اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > القسم الإداري > أرشيف المنتدى

أرشيف المنتدى هنا نقل الموضوعات المكررة والروابط التى لا تعمل

 
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #3  
قديم 10-05-2015, 12:40 AM
الصورة الرمزية ابو وليد البحيرى
ابو وليد البحيرى ابو وليد البحيرى غير متواجد حالياً
عضو لامع
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
العمر: 61
المشاركات: 4,132
معدل تقييم المستوى: 15
ابو وليد البحيرى will become famous soon enough
افتراضي

لماذا ندرس الفتنة الكبرى؟
موقع قصة الإسلام

م*** عثمان
مقدمة
في يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة سنة 35 من الهجرة يصبح عثمان بن عفان - رضي الله عنه - صائمًا، ويحاول الصحابة - رضي الله عنهم - إيصال الماء إليه، لكنهم لا يستطيعون، ويأتي وقت المغرب دون أن يجد - رضي الله عنه - شيئًا يفطر عليه لا هو، ولا أهل بيته، ويكمل بقية الليل دون أن يفطر، وفي وقت السحر استطاعت زوجته السيدة نائلة بنت الفرافصة أن تحصل على بعض الماء من البيت المجاور خفية، ولما أعطته الماء، وقالت له: أفطر، نظر - رضي الله عنه - من النافذة، فوجد الفجر قد لاح، فقال: إني نذرت أن أصبح صائمًا.
فقالت السيدة نائلة: ومن أين أكلتَ، ولم أرَ أحدًا أتاك بطعام ولا شراب؟
فقال - رضي الله عنه -: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اطّلع عليّ من هذا السقف، ومعه دلو من ماء، فقال: اشرب يا عثمان. فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد. فشربت حتى نهلت، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لعثمان - رضي الله عنه -: أما إن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا. فاختار - رضي الله عنه - لقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشوقه إليه، ولِيَقِينِهِ بأنه سوف يلقى الله شهيدًا ببشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له من قبل.
في صباح هذا اليوم الجمعة 18 من ذي الحجة سنة 35 هـ، يدخل كثير بن الصلت أحد صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول له:
يا أمير المؤمنين، اخرج فاجلس في الفناء- أي فناء البيت- فيرى الناس وجهك، فإنك إن فعلت ارتدعوا.
وذلك لهيبته - رضي الله عنه -، فقد كان عمره - رضي الله عنه - أكثر من اثنين وثمانين سنة.
فقال عثمان - رضي الله عنه -: يا كثير رأيت البارحة، وكأني دخلت على نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنده أبو بكر، وعمر فقال: ارجع، فإنك مفطر عندي غدًا.
ثم قال عثمان - رضي الله عنه -: ولن تغيب الشمس هذا اليوم، والله إلا وأنا من أهل الآخرة.
وخرج كثير بن الصلت - رضي الله عنه - بأمر عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وأمر عثمان - رضي الله عنه - بالسراويل أن تُعدّ له؛ لكي يلبسها، وكان من عادته - رضي الله عنه - ألا يلبسها في جاهلية، ولا إسلام، وقد لبسها رضي الله عنه؛ لأنه خشي إن قُتل أن يتكشف، وهو - رضي الله عنه - شديد الحياء، فلبس السراويل، ووضع المصحف بين يديه، وأخذ يقرأ في كتاب الله.
ودخل عليه أبناء الصحابة للمرة الأخيرة، وطلبوا منه أن يسمح لهم بالدفاع عنه، فأقسم عثمان - رضي الله عنه - على كل من له عليه حق أن يكفّ يده، وأن ينطلق إلى منزله، ثم قال لغلمانه: من أغمد سيفه فهو حرّ، فأعتق بذلك غلمانه، وقال - رضي الله عنه - أنه يريد أن يأخذ موقف ابن آدم الذي قال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 28، 29]. فكان آخر الناس خروجًا من عند عثمان - رضي الله عنه - هو الحسن بن علي -رضي الله عنهما-.
استشهاد عثمان -رضي الله عنه-
وصلى عثمان - رضي الله عنه - صلاة نافلةٍ ختم فيها سورة طه، ثم جلس بعد ذلك يقرأ في المصحف.
في هذا الوقت كان أهل الفتنة يفكرون بشكل حاسم، وسريع في *** عثمان - رضي الله عنه -، خاصة مع علمهم باقتراب الجيوش الإسلامية المناصرة للخليفة - رضي الله عنه - من المدينة المنورة.
فدخل رجل يُسمى كنانة بن بشر التجيبي، وكان من رؤوس الفتنة بشعلة من نار، وحرق بابَ بيتِ عثمان - رضي الله عنه -، ودخل ومعه بعض رجال الفتنة، ثم دخل رجل آخر يسمونه الموت الأسود، قيل إنه عبد الله بن سبأ وقيل غيره، فخنق عثمان بن عفان - رضي الله عنه - خنقًا شديدًا حتى ظن أنه مات، فتركه، وانصرف، ودخل بعد ذلك محمد بن أبي بكر الصديق، وكما ذكرنا أنه كان الوحيد من الصحابة الذي شارك في هذه الفتنة في هذا الوقت، فدخل عليه، وكان يظنه قد مات، فوجده حيًّا فقال له:
على أي دين أنت يا نعثل؟!.
ونعثل هذه سُبّة تُقال للشيخ الأحمق، وللظبي كثير الشعر، فقال عثمان - رضي الله عنه - وأرضاه: على دين الإسلام، ولست بنعثل، ولكني أمير المؤمنين.
فقال: غيّرت كتابَ الله.
فقال عثمان - رضي الله عنه -: كتاب الله بيني وبينكم.
فتقدم إليه، وأخذ بلحيته وهزّه منها وقال: إنا لا نقبل أن نكون يوم القيامة مما يقول: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب: 67].
فإلى هذه اللحظة، ومحمد بن أبي بكر الصديق، وبعض أفراد الفتنة يظنون أنهم يفعلون الخير ب***هم، أو خلعهم لعثمان - رضي الله عنه -، فهو يحاول ال*** أو الخلع للخليفة طاعة لله، ونجاة من النار، وهذا بلا شك من تلبيس إبليس عليهم.
فقال عثمان - رضي الله عنه -: يا ابن أخي إنك أمسكت لحية كان أبوك يكرمها.
فلما قال له عثمان - رضي الله عنه - ذلك وضحت الحقيقة فجأةً أمام محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وكأن عثمان - رضي الله عنه - أزال بهذه الكلمات غشاوة كانت تحجب الحق والصواب عن قلب محمد بن أبي بكر، وتذكر تاريخ عثمان - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع أبيه الصديق - رضي الله عنه -، ومع المسلمين، فاستحيا محمد بن أبي بكر - رضي الله عنهما -، وخارت يده من على لحية عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وبكى، ثم وقف، وتركه، وانصرف، فوجد القوم يدخلون على عثمان - رضي الله عنه -، فأمسك سيفه، وبدأ يدافع عن عثمان - رضي الله عنه -، ولكنهم غلبوه فلم يستطع أن يمنعهم، ويشهد بذلك السيدة نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان - رضي الله عنه -.
ثم دخل على عثمان - رضي الله عنه - كنانة بن بشر الملعون، وحمل السيف، وضربه به، فاتّقاه عثمان - رضي الله عنه - بيده فقطع يده، فقال عثمان - رضي الله عنه - عندما ضُرب هذه الضربه: بسم الله، توكلت على الله.
