|
#1
|
||||
|
||||
![]() التسامح الديني اختراع إسلامي ربما كنا جميعاً نحفظ كلمة الكاتب الفرنسي المشهور غوستاف لوبون التي يقرر فيها حقيقة كبيرة من حقائق تاريخنا وحضارتنا، ومن حقائق التاريخ البشري العام كله والحضارة الإنسانية جمعاء، وهي تلك التي يقول فيها: "إن الأمم لم تعرف راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم". إنها كلمة منصفة هي في الحقيقة إنصاف للحق والتاريخ قبل أن تكون إنصافاً للعرب والمسلمين. والآن إليك هذه الشهادة الضخمة لحبر كبير من أحبار النصرانية هو ميخائيل الأكبر بطريرك أنطاكية الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، أي بعد أن خضعت الكنائس الشرقية للحكم الإسلامي خمسة قرون، يؤكد ميخائيل الأكبر في هذه الشهادة تسامح المسلمين، واضطهاد الروم للكنيسة الشرقية. يقول الرجل: وهذا هو السبب في أن الله الذي تفرد بالقوة والجبروت والذي يزيل دولة البشر كما يشاء ويؤتيها من يشاء ويرفع الوضيع، لمّا رأى شرور الروم الذين لجؤوا إلى القوة فنهبوا كنائسنا وسلبوا ديارنا في كافة ممتلكاتهم، وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة، أرسل أبناء إسماعيل -يعني العرب-من الجنوب-يعني الجزيرة العربية- ليخلّصنا على أيديهم من قبضة الروم، وفي الحق إننا إذا كنا قد تحملنا شيئاً من الخسارة بسبب انتزاع الكنائس الكاثوليكية منا وإعطائها لأهل خلقيدونية، فقد استمرت هذه الكنائس التي في حوزتهم، ولما أسلمت المدن للعرب خصص هؤلاء لكل طائفة الكنائس التي وجدت في حوزتها، وفي ذلك الوقت كانت قد انتزعت منا كنيسة حمص الكبرى وكنيسة حوران، ومع ذلك لم يكن كسباً هيناً أن نتخلص من قسوة الروم وأذاهم وحنقهم وتحمسهم العنيف ضدنا وأن نجد أنفسنا في أمن وسلام. هذه الشهادة المنصفة تدل على كذب أولئك المتعصبين ضد تاريخنا الذين يزعمون أننا كنا قساة أكرهنا الناس على الدخول في ديننا وعاملنا غير المسلمين بقسوة واضطهاد، فعلى العكس كانت حقائق التاريخ من ناحيتنا ومن ناحيتهم. أما من ناحيتنا فقد كان التسامح أصلاً عريقاً عندنا، وأما من ناحيتهم فقد كان التعصب والبغي غالباً على ما يفعلون، وإن مخازيهم أثناء الحروب الصليبية مثلاً ليندى لها الجبين حياء وخجلاً، بل إن مخازيهم في اضطهاد بعضهم لبعض، مما لا ينكره أي دارس، وإن الذي جرى بين البروتستانت والكاثوليك كان أمراً في غاية الفظاعة والوحشية، يظهر ذلك بوضوح -مثلاً- في م***ة "سان بارتلمي" أما مآسي محاكم التفتيش في القرون الوسطى فقد كانت قمة في الهمجية والضراوة، ولا يزال وجدان الحضارة البشرية يحمل عنها أسوأ الذكريات لما كان فيها من فجائع ومظالم وتفنن في ***** الضحايا. إن ذلك كله، وثمة الكثير الذي يشبهه ينهض دليلاً لا يرد على أن الغربيين في جملتهم، قوم قساة القلوب، وهم من أشد الناس تعصباً وحقداً على مخالفيهم في الرأي والعقيدة حتى لو كانوا من أبناء جلدتهم ودينهم، وأنهم من أشد شعوب الأرض بطشاً وفتكاً، وأنهم لم يعرفوا التسامح الديني خلال تاريخهم في العصور كلها، ولا يزالون حتى اليوم يتحكم فيهم هذا التعصب بدرجات متفاوتة، على أن الإنصاف يدعو إلى الشهادة أن التسامح الديني في الغرب تزداد مساحته ازدياداً ملحوظاً مشكوراً، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. لقد منح الإسلام الذي يعلي الإنسان، ويطهر نفسه، ويعتق روحه، ويزكي سريرته، الفرصة للناس جميعاً أن يتفيؤوا ظلاله الواسعة مسلمين كانوا أم كافرين، فإذا بروحه المتسامحة الكريمة تنشئ ضروباً رائعة جداً من التسامح ليس لها مثيل لا في قديم ولا في حديث، ولقد كان رجال الدين المسيحي في ظل الدولة المسلمة، يُعْطَوْنَ سلطة الإشراف التام على رعاياهم في جميع شؤونهم الدينية والكنسية، ولا تتدخل الدولة المسلمة في ذلك، اللهم إلا في حل المشكلات التي تنشأ بين مذاهبهم لتنصف بعضهم من بعض، فقد كان الملكانيون مثلاً يضطهدون أقباط مصر في عهد الروم ويسلبونهم كنائسهم، فلما فتحت مصر، رَدَّ المسلمون إلى الأقباط كنائسهم وأنصفوهم، ثم تطاول الأقباط بعد ذلك على الملكانيين انتقاماً منهم وثأراً لما كانوا قد فعلوه بهم قبل الفتح الإسلامي، فشكوا ذلك إلى هارون الرشيد، فأمر باسترداد الكنائس التي استولى عليها الأقباط في مصر، وردها إلى الملكانيين بعد أن راجعه في ذلك بطريركهم. وكانت الوظائف في الدولة تمنح للمستحق، وكان الأطباء النصارى في العهدين الأموي والعباسي محل الرعاية لدى الخلفاء، وكان لهم الإشراف على مدارس الطب في بغداد ودمشق زمناً طويلاً، كان ابن أثال النصراني طبيب معاوية الخاص، وكان سرجون كاتبه، وقد عيّن مروان أثناسيوس مع آخر اسمه إسحاق في بعض مناصب الحكومة في مصر، ثم بلغ مرتبة الرئاسة في دواوين الدولة، وكان واسع الثراء عظيم الجاه. ثمة شاهد ضخم هائل هتف به بعض النصارى، يدل على تسامح المسلمين الواسع وهو ما جعل نفراً من أبناء الدين المسيحي يفضلون أن يقعوا تحت الحكم الإسلامي، على