران وأوراقها وكذلك عرف الجراحون البدائيون طائفة مختلفة من الجراحات والأدوات ، فالولادة كانت تتم على نحو مُرضٍ ، والكسور والجروح كانت تُضَمَّدُ وتُلَفُّ بمهارة ؛ وبواسطة مُدى من الحجر الزجاجي الأسود ، أو من الصّوَّان المرهف ، أو أسنان السمك ، كانوا يستخرجون الدم من "الخُرَّاجات" ويجففونها ، كما كانوا يشرطون الأنسجة ؛ وقد مارس البدائيون "تَربَنَةً" الجمجمة منذ أيام هنود بيرو الأقدمين إلى أهل ملينزيا المحدثين ؛ وكان الملنيزيون ينجحون في تسع حالات من كل عشر حالات بينما كانت الجراحة نفسها عام 1786 تنتهي بالموت في كل الحالات بغير استثناء في مستشفى "أوتيل دييه" Hotel- Dieu في باريس .

إننا نبتسم لجهل البدائيين ، بينما نستسلم جادّين للأساليب الطبّية الكثيرة التكاليف في أيامنا ؛ يقول "الدكتور أولفر وندل هولمز" Oliver Wendell Holms بعد حياة طويلة قضاها في شفاء المرضى : "لن يتردد الناس في أداء شيء ، بل ليس هناك شيء لم يؤدوه فعلا ، في سبيل استعادة العافية وإنقاذ الحياة ؛ فقد رضوا أن يغُرَقوا في الماء نصف إغراق ، ويختنقوا بالغاز نصف اختناق ؛ ورضوا أن يدفنوا في الأرض إلى أذقانهم ، وأن يوصموا بالحديد المُحَمَّى مثل عبيد قادس ؛ ورضوا أن يُقصَبُوا بالُمدَى كأنهم سمك القُدّ ، وأن تثقب لحومهم بالإبرَ ، وأن تُشعَلَ المشاعل على جلودهم ، ورضوا أن يجرعوا كل صنوف المقززات ، وأن يدفعوا لذلك كله أجراً كأنما سَلقُ الجسم وإحراقه ميزةّ ثمينة ، وكأنما "الفقافيق" نعمة ، ودُودُ العَلَق ضرب من الترف" >
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 05-01-2014, 12:02 PM
الصورة الرمزية aymaan noor
aymaan noor aymaan noor غير متواجد حالياً
رئيس مجلس الادارة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 27,929
معدل تقييم المستوى: 10
aymaan noor is a glorious beacon of lightaymaan noor is a glorious beacon of light
افتراضي

الفصل الثالث

الفن


معنى الجمال - معنى الفن - إحساس البدائي بالجمال - صبغ الجسم - دهان الوجه للتجميل - الوشم - الوصم - الثياب - الحلي - الخزف - التصوير - النحت - فن البناء – الرقـص - الموسيقى - تلخيص للخطوات البدائية التي مهدت للمدنية