فتقطرت الدماء من يده، فقال: إنها أول يد كتبت المفصل.
ثم قال: سبحان الله العظيم.
وتقاطر الدم على المصحف، وتثبت جميع الروايات أن هذه الدماء سقطت على كلمة (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة: 137].
بعد ذلك حمل عليه كنانة بن بشر وضربه بعمود على رأسه، فخرّ - رضي الله عنه - على جنبه، وهمّ كنانة الملعون بالسيف ليضربه في صدره، فانطلقت السيدة نائلة بنت الفرافصة تدافع عن زوجها، ووضعت يدها لتحمى زوجها من السيف فقُطعت بعض أصابعها بجزء من كفها، ووقعت السيدة نائلة - رضي الله عنها -.
وطعن كنانةُ عثمانَ - رضي الله عنه - في صدره، ثم قام سودان بن حمران بحمل السيف، وطعن عثمان - رضي الله عنه - في بطنه فمال - رضي الله عنه - إلى الأرض فقفز على بطنه، واتّكأ على السيف بجسده ليتأكد من اختراق السيف لجسد عثمان - رضي الله عنه -، ومات - رضي الله عنه - وأرضاه بعد هذه الضربة.
ثم قفز عليه عمرو بن الحمق، وطعنه في صدره تسع طعنات، وقال: هذه الثلاثة الأولى لله، وهذه الست لشيء في نفسي.
استشهد ذو النورين عثمان - رضي الله عنه - وأرضاه زوج ابنتي الرسول - صلى الله عليه وسلم-، والمبشَّر بالجنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من موضع، وثالث الخلفاء الراشدين، وقد لَقِيَ بعد استشهاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما وعده بذلك.
بعد أن *** هؤلاء الخوارج المجرمون عثمان - رضي الله عنه - أخذوا ينهبون ما في بيته ويقولون: إذا كان قد أُحلّ لنا دمه، أفلا يحل لنا ماله؟.
وأخذوا كل شيء حتى الأكواب، ولم يتركوا شيئًا، ثم همّوا بعد ذلك أن يقطعوا رأس عثمان - رضي الله عنه -، فصرخت السيدة نائلة، والسيدة أم البنين زوجتاه، وصرخت بناتُه، فقال عبد الرحمن بن عديس، وهو أحد رؤوس الفتنة: اتركوه.
فتركوه، وبينما هم خارجون، قفز غلامٌ لعثمان - رضي الله عنه - على سودان بن حمران أحد ***ة عثمان - رضي الله عنه -، ف***ه، فقام رجل من أهل الفتنة يُسمّى قترة، ف*** الغلام، فقام غلامٌ آخر، و*** قترة، فقام القوم، و***وا الغلام الثاني.
ففي هذا الحدث قُتل عثمان - رضي الله عنه -، واثنين من غلمانه، وقُتل أيضًا بعض الصحابة، وبعض أبنائهم، وجُرح عبد الله بن الزبير، كما جُرح الحسن والحسين - رضي الله عنهم - جميعًا.
ثم توجه هؤلاء الفجرة الخوارج إلى بيت مال المسلمين، وحاولوا أن يأخذوا المال، وهذا يؤكد لنا أنه ما أخرجهم إلا حب الدنيا، فصرخ حراس بيت المال: النجا النجا.
ولكن غلبهم أهل الفتنة، واستطاعوا الاستيلاء على أموال كثيرة من بيت المال، وصاح حفظة بيت المال: والله إنهم قوم يريدون الدنيا، وما أرادوا الإصلاح كما قالوا.
أما الجيوش التي كانت على مشارف المدينة مرسلة من ولاة عثمان، فقد رجعت إلى أمرائها بعد معرفتها بم*** عثمان وتولية عليّ - رضي الله عنه -.
الصحابة بعد م*** سيدنا عثمان
ما هو ردّ فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- تجاه م*** عثمان - رضي الله عنه -؟، هذا الأمر من الأهمية بمكان حيث إنه يُذكر بصورة مشوهة في كتب الشيعة، ويشيرون إلى أن الصحابة - رضي الله عنهم - قد سعدوا بم*** عثمان -رضي الله عنه-؛ لأنه كان مخالفًا لما هم عليه، وكانوا يعارضون استمراره في الحكم، ومثل هذه الأكاذيب والأغاليط.
علم الصحابة - رضي الله عنهم - بهذا الأمر، وعلموا أمرًا آخر عجيبًا، فال***ة بعدما فعلوا هذه الجريمة النكراء، فعلوا كما فعل أصحاب موسى - عليه السلام - لما عبدوا العجل، فقد ندموا على هذا أشد الندم، ويخبر الله - عز وجل - عن أصحاب موسى في كتابه الكريم قال - تعالى -:
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ)
[الأعراف: 149].
فهؤلاء ال***ة بعد أن شاهد كثيرٌ منهم الدماء، وشاهدوا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - طريحًا على الأرض شعروا بجرمهم وبسوء ما فعلوا، فندموا على ذلك، ونُقل إلى الصحابة - رضي الله عنهم - هذا الأمر، فقال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم ترحّم على عثمان، وبلغه أن الذين ***وه ندموا فقال: تبًّا لهم.
ثم تلا قوله - تعالى -: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) [يس: 49، 50].
ولما بلغ عليًا - رضي الله عنه - هذا الخبر، وقيل: كان بحضرة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حينما بلغه هذا الخبر، الحسن، والحسين، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلطمَ الحسينَ، وضرب الحسنَ في صدره، وسبَّ عبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، وقال لهم: كيف يُ***، وهو بين أيديكم؟!.
ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.
ثم قالوا له: إنهم قد ندموا على ما فعلوا.
فقال لهم: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ) [الحشر: 16].
ولما بلغ سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أمْر *** عثمان - رضي الله عنه - استغفر له وترحم عليه، وتلا في حق الذين ***وه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103- 104].
ثم قال سعد: اللهم اندمهم، ثم خذهم.
ودعوته - رضي الله عنه - مستجابه لدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له أن يكون مستجاب الدعوة، واستجاب الله - عز وجل - لدعوته، فقد أقسم بعض السلف بالله: إنه ما مات أحد من ***ةِ عثمان إلا مقتولاً، وتأخر بعض هؤلاء ال***ة إلى زمن الحجاج، وقُتل على يده، ولم يفلت أحد منهم من ال***، وباءوا بشَرَّيْ الدنيا والآخرة.
الخبر يصل إلى الشام
بعد هذه الأحداث أخذت السيدة نائلة بنت الفرافصة - رضي الله عنها - زوجة عثمان - رضي الله عنه -، أخذت القميص الذي قُتل فيه عثمان - رضي الله عنه - وعليه دماؤه، وأصابعها، وكفها التي قُطعت، وهي تدافع عن زوجها، وأعطت كل ذلك للنعمان بن بشير - رضي الله عنه -، وقالت له:
خذهم إلى معاوية بن أبي سفيان فهو وليه.
وحمل النعمان بن بشير - رضي الله عنه - هذه الأمانات إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - بالشام، فلما وصلت هذه الأشياء إلى معاوية - رضي الله عنه - علّقها على المنبر في المسجد، وبكى وأقسم أن ينتقم، وأن يثأر له، ووافقه أهل الشام جميعًا على ذلك، وكان فيهم الكثير من الصحابة، كأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وغيرهم - رضي الله عنهم - جميعًا، وكان أبو الدرداء قاضي الشام، ومن أعلم أهلها، وأفتى - رضي الله عنه - بوجوب أخذ الثأر من ***ة عثمان - رضي الله عنه -، فجلس سبعون ألف رجل يبكون تحت قميص عثمان بن عفان ويقسمون على الأخذ بثأره.