أن يقعوا تحت حكم طائفة نصرانية مخالفة. قبيل أن يفتح السلطان العبقري المجاهد محمد الفاتح القسطنطينية، فكّر كثير من أبناء هذه المدينة بالاستعانة بروما، ومن المعروف أن هناك خلافاً تاريخياً واسعاً بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينية، تمثل هذا الخلاف في عداء واسع بل وقتال واجتياح واضطهاد. وحين شدد محمد الفاتح قبضة حصاره على القسطنطينية، ارتفعت فيها أصوات من بعض أبنائها، تطالب ببذل الجهد للحصول على معونة روما ونجدتها، ولكن أصواتاً معارضة أخرى ما لبثت أن وقفت ضد هذا المطلب، وأخذت تهتف وفي مخيلتها فظائع المسيحيين اللاتين بمدينتها واضطهادهم للمسيحيين الشرقيين في القسطنطينية قائلة بأعلى صوتها: لأَنْ نرى في القسطنطينية عمامة المفتي خير من أن نرى قبعة الكاردينال. وكان صاحب هذا الشعار الذي عبّر عن عواطف كثير من أهل القسطنطينية في تفضيلهم عدل المسلمين الغرباء على ظلم إخوانهم المسيحيين، واحداً من أهم الشخصيات السياسية في القسطنطينية يومذاك، وهو الدوق نوتاراس. وهكذا حفل تاريخنا الطويل بأمثال هذه المواقف العادلة إزاء غير المسلمين، ولا غرابة فالإسلام هو رسالة الله الأخيرة للناس جميعاً، وقد رتّبت كل شيء، وهيأت فرصة العيش الكريم الحر، للبشر أجمعين، مسلمين وغير مسلمين. وبعد: فلا يمكن لعاقل أن يزعم أن تاريخنا لم تكن فيه أخطاء، بل كانت فيه أخطاء تقل وتكثر، وكانت فيه مظالم تصيب الناس من مسلمين وغير مسلمين، لكنه كان -في جملته- أكثر تواريخ البشر رحمة وعدلاً وتسامحاً، وهو ما قرره غوستاف لوبون في جملته الشهيرة التي تم افتتاح هذا المقال بها، كما قرره غيره من المنصفين قبله وبعده. وللشيخ محمد الغزالي رحمه الله، جملة بديعة يحسن إيرادها في هذا المجال، فيها دقة، وإيجاز، وإبداع، يقرر فيها أن التسامح الديني إنما هو "اختراع إسلامي" ذلك أن الإسلام أول من بدأه وأن المسلمين أول من طبقوه. |
#2
|
||||
|
||||
![]() الصفح والتسامح بين الناس
أ. د. عبدالله بن محمد الطيار يجب على المسلمين عامة، والعلماء والدُّعاة والمصلحين منهم خاصة - أن يُسْدوا النصح لبعضهم بالطريقة الشرعية المقبولة، وذلك خير للمجتمع وأصلح لشؤونه، فبذلك تتبدد الظلمة وتزول الفرقة، ويخرج المنافقون من المجتمع، وتجتمع كلمة المسلمين على الحق؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ما رأيت رجلاً أوليته معروفًا إلا أضاء ما بيني وبينه، ولا رأيت رجلاً أوليته سوءًا إلا أظلم ما بيني وبينه". وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لا يحل لامرئ مسلم يسمع كلمة من أخيه المسلم أو عن أخيه المسلم - أن يظنَّ بها سوءًا وهو يجد لها في الخير محملاً". ما دامت الكلمة تحمل طوايا الخير في ثناياها، فلماذا نسيء بصاحبها الظنَّ، ونحملها على غير ما ينبغي، وفرق بين مَن يفعل ذلك بقصد سوء النية، وحب أَذِيَّة الخلق، وبين من يبين العيب للآخرين بهدف النصيحة، وعدم الاغترار بالشخص؛ كما فعل سلف الأمة في باب الجرح والتعديل. هناك فرق بين مَن يبذر الإساءات في طريق المسلمين ليسيء بها إليهم؛ لأنه لم يعرف إلا السخط والضيق، وبين من ينصح للمسلمين ببيان عيوب فلان وفلان، لا على سبيل التنقص والازدراء، وإنما لكشف الحال وبيان المقام، لا حبًّا في الظهور، ولا رغبة في الانتقام ولا تشفِّيًا، وإنما نُصْحًا لله ولرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم – وللمؤمنين. هناك رؤية قاصرة تنظر بنصف عين فقط، وفي ضوء هذه الرؤية القاصرة تنساق النفس إلى الجدل واللجاجة، فتقع في المحظور الشرعي الذي تجنبه العلماء، وجعلوا بينهم وبينه سدًّا حاجزًا، وبونًا بعيدًا. وهذا هو الحسن البصري وقد قيل له: نجادلك، فقال: لستُ في شكٍّ من ديني، وكان الإمام أحمد - رحمه الله - لا يعدل بالسلامة شيئًا، فليكن شعارنا التسامح والعفو والصفح، ومحبة الآخرين وعدم الخوض فيما لا ينفع؛ لننال رضوان الله، ونكون من السائرين على درب الصالحين، فلا يُسوَّغ لمسلم أن يتَّهم مسلمًا دون دليل، أو أن ينقل عن أحد دون تثبُّت، أو أن يحمل الكلام غير ما يحتمل، أو أن نحكم على الآخرين دون وقوف على أفعالهم أو سماع لأقوالهم، أو اطلاع على كتاباتهم. إن الله - جل وعلا - يحاسب الناس على أعمالهم؛ خيرها وشرها، فمن ثقل خيره، فله الثواب، ومن ثقل شره، فعليه العقاب، ولكنَّ بعض الناس لا يرى إلا الخطأ، ولا يتعامل إلا به دون نصيحة أو توجيه. إننا بحاجة أن نلجم ألسنتنا، فلا نخوض فيما لا فائدة فيه؛ لأن كل كلمة تصدر منَّا سنحاسب عليها، وخيرٌ لنا الأدب مع الآخرين ورعاية حقوقهم، ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الأنام، وإن كانوا ذوي رحم؛ لقد شبَّه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - المؤمن في تعاونه مع أخيه بالبنيان، فقال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا))، والبنيان لا يزال متماسكًا رفيعًا منيعًا ما دامت أجزاؤه