بعد أن أنفق الفن من عمره خمسين ألف سنة ، لا يزال الناس يتنازعون على تحديد مصادره من غريزة الإنسان ، ومبادئه في عصور التاريخ ، فما الجمال ؟ - لماذا تُفتَنُ به ؟ لماذا نحاول أن نبدعه ؟ لما لم يكن هذا مجال المناقشة النفسية ، فسنكتفي بالردّ مختصراً وفي غير قَطعٍ باليقين ، بأن الجمال هو أية صفة تجعل شيئاً أو شكلا ممتعاً لمن يشهده ؛ ولم يكن الشيء - من حيث الأصل والبداية - ليمتع الناظر إليه لأنه جميل ، لكن الأقرب إلى الصواب هو أن الرائي يسمى الشيء جميلا لأنه يمتعه ؛ وكل ما من شأنه أن يشبع رغبة عند الإنسان ، يبدو لعينيه جميلا ؛ وعلى ذلك فالطعام جميل لمن يتضور جوعاً ، بينما "تاييس" ليست عنده حينئذ بذات جمال ، وقد يكون الشيء الممتع هو المشاهِدُ نفسه ، وقد لا يكون - كلا الفرضين على درجة واحدة من قوة الاحتمال ؛ ففي أعماق قلوبنا لسنا نرى شيئاً أجمل من أشكالنا ، ويبدأ الفن من تمجيد الإنسان لجسمه الرائع ؛ أو قد يكون الشيء الممتع هو العشير من الجنـس الآخر الذي يرغب فيه الرائي ، وعندئذ يصطنع إحساسنا بالجمالِ شدَّةً وقوةَ إبداعٍ هما شدةُ الشهوة الجنـسية وقوةُ إبداعها ؛ ثم يوسّع من هالة الجمال حتى تشمل كل شيء يمس الحبيب من بعيد أو قريب - فتشمل كل صورة جاءت شبيهة بصورتها ، وكل الألوان التي تزينها أو تسرهّا أو تتحدث عنها ، وكل الحلي والثياب التي تلائمها ؛ وكل الأشكال والحركات التي تذكر بما لها من تناسق ورشاقة ؛ أو قد يكون الشكل الممتع هو صورة الذكر المطلوب ؛ ومن الجاذبية التي تجذب ضعف الإنسان نحو عبادة القوة يأتي إحساسنا بروعة الفخامة - فتطمئن نفوسنا في حضرة القوة - وهو إحساس يخلق أرفع آيات الفن جميعاً ؛ وأخيراً قد تصبح الطبيعة نفسها - بمعونة منا - فخمة وجميلة في آن معاً ، لا لأنها تشبه وتوحي برقة المرأة كلها وقوة الرجل كلها فحسب ، بل لأننا نخلع عليها مشاعرنا وما أصبناه من حظوظ ، وحبنا لأنفسنا ولغيرنا - فنحن نستمتع فيها بمدارج صبانا ، ونستمتع فيها بالعزلة الهادئة لأنها مهرب من عاصفة الحياة ؛ ونحيا معها في تقلّب فصولها الذي يكاد أن يكون إنساني المراحل : فيفاعة نضيرة ، ونضج متّقد ، وإثمار يانع ، ثم انحلال بارد ؛ ونرى فيها على نحو غامض أما وهبتنا الحياة ، وستتقبلنا عند الموت .
الفن هو إبداع الجمال ، هو التعبير عن الفكر أو الشعور في صورة تبدو جميلة أو فخمة ، فتثير فينا هزة هي هزة الفرح الفطريّ التي تثيرها المرأة في الرجل ، أو الرجل في المرأة ؛ وقد يكون الفكر إدراكا لمعنى من معاني الحياة كائناً ما كان ، وقد يكون الشعور إثارة أو استرخاء لوتر مشدود من أوتار الحياة كائناً ما كان ؛ وقد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من تناسق دَورِىّ يسرنا لأنه يتجاوب في طبائعنا مع نوبات الأنفاس ، ونبضات الدم ؛ وتداول الشتاء والصيف على نحو يبعث على الإجلال ، وتعاقب الجزر والمد والليل والنهار ؛ أو قد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من تماثل هو بمثابة الوزن في الشعر قد تمجد ، يمثّل القوة أمام أبصارنا ، ويصوّر لنا التناسب المنتظم في النبات والحيوان ، وفي النساء والرجال ؛ أو قد تحدث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لألوانها التي تضيء الروح بضيائها أو تعمق بالحياة من السطح إلى الغزير ؛ وأخيراً قد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من صدق ، إذ ترى فيها محاكاة واضحة ناصعة للطبيعة أو للواقع الخارجي ، حين تلقف لمحة من جمال النبات أو الحيوان كان قمينا أن يزول ، أو تلمح معنى عابراً لظرف قائم لكنه وشيك الزوال ، ثم تعرضه ساكناً ثابتاً أمام حسّ يتلكأ في استمتاعه بما يرى ، أو أمام عقل يحبُّ أن يتأمل على مهل ؛ من هذه المصادر الكثيرة يأتي ما في الحياة من ألوان الكماليات السامية - الغناء والرقص ، الموسيقى والمسرحية ، الخزف والتصوير ، النحت والعمارة ، الأدب والفلسفة ؛ فما الفلسفة إن لم تكن فنا ؟ ما الفلسفة إن لم تكن محاولة أخرى تضاف إلى محاولات سائر الفنون في أن تُفيض على فوضى ما يقع لنا في دنيا التجربة "صورة لها معنى" ؟ .