وكان من بين من وافق على هذا الأمر وأفتى به- بوجوب أخذ الثأر- أبو مسلم الخولاني وهو من كبار التابعين، ويُقال أنه أعلم أهل الشام بعد أبي الدرداء - رضي الله عنه -.
ووصل هذا الخبر إلى السيدة عائشة - رضي الله عنها -، وأرضاها، وكانت في مكة هي وجميع زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج، وكُنّ في طريقهن إلى المدينة عائدات من الحج حين بلغهم م*** عثمان - رضي الله عنه -، فرجعن إلى مكة مرة أخرى، ولما علمت السيدة عائشة - رضي الله عنها - بم*** عثمان - رضي الله عنه - قالت: تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قربتموه، ثم ***تموه كما ي*** الكبش؟ فقال لها مسروق وهو من كبار التابعين: هذا عملكِ، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه.
فقالت: لا، والذي آمن به المؤمنون، وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
وصدقت - رضي الله عنها - وأرضاها فيما قالت.
قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كُتب على لسانها.
وكما ذكرنا أن رؤوس الفتنة كانوا يُزَوّرون الخطابات التي تسيء إلى عثمان - رضي الله عنه -، وينسبونها إلى الصحابة كذبًا وافتراءً؛ حتى يؤججوا نار الفتنة، ويصلوا إلى ما يريدون.
وبعد أن رجع أمهات المؤمنين إلى مكة انتظرن إلى أن يرين ما تصير إليه الأمور.
الصحابة يدفنون عثمان -رضي الله عنه-
لما *** عثمان - رضي الله عنه - في هذا اليوم (الجمعة 18 من ذي الحجة 35 هـ) قبل صلاة المغرب؛ تقدم مجموعة من الصحابة إلى بيته، وصلوا عليه في بيته بين المغرب والعشاء، وهذا على أصح الأقوال، وبعض الروايات تقول أنهم صلوا عليه في اليوم الثاني، وتقول روايات أخرى أنهم صلّوا عليه في اليوم الثالث، وأصحها القول الأول.
وحمله الصحابة -رضوان الله عليهم- جميعًا إلى مكان خارج المدينة يُسمى (حش كوكب) وهو غير المكان الذي يَدفن فيه أهل المدينة موتاهم، وقد ذهب به الصحابة -رضوان الله عليهم- إلى هذا المكان؛ لأنهم كانوا يخشون عليه من أهل الفتنة أن يخرجوه جسده، ويمثّلوا به، أو أن يقطعوا رأسه - رضي الله عنه - كما حاولوا ذلك بعد ***ه.
ويروى الإمام مالك - رضي الله عنه - أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه عندما كان يمرّ على هذا المكان وهو حي (حش كوكب) كان يقول: يُدفن هاهنا رجل صالح.
فغسلوه - رضي الله عنه -، وكفنوه، وصلوا عليه، وفي بعض الروايات أنهم لم يغسلوه، وصلى عليه أحد الصحابة، إما أبو هريرة، وإما المسوّر بن مخرمة، وقيل غيرهما.
وبعد أن دُفن - رضي الله عنه -، حمل الصحابةُ - رضي الله عنهم - الرقيقين اللذين قُتلا في بيته - رضي الله عنه -، ودفنوهما بجواره - رضي الله عنهم - جميعًا.
وحتى نعلم ما كان في قلوب هؤلاء الفجرة من حقد دفين على الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأرضاه يروى عن محمد بن سيرين قال:
كنت أطوف بالكعبة، وإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي.
فقلت: يا عبد الله، ما سمعت أحداً يقول ما تقول.
قال: كنت أعطيت لله عهداً إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما *** وضع على سريره في البيت والناس يجيئون يصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه، فوجدت خلوة، فرفعت الثوب عن وجهه، ولحيته، ولطمته، وقد يبست يميني.
قال ابن سيرين: فرأيتها يابسة كأنها عود.
وقد ترك عثمان - رضي الله عنه - في بيته وصية كان فيها:
هذه وصية عثمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيى وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله - تعالى -.
مبايعة علي بن أبي طالب
في تلك الفترة كان على المدينة أميرُ أهل الفتنة الغافقي بن حرب، وقد سارع المتمردون من أهل مصر إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقولون له: نبايعك على الإمارة.
فسبّهم، ولعنهم، ورفض ذلك، وطردهم، وذهب إلى حائط- بستان- من حيطان المدينة، وذهب المتمردون من أهل الكوفة إلى الزبير بن العوام - رضي الله عنه - وأرضاه، وطلبوا منه أن يكون أميرًا، ففعل معهم مثل ما فعل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وذهب كذلك أهل البصرة إلى طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - وأرضاه وطلبوا أن يكون أميرًا، فرفض ذلك وردهم، وتحيّـر أهل الفتنة فيمن يتولّى خلافة المسلمين، وحتى هذه اللحظة لم يفكّر المتمردون في تولية أحدهم أميرًا على المسلمين، وإنما جعلوا الغافقي أميرهم أميرًا على المدينة إلى أن يتم اختيار الأمير، وكان يصلّى خلفه المتمردون، وأهل المدينة، واستمر الحال على هذا الأمر خمسة أيام.
وسارع الصحابةُ -رضوان الله عليهم- إلى علي بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - وقالوا له: أنت أحق الناس بهذا الأمر، فامدد يدك نبايعك.
ورفض علي - رضي الله عنه - هذا الأمر، وازدادت حيرة أهل الفتنة، فذهبوا إلى سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، فرفض هذا الأمر تمامًا، فقالوا له: أنت ممن رضي عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي عنهم عمر.
ولكنه - رضي الله عنه - رفض، فذهبوا إلى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فرفض أيضًا، فرجعوا مرة أخرى إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقال الصحابة -رضوان الله عليهم- لعلي - رضي الله عنه -: إن لم تكن أميرًا، فسوف يجعلون الأمير منهم.
يعني أهل الفتنة، فاجتمع على علي - رضي الله عنه - بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- جميعًا، وبعض أهل الفتنة، وطلبوا منه أن يكون الأمير، وكان أول من بايعه الأشتر النخعي، وكان ممن خرج مع أهل الفتنة من الكوفة، وسبب خروجه مع أهل الفتنة شيئان متعارضان:
الأول: غلّوه في الدين، وظنه أن ما كان يُدّعى على عثمان - رضي الله عنه - يستوجب خلعه من الخلافة، وإلا ***ه.
والشيء الثاني: أنه كان يحب الرئاسة والزعامة، وكان له كلمة على أهل الفتنة، وعلى أهل الكوفة، وله قوم وعشيرة.
ومع هذا الضغط المتزايد على عليٍّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قَبِل بالأمر، لكنه اشترط أولًا أن يبايعه بدايةً طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام رضي الله عنهما؛ لأنه خشِي إن وُلّي الأمر أن ينقلب أهل الكوفة، أو البصرة، ويطلبون طلحة أو الزبير - رضي الله عنهما - ليكون أميرًا، ويحدثون فتنة أخرى، فذهبوا إلى طلحة والزبير - رضي الله عنهما - فقالا: دمُ عثمان أولًا.