سليمة من العطب، أما إذا دبَّ إليها الفساد، ونخرت في أعوادها الأكلة، فإنه لا يلبث أن ينهار، ثم يصبح عُرضة للرياح، والبناء القوي الشامخ هو الذي يصمد أمام الرياح العاتية، وتتحطم عليه ضربات الخصوم. عجيب أمر فئة من الناس إذا أحبوا شخصًا أسرفوا في مدحه، وبالغوا في رفع شأنه، وتناسوا عثراته، بل لا يسمحون للآخرين بذكرها، حتى ولو كانت مثل الجبال، بل ولو كانت تمسُّ المعتقد، وهم يسيرون على قاعدة عين الرضا على حد قول القائل: وإذا قلت لهم: إن هذه أخطاء يجب أن نبيِّنها للناس؛ لئلا ينخدعوا، قالوا: هذه الأخطاء لا تساوي شيئًا في ميزان حسنات هذا الشخص. سبحان الله! وهل أصبح منهج الموازنة هو كل شيء، إذًا لماذا أفرد السلف كُتبًا تبلغ عشرات المجلدات؛ لنقد الرجال والحكم عليهم؟! أليس ذلك من الدين؟! أليسوا يتقربون بذلك إلى الله؟! أم أن المعاصرين لنا أرفع قدرًا من أولئك؟! حقًّا لقد اختلت الموازين عند كثير من الناس وغاب الوعي الشرعي عنهم؛ بسبب قشور الثقافة وسطحية التفكير، والولاء للمناهج والأشخاص. إن الذي نرفضه ونرده هو أذية الآخرين، والتقوُّل عليهم، وتحميل كلامهم ما لا يُحْتَمل. أما بيان العيوب ونقد الآخرين بما فيهم، وبيان عيوب المناهج والأشخاص، فهذا من الدين الذي يُؤْجَر المسلم عليه - إن شاء الله - ما دام لا يهدف من وراء ذلك أذية أو انتقامًا أو تشفِّيًا، وهذا ما كان عليه حال سلف الأمة، رزقنا الله حُسن اتباعهم، ووفَّقنا لسلوك طريقهم، وكفانا الله شرَّ أنفسنا والشيطان. وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
#3
|
||||
|
||||
![]() التسامح والتعايش بين البشر أرسى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - دعائم التسامح بين البشر، وأوحى الله إليه في القرآن أن لا إكراه في الدِّين، وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - حقوق غير المسلمين الذين لا يحاربون المسلمين، وأنَّ لهم الأمن على أنفسهم، وأبنائهم، وأعراضهم، وأموالهم، وفي بلاد المسلمين إلى اليوم رعايا من اليهود والنَّصارى يعيشون حياة كريمة، بينما قضت محاكم التَّفتيش على وجود المسلمين في إسبانيا، في تطهير عرقي مخالف للمبادئ المعلنة في الحضارة الغربيَّة. من أعظم قواعد الدين الذي جاء نبيُّ الرَّحمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: أن اعتناق الإسلام متروك للقناعة الشخصية للأفراد والجماعات، وأنَّ الدعوة إليه تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، لا على الإكراه والإجبار بقوَّة السيف أو غيره، وقد ورد في ذلك كثير من نصوص القرآن والسنة، من ذلك: قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [ الكهف: 29]. كما راعى دين محمَّد - صلى الله عليه وسلم - غير المسلمين؛ فنهى عن قتالهم إذا لم يكونوا من المقاتلين؛ بل ولم يحرِّم البرَّ بهم والإحسان إليهم؛ فقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [ الممتحنة: 8]. ومن القواعد العظيمة التي أرساها دين الإسلام كذلك: احترام حقوق غير المسلمين، سواء كانوا رعايا للدولة الإسلامية، أو كانوا خارج الدولة الإسلامية ولم يعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين؛ فهؤلاء كلهم لهم حقوق في ذمة كل مسلم؛ حيث يأمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، لا يجوز لمسلم أن يعتدي عليهم في شيء من ذلك. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ *** معاهَدًا لم يَرِح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا))؛ رواه البخاري. وقال - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا مَنْ ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه - أي: أنا الذي أخاصمه وأحاجُّه - يوم القيامة))؛ رواه أبو داود. بل لقد استوى أمام القاضي في الحكم والقضاء المسلم وغيره؛ فعن عن الأشعث قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ، فجحدني؛ فقدمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألكَ بيِّنة؟))، قلتُ: لا، قال لليهودي: ((احلفْ))، قلتُ: يا رسول الله، إذًا يحلف ويذهب بمالي! فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} إلى آخر الآية [آل عمران: 77]؛ رواه أبو داود. ولقد ظل هذا الوضع قائمًا في بلاد الإسلام إلى يوم الناس هذا؛ فقد عاش في ديار المسلمين اليهود والنصارى وغيرهم من أتباع الملل الأخرى، في ظلٍّ من الأمن والعدل والتسامح قلما يتوافر مثله، وما التصفيات العرقية والدينية التي تشهدها بعض البلاد إلا دليل على قيمة ما قدَّمه الإسلام للرعايا من غير أتباعه، وعلى العكس من ذلك؛ فقد عانى المسلمون الويلات من جراء حروب التصفية الدينية والعرقية، أشهرها: ما حدث في الأندلس على يد محاكم التفتيش، التي لم توفِّر حتى المخالف لها من أتباع الديانة النصرانية، ناهيك عن اليهود وغيرهم، الذين وجدوا بعد ذلك الملاذ الآمن في البلاد الإسلامية الأخرى.
