|
الأدب العربي قسم يختص بنشر ما يكتبه كبار الشعراء والأدباء قديمًا وحديثًا |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
|||
|
|||
![]()
حكاية من حياته
- طه حسين مؤلف أغاني عاطفية! - صوت زوجته أوقعه في غرامها ولم يرض عنها بديلاً - هاجم المنفلوطي لرغبته في الشهرة! يحكي كتاب “مشاهير وظرفاء القرن العشرين: حكايات نوادر وطرائف” لمؤلفه هاني الخير عن طرائف في حياة طه حسين، ويقول الكتاب يلاحظ في شخصية الدكتور طه حسين إنها شخصية صدامية من الطراز الأول وهي تثير الجدل فقد اصطدم في بداية حياته العلمية ومنذ فجر شبابه بشيوخ وأستذة الأزهر وانتهى به الأمر إلى أن يخرج من الأزهر مطروداً ولعنات أساتذته تسبقه. ثم اصطدم مع مجلس النواب المصري وذلك بعد صدور كتابه الشهير “الشعر الجاهلي” ثم اصطدم مع الرأي العام العربي والمصري، واندلعت المظاهرات ضده في عديد من العواصم العربية. وبعد ذلك اصطدم مع الملك فاروق ورئيس الوزراء إسماعيل صدقي، لأنه رفض أن يمنح أحد “الباشوات” شهادة الدكتوراة الفخرية، وذلك لأن طه حسين اكتشف أن الباشا يتصف بالغباء والجهل وضيق الأفق، ولم يقدم للحياة الإنسانية ما يستحق الذكر سوى رشوة الملك فاروق. والكتاب يقدم حكايات ولقطات طريفة مستمدة من صميم حياة الدكتور طه، وربما تكون مجهولة لدى كثير من القراء. مؤلف أغان من المفارقات الغريبة أن يكتشف الموسيقيون أن الشيخ طه حسين قد ألف عدة أغان، وأن غوصه في بحار الفقه والتفسير والحديث والنحو والصرف في الأزهر الشريف لم يمنعه أن يمد عالم الطرب والأغاني كما مد عالم الأدب بالشعر. فبينما كانت لجنة الموسيقى في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية تبحث في موضوع إحياء ذكرى “كامل الخلعي” و”سيد درويش” و”داود حسني” ونشر تراثهم، إذ بالأستاذ أحمد بسيوني زوج كريمة كامل الخلعي يقدم مجموعة الأغاني التي يحتفظ بها عمه وهي عبارة عن 40 رواية بين أوبرا وأوبريت قدمتها فرقة منيرة المهدية وزكي عكاشة، و500 قطعة غنائية ونشيد لحنها الفقيد، وكانت مفاجأة مذهلة أن رأوا وهم يفحصون الأغاني اسم طه حسين على إحدى الأغنيات المكتوبة بخط الموسيقار الخلعي، وقد كتب عليها من تأليف الشيخ طه حسين وهذه هي: أنا لولاك كنت ملاك غير مسموح أهوى سواك/ سامحني في العشاق انا مشتاق/ ابكي وأنوح بالأشواق”. وقد أجمع أعضاء اللجنة وبينهم مأمون الشناوي مؤلف الأغاني المعروف وكلهم من كبار الموسيقيين على أنها من أرق الأغاني التي ظهرت في الخمسين سنة الأخيرة وقد سجلتها شركة “الفونوغراف” بعد أن لحنها كامل الخلعي. نقده للمنفلوطي تصدى طه حسين وكان ما يزال طالبا في الأزهر للأديب الشهير مصطفى المنفلوطي صاحب كتاب “النظرات” تصدى له ينقده نقداً جارحاً فكتب في جريدة “العلم” عدة مقالات كان لها صداها العميق في المجتمعات الأدبية ويخاطب طه حسين المنفلوطي قائلاً: “أيها الكاتب المجيد..