فإذا كان الإحساس بالجمال ضعيفاً في الجماعة البدائية فقد يكون ذلك بسبب انعدام الفارق الزمني بين الشعور بالشـهوة الجنـسية وبين تحقيقها ، لأن ذلك لا يتيح الفرصة للخيال أن يضفي على موضوع الشـهوة ألواناً من عنده ، تزيد من جماله زيادة كبيرة ؛ إن الإنسان البدائي قلما يفكر في اختيار النساء على أساس ما نسميه نحن فيهن بالجمال ، بل هو أدنى إلى التفكير فيهن على أساس نفعي ، ويستحيل أن يدور في خلده أن يرفض عروساً مفتولة العضلات بسبب قبحها ؛ فرئيس القبيلة من الهنود حين سئل أيّ زوجاته أروع جمالا ، اعتذر عن عدم الجواب لأنه لم يفكر قط في هذا الموضوع ، وقال في حكمة ناضجة تشبه حكمة فرانكلين : "قد تكون الوجوه أكثر جمالا أو أقل جمالا ؛ لكن النساء في جوانبهن الأخرى لا يختلف بعضهن عن بعض في شيء" ؛ وحتى إن كان للإنسان البدائي إحساس بالجمال ، فهو أحياناً يُفلت منا فلا نراه ، لشدة اختلافه عن إحساسنا نحن بالجمال ؛ يقول "رتشارد" : "كل مَن أعرف من أجناس الزنوج ، يعدُّون المرأة جميلة إذا لم تكن نحيلة عند خصرها ، وإذا ما كان جذعها من الإبطين إلى الردفين ذا عَرض واحد - حتى يقول عنها زنجي الساحل : إنها كالسُّلم" والآذان المطروقة كآذان الفيل ، والبطن المتثنّى هما من مفاتن المرأة عند الرجال في إفريقية وفي أرجاء إفريقية كلها ، أجمل النساء هي المرأة السمينة ؛ فيقول "منجوبارك" Mango Park عن نيجيريا : "يظهر أن لفظتي السَّمنة والجمال تكادان تكونان مترادفتين ؛ فالمرأة التي تزعم لنفسها ولو قليلا من جمال ، لا بد أن تكون ممن يتعذر عليهن المشي إلا إذا سار إلى جانبيها عَبدَان ، يسير كل منهما تحت ذراع ليكون لها دعامة ؛ والجمال الكامل تبلغه المرأة إن ساوت بوزنها حِمل الجمل " ويقول "بريفو" Briffault : "إن معظم الهمج يؤثرون ما نظنه نحن من أقبح ما تتصف به المرأة ، وأعني به الأثـداء الطويلة المتدلية" ؛ ويقول "دارون" : "إنه من المعلوم لنا جميعاً أن العَجز عند كثيرات من نساء الهوتنتوت يبرز بروزاً عجيباً ولا يشك "سير أندرو سمث" أبداً في أن هذه الخصيصة للعجيبة موضع إعجاب من الرجال ، فلقد رأى ذات يوم امرأة هي عندهم من ربات الجمال ، كانت من الضخامة في أردافها بحيث إذا ما أجلسوها على أرض منبسطة استحال عليها الوقوف إلا إذا زحفت زحفاً حتى دَنَت من سفح مائل.... ويروي لنا "بيرتُن" Burton عن أهل الصومال أن الرجال إذا ما أرادوا اختيار الزوجات ، صفّوا النساء صفاً واختاروا من بينهن أكثرهن بروزاً في العجز ؛ وليس أقبح في عيني الزنجي من المرأة النحيلة" .