وبعد جدال ونقاش وأنه لا بدّ من تولية أحد حتى لا تتسع الفتنة أكثر من ذلك فوافقا على البيعة، فذهب طلحة بن عبيد الله وبايع عليًا - رضي الله عنه - وهو ما زال على المنبر، وكان في انتظار مبايعتهما، فبايع طلحة - رضي الله عنه - بيده اليمنى، وكانت شلّاء ويوجد رواية ضعيفة تشير إلى أن رجلًا ممن بالمسجد قام، فقال: والله إن هذا الأمر لا يتم أول يد تبايع يد شلّاء.
وإن صح هذا القول فالمعنى فاسد؛ لأن هذه اليد هي من خير الأيدي الموجودة في المدينة المنورة، وقد شُلّت عندما كان يدافع صاحبها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، عندما أطلق مالك بن الربيع سهمًا على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان لا يطلق سهمًا إلا أصابه، فأسرع طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - ووضع يد ليردّ بها السهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فشُلّت يده، ودافع - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفاعًا شديدًا في هذه الغزوة حتى طُعن أكثر من أربع وعشرين طعنة، وكان الصديق أبو بكر - رضي الله عنه - كلما تذكر غزوة أحد يقول: والله هذا يوم طلحة.
هذه اليد التي بايعت عليًا - رضي الله عنه - وأرضاه، إنما هي يدٌ مباركة.
ثم جاء الزبير بن العوّام - رضي الله عنه - وأرضاه، وبايع عليًا - رضي الله عنه -، وما قيل أن الزبير - رضي الله عنه - قال: بايعت والسيف على رقبتي؛ كلام باطل، وهي رواية موضوعة، وليس لها أساس من الصحة.
ثم قام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ووقف على المنبر وأعلن قبوله لأن يكون أميرًا للمؤمنين، وذلك في اليوم الخامس لاستشهاد عثمان - رضي الله عنه -، وخطب - رضي الله عنه - خطبة عصماء، ذكّر الناس فيها بالآخرة، وبغّضهم في الدنيا، ولعن من سعى في الأرض فسادًا.
إلى هذا الوقت، وإن كان عليًا - رضي الله عنه - قد أصبح خليفة للمسلمين، إلا أن الأمر لا زال بيد المتمردين الذين يحملون السلاح، وهم أكثر عددًا وعدّة من أهل المدينة.
في هذا الوقت يذهب طلحة والزبير - رضي الله عنهما - إلى علي - رضي الله عنه - بوصفه خليفة المسلمين ويقولان له: دم عثمان.
فهما - رضي الله عنهما - يريدان منه - رضي الله عنه - أن ي*** من *** عثمان -رضي الله عنه-.
فقال لهما: إن هؤلاء لهم مددٌ وعونٌ، وأخشى إن فعلنا ذلك بهم الآن أن تنقلب علينا الدنيا.
كان تفكير علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن ينتظر حتى تهدأ الأمور ويتملك زمامها جيدًا، وبعدها ي*** ***ة عثمان بعد محاكمتهم بشكل عادل، ويعزّر من يرى تعزيره، أما الآن فهؤلاء ال***ة لهم من القوة والمنعة في المدينة وفي أقوامهم في الكوفة والبصرة ومصر، ما لو ***هم لأحدث ذلك فتنة عظيمة، وانقلب كثير من الناس بقبَلِيَّتهم وعصبيتهم على الدولة الإسلامية.
فلما سمع طلحة والزبير - رضي الله عنهما - ذلك من علي - رضي الله عنه -، قالا له:
ائذن لنا بالعمرة.
فأذن لهما، فتركا المدينة، وتوجها إلى مكة ومكثا فيها وقتًا.
بدأ الإمام علي - رضي الله عنه - في دراسة أحوال الدولة الإسلامية، وكيفية درأ آثار الفتنة التي حدثت، وكان الأمر بيد المتمردين بشكل واضح، وكان لهم كلمة مسموعة حتى أن عليًا - رضي الله عنه - اضطُر- مع كراهته لهم جميعًا- أن يولّى بعضهم على بعض المهام في الدولة، كالأشتر النخعي، وذلك نظرًا لكلمتهم المسموعة، وسيطرتهم على الأمور.
كان على الكوفة وقت تولّي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -، وعلى البصرة عبد الله بن عامر - رضي الله عنه -، وكان على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح - رضي الله عنه -، ولكن في هذا الوقت كان قد تغلب عليها محمد بن أبي حذيفة، وكان أحد معاوني عبد الله بن سبأ، وكان يعمل من الباطن دون أن يظهر، وكان على الشام معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وعلى اليمن يعلى بن أمية التميمي.
رأى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بدايةً تغيير هؤلاء الأمراء درءًا للفتنة التى زعم أهلها المطاعن على هؤلاء الأمراء، ورأى - رضي الله عنه - أن يولّى من يصلح للسيطرة على الأمور في هذا التوقيت.
موقف معاوية
معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - كما ذكرنا - وصله خبر *** عثمان - رضي الله عنه -، ووصله القميص وأصابع وكف السيدة نائلة، وقالت له السيدة نائلة - رضي الله عنها - في الرسالة التي بعثت بها إليه: إنك ولي عثمان.
وهو بالفعل وليه؛ لأنه من بني أمية، فلم يبايع معاوية - رضي الله عنه - عليًا - رضي الله عنه -، واشترط أن يأخذ بثأر عثمان - رضي الله عنه - وأن يقتص من قاتليه، وأن من لم يفعل ذلك فقد عطّل كتاب الله، ولا تجوز ولايته، فكان هذا اجتهاده - رضي الله عنه -، ووافقه على هذا الاجتهاد مجموعة من كبار الصحابة، منهم قاضي قضاة الشام أبو الدرداء - رضي الله عنه -، وعبادة بن الصامت وغيرهما.
وهذا الأمر وإن كانوا اجتهادًا إلا أنهم قد أخطأوا في هذا الاجتهاد، وكان الحق مع علي - رضي الله عنه -، وكان الصواب أن يبايعوه - رضي الله عنه -، ثم بعد ذلك يطالبوا بالثأر لعثمان - رضي الله عنه - بعد أن تهدأ الأمور، ويستطيع المسلمون السيطرة على الموقف، لكن معاوية -رضي الله عنه- كان على إصرار شديد على أن يأخذ الثأر أولًا قبل البيعة، وإن أخذ علي - رضي الله عنه - الثأر فلا بأس المهم أن يُ***وا، وقال - رضي الله عنه -: إن ***هم علي بايعناه.
وجاء عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - ناصحًا لعلي - رضي الله عنه - ألا يغيّر أمراء الأمصار، حتى تهدأ الأمور نظرًا للفتنة القائمة، لكن عليًا - رضي الله عنه - أصرّ على رأيه بتغيير الولاة، فولّى عليٌّ عبد الله بن عباس على اليمن، وعثمان بن حنيف - رضي الله عنه - على البصرة، وعمارة بن شهاب - رضي الله عنه - على الكوفة، وسهل بن حنيف - رضي الله عنه - على الشام، وقيس بن سعد - رضي الله عنه - على مصر.
أما عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - فقد ذهب إلى اليمن، وتولّى الإمارة بها، وذهب عثمان بن حنيف إلى البصرة، وفاجأ أهلها بصعود المنبر وأعلن - رضي الله عنه - أنه الأمير، فانقسم الناس منهم من وافقه، ومنهم من قال: لا نقبل إمارتك إلا بعد أخذ الثأر لعثمان - رضي الله عنه -.