أسعد الله صباحك وأحسن مفادك ومراحك..وقوم المزور من شأنك والمعوج من لسانك وألهمك الصواب في الإعراب والإحسان في البيان، فما أعلمك في كل ذلك إلا دعيّا بحثت عن معناك فلم أجد إلا غثاً، وعن لفظك فلم أجده إلا رثاً، وعن أسلوبك فلم ألفه إلا مبتذلاً، وعن مقرظيك فإذا هم بين ظالم ومظوم، ولائم وملوم فسألت الله أن يثأر منك العرب”. وقد سأله صحفي بعد أربعين سنة من تلك الحملة، عن سر الحملة على المنفلوطي فأجابه وهو يبتسم: كنت شاباً يريد الشهرة على حساب كاتب كبير معروف، قال له الصحفي لقد أفرطت وتطرفت في النقد، فقال له مقاطعاً: تعني طول اللسان إن سببه في رأيي هو *** مزاجي ولعل هذا السبب ولا سبب غيره!. أعجبني صوتها فطلبت منها الزواج يقول الدكتور محمد الدسوقي السكرتير الشخصي لعميد الأدب العربي: “...ونحن نقرأ الصحف ورد خبر عن الزواج ومشكلاته في بعض دول العالم، فقال العميد بعد قراءته: كان مذهبي هو مذهب المعري في العزوف عن الزواج ، لأني أحببته وكتبت عنه رسالتي للدكتوراة، قلتُ: يبدو أن زوجتكم كانت السبب في تخليكم عن مذهب أبي العلاء، قال إن زوجتي كانت تقرأ لي في الجامعة بأجر، فأعجبني صوتها وطريقة حديثها، فأحببتها وغلب حبها على مذهب المعري، فطلبت منها الزواج فاستشارت بعض أهلها، فأشاروا عليها بعدم الزواج مني، لأني أجنبي وكفيف ولكنها لم تأخذ بمشورتهم. فقلت: لو كان قدر لكم الزواج من امرأة أخرى، فهل كان سيؤثر ذلك عليكم؟ قال: بالطبع لقد قرأت لي زوجتي سوزان الأدب الكلاسيكي الفرنسي وعاونتني في دراسة اللغة اللاتينية، وفتحت أمامي آفاقاً فكرية أثرت في ثقافتي وأدبي تأثيراً واضحاً. شاهد العالم ببصيرته المعجزة تقول السيدة أمينة كريمة طه حسين: “..كان يتمتع بقدرات خارقة لا يصل إليها إنسان. أذكر في يوم من الأيام أن كنا نجلس حول راديو وكنا نستمع إلى صوت مطرب شرقي كان يغني بصوت ردئ فما كان من طه إلا أن قال “والله العظيم المغني ده أقرع” وفوجئنا حين سافرنا إلى عاصمة ذلك البلد والتقينا بالطرب أنه فعلاً كان قد فقد شعره..كما تصور طه حسين. ويمكنك قراءة صفحات وصف الأشخاص في كتابه شجرة البؤس، وفي جنة الشوك، وفي الأيام. لقد شاهد هو العالم والطبيعة والبشر ببصيرته المعجزة. أهلا وسهلاً بطه حسين كان بعض رجال الفكر في مصر قد تنادوا إلى إقامة حفلة تكريم لشاعر القطرين خليل مطران، وجاء من يريد الاستئناس بموافقة الملك فاروق الذي قال عندما قرأ اسم الدكتور طه حسين بين أعضاء لجنة التكريم: “إيه الأعمى ده”. وعلم طه حسين بكلام فاروق فقال: “لم أكن أظن في حياتي أن تنالني مثل هذه الإهانة وفي بلدي وفي مثل هذه المناسبة” واكتفى بالانسحاب من لجنة التكريم. قدم عميد الأدب العربي إلى لبنان يوماً، فأكرمه شعراء وأدباء ذلك الزمان بما يناسب مكانته في دنيا الفكر ويتناسب مع تقدير اللبنانيين للعلماء والأدباء والمفكرين. وبلغه