لكن الرجل الطبيعي في أرجح الظن - يقيس الجمال بمقياس نفسه هو أكثر مما يقيسه بمعيار شكل المرأة ، "فالأقربون - في الفن - أولى بالمعروف" ؛ وقد لا يُصَدّقُ النساء ما نزعمه لهن من أن الرجال البدائيين والمحدثين يأخذهم العُجبُ بأنفسهم سواء بسواء ؛ فالذكر لا الأنثى في الشعوب الساذجة - كما هو الحال في الحيوان - هو الذي يتزين ويُنزل بجسده الجروح ؛ سعياً وراء الجمال ، فيقول "بُنوِك" Bonwick : "إن التَزين في استراليا يكاد يكون كله احتكاراً للرجل" وهكذا قُل في مالنيزيا وغينا الجديدة وكالدونيا الجديدة وبريطانيا الجديدة ، وهانوفر الجديدة وهنود أمريكا الشمالية وفي بعض القبائل يستنفذ تجميل الجسم وقتاً أكثر مما تستهلكه أية مهمة أخرى من مهام النهار وواضح أن أول صورة للفن هي صبغ الجسم صبغة صناعية وهم يصبغون الجسم ليجذبوا النساء حيناً وليخيفوا الأعداء حيناً آخر ؛ والرجل من أهل استراليا الوطنيين - كأحدث فاتنة من فاتنات أمريكا اليوم - كان دائماً يحمل معه مقداراً من الصبغة البيضاء والحمراء والصفراء ، ليُصلح من جماله حيناً بعد حين ، فإذا ما أوشكت أصباغه على النفاذ ، قام برحلات بعيدة خطرة ليزود نفسه منها بمقدار جديد ؛ وهو يكتفي في الأيام العادية ببقع من اللون على خديه وكتفيه وصدره ، ولكن كان في مناسبات الأعياد ، يُحِسُّ ما يحسّه العُريان من خجل إذا لم يصبغ جسده كله من أعلاه إلى أسفله .

في بعض القبائل يحتكر الرجال لأنفسهم حق صبغ الجسم ، وفي قبائل أخرى يحَّرم على النساء المتزوجات أن يصبغن أعناقهن ؛ لكن ما لبث النساء أن ظفرن لأنفسهن بفن التجمل بالأصباغ ، وهو أقدم الفنون جميعا ً؛ فلما وقف "كابتن كوك" Captain Cook في زيلندة الجديدة حيناً ، لاحظ أن بحارته حين عادوا إليه من جولاتهم على الشاطئ ، كانوا حُمرَ الأنوف أو صُفرها بأصباغ صناعية ، ذلك لأن أنوفهم قد لصقت بها الأصباغ التي كانت الجميلات من أهل ذلك الإقليم قد طلين بها أجسادهن ؛ ونساء "الفَلاّتة" Fellatah في إفريقية الوسطى ينفقن عدة ساعات كل يوم في تجميل أنفسهن : فهن يصبغن أصابع أيديهن وأرجلهن صبغة أرجوانية بأن يلففنها طوال الليل في أوراق الحناء ، ويصبغن أسنانهن بالأزرق والأصفر والأرجواني على هذا التوالي ؛ ويطلين شعرهِن طلاء أزرق ، ويخططن جفونهن بالكحل وكل سيدة من قبيلة "بُنجو" تحمل في حقيبة أدوات التجميل ، ملقطاً تنزع به الرموش والحواجب ، ومشابك شعر على هيئة الرماح ، وخواتم وأجراساً ، وأزراراً ومشابك .
لكن السُّذج الأولين - مثل الإغريق أيام بركليز - ضاقوا صدراً لسرعة زوال هذه الأصباغ ، فابتكروا الوشم والوصم والثيابَ أدواتٍ للتزين أدوم بقاء ، ففي كثير من القبائل أسلم الرجال والنساء معاً أنفسهم للإبرة الصابغة وتحملوا في غير تململ حتى وشم الشفاه ؛ ففي جريلنده تَشِمُ الأمهات بناتهن في سن مبكرة ليمهدن لهن الزواج عاجلا ؛ لكن الوشم في أغلب الحالات لم يكن له ما أراده الناس من وضوح وتأثير ؛ لذلك طفق عدد من القبائل في كل قارة يَصِمُ الجسمَ بوصمات عميقة ليكونوا أجمل منظراً في أعين زملائهم ، أو أبشع هيئة في أعين أعدائهم ؛ فكما قال عنهم "ثيوفيل جوتييه" Theophil Gautier : "إنهم لما عزت عليهم الثياب ووسائل الزينة ، زينوا جلودهم" ، فكانوا يجرحون أجسامهم بحجر الصوّان أو بقواقع المحار ، ثم كثيراً ما يضعون في الجرح كرةً من الطين لتوسع من الوصمة ؛ فأهالي "مضيق تورس" كانوا يجعلون بصماتهم شبيهة بشكل الضب أو التمساح أو السلحفاة ، ويقول "جيورج" Georg : "لست تجد من أجزاء الجسم جزءاً لم يجملوه أو يزينوه أو يشوهوه أو يصبغوه أو يحرقوه أو يشموه أو يصلحوه أو يبسطوه أو يقبضوه ، مدفوعين إلى ذلك بالعجب بأنفسهم والرغبة في التجميل فقبيلة "بوتوكودو" Butocudos استمدت اسمها هذا من خابور يغرزونه في الشفة السفلى وفي الأذنين حينما يكون الناشئ في سنته الثامنة ، ثم ما ينفكون يستبدلون به خابوراً أكبر حتى تبلغ الفتحة اتساعاً طول قطره أربع بوصات ؛ والنساء الهوتنتوت يعملن على إطالة الشفرتين الصغيرتين حتى تبلغا طولا عظيما ، بحيث يتكون منها ما يسمّى بـ "فوطة الهوتنتوت" التي تلقى عند رجالهم إعجاباً عظيما ، وكانت أقراط الآذان وأقراط الأنوف ضرورات لا غنى عنها ؛ حتى لقد ذهب سكان "جبِسلندة" Gippsland إلى أن من يموت بغير قرط في أنفه سيلاقي في الآخرة عذاباً أليماً ؛ وكأني بالسيدة العصرية تقول عن ذلك كله إنه وحشية فظيعة ، تقول هذا إذ هي تثقب أذنيها للأقراط ، وتصبغ شفتيها وخديها ، وتلقط شعرات حاجبيها ، وتقيم أهداب جفنيها و "تُبَدرُ" وجهها وعنقها وذراعها وتضغط قدميها ؛ إن بَحّارنا الموشوم ليتحدث عن "الهمج" الذين رآهم في رحلاته حديث الرجل الرفيع يعطف على هؤلاء الأذنين ؛ والطالب من أهل أوربا ، يفزعه ما يحدثه البدائيون في أجسامهم من تشويه ، لكنه مع ذلك يزهى بما عليه هو من وصمات يعدها علائم الشرف .