لكن الأغلب كان معه وتمكنت له الأمور، واستطاع السيطرة على البصرة، أما عمارة بن شهاب فقد قابله طلحة بن خويلد على باب الكوفة، ومنعه من دخولها بالقوة، وردّه إلى علي - رضي الله عنه -، وتفاقم الأمر بالكوفة، ولما أرسل عليٌ - رضي الله عنه - يستوثق من الأمر جاءته رسالة من أبي موسى الشعري أن جل أهل الكوفة على الطاعة له، أي لعلي - رضي الله عنه -.
أما سهل بن حنيف - رضي الله عنه - المتوجه إلى الشام، فقد قابلته خيل معاوية - رضي الله عنه - على أطراف الشام، فقالوا له:
من أنت؟
فقال: سهل بن حنيف.
فقالوا له: ولِمَ جئت؟
قال: جئت أميرًا.
فقالوا له: إن كنت قد جئت من طرف عثمان فأهلًا، وإن كنت قد جئت من طرف علي فارجع، وإلا دخلت الشام على دمائنا.
ورجع - رضي الله عنه - إلى المدينة.
أما قيس بن سعد المتوجه إلى مصر فقد وصل إليها، وتمكن من الأمور، وقد انقسم أهل مصر إلى ثلاث طوائف، كان الأغلب منهم مبايعًا لقيس بن سعد، والبعض امتنع عن إبداء الرأي، والبعض قالوا:
إنهم مع من يطالب بدم عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
أرسل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - يحثّه على مبايعته؛ لئلا يكون خارجًا عليه، لكن معاوية - رضي الله عنه - يرى باجتهاده أن عدم الأخذ بثأر عثمان - رضي الله عنه - مخالفة لكتاب الله، وأن من خالف كتاب الله لا تجوز مبايعته، ولم يكن في تفكير معاوية - رضي الله عنه - خلافة، ولا إمارة كما يُشاع في كتب الشيعة، بل وفي كتب بعض أهل السنة الذين ينقلون دون تمحيص أو توثيق.
أرسل علي - رضي الله عنه - ثلاث رسائل إلى معاوية - رضي الله عنه - دون أن يرد معاوية، إلا أنه أرسل لعلي - رضي الله عنه - رسالة فارغة، حتى إذا فتحها أهل الفتنة في الطريق لا ي***ون حاملها، ودخل حامل الرسالة على علي - رضي الله عنه - مشيرًا بيده أنه رافض للبيعة، فقال لعلي - رضي الله عنه -: أعندك أمان؟
فأمّنه عليّ - رضي الله عنه -.
فقال له: إن معاوية يقول لك: إنه لن يبايع إلا بعد أخذ الثأر من ***ة عثمان، تأخذه أنت، وإن لم تستطع أخذناه نحن.
فرفض ذلك علي - رضي الله عنه -، وقال: إن معاوية خارجٌ عن الولاية، ومن خرج يُقاتَل بمن أطاع.
أي أنه - رضي الله عنه - رأى أن يستعين بمن أطاعه على من عصاه.
فقرر - رضي الله عنه - أن يجمع الجيوش، ويتوجه بها إلى الشام، وإن لم يبايع معاوية - رضي الله عنه - يُقاتَل، هذا الاجتهاد هو الصحيح في مثل هذه الموقف.
بدأ علي - رضي الله عنه - يستنصر بالمسلمين، فأرسل رسالة إلى أبي موسى الأشعري في الكوفة، وإلى عثمان بن حنيف في البصرة، وإلى قيس بن سعد في مصر، وإلى عبد الله بن عباس في اليمن يستمد منهم المدد لهذا الأمر، وخالفه في ذلك عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -، لكن عليًا - رضي الله عنه - أصرّ وجاء إليه ابنه الحسن وقال له: يا أبتِ، دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم.
فلم يقبل منه علي - رضي الله عنه - هذا الأمر، وأصرّ على القتال واستعد - رضي الله عنه - للخروج إلى الشام.
استخلف علي - رضي الله عنه - على المدينة ابن أخيه قثم بن عباس - رضي الله عنه -، وجهز الجيش للخروج، فكان على الميمنة عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -، ولم يمنعه الخلاف معه في الرأي أن يخرج معه، وعلى الميسرة عمرو بن أبي سلمة، وعلى المقدمة أبو ليلى بن عمرو الجرّاح، وهو ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم - وأرضاهم جميعًا.
وبينما علي - رضي الله عنه - خارج بجيشه من المدينة متوجهًا إلى الشام حدث في مكة أمر لم يكن متوقعًا فغيّر علي - رضي الله عنه - من خطته بالكلية.
كان بمكة السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وزوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين عدا السيدة أم حبيبة، فقد كانت بالمدينة، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهم - جميعًا، وأيضًا يعلى بن أمية التميمي الذي كان واليًا لعثمان - رضي الله عنه - على اليمن، ولما حدثت الفتنة جاء إلى مكة، ومعه ستمائة من الإبل، وستمائة ألف درهم من بيت مال اليمن، واجتمع كل هؤلاء الصحابة، وبدءوا في مدارسة الأمر وكان رأيهم جميعًا- وكانوا قد بايعوا عليًا رضي الله عنه- أن هناك أولوية لأخذ الثأر لعثمان - رضي الله عنه -، وأنه لا يصح أن يؤجل هذا الأمر بأي حال من الأحوال، وقد تزعّم هذا الأمر الصحابيان طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام - رضي الله عنهما -...وكان هذا الأمر مقدمةً لموقعة الجمل.
الطريق إلى موقعة الجمل
مقدمة
بدأت أحداث هذه الفتنة الكبرى قبل وفاة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، بعد أن افترى أهل الفتنة المطاعن عليه - رضي الله عنه -، وعلى ولاته، وقد أتى أهل الفتنة بأنفسهم إليه - رضي الله عنه -، وجادلوه، وغلبهم - رضي الله عنه -، وعلا عليهم في المجادلة، وبعد أن اتفقوا على الصلح، وتوجهوا إلى بلادهم، رجعوا مرةً أخرى بعد أن وصلتهم الخطابات المزورة، وحاصروا بيت عثمان - رضي الله عنه -، و***وه، وذكرنا ملابسات هذا الأمر، وموقف الصحابة - رضي الله عنهم - منه.
وقفة مهمة
هذه بعض النقاط المهمة التي تشير إلى هذا الأمر بشيء من التفصيل:
ربما نرى الآن الأمور واضحة، والحق مع فلان، وفلان على خطأ، وربما نتساءل: لماذا لم يأخذ فلان بهذا الرأي مع وضوحه في نظرنا أنه الصواب؟
لكن ما ينبغي أن يُقال في هذا المقام أن كلًّا من الصحابة كان له ثِقَلُهُ، ومكانته، وقدره في الإسلام، فعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أفقه أهل الأرض في ذلك الوقت، والزبير بن العوّام حواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلحة بن عبيد الله الذي كان يُسمى طلحة الخير له قدره، ومكانته في الإسلام، والسيدة عائشة - رضي الله عنها - أم المؤمنين كان لها مكانتها، ولها أيضًا رأيها، وهكذا نجد أن مجموعة من أعلم أهل الأرض، وفقهائها في كل العصور يقول كل منهم رأيه حسب اجتهاده، وما من شك أن هؤلاء - رضي الله عنهم - هم أتقى أهل الأرض في زمانهم.