أن شعراء الزجل يرتجلون الشعر الشعبي ويغنونه، فطلب أن يختبر الأمر بنفسه، وجئ به إلى حيث كانت فرقة “شحرور الوادي” تقيم إحدى حفلاتها. وما أن أطل بطربوشه الطويل ونظارتيه السوداوين حتى انتبه أحد الحاضرين، وهتف أهلاً وسهلاً بطه حسين فأخذ المبادرة شحرور الوادي وقال: أهلاً وسهلاً بطه حسين/ ربي أعطاني عينين/ العين الواحدة بتكفيني/ خد لك عين وخلي عين وضجت القاعة بالتصفيق وراح الجميع يرددون: “خد لك عين وخلي عين”. فقال شاعر آخر: لا تقبل يا طه حسين/ من كل واحد تاخذ عين/ بقدِّ ملك جوز عيوني/ هدية لا قرضة ولا دين. ورد الشاعر الرابع في الفرقة أن الله اختص طه حسين بعين العقل لذلك فهو في غير حاجة إلى عين او اثنين
__________________
Im faded |
#2
|
|||
|
|||
![]() طه حسين و الزجل
في كتابه «طرائف الشعراء في مجالس الأدباء» ذكر نجيب البعيني ما يفيد أن طه حسين، وزير التعليم في مصر، قد سمع وأعجب بفطرة شعراء العامية في بلاد الشام حيث يطلقون أزجالهم ومساجلاتهم الشعرية دون تحضير ودون معرفة سابقة بموضوع المطارحات. فرغب في حضور بعضها والاستماع لشيء منها. وأثناء إحدى زياراته إلى لبنان كانت الفرصة ملائمة لحضور إحدى حفلات فرقة «شحرور الوادي» التي كانت تعقد في بيروت واعتاد أهل بيروت على حضورها والاستمتاع بها.وعندما دخل عميد الأدب العربي القاعة التي لا يراها إلا ببصيرته وتصوره لأنه كفيف، كان مظهره بطربوشه الأحمر الطويل ونظارته السميكة السوداء التي أصبحت العلامة الفارقة للأديب المكفوف أو قل الأديب البصير، موضوعا شيقا للزجالين، لكنهم بفطرتهم وحذقهم وكياستهم اختاروا الموضوع الأكثر قبولا وإثارة للزائر والجمهور. وانتبه أحد الحاضرين إلى دخول الوزير مع مرافقيه وجلوسه في زاوية من القاعة، فنادى مرحبا به قائلا:ـ «أهلا وسهلا بطه حسين»: سمع ذلك شحرور الوادي فأمسك بالمبادرة الزجلية فأنشد قائلا: أهلا وسهلا بطه حسين ربي أعطاني عينين العين الواحدة بتكفيني خد لك عين وخلي عين ضجت القاعة بالاستحسان والتصفيق وانطلق الجمع من الحاضرين يرددون في نغمة واحدة: «خد لك عين وخلي عين». لم يتوقع طه حسين ذلك وتأثر بالحفاوة كثيرا. وفي تلك الأثناء تنحنح الشاعر الثاني في الفرقة، علي الحاج، ليفسحوا له مجال القول، فانطلق منشداً: أهلا وسهلا بطه حسين بيلزم لك عينين اتنين تكرم شحرور الوادي منه عين ومني عين ثم جاء دور شاعر الفرقة الثالث، أنيس روحانا، فأطلق عقيرته منشداً: لا تقبل يا طه حسين من كل واحد تأخذ عين بقدم لك جوز عيوني هدية، لا قرضة ولا دين فقال الشاعر الرابع في الفرقة، طانيوس عبده، مستدركا ومصححا زملاءه وناصحا إياهم: ما بيلزملو طه حسين عين، ولا أكثر من عين الله اختصه بعين العقل بيقشع فيها ع الميلين
__________________
Im faded |
#3
|
|||
|
|||
![]() طريفة