والغالب أن تكون الثياب في بدايتها ضرباً من الزينة، فهي عامل يعوق الاتصال الجنـسي أو يشجع عليه ، أكثر منها وقاية نافعة من البرد أو ستراً للعورة ؛ فقد كانت العادة عند قبيلة "كمبري" Cimbri أن يزحفوا على الثلج بأجسامهم عارية ، ولما أشفق "دارِون" على الفويجيين من عُريهم ، أعطى أحدهم قطعة من القماش الأحمر ليتقي بها البرد لكن الرجل مزقها أشرطة ، ووزعها على زملائه ، فاستعملوها للزينة ؛ فهم كما قال عنهم "كوك" إنهم منذ الأزل "قد رضوا لأنفسهم العُرى لكنهم ما زالوا يطمعون في الجمال " ، وكذلك حدث أن مزق نساء أورينوكو ما أعطاهن إياه الآباء الجزويت من ثياب ، ولبستها أشرطة حول أعناقهن ، قائلات في غير تردد "إنهن يستحين أن يلبسن الملابس" ويصف كاتب قديم أهل البرازيل الأصليين بأنهم عراة الأجسام عادة ، ثم يضيف إلى ذلك قوله : "وبعضهم الآن يلبس الثياب ، لكنهم لا يقدرونها كثيراً حتى إنهم ليرتدونها على سبيل البدع أكثر مما يرتدونها التزاماً للاحتشام ، أو يلبسونها لأنهم مأمورون بذلك... وإنك لتشهد ذلك فيمن يخرجون أحياناً من ديارهم ، لا يرتدون من الثياب ما يغطي أجسامهم أبعد من سُرَّة البطن ، أو هم يضيفون إلى ذلك طاقية على رءوسهم ، مخلفين سائر الثياب في دُورهم" ؛ فلما زادت الثياب على كونها أداة للزينة ، أصبحت علامة تدل على أن المرأة متزوجة ومخلصة لزوجها ، أو استخدمت لإبراز قوام المرأة وجمالها ؛ وفي معظم الحالات، ترى النساء البدائيات يتطلبن من الثياب ما تتطلبه النساء في العصور التي تَلَت ، وهو ألا تكون الغاية تغطية العُرى ، بل أن تزيد من فتنة أجسامهن أو توحي بها ؛ إن كل شيء في تغير إلا المرأة والرجل .

وكلا الجنـسين منذ البداية آثرا الزينة على الثياب ؛ فالتجارة البدائية قلما تعنى بالضرورات ، إنما هي تحصر نفسها عادة في مواد الزينة واللعب ؛ والأحجار الكريمة هي من أقدم عناصر المدنيَّة ؛ فلقد وُجدت أصداف القواقع والأسنان معقودة في عقود للزينة ، وُجدت في مقابر لبثت على وجه الدهر عشرين ألف عام" ثم من البدايات الساذجة ، سرعان ما تتطور أمثال هذه الحلي حتى تبلغ من ضخامة الحجم حداً بعيداً ، وتلعب في الحياة دورا عظيما ؛ فنساء قبيلة "غالا" كن يلبس خواتم بلغ وزنها ستة أرطال للمرأة الواحدة ، وبعض نساء "الدنكا" يحملن نصف قنطار من الزينة ؛ وحدث لجميلة من جميلات إفريقية أن لبست خواتم نحاسية حميت في حرارة الشمس بحيث اضطرت أن تستخدم خادماً خاصاً يظللها أو يُروّح عليها ؛ وكانت ملكة "الوابونيا" Wabunias على نهر الكونغو تلبس حول عنقها إطار نحاسيا يزن عشرين رطلا ؛ فكان لزاماً عليها إن ترقد حينا بعد حين لتستريح ؛ أما النساء الفقيرات اللائى لم يسعفهن الحظ إلا بمقدار خفيف من المعادن الكريمة ، فقد كن يحاكين في دقة مشية أولئك اللائى يحملن من تلك الزينة البشعة حملا ثقيلاً .

إذن فأول مصادر الفن قريب الشبه بزهو الحيوان الذكر بألوانه وريشه أيام التزاوج ؛ والدافع إليها هو الرغبة في تجميل الجسم وتزيينه ؛ وكما أن حب الإنسان لنفسه وحبه لعشيره من الجنـس الآخر ؛ إذا فاض عن القدر المطلوب ، صَبَّ فيضه من الحب على الطبيعة ، فكذلك الدوافع إلى التجميل ينتقل من العالم الخاص إلى الدنيا الخارجية ؛ فتحاول النفس أن تعبر عن نفسها في أشياء موضوعية ؛ متخذة في ذلك وسيلتي اللون والشكل ؛ ولذا فالفن يبدأ حقيقة حين يبدأ الناس في تجميل الأشياء ؛ ولعل أول ما تعلق به فن التجميل هو الخزف ، فعجلة الخزَّاف - مثل الكتابة ومثل الدولة - هي وليدة العصور التاريخية؛ لكن البدائيين - أو على الأصح النساء البدائيات - حتى قبل هذه العجلة التي يستعملها الخزَّاف ، استطعن أن يرتفعن بهذه الصناعة القديمة إلى مرحلة الفن ، وأخرجن من الطين والماء وأصابعهن الماهرة صوراً لها اتساق يبعث على الدهشة ؛ وإن أردت شاهدا فانظر إلى الخزف الذي صنعته قبيلة "بارونجا" Baronga في إفريقية الجنوبية أو الذي صنعته قبيلة "بُويبلُو" من الهنود Pueblo Indians.
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 06-01-2014, 09:58 PM
الصورة الرمزية دّقْـــةُ قْـــلِـــبّـ
دّقْـــةُ قْـــلِـــبّـ دّقْـــةُ قْـــلِـــبّـ غير متواجد حالياً
نجم العطاء
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 4,099
معدل تقييم المستوى: 18
دّقْـــةُ قْـــلِـــبّـ is on a distinguished road
افتراضي

كتابات رائعه بجد

جزاكم الله خيرا استاذنا الفاضل
__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 01:01 PM.