ومع العلم، والفقه، والتقوى، وهذه الصفات الحميدة التي كانوا عليها، إلا أن رأي كل منهم بعد اجتهاده، وتدقيقه، وفقهه، وتقواه يختلف عن رأي صاحبه الذي يعاصره، فما بالنا نحن الذين نريد أن نحكم على الأحداث بعد ألف وأربعمائة عام من وقوعها مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من الحقائق قد شُوّهت إما عمدًا أو جهلًا.
وقد ذكرنا الكثير من كتب التاريخ التي تطعن في الصحابة - رضي الله عنهم - إما عمدًا، وإما جهلًا.
وقد بُني داخل الكثير منا، من خلال دراستنا للتاريخ في مدارسنا وجامعاتنا بصورة مشوهة وغير صحيحة، بُنيت بعض الأمور التي نظنّ أنها هي الحقيقة، بل نجادل من يقول بخلافها، وما نودّ أن نقوله هو:
لو حدث أنك لم تقتنع بشكل كافٍ بأمر من الأمور، فافترض أن بعض الأمور قد غابت عنك، ولكن لا تظن على الإطلاق أن أحد هؤلاء الأخيار قد تعمّد قيام مثل هذه الفتنة، وأن يقاتل هؤلاء رغبة في الملك، أو الإمارة، أو المال، أو أي أمر من أمور الدنيا، فهؤلاء قد توفي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو راض عنهم ورضي الله عنهم، ويشير إلى ذلك الكثير من الآيات، والأحاديث، وهذا من عقائدنا، فلا يخالف أحد العقيدة بظنٍ قد يظنه بأحد هؤلاء الأخيار - رضي الله عنهم - جميعًا.
مما ينبغي الإشارة إليه أيضًا ضعف الاتصالات بين الصحابة، وبين كثير من الناس ممن يسكن الأمصار النائية، ويتأثرون بما يشيعه أهل الفتنة من افتراءات، وكذب، ورسائل مزورة ينسبونها إلى الصحابة - رضي الله عنهم -، ولو قدّر لهذا الأمر أن يحدث في العصر الحديث مع توافر وسائل الاتصال المختلفة من هاتف وتلفاز، ما كان للأمور أن تتفاقم بهذا الحجم، وذلك أن الأمور كان تسير بسوء من مدبري الفتنة دون أن يعلم الأمراء، ودون أن يعلم عثمان - رضي الله عنه - إلا بعد أيام، بل شهور، وتصحيح فكر الناس يحتاج إلى وقت كبير ذهابًا وإيابًا، فضُلّل كثير من الناس.
وكان ما حدثَ من أمور إنما هو من قضاء الله - عز وجل - ومن ابتلائه لهم - رضي الله عنهم - جميعًا (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) [الأحزاب: 38].
ربما يتساءل البعض أيضًا: لماذا لم يسمح عثمان - رضي الله عنه - للصحابة رضوان الله عليهم أن يدافعوا عنه في هذه الأزمة؟
نقول: إن القاعدة الشرعية تقول:
إن على المرء أن يدفع أعظم الضررين، وأن يجلب أكبر المنفعتين قدر ما يستطيع، فإذا كان هناك ضرران من المحتّم أن يحدث أحدهم، فيتم اختيار أخفهما ضررًا منعًا لحدوث أكبرهما، وكذلك في المنافع ينبغي اختيار المنفعة الأكبر دون الأقل، وكذلك في قضية تغيير المنكر لا يصح أن يُغيّر بمنكرٍ أكبر منه.
وانطلاقًا من هذه القاعدة كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يقيس المنافع والأضرار، فرأى
-رضي الله عنه- ومعه الحق في ذلك- أنه إذا وصل الأمر إلى ***ه في مقابل أن لا يُ*** جميع الصحابة، فهذا أفضل للإسلام وللمسلمين، فقرر - رضي الله عنه - أن يضحي بنفسه، وهي شجاعة نادرة، وليست سلبية، أو جنبًا، أو عجزًا عن أخذ الرأي، فقد ضحّى بنفسه - رضي الله عنه -؛ لئلا يجعل الصحابة رضوان الله عليهم يدخلون في قتال مع هؤلاء الخوارج، فيُ*** الصحابة في هذه الفتنة، وكان عدد أهل الفتنة- كما نعرف- أكبر بكثير من عدد الصحابة.
وأمر عثمان - رضي الله عنه -، بل أقسم على من له حق عليه أن يضع سيفه في غمده، فلو دافعوا عنه لعَصَوه - رضي الله عنه -، وعنهم جميعًا كما قال ذلك علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عندما سأله أحد الناس بعد ذلك:
كيف وسِعَك أن تدع عثمان يُ***؟!
فقال - رضي الله عنه -: لو دافعنا عنه عصيناه؛ لأنه قال: من سلّ السيف فليس مني!.
وقد قال عثمان - رضي الله عنه - لغلمانه: من أغمد سيفه فهو حرّ، فهو - رضي الله عنه - يريد بذلك ألا تقع الفتنة بأي صورة من الصور.
ربما يقول البعض: ولكن الفتنة حدثت، وسُفكت الدماء بعد ذلك في موقعة الجمل وصفين؟
نقول: إن كل هذا لم يكن في الحسبان، وإن التقدير المادي البشري الذي اتبعه عثمان - رضي الله عنه- كان يشير إلى أن ما أقدم عليه من رأي يقمع الفتنة في بدايتها، ولكن الأمر تطور بعد ذلك على غير ما توقع الصحابة -رضوان الله عليهم- جميعًا (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) [الأحزاب: 38].
وينبغي عند الحكم في مثل هذه القضايا أن يكون للعقل دوره، وألا تتحكم العاطفة وحدها في الأمر كله، فموقف *** عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بهذه البشاعة، وبهذا الجرم الذي لم يحدث من قبل، تأخذ الحميّة البعض وينسون القاعدة الشرعية التي هي الأخذ بأخف الضررين، ودفع أكبرهما، ويطالبون بالثأر له قبل أي شيء، ولا شك أن هذه الأمور كلها كانت واضحة تمامًا عند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يوم أن قرر أن يسكت عن ***ة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بصفة مؤقتة، فلم يكن قد مُكّن الأمر له في البلاد بعد، وعلينا أن نتخيل ما الذي كان من المتوقع أن يحدث لو فعل ما تمليه العاطفة، ونقدّر التوابع المترتبة على هذا الأمر، هل هي أكبر أم أقل منه، وعندها نستطيع أن نصدر الحكم الصحيح، مع الأخذ في الاعتبار أن عليًا - رضي الله عنه - من أفقه أهل الأرض في هذا الوقت إن لم يكن أفقههم جميعًا - رضي الله عنه -.
ربما قال البعض: لِمَ لَمْ يترك عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الخلافة درءًا للفتنة؟
ذكرنا الحديث الصحيح عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ، يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ، يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ)).
وكرّر - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثلاث مرات، وفي هذا دلالة واضحة على أن على عثمان - رضي الله عنه - أن يتمسك بهذا الأمر، وتركه الأمر لهؤلاء المنافقين حينئذٍ إنما هو مخالفة واضحة لنصّ حديث رسول - صلى الله عليه وسلم -، والذي رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم.
ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها في هذا الموضوع أن من عقيدة المسلمين الإيمان بما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وثبتت صحة نسبته إليه، حتى ولو لم يكن هناك دليل مادي على الأمور الغيبية التي أخبر بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن بين ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث الذي يؤكد على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - التمسك بالخلافة حال حدوث الفتنة، وعدم تركها للمنافقين.