هذه ذكريات عن شيخنا الراحل الأستاذ عبد الله الطيب غفر الله له وأحسن مثواه، أضيفها إلى ذكريات غيري من طلابه الكثر المحبين المعجبين؛ عسى أن تكون كلها مادة يرجع إليها من يكتب سيرته وينشر بين الناس فضله، وهي ذكريات في أمور شتى لا تخلو من طرافة أرسلها بغير تكلف كأنها (ونسة) في أحد مجالسه العامرة، وغني عن القول بأنني إذا ما رويت عنه كلاما فلا أذكره بألفاظه نفسها كلها (أنَّى لي ذلك وقد طال العهد؟) وإنما أذكر فحواه وبعض ألفاظه. أول ما يخطر بالبال تعليق الدكتور طه حسين على ديوانه أصداء النيل، ذلك الثناء العاطر من عميد الأدب العربي على ديوان شاب سوداني غير مشهور ثناء قرأه مئات الأدباء في العالم العربي وعجبوا له، أثنى الدكتور طه على الديوان لكنه أخذ على صاحبه استعماله لبعض الكلمات الغريبة بل الوحشية، لكن السودانيين ضحكوا كثيرا عندما رأوا قائمتها كانت كلمات معروفة في العامية السودانية أذكر منها الآن كلمة "الطخا" بمعنى السحاب التي ينطقها أهلنا: "التخا" على عادتهم في استثقال الطاء في بعض الكلمات وتحويلها إلى تاء كقولهم: "بتيخ" بدلا عن بطيخ. كما قال ود الماحي في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (ضلتو يعني أظلته التخايي). لست أدري لماذا شاعت في عاميتنا أمثال هذه الكلمات التي كانت تعد فعلا من الألفاظ الوحشية حتى قال الشاعر: إنما الحيزبون والدردبيس *** والطخا والنقاخ والعلطبيسُ لغة تنفر المسامع منها *** حين تروى وتشمئز النفوسُ لكن لعل الذي أغرى شيخنا باستعمال هذه الألفاظ أنه كان له اهتمام عجيب بالعامية السودانية ومعرفة مفرداتها وتراكيبها، وكان يرى أن لغة القرى أثرى وأفصح من اللغة التي اعتادها أهل المدن، وكان يضرب لذلك مثلا بقول الناس في القرى: "سمح وزين" وقولهم في المدن: "كويس" لا يزيدون عليها. وقد ظهر إتقانه للعامية السودانية في تفسيره المشهور للقرآن الكريم الذي كان المواطنون في شتى أنحاء القطر يلتفون حول المذياع للاستمتاع بالسماع إليه. أما العربية الفصيحة فقد كان ابن بجدتها ومالك ناصيتها، لا تكاد تخفى عن علمه مفردة من مفرداتها، ولا عن حفظه قصيدة ولا نظم من نظمها، ولا عن اطلاعه أو دراسته كتاب مهم من كتبها. حدثني الصديق الدكتور مالك بدري أن شيخنا ألقى محاضرة في بيروت فاستشهد فيها بالعشرات من أبيات الشعر من ذاكرته حتى إن أحد أساتذة اللغة بالجامعة الأمريكية -أظنه قال: إنه الدكتور إحسان عباس- قال مازحا: ما ذا نقول لطلابنا غدا؟ هل نقول لهم إننا مثله أساتذة لغة عربية؟ تحولت العربية الفصيحة عنده إلى ما يشبه السليقة فكان إذا حاضر بها في القاعة يتكلمها كلاما لا تكلف فيه، حتى إنك لتظن أنه إنما كان يتكلم بالعامية إلى أن ترجع إلى ما كتبته عنه لتجده عربيا فصيحا. وكان إذا ألقى القصيدة من الشعر العربي -حتى الجاهلي منه العصي الفهم- ألقاها بطريقة يطرب لها المستمعون، وكان طلاب الجامعة كثيرا ما يعبرون عن إعجابهم بالتصفيق الشديد حين يستمعون إليه ينشد بعضها في المناسبات العامة. درسنا عليه في السنة الثانية من كلية الآداب عدة قصائد من كتاب المفضليات، ولا زلت أذكر شرحه الممتع لإحدى القصائد الصعبة التي أشار إليها الصديق الدكتور الحبر نور الدايم في مقاله الماتع عن شيخه الذي كانت صلته الأدبية به أوثق من صلتنا؛ لما يجمعه وإياه من حب العربية وإتقانها وبراعته في شعرها. تلك هي قصيدة المرار بن منقذ في وصف فرسه. التي من أبياتها: ببعيد قدره ذي عذر *** صلتانٍ من بنات المنكدر سائل شمراخه ذي جبب *** سلط السنبك في رسغ عجر قارح قد فر عنه جانب *** ورباع جانب لم يتغر فهو ورد اللون في ازبئراره *** وكميت اللون ما لم يزبئر شندف أشدف ما ورعته *** فإذا طؤطئ طيار طمر استعنت على تذكر مفرداتها -من باب الطرفة- برسمة أسميتها حصان المرار، تشير الأسهم فيها إلى أوصاف الحصان بتلك الكلمات الواردة في القصيدة، فكانت كأنها درس في علم الأحياء، وكان بعض الأصدقاء يستعيرها للمذاكرة، والغريب أن أستاذنا العلامة لم يكن يعرف معاني هذه الكلمات النادرة بالعربية فحسب، بل كان يعرف ترجماتها الانجليزية، تلك اللغة التي كان متقنا لها مطلعا على آدابها، والتي كانت له فيها نظرات ومقارنات بينها وبين العربية. منها ملاحظته لكثرة ما في قصائد شكسبير من تشبيهات وتعبيرات يقول: إنها شديدة الشبه بما في الأدب العربي، وأنه لا مثيل لها أصلا في الأدب الانجليزي. لم يكن شيخنا بالطبع من مؤيدي نظرية شيخ الزبير التي تقول إنه الاسم الحقيقي لشكسبير. كان شيخنا علامة النحو العربي الذي لا يشق له غبار، كان مفتونا بالكتاب لسيبويه يقرؤه كالورد اليومي كلما ختمه بدأه، حتى رأيته يحمله معه ويقرؤه في المسجد الحرام؛ تبركا به! أذكر أنه كان يقرأ في طبعة قديمة، فقلت له: هنالك طبعة جديدة بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون -كنت قد اطلعت عليها لأمر يتعلق بالفلسفة-، لكنه أعرض عن كلامي، وقال: إنه يفضل الطبعات القديمة ويراها مباركة، وكان هذا ديدنه فعلا مع كل الكتب العربية، فكان لا يقرأ من تفسير الإمام الطبري مثلا إلا طبعة بولاق، ويراها مباركة. شهد لبراعة شيخنا في فهم الكتاب لسيبويه علماء كثر من خارج السودان، حدثني صديق سعودي هو الدكتور تركي العتيبي أستاذ علم النحو بجامعة الإمام، فقال: إن شيخنا جاءهم أستاذاً زائراً، وقال: كنت أعمل في رسالتي الماجستير عن أحد نحويي الكوفة المتقدمين، ومن خلال الدراسة اعترضتني نصوص مشكلة في الكتاب لسيبويه راجعتها في الشروح فلم أظفر بطائل... فلما جاء د. عبد الله الطيب - رحمه الله تعالى -... عرضت عليه هذه النصوص فأفادني في بعضها إفادات رائعة دونتها في نسختي، وعرضت قوله على شيخي عظيمة فاستحسنه وسر به. وكان د. الطيب أقرأ المعاصرين لكتاب سيبويه. وكما كان شيخنا محبا للعربية وعلومها كان أيضا محبا لأهلها من الأحياء والأموات. من ذلك أنه كان شديد الإعجاب بتلميذه صديقنا الدكتور جعفر ميرغني.. جاء ذكر جعفر في أحد اجتماعات مجلس الكلية -لست أذكر الآن مناسبته-، فقال عنه شيخه: إنه لولا التقيد باللوائح لعينته الآن محاضراً -وهو الذي يسمى في اصطلاح الجامعات العربية أستاذًا مساعداً- ثم قال عنه كلمة أحرجت بعض أساتذة اللغة العربية، قال: إنه الآن -وكان قد تخرج لتوه- أعلم من بعض الأساتذة!. وكان الأستاذ يضيق فعلا بشكليات اللوائح، كان هنالك عالم قراءات مصري نال إعجابه، فعينه أستاذاً مساعداً بالجامعة رغم أنه لم تكن له شهادة دكتوراة. قال لي: إن كل كتاب من كتب هذا الرجل يساوي دكتوراة، وتعيين الدكتور عبد الله للرجل حلَّ له مشكلة كبيرة، فقد بدأت الجامعات الأخرى -حتى المصرية منها- تقبله أستاذاً بناءً على أنه كان كذلك بجامعة الخرطوم حسب ما يقتضي الاتفاق بين الجامعات العربية، وحدثني ذات مرة أنه ذهب إلى مصر فوجد العلماء الحقيقيين هم الذين لا يحملون هذه الألقاب العلمية من دكتور وأستاذ وغيرها! وقد وجدت مثل هذا الموقف من الألقاب عند غير شيخنا من كثير من العلماء الراسخين في علومهم على اختلافها. فما الدكتوراة عندهم إلا شهادة كالشهادات الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية ينالها المرء ثم يتخطاها فلا يفخر بها ولا على التسمي بها. إنما يفعل ذلك بعض الضعفاء الذين يحاولون التزيي بها حتى لو لم يكونوا قد نالوها حقيقة باعتبارها حلية اجتماعية، وما مثلهم في ذلك إلا كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) (رواه البخاري). قرأت -وأنا بالقاهرة سنة أربع وخمسين ميلادية- مقالا للأستاذ العقاد، يرد فيه على نقدٍ انتقده إياه شيخنا، وكان رداً فيه بعض الحدة، لكنني سررت عندما لمست من أستاذنا بعد سنين عدة أن ذلك لم يفسد العلاقة بينهما، بل عبر لي عن إعجابه الشديد بثقافة العقاد الموسوعية، قال إنهم استمعوا في مجمع اللغة إلى محاضرة لأحد المختصين بعلم الجيولوجيا ذكر فيها عن بعض الصخور أنها تكون كذا وكذا من الألوان، فسأله العقاد (وحكى دكتور عبد الله صوته في إعجاب) ألا تكون كذا أيضا (وذكر لونا نسيته الآن). فأجابه المختص بأنها لا تكون كذلك، لكن العقاد جاء إلى جلسة المساء وهو يتأبط مرجعه الذي يثبت صحة ما قال! ولم تكن العربية عند علَّامتها الطيب مجرد فن يتذوقه، أو لسان يعبر به، بل كانت كالمرجع الذي يهتدي به في كثير من شؤون حياته، لعلَّ صديقنا الدكتور إبراهيم الحادرلو يذكر كيف أنه أمتعنا في يوم قضيناه معه في تجوال في مدينة برايتون الانجليزية، كيف أنه كان كلما ذكر زعيما سودانيا أو أمرا سياسيا قال فيه رأيا، ثم أتبعه مستشهدا بما يعرف من شعر العرب ونثرها وأخبارها، وكانت استشهادات في غاية الطرافة لولا الحياء لذكرت بعضها. وكم كان يحزنه زهد الناس في العناية بالعربية، وكان كثيرا ما يقول آسفا