|
#4
|
||||
|
||||
![]() التسامح مظاهره وآثاره لقد كتب الله - سبحانه - أن يكون الإسلام هو الدين الخالد حتى يرِث الأرض ومن عليها، كما كتب أن يكون هو الدين الذي يجب على كل البشر أن يعتنقوه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]. كما أمر الله المسلمين بالدعوة إليه بالحسنى، وأخْذ الجزية ممن لم يقبل الدخول في الإسلام، لا قصدًا للمال ذاته، وإنما لتتهيَّأ القلوب لقَبول الإسلام، ولتشملهم أحكامه السَّمحة، فإذا ما تذوَّقوها، كان ذلك عاملاً قويًّا في قبولهم له، ودخولهم فيه، وإن لم يكن ذلك كانت المرتبة الأخيرة وهي القتال؛ حمايةً للدعوة الإسلامية، وإزاحةً للعراقيل التي تعوق مسيرتها. فللموضوع أهمية كبرى لحاجة المسلمين إلى العمل بهذا الخُلق الذي له أكبر الأثر على وحدتهم وتماسُكهم، وقلة النزاع بينهم، وكذلك الحاجة إلى تصحيح موقف فئة من المسلمين في هذا الموضوع؛ إما إفراطًا في جانب العلاقات مع غير المسلمين، حتى يرى المقاطعة التامة لهم، وإما تفريطًا؛ حتى يرى البعض مساواتهم بالمسلمين، وأيضًا الحاجة إلى تصحيح ما لدى غير المسلمين من فَهم خاطئ في تعامل الإسلام مع غير المسلمين، ومعرفة ضوابط ذلك. فالتسامح في اللغة أصلها: "سمح"، فالسين والميم والحاء أصلٌ يدلُّ على سلاسة وسهولة. والسماحة والسماح: الجود، سمح به؛ أي: جاد به، وسمح لي: أعطاني، فالمسامحة: المساهلة. وفي الاصطلاح يمكن أن يقال: هو ما تميَّز به الإسلام في تعامله من بذل ما لا يجب تفضُّلاً[1]، من لين وسهولة، وكرم وجُود وعطاء، ورفع مشقة، والقيام بالعدل معهم. مظاهر التسامح في العبادات: التيسير والتسهيل أصل في الإسلام، ولا شك إذا كان ذلك في حق الله المبني على المسامحة، ومظاهر ذلك: 1- قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: 43]. يتيمَّم مريد الصلاة إذا كان مريضًا مرضًا يتعذَّر معه استعمال الماء، أو يضر الجرح، أو يؤدي إلى بطء الشفاء، أو كان مسافرًا في صحراء أو غيرها على الطرقات العامة، وتعذر استعمال الماء؛ لفقْده أو لمشقة السفر؛ سواء أكان المريض أم المسافر محدثًا حدثًا أصغر، أم حدثًا أكبر، فيكون التيمم جائزًا بدلاً عن الوضوء أو الغسل لأعذار ثلاثة: السفر، والمرض، وفقْد الماء، وهذا مظهر من مظاهر التسامح والتيسير في أداء الصلاة، ودليل على أن الإسلام يدفع الحرج والمشقة عن الناس؛ لذا ختَم الله تعالى الآية بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: 43]. يعفو حيث سهَّل الصلاة للمعذور من دون وضوء ولا غُسل، والله يقبل العفو - أي: السهل - ويغفر الذنب - أي يستر عقوبته - فلا يعاقب المصلحين التائبين، ومن كان عفوًّا غفورًا، آثَر التسهيل ولم يُشدد؛ لأن الله رؤوف رحيم بعباده. 2- قال تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184] رخَّص الله للمسافر الفطر في السفر وهو أقوى على الصوم من المريض، وهذا من يُسر وسماحة الإسلام. 3- قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 119]. فمتى وقعت الضرورة بأن لم يوجد من الطعام عند شدة الجوع إلا المحرَّم، زال التحريم، وهذه قاعدة عامة في يُسر الشريعة الإسلامية، الضرورة تُقدَّر بقدرها، فيُباح للمضطر ما تزول به الضرورة. 4- قال تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]. من يسر الشريعة أن المُحرم لما احتاج إلى ترفه بفعْل بعض محظورات الإحرام[2]، فله ذلك؛ كحلق الشعر، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، ولكن عليه الفدية، وهي *** شاة أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، فيخيَّر بين هذه الثلاث، وهذا من رحمة الله بعباده. 5- قال تعالى: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ﴾ [النساء: 101]. أجمع العلماء - رحمهم الله تعالى - أنه لا يقصر في السفر إلا الصلاة الرباعية؛ الظهر، والعصر، والعشاء، واتَّفق الفقهاء على أن المغرب والفجر لا تُقصران، يؤخذ من هذا يُسر الشريعة وسماحتها. 6- قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145]. عن عكرمة قال[3]: لولا هذه الآية: ﴿ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ﴾، لاتبع المسلمون من العروق ما تتبَّع منه اليهود، وفي ذلك عسر يأباه يُسر الشريعة السمحة, فلا جناح في أكل اللحم المذكَّى مع وجود بقايا الدم فيه؛ لأن ذلك معفوٌّ عنه شرعًا. 7- ومن يسر الشريعة التدرُّج في التشريع والتمهيد له، وتخفيف بعض الأحكام بالنسخ ونحوه؛ كما في تحريم الخمر. 8- عن عبدالله بن بُحينة - رضي الله عنه - أنه قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته، سجد سجدتين، ثم سلَّم بعد ذلك"[4]. من رحمة الله بعباده أن شرع لهم ما يَجبرون به النقص الذي يقع في عباداتهم، ومن ذلك مشروعية سجود السهو، فهو من يسر الشريعة وسماحتها، وله أحكام كثيرة أخذها العلماء من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية[5]. 9- عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أيها الناس، قد فرض عليكم الحج، فحجوا))، فقال رجل: "أكل عام يا رسول الله؟"، فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو قلت: نعم، لوجَبت، ولما استطعتم))[6]. الحج لا يجب في العمر إلا مرةً واحدةً، وهذا من يُسر الشريعة وسماحتها؛ إذ لو كان الحج كل عام، لشقَّ على العباد، ولَما استطاعوا ذلك بلفظ رسول الله: ((لو قلت: نعم، لوجَبت، ولَما استطعتُم)). 10- عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّي عليكم، فأكمِلوا عدة شعبان ثلاثين))[7]. النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم بالرؤية لا بالحساب، والرؤية يدركها الخاص والعام، والجاهل والعالم، وهذا يدل على يُسر الشريعة وسماحتها. مظاهر التسامح في المعاملات: الإسلام حث على المسامحة ورتَّب عليها الثواب وحُسن المآب، ومظاهر ذلك في: 1- قال تعالى: ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178]. كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدِّية، وكان في النصارى الدِّية، ولم يكن فيهم القصاص، فأكرم الله هذه الأمة المحمدية وخيرها بين (القصاص، والدِّية، والعفو)، وهذا من يُسر الشريعة الغراء التي جاء بها سيد الأنبياء. 2 - قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40]. الآيات صريحة في معاملات الناس بعضهم مع بعض، فحمَل السيئات على ما يسوء من معاملة الناس، ثم نادى بالعفو ورغَّب فيه بأنَّ لمن يعفو الأجر والمثوبة. 3- قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]. أخبر الله - سبحانه - أن ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ ﴾،فعليه غضبٌ من الله، وله عذاب عظيمٌ، فأما مَن أُكره، فتكلَّم بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان؛ لينجو بذلك من عدوِّه، فلا حرج عليه؛ لأن الله - سبحانه - إنما يؤاخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم. 4- قال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 237]. أي: إذا طلقتم النساء قبل المسيس، وبعد فرْض المهر، فللمطلقات من المهر المفروض نصفه، ولكم نصفه، هذا هو الواجب ما لم يدخله عفو ومسامحة، بأن تعفو عن نصفها لزوجها، ورغَّب في العفو، وأنَّ مَن عفا، كان أقرب لتقواه؛ لكونه إحسانًا موجبًا لشرح الصدر، والتسامح في الحقوق، والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة، ولو في بعض الأوقات، وخصوصًا لمن بينك وبينه معاملة أو مخالطة، فإن الله مجازي المحسنين بالفضل. 5- قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]. وصى لقمان ابنه بالأدب في معاملة الناس، فنهاه عن احتقار الناس، وعن التفاخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس، وعدِّ نفسه كواحد منهم، وهذا من مظاهر التسامح والتواضع في الإسلام. 6- عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق؛ حتى يُخيِّره من أي الحور العين شاء))[8]. كظم الغيظ ليس بالهيِّن، بل هو أمر عظيم لا يستطيع عليه إلا العظماء الذين تتوفَّر فيهم صفات العفو والسماحة؛ فلذلك كان الجزاء من *** العمل، فالإسلام مظهره هو التسامح والعفو، فهو عظيم. 7- قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]. وهذه الآية واضحة جلية في التسامح والعفو، بل الإحسان، إنه دين عظيم! |
#5
|
||||
|
||||
![]() التسامح مع الأديان الأخرى: [1] التعريفات؛ للجرجاني (1/ 160).ضوابط تسامح المسلمين مع غيرهم: أولاً: ضوابط تجاه الدين الإسلامي: أ- منجهةالعقيدة: لا يُتصوَّر أن يُقبل من شخص ينتمي إلى دولة وعقيدة الإسلام، أن ينتقص دين هذه الدولة، أو يشكك فيها؛ سواء في الذات الإلهية، أو في رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أو ما جاء به من أحكام وشرائع، فالله - عز وجل - يقول: ﴿ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ [التوبة: 12]، فلا يجوز الدعوة إلى غير عقيدتنا الإسلامية، فالكفار في دولة الإسلام يُمنعون من إظهار عقيدتهم، فكيف بالدعوة إلى غيرها؟! وإن ذلك واضح في محاربة الدعوة الإسلامية؛ ولذلك جعل عمر - رضي الله عنه - من الشروط التي اشترطها مع نصارى الشام ألا يُظهروا شركًا. الدعوة إلى هذه الأديان الباطلة، لا شكَّ أنها من أعظم الانتقاص لله ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولدينه. ب- ضوابط تجاه شريعة الإسلام: من جانب: 1- المعاملات المدنية: إن أهل الذمة يُلزمون بالخضوع في أمور التعاملات مع المسلمين وفيما بينهم بحكم الإسلام الذي به ينعم الجميع بالعدالة والأمان؛ قال تعالى: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[المائدة: 42]. بيَّنت الآية أن أهل الذمة يحكمون بحكم الإسلام في الجملة، وهذا مقتضى انضمامهم إلى دولة الإسلام. 2- الأحكام الجنائية: هذه الشريعة السمحة إقليمية التطبيق، فهي تطبَّق في دولة الإسلام على مَن رضِي الإقامة بها؛ سواء ممن آمَن بالإسلام، أم لم يؤمن به؛ حتى يعمَّ الأمن والاستقرار في ربوعها، فلا تطبَّق على فئة دون الأخرى، وعلى هذا فالقانون الجنائي الإسلامي يطبق على جميع الجرائم التي تقع في دار الإسلام، بغض النظر عن ديانة مرتكبها. ثانيًا:ضوابط تجاه المسلمين: أ- عدم مجاهرتهم بمنكرهم: الإسلام دين سماحة وحرية وتيسير، فلا يقبل أن يكون هذا التسامح والتيسير ضارًّا بدعوته؛ كل ذلك حفاظًا على أهل ملَّته، ورِفعة لمنهجه، فلو أظهر أحد أهل الذمة شيئًا من منكراتهم بين المسلمين، لعُدَّ ذلك استخفافًا بالمسلمين ودينهم، أما ما يعتقدون حُرمته، وهو حرام في ديننا، فإنهم يمنعون منه حتى في أماكنهم الخاصة كتحريم الربا؛ قال تعالى: ﴿ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ﴾ [النساء: 161]. ويلحق بذلك ما يراه المسلمون منكرًا ويرونه أمرًا تعبُّديًّا، فلربما يتأثر بهذه المجاهرة بعض المسلمين، خاصةً ضعيفي العلم والتديُّن، أو على الأقل زعزعة ما لديهم من مبادئ وثوابت. ب- اجتناب ما فيه ضرر على المسلمين: سواء كان ضررًا أمنيًّا - فالذي يجب على الذمي أن يبتعد عن كل ما يضر بالأمور الأمنية للمسلمين الذين منحوا أهل الذمة الجوار، وقاموا بما يجب عليهم في هذا الجوار من التعامل الحسن - أم من الأضرار الأخرى، فلا يتعدَّى أحد منهم على مسلم ولا العكس، وعدَّ بعضُ أهل العلم الضرر في غش المسلمين، وفتنة المسلم عن دينه، والإيذاء البدني والمالي لأي مسلم، والإيذاء النفسي - كسخرية أو سبٍّ، أو قذفٍ أو إهانة، وأيضًا التعدي على نساء المسلمين بزنا أو قذفٍ - فهذه الأمور كلها واضح ضررها على المسلم. ج- الالتزامات المالية: كالجزية والخراج والعشور: فالجزية: هي ضريبة مالية تُفرض على رؤوس أهل الذمة كل عام بشروط مخصوصة، أما الخراج: هو ما وضع على رقاب الأرضين من حقوق تؤدَّى عنها. والعشور: ضريبة تجارية تُفرض على أموال المسلمين والذميين والمستأمنين المعدة للتجارة، ومما يميز العشور عن الجزية أو الخراج، أنها تؤخذ من الذميين والمستأمنين بخلاف الجزية والخراج، فهما مختصان بالذميين. صُوَر من تسامح المسلمين مع غيرهم: • عهد النبي لبني زرعة وبني الربعة من جهينة أن الرسول كتَب لبني زرعة وبني الربعة من جهينة: ((أنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وأن لهم النصر على مَن ظلمهم أو حاربهم، إلا في الدين والأهل، ولأهل باديتهم - من بَرَّ منهم واتقى - ما لحاضرتهم))[9]، هذا أنموذج من سماحة المسلمين مع غيرهم، والتعايش السلمي والأمن والمناصرة. • في وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل الذمة، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة))[10]. • مرَّ عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخًا كبيرًا ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن؟ قال: فأخذه عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: "انظر هذا وضُرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته، ثم نَخذله عند الهرَم". • سماحة السلطان العثماني محمد الفاتح مع نصارى القسطنطينية حينما فتحها، فأعلن أنه ضمن لهم حرية تديُّنهم وحِفْظ أملاكهم، فرجع من النصارى من كان مهاجرًا منهم[11]. آثار التسامح النفسية: التسامح له أثر عظيم على الفرد؛ من سلامة الصدر، والمحبة، والتعاون، والإخاء، وله فوائد صحية، وشاهد ذلك ولاحَظ أثره علماء الطب السلوكي، قال بعضهم: إذا أردت أن تُقلل من ضغط دمك، وأن تخفِّف التوتر في حياتك، فعليك بالصفح والتسامح مع الآخرين، وهذه دراسة أخرى أقيمت في جامعة تينيسي الأمريكية - لتحديد آثار التسامح على صحة الإنسان - على دراسة 107 من طلاب الجامعات المختلفة، ملؤوا استبيانات حول مناسبتين شعروا فيهما بالخداع والخيانة، بحيث تم قياس معدل ضربات القلب، وضغط الدم، والتوتر في عضلة الجبهة، وشدة التعرُّق. ووجد الباحثون أن 20 طالبًا ممن اعتبروا متهورين وغير متسامحين، أظهروا ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات ضغط الدم، وزيادةً في التوتر العضلي في الجبهة، مقارنةً بالعشرين الآخرين الذين اعتبروا الأكثر تسامحًا. وأشار الخبراء إلى ضرورة عدم إساءة فَهم المعاني السامية للصفح والتسامح، فهو ليس نسيان ما حدث أو التغاضي عنه أو الإذعان، بل هو التخلي عن المشاعر السلبية بصورة وديَّة ومتابعة الحياة، مشيرين إلى أن هذه الدراسة تضيف إثباتًا جديدًا على أن للمشاعر السلبية تأثيرات ضارةً على الصحة العامة. ويقول علماء النفس: إن التسامح عبارة عن إستراتيجية تحمُّل تسمح للشخص بإطلاق مشاعره السلبية الناتجة عن غضبه من الآخرين بطريقة ودية. وله آثار على شخصية الفرد؛ حيث يزيد من تقدير الذات، وقوة الشخصية، ويملأ علاقته بالآخرين بالمحبة والجود والسخاء، ويرسم على مُحيَّاه البشاشة والابتسامة، ويكفي بها حصول محبة الله؛ قال تعالى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]. فالتسامح لغة إسلامية أصيلة، ومعنًى أخلاقي شرَعه الإسلام، وحث عليه قبل أن تولد فلسفة التسامح الغربي. آثار التسامح الاجتماعية: التسامح من أعظم قِيَم التعايش؛ بحيث يتسامح الإنسان ويتغاضى، وتَسامح، يُتَسامح معك، فإنه سيكون يومًا ما هو أيضًا بحاجة إلى أن يتسامح الناس معه. قال السيد أبو داود في مقال له[12]: التسامح يزيل سرطان الكراهية من نفوس الناس، ويقدم لهم الدليل أيضًا على أن العظماء من الأنبياء والمصلحين والمؤمنين، ذاقوا المر من أجل التسامح، ودعوا إلى نبذ التعصب وال*** الذي يعمي العقول قبل العيون، ويولد المشاعر السلبية تجاه أبناء البشرية عمومًا، ثم ينتهي إلى نبذ الآخر ولو كان من نفس الدين، وإن اختلف معه في المذهب، وعلينا نحن البشر أن نتحلى بروح التسامح الذي هو التصالح مع الأحقاد الدفينة، فالتسامح هو فعل من مجنيٍّ عليه تُجاه الجاني، وأساسه التحول من موقف سلبي إلى موقف إيجابي. الأسلوب السلمي ومبدأ العفو والتسامح، يؤصلان المحبة والمودة والتواصل الدائم بين المجتمع، بعكس القسوة والغلظة، فإنها تزيد من بث الشحناء والنفرة في المجتمع، وت*** التواصل والألفة والمحبَّة، هذا المبدأ مهم جدًّا في مسألة صلة الرحم؛ ذكر الشيخ سلمان العودة في مقالة له عن صلة الرحم[13]: "نتجاوز قليلاً الأسرة الضيقة ونحن نتكلم عن التسامح، وهو مبدأ كبير جدًّا، والمستفيد الأكبر هو المتسامح، وكثير من الناس يفضلون ألاّ يتسامحوا بسرعة، وأن يأخذ التسامح وقتًا، بل بعض الناس لا يتسامح إلا بعدما يشعر بقرب الأجل، فكان بعض الناس بينهم خصومة وصلت إلى حد ضجة إعلامية، وعندما مرض هذا الإنسان وشعر بقرب الأجل، أوصى أن يأتي فلان، واعتذر له قبل أن يموت بثلاثة أيام!! لماذا لا نقدم التسامح في وقت مبكر؟! أحيانًا كثير من الحالات من التسامح أن تتكيف معها، لا أن تصنع معها مشكلة". فالتسامح قيمة عظيمة جاء بها هذا الدين القويم من ربٍّ عليم حكيم، فهذا الخلق مزكٍّ للنفوس، مطهِّر للقلوب من أدران الخسائس، يساعد المجتمع على التكاتف والتكافل، وهكذا دين الإسلام، رحمة بالبشرية رأفة بهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]. حيث راعى الله فيه النفوس، وما جبَل عليه الخلْق، فجعل تكاليفه غير زائدة على قدرتهم، بل إنه من أجل ما يحمله من عناصر البقاء والعموم لجميع البشرية، ترَك الآصار والأغلال التي ضربها على بني إسرائيل جزاءَ ظُلمهم وعدوانهم. فحري بنا نحن - معاشر المسلمين - أن نتخلَّق بهذا الخلق السامي الحضاري. هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. [2] شرح سنن أبي داود) 121 - 240)؛ لعبدالمحسن العباد: (9/ 484). [3] الدر المنثور في تفسير المأثور: (6/ 263(. [4] رواه البخاري) 1225(. [5] شرح سنن أبي داود (121 - 240)؛ لعبدالمحسن العباد: (6/ 204). [6] رواه مسلم (1337). [7] رواه البخاري (1909)، ومسلم (1080). [8] رواه أحمد (3/ 440)، وأبو داود (4777)، والترمذي (2021، 2493)، وابن ماجه (4186)، من حديث سعيد بن أبي أيوب، وقال الترمذي: حسن غريب. [9] أورده ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 274 - 275). [10] أخرجه أبو داود (3052)، والبيهقي (2950)، قال السخاوي: وسنده لا بأس به. المقاصد الحسنة (1: 617)، وصححه الألباني؛ انظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1: 185) رقم الحديث (446). [11] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية (1/ 165). [12] موقع المسلم التربوي، مقال بعنوان: "الصفح والتسامح، وأثرهما الإيجابي على نفسية المؤمن"؛ للسيد أبي داود. [13] موقع الإسلام اليوم، مقال بعنوان: "مقترحات معاصرة لتفعيل صلة الرحم"؛ للشيخ سلمان العودة. |
#6
|
||||
|
||||
![]() التسامح وإذكاء الروح الإيجابية فضل محمد البرح عندَ حديثنا عن التسامُح، يُتناول أصحابُ المشْرَب المتحد، والمنبع الصافي، وكانت كثيرٌ من القواسم المشتركة تجمعُهم مِن الأُخوَّة، والانتماء لهذا الدِّين والعمل لنهضته، ونحو ذلك، فأثرُ المعوقات داخلَ الصفِّ أبلغُ في التأثير على المجتمع، ومسيرة الصَّحْوة، والعمل الإسلاميّ. فلا يُطلب التسامحُ في جانب التصوُّرات والعقائد تُجاهَ البعيد، بقدر ما هو مُلِحٌّ في جانب المعاملات والسُّلوك نحو القريب، فيُقرَّر على مفهوم الدِّين والحنيفيَّة السمحاء، وما استقاه الجيل الأوَّل، دون التجاوز الشرعيِّ فيه أو التنكُّر له، فيتجرَّد عن الإملاءات من الغَيْر وضغوطاته، وما تقتضيه المصالِح الخاصَّة لزُمرة من البشر بمنأًى عن مصالِح الأمَّة، غير ذلك لا يعدو أن يكون مناقضًا للواقع، فيؤثِّر سلبًا، ويُثير حفيظةَ الكثيرين، ممَّا ينتج عنه ردودُ أفعال غير مدروسة، ويكون الواقع مكلومًا بالجِراح. حينما نريد أن نُشيعَ مفهومَ التسامح الإيجابي، فلنجعلْ له من أنفسنا منطلقًا، وبين مجتمعنا مَدخلاً، وبين قادتنا وعلمائِنا نبراسًا، وفي أعمالنا وتصرُّفاتنا مبرهنًا، علينا أن نتركَ أعمالَنا تتحدَّث نيابةً عنَّا، وأن نرتقيَ بذواتنا، ونتخلَّص من أنانيتنا. فأنَّى لنا استيعابُ مفهوم التسامُح المأمول، ونحن لم نزرعْه فينا، ولم يَنْمُ في محيطنا؛ حيث لم نرَ إلاَّ الإقصاء للغير، والإلغاء لِمَن نختلف معه، والإبعاد لِمَن أظهر نصحَه، سواء في ميدان البيت والأسرة، أو ميدان الدعوة والعِلم والتربية، أو ميدان القيادة والعمل، وميدان الكلمة والحوار والفِكر؟! في حين أنَّ التلاحم والنجاح في هذه الميادين مرهونٌ بالتسامح والتطاوع والسمو، والتخلُّص من القيود والأغلال الناتجة عن ركونِ الإنسان إلى أصْل خلقتِه ومادته الأولى من الطِّين، في حين تجذبه وتشدُّه إلى أسفل، فيصدر منه ما لا يليق. الحديثُ له حاجتُه الماسة لا سيَّما في هذا العصر المليء بالمكدِّرات، ووجود المعكِّرين لصفوِ ساحة العمل، وميادين العلاقات، حيث لم تسرِ في الأرواح السماحةُ والمُطاوَعَةُ في مدِّ جُسور الشراكة والتعاون، وإذْكاء الرُّوح الإيجابيَّة لشركاء البيت والعمل. ويكتسب الحديثُ عن هذا الخُلق أهميةً خاصَّةً في ظلِّ غياب التلاحم الأُسَري والأخوي، فكم من أُسَرٍ تفككت، وعلاقاتٍ تقطَّعت أواصرها، وتحوَّلت المحبة إلى عداوة، وأضحت الشراكة في العمل الدعوي والدنيوي متشرذمةً ومتمزقةً! وكم من مشروعات وأفكار أُجهِضَت؛ بل وانفرط عقدُ كثير من الكيانات والمؤسَّسات! وكان لضعف خُلُق التسامح والتطاوع حظٌّ وافر من ذلك. فالمرء حينما يتَّصل بمَن حوله بنفس زكية واسعة، ويكون هيِّنًا لينًا، ويتجاوز حظوظَ نفسه، ويُسيِّر الأمورَ بتيسير وملاينة - فقد جعل من نفسه ظرفًا لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((ألاَ أُخبِركم بمَن يَحرُم على النار، أو تَحرُم النار عليه، على كلِّ قريبٍ هيِّن سهْل))، وأذكى في نفسه الرُّوح الإيجابيَّة. فالقلوب لن تُفتح إلاَّ عندما نكون ظرفًا لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((اللهمَّ اهْدِ دوسًا وأْتِ بهم مسلمين))، وقوله: ((اذهبوا فأنتم الطُّلقاء))، وقوله: ((اللهمَّ اغفِرْ لقومي، فإنَّهم لا يعلمون)). والدعوة لن تأخذَ مسارَها، وتتمكَّن من الدخول إلى بيت المدر والحجر؛ ما لم تكن سِير الأعلام والأئمَّة ظرفًا لنا في دعوتنا. فعندما نعيش قصَّة الإمام أحمد - رحمه الله - في عهد المعتصم، بعد أن لَقِيَ ما لقي من الضَّرْب والجَلْد، حتى قال بعضهم: لو جُلِد جملٌ كما جُلِد الإمام أحمد لمات – تجده لا يدور حولَ نفسه وذاته؛ بل أخذ يقول: "مَن ذَكَرني فهو في حِلٍّ، وقد جعلتُ أبا إسحاق - المعتصم - في حِلٍّ، ورأيتُ الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، وما ينفع أن يُعذِّب الله أخاك المسلِم في سبيلك". وقصَّة شيْخ الإسلام ابن تيمية مع ألدِّ أعدائه - ابن مخلوف - لَمَّا مات جاءه تلميذُه ابن القيم يُبشِّره بموته، فنهَرَه وتنكَّر له واسترجع، ثم قام إلى بيْت أهله، فعزَّاهم ودَعَا لهم، وقال: أنا لكم مكان أبيكم، وما يكون لكم مِن أمرٍ تحتاجون فيه إلى مساعدة إلاَّ ساعدتكم فيه، فَسُرُّوا واستبشروا، ووعدوا خيرًا. ولن تهبَّ رياحُ النصر على المسلمين اليومَ في شتَّى ميادينهم - لا سيَّما ميدان القيادة والعمل - ما لم يكونوا ظرفًا لمواقفِ أصحاب النُّفوس الكبيرة، منهم أبو عُبيدة عندَ تولِّيه الإمارة، وعزلِ خالد بخِطابٍ من أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنهم أجمعين - فكَتَم أبو عبيدة الخبرَ عشرين ليلة، فيأتيه خالد - وقد عَلِم الخبر من غير أبي عُبيدة - قائلاً: يرحمك الله، ما منعك أن تُعلِّمني حينَ جاءك؟ فيأتي الجواب من أبي عبيدة - الهيِّن السهل -: "إني كرهتُ أن أكْسِر عليك حربك، وما سلطان الدنيا أُريد، وما ترى سيَصير إلى زوالٍ وانقطاع، وإنَّما نحن إخوة، وما يضرُّ الرَّجلَ أن يليَه أخوه في دِينه أو دنياه". أيُّ مشاعر كانت تغمر خالدًا وهو يرى هذا النورَ يتدفَّق من فم أبي عبيدة، وهو يرى هذا التسامحَ، وهذا الخُلق العالي، الذي لم يجعل لنفسه حظًّا؟! وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا ---- تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ إضفاء خُلق التسامُح على النفس وإصباغها به كفيلٌ بتعزيز أواصرِ الأخوة، والتلاحم الأُسريِّ، واستمرارية كثيرٍ من الأعمال ودوامها، وحصول الثمرة المرجوَّة، وتكون الأمور كلُّها على قَدْر من اليُسر والسهولة. والنأيُ عن هذا الخُلُق الرفيع يُشكِّل خطرًا على السلوك والأعمال، وتعصِف بهما رياحُ الجدل والانتقام للنفس وحبِّ الذات، ويتشتت عِشُّ الحياة الأُسريَّة، وتنطفئ شمعتُها، ويكون مطيةً لإجهاض كثيرٍ من المشروعات النهضويَّة للأمَّة.
|
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|