فعثمان - رضي الله عنه - على يقين أن ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، وهو ما ينبغي أن يُتّبع، هو أمر صريح من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتباع عثمان - رضي الله عنه - لهذا الأمر إنما هو دليل على صدق إيمانه.
ربما لا يقتنع الماديون بالأمور الغيبية، ولكننا نخاطب المؤمنين الذين ذُكر من صفاتهم في القرآن الكريم: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [لبقرة: 3].
لا بد إذن من الإيمان اليقيني بما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الفتنة سوف تحدث في عهد عثمان - رضي الله عنه - إلا أن يكون وحيًا من الله - تعالى – (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النَّجم: 4].
ذكرنا أيضًا أنه بعد م*** عثمان بن عفان - رضي الله عنه - اجتمع كل الناس بمن فيهم الصحابة على عليٍّ - رضي الله عنه - فرفض هذا الأمر رفضًا تامًا، وبعد ضغوط كثيرة اضطر - رضي الله عنه - أن يقبل الخلافة، وكان ذلك بعد خمسة أيام من م*** عثمان - رضي الله عنه -، وبايعه أيضًا طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - رضي الله عنهما - على خلاف في الروايات التي تقول: إنهما بايعا مكَرَهِين.
ثم بايعه بقية الناس، وتأخر بعض الناس في البيعة، لكنهم بايعوا بعد ذلك أيضًا، وأرسل علي - رضي الله عنه - إلى كل الأمصار يخبرهم بهذا الأمر، وكان الواجب على كل الأمصار أن ترسل مبايعتها لعلي - رضي الله عنه - بهذه الخلافة.
كان أهل الفتنة في هذا الوقت يسيطرون على الأمور في المدينة بصفة عامة، ولهم من القوة والسلاح ما يؤهلهم لذلك، ولم يكن بيد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في هذا الوقت من القوة ما يستطيع من خلاله أن ي*** ***ة عثمان - رضي الله عنه - دون أن تحدث فتنة عظيمة في الأمصار المختلفة، والتي سوف تثور لهؤلاء ال***ة بدافع الحمية، والعصبية، فآثر - رضي الله عنه - أن يؤجل محاكمة هؤلاء ال***ة إلى حين تثْبت أركان الدولة، ثم يتصرف - رضي الله عنه - التصرف الذي يراه مناسبًا مع كل من شارك في هذه الفتنة، فمنهم من يُ*** كرءوس الفتنة، والمحرّضين عليها، ومن شارك في ال*** بيده، ومنهم من يُعزّر كالجهّال الذين يظنون أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر بهذا الفعل الشنيع، فكلٌ له حكمه، وكانت إقامة هذه المحاكمة في هذا التوقيت من الأمور الصعبة للغاية؛ نظرًا لأن كثيرًا من الأمور لا زالت بأيدي هؤلاء المتمردين، وهناك الكثير من القبائل الملتفة حول هذه الرءوس التي أحدثت الفتنة، وهذه القبائل قد دخلت في الإسلام حديثًا، ولم يتعمق الإيمان في قلوبهم كما تعمق في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عامًا يربي المؤمنين في مكة، ولم ينزل التشريع إلا في المدينة بعد أن تمكن الإيمان من قلوب المهاجرين، والأنصار، وأعطاهم الله - تعالى -الملك، والإمارة بعد ذلك بسنين عديدة، ومن ثَمّ لم تحدث مخالفات.
أما من لم يمر بهذه المرحلة من التربية، ثم كانت له الإمارة، أو الخلافة، فلا شك أنه سوف تنشأ من جهته أمور عظيمة، وفتن كثيرة، فهذه القبائل الملتفّة حول أهل الفتنة كان لديهم شيء من القبلية، ومن العصبية، ومن حب الدنيا، ومن حب الإمارة، ولم يكن علي - رضي الله عنه - يدري ما سوف تفعله تلك القبائل حال ***ه لأهل الفتنة، فربما قاموا بتجميع الجيوش، وقاموا بالثورات في مختلف الأمصار في مصر، والكوفة، والبصرة، واليمن، ويستقل كل أمير بإمارته، وتتفتت الدولة الإسلامية، وهذا كله بسبب *** ***ة عثمان - رضي الله عنه - وأرضاه.
فأيهما أشد في ميزان الإسلام؟!
أن تتفكك الدولة الإسلامية ويصبح كل أمير على مصر من الأمصار، كما هو حالنا اليوم، أم يصبر على *** عثمان رضي الله عنه- والذي قُتل بالفعل- إلى أن تدين له كل أطراف الدولة الإسلامية، ويستقر الحكم، وتهدأ الفتن، ثم يعاقب كلًا بما يستحق.
وهذه الأمور كلها من الأمور الاجتهادية، والحق فيها ليس واضحًا لأيٍّ من الأطراف تمام الوضوح، وعلي - رضي الله عنه - عندما يأخذ قرارًا من القرارات يفكر كثيرًا قبل أن يصدره، ويستشير، ثم يخرج بالقرار في النهاية، وكانت الأمور في منتهى الغموض كما يقول من يصف الفتنة: أنها "يبيت فيها الحليم حيرانًا"، وقد تحيّر الصحابة رضوان الله عليهم كثيرًا في هذه الأمور، ولم يأخذوا قرارهم إلا بعد تفكير عميق، وفكر ثاقب، واجتهدوا قدر استطاعتهم، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، وهم ليسوا بمعصومين، وهم جميعًا من أهل الاجتهاد حتى لا يقول أحد:
ولِمَ اجتهدوا في وجود علي - رضي الله عنه -، وهو أفقههم وأعلمهم؟
إنهم جميعًا - رضي الله عنهم - من أهل الاجتهاد، فالسيدة عائشة - رضي الله عنها - من أهل الاجتهاد، والزبير بن العوّام - رضي الله عنه - من أهل الاجتهاد، وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - من أهل الاجتهاد، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، والذي ترك الأمور واعتزل من أهل الاجتهاد، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - من أهل الاجتهاد.
إذن فعليٌ - رضي الله عنه - وأرضاه، ومن حاربوه جميعًا مجتهدون، والمجتهد يحق له أن يجمع بين الأمور، وأن يأخذ ما يراه مناسبًا منها، وعلينا ألا نلّوث ألستنا، أو عقولنا بظنٍ سيئٍ فيهم، والأحداث لا تتضح إلا بعد انتهائها.
أرسل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - أميرًا على البصرة، فذهب إليها، واعتلى المنبر، وأخبرهم بأنه الأمير عليهم من قِبل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أما أميرهم الأول عبد الله بن عامر، فقد كان ممن يطالبون بدم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأرضاه، وذهب إلى مكة.
وولّي على مصر قيس بن سعد، ودان له أغلب أهلها، إلا فئة قليلة آثرت الاعتزال في إحدى القرى دون أن تبايع، ودون أن تقاتل مَنْ بايع عليًا - رضي الله عنه -.
وأقرّ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أبا موسى الأشعري على إمارة الكوفة.
أما الشام فذكرنا أن عليًا - رضي الله عنه - أرسل ثلاث رسائل إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - يطالبه فيها بمبايعته، ولكن معاوية - رضي الله عنه - قال: دم عثمان قبل المبايعة.