إن بعض المثقفين عندنا يودون أن لو كان لسانهم انجليزيا لا عربيا، وإنني لأذكر هذا التعليق كلما زرت الخرطوم فوجدت ازديادا حتى في الأحياء الشعبية - في نسبة اللافتات المكتوبة بالانجليزية أو المكتوبة كلماتها الأجنبية بحروف عربية لا يفهم المواطنون منها شيئا. كان شيخنا معنيا في دراسته بالجودة لا الكثرة، كان ينتقي من كل علم في غير اختصاصه كتابا يقرؤه عدة مرات ويجيد فهمه، من ذلك أنه كان يكرر قراءة كتاب برتراند رسل في تاريخ الفلسفة الغربية، وكتاب توينبي المسمى دراسة للتاريخ، وهكذا. وكان كثير القراءة لتفسير الجلالين حتى إنه ليكاد يحفظه.. وقد وجدت هذا أيضا منهج شيخنا الشيخ عبد العزير بن باز علامة عصرنا في علوم الشرع. قال لي تلاميذه إنه قرأ صحيح مسلم بشرح النووي ستين مرة! وإنه قرأ البداية والنهاية ست مرات، وهكذا. وحسبك بمرة من مرات ابن باز؛ إنها تساوي مرارا من مرات غيره. كان يعرف عن نفسه أن العربية طبعه حتى قال لي ذات يوم -ونحن نتكلم عن الفلسفة- إنه درس بعض مقرراتها أثناء عهد الطلب ببريطانيا، وإنه جودها لدرجة أن الأستاذ اقترح عليه أن يختص بها. قال لكنني قلت لنفسي: الطبع ولا التطبع. وعلى ذكر الفلسفة، دخل عليَّ الأستاذ ذات يوم في مكتبي -وهو عميد لكلية الآداب-؛ ليسألني: أليس لك الآن محاضرة في القاعة الفلانية؟ استنكرت أن يأتي عميد الكلية ليحاسبني في مكتبي على عدم الذهاب لمحاضرة، فما هكذا يعامل الأساتذة بجامعة الخرطوم، قلت -ولا بد أنه رأى آثار الإنكار على وجهي-: "بلى ولكنني نسيت بسبب انشغالي بهذا البحث"، فابتسم وقال: "الآن صرت أستاذا"، فانطلقت أسارير وجهي وابتسمت، وقلت: "لماذا؟" قال: "لأن الأستاذ الحق هو الذي تشغله بحوثه عن أموره الأخرى"، ثم شرح لي أنه إنما جاء ليستشيرني في مسألة فلسفية أشكلت عليه هو طلابه، كان هذا من تواضعه الجمِّ الذي لم يكن يتكلفه أبدا. وكان من تواضعه وكرمه أنه كثيرا ما يدعو طلابه إلى منزله ثم يطلب من الشعراء منهم أن يباروه قي تأليف قصيدة في موضوع يختاره، أذكر أن هذا حدث مع الصديقين عمر عباس عجبنا زعيم الطلاب وخطيبهم المفوه أكرم الله نزله، والدكتور ناصر السيد شاعرهم المطبوع أطال الله عمره في طاعته. وإذا كان مثل غفلتي تلك عن المحاضرة من السمات اللازمة للأستاذية، فقد كان هو صاحبها الذي لا يبارى. كان يقطع التذكرة من تذاكر قطار لندن التحت الأرض ليذهب إلى إحدى المحطات فيغفل عن النزول بها ويتجاوزها بمحاط كثيرة لانشغاله بشيء يقرؤه أو يفكر فيه. دخلت عليه في مكتبه ذات يوم وكان قد فرغ لتوه من اجتماع مع رؤساء الأقسام فيما أظن، فوجدتهم جيمعا يضحكون، فلما سألت أخبرني أحدهم بأنه حدث بين العميد وأحد الأعضاء خلاف وأن العميد غضب وانتهر العضو قائلا: "ياجرزلدا..." فانفجر الناس ضاحكين وضحك هو وانتهت المشكلة بفضل ذكر اسم الزوجة الحبيبة!. زلت منه مرة كلمة عن محمود محمد طه حاسبه عليها بعض إخواننا حسابا عسيرا، لكنني أشهد أن الرجل لم يكن محبا لمحمود، ولم يكن من أنصاره، لكنه قال ما قال بسبب السياسة التي لم يكن ذا باع فيها، قال لي ذات مرة إنه لا يحب محموداً؛ لأنه لا يحب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكان يقول لنا تشجيعا على نقدنا لمحمود أنتم وحدكم الذين تستطيعون نقده، ويعني ب"أنتم" نحن أصحاب التوجه السني. قلت: لماذا؟ قال: لأن هؤلاء الشيوخ الذين يهاجمهم ينسبون إلى بعض شيوخ الصوفية ما يدعي محمود لنفسه، فهم لا ينكرون أن يصل الإنسان مثلا وصولا يرفع عنه أحكام العبادات والحلال والحرام، لكنهم ينكرون أن يكون محمود قد وصل إلى هذه الدرجة. وعلى ذكر محمود، دخلت عليه ذات يوم في مكتبه فحكى لي قصة طريفة، قال: إنه كان معه قبل قليل أحد القساوسة -ذكر لي بلده الأوربي لكنني نسيته- وأنه أخبره أنه جاء ليتشرف بزيارته ويتحدث إليه. قال الدكتور عبد الله فقلت له: لست أنا الذي تريد. إنك تريد رجلا آخر اسمه محمود محمد طه وعرفته من هو. قال فاعترف بأن محمودا كان طلبته، لا عبد الله الطيب، قلت لشيخنا: لكن كيف عرفت أنه إنما يريد محموداً، ولا يريدك أنت؟ قال: ما ذا يبتغي قس أوربي عند رجل همه اللغة العربية وهم لا يحبونها ولا أهلها، إنه يريد هذا الذي يقول ما يرضيهم!. وتصديقا لكلام شيخنا التقيت أنا في الرياض بقس كبير من علمائهم كنت قد قرأت بعض أجزاء من كتاب له عن وجود الخالق مترجما إلى الانجليزية، سُرَّ لما أخبرته بذلك، فلما عرف أنني سوداني كان أول ما سألني عن محمود محمد طه، فأجبته بكلمة صعق لها. قلت: هذا ليس مسلما! كان مما أعجب له في شيخنا أنه مع معرفته الواسعة بالعربية وعلومها والتفسير والتاريخ إلا أنه كان في باب الفقه مالكيا مقلدا تقليد العوام، بل كانت حججه لتسويغ هذا التقليد هي حجج العوام، لكنني عرفت السر في ذلك بكلام قاله لي هو عن نفسه في إحدى زياراته للرياض. كان يقرأ في كتاب المسند للإمام أحمد فاعترف بأنه كان مقصرا في اهتمامه بعلم الحديث، وأنه بدأ الآن يتدارك ذلك، فسررت لذلك أيما سرور. لقد كان شيخنا فخر السودانيين يعتز به شبابهم ويحتفلون به ويكرمونه حيثما حل في بلد يسكنونه. رأيناهم يكرمونه في المدن البريطانية، والأمريكية، والبلاد العربية وسمعنا عن تكريمهم له في غيرها. هذا بعض ما جادت به عن شيخه ذاكرة طالب تجاوز السبعين، أرجو ممن يطلع عليها ممن يعرف ما لا أعرف عن بعض ما ذكرت أن لا يتردد في تصويبها. فمعاذ الله أن نظن بأنفسنا عدم الخطأ أو أن نستنكف عن التصويب. تلك جوانب من حسنات الفقيد غفر الله لنا وله ذنوبنا وتقصيرنا وإساءتنا، ورحمنا وإياه رحمة واسعة، وجزاه الله خيرا كثيرا على اهتمامه بلغة الكتاب العزيز والرسول الكريم وعمله على نشرها والانتصار لها.
__________________
Im faded |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|