ولم يطلب معاوية - رضي الله عنه - وأرضاه خلافة، ولا إمارة، ولا سيطرة على الدولة الإسلامية، وإنما يريد أن يُؤخذ بثأر عثمان مِن قَتَلتِهِ سواءً أخذ هذا الثأر علي - رضي الله عنه -، أو أخذه هو بنفسه، المهم أن يتم أخذ الثأر من هؤلاء ال***ة، وبعدها يبايع - رضي الله عنه - عليًا - رضي الله عنه -.
أما قبل أخذ الثأر من ال***ة فلن يبايع، وكان معه سبعون ألف رجل يبكون ليلًا ونهارًا تحت قميص عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المعلّق على منبر المسجد بدمشق، ومع القميص أصابع السيدة نائلة بنت الفرافصة، وكفّها التي قُطعت، وهي تدافع عن زوجها - رضي الله عنهما -.
وفي آخر الأمر أرسل معاوية - رضي الله عنه - لعلي - رضي الله عنه - رسالة فارغة، حتى إذا فتحها أهل الفتنة في الطريق لا ي***ون حاملها، ودخل حامل الرسالة على علي - رضي الله عنه - مشيرًا بيده أنه رافض للبيعة، فقال لعلي - رضي الله عنه -:
أعندك أمان؟
فأمّنه عليٌّ - رضي الله عنه -.
فقال له: إن معاوية يقول لك: إنه لن يبايع إلا بعد أخذ الثأر من ***ة عثمان، تأخذه أنت، وإن لم تستطع أخذناه نحن.
وكاد أهل الفتنة أن ي***وا الرسول، كما كان يخشى معاوية - رضي الله عنه -، لكن عليًا - رضي الله عنه - قام بحمايته، حتى أوصله إلى خارج المدينة، ورجع الرسول إلى دمشق.
إذن فمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - يرفض أن يبايع عليًا - رضي الله عنه - بعد أن تمت له البيعة الصحيحة، وبعد أن اجتمع أهل الحِلّ والعقد، وأهل بدر على اختيار علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - خليفة للمسلمين، إذن فقد أصبح معاوية - رضي الله عنه - خارجًا على الخليفة، فقرّر الخليفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يجمع الجيوش، ويذهب إليه حتى يردّه عن هذا الخروج بالسِلْم وإلا قاتله، فأرسل علي - رضي الله عنه - لأمرائه بالأمصار أن يعدّوا الجيوش للذهاب إلى الشام لأجل هذا الأمر.
مقدمات موقعة الجمل
بعد أن قرّر عليٌّ - رضي الله عنه - الخروج لمعاوية أتته الأخبار من مكة لتغيّر من مساره تمامًا، كان بمكة السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وزوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين عدا السيدة أم حبيبة- فقد كانت بالمدينة- وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهم - جميعًا، وأيضًا يعلى بن أمية التميمي، الذي كان واليًا لعثمان - رضي الله عنه - على اليمن، ولما حدثت الفتنة جاء إلى مكة، ومعه ستمائة من الإبل، وستمائة ألف درهم من بيت مال اليمن، وعبد الله بن عامر الذي كان واليًا على البصرة من قبل عثمان - رضي الله عنه - وأرضاه، واجتمع كل هؤلاء وبدءوا في مدارسة الأمر، وكان رأيهم جميعًا، وكان منهم من قد بايع عليًا - رضي الله عنه -، أن هناك أولوية لأخذ الثأر لعثمان - رضي الله عنه -، وأنه لا يصح أن يؤجل هذا الأمر بأي حال من الأحوال، وقد تزعّم هذا الأمر الصحابيان طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام - رضي الله عنهما -.
اجتمع هؤلاء جميعًا مع السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وأرضاها، وكان تأويلهم في أمر الأخذ بدم عثمان - رضي الله عنه – أولًا: أنه لو لم يتم الأخذ بدمه في هذا الوقت نكون قد ضيّعنا حدًّا من حدود الله، وتركنا القرآن الذي يقول بالقصاص، وكانت هذه القضية هي شغلهم الشاغل، إذ كيف يتم تعطيل هذا الحدّ من حدود الله.
وكانوا يرون أن من ضيع هذا الحدّ، أو عطّله لا تصح مبايعته، ولم يكن اعتراضهم - رضي الله عنهم - على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لذاته، وإنما رأوا باجتهادهم أنه يجب أخذ الثأر أولًا لعثمان - رضي الله عنه -، وكان طلحة - رضي الله عنه -، والزبير قد بايعا، فلا يصح لهما فعل هذا الأمر، وإنما هو اجتهاد منهما، ولم يصيبا فيه، ولهما أجر، وحتى على فرض أنهما بايعا مُكرَهين، فلا يجوز لهما الخروج على قرار الإمام، ولا يصح خلع الإمام إلا بجماعة المسلمين.
قرر المجتمعون في مكة أن يجهزوا جيشًا، ويذهبوا إلى المدينة المنورة لأخذ الثأر من ***ة عثمان رضي الله عنه؛ لأن عليًا - رضي الله عنه - لا يستطيع أن يقاتلهم وحده، ووافقت السيدة عائشة - رضي الله عنها - على هذا الأمر، ووافقت جميع زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخروج من مكة إلى المدينة؛ لأخذ الثأر لعثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
وظهر رأي آخر يقول بالذهاب إلى الشام للاستعانة بمعاوية - رضي الله عنه - على هذا الأمر، فقال عبد الله بن عامر: إن معاوية قد كفاكم أمر الشام.
وأشار عليهم بالذهاب إلى البصرة- وكان واليًا عليها قبل ذلك- للتزود بالمدد، والأعوان منها، وكان له فيها يدٌ ورأي، وقال لهم: إن لطلحة فيها كلمة ورأي.
وقد كان - رضي الله عنه - واليًا عليها لفترة من الزمن وتأثّروا به.
فكان رأي عبد الله بن عامر أن يذهبوا إلى البصرة، ويبدءوا ب***ة عثمان الموجودين في البصرة، في***ونهم، ثم يذهبون بعد أن يتزودوا بالعدد، والعدة إلى المدينة فيأتون على باقي ال***ة.
وأعجب هذا الرأي الجميع إلا السيدة عائشة - رضي الله عنها - فقالوا لها: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].
وأن ما تفعلينه بهذا الخروج، إنما هو إصلاح بين الناس، وليس منافيًا لقول الله - تعالى -: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) [الأحزاب: 33].
ورفضت سائر زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - الخروج إلى البصرة إلا السيدة حفصة بنت عمر - رضي الله عنها -، وعن أبيها فقررت الخروج مع السيدة عائشة - رضي الله عنها - إلى البصرة، إلا أن أخاها عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال لها: إن هذا زمن فتنة، وعليك أن تقرّي في بيتك، ولا تخرجي.
فلما خاطبتها السيدة عائشة في عدم خروجها إلى البصرة قالت لها إن أخاها- أي عبد الله بن عمر- قد منعها، فقالت السيدة عائشة - رضي الله عنها -: غفر الله له.
ويتضح من هذا الموقف مدى قناعة السيدة عائشة - رضي الله عنها - وأرضاها بأمر الخروج للبصرة لدرجة أنها تَعُدّ أمر عبد الله بن عمر في منعه للسيدة حفصة - رضي الله عنها - من الخروج، تعدّ ذلك ذنبًا تستغفر اللهَ لعبد الله بن عمر منه.
كان موقف عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - هو اعتزال الفتنة من أولها إلى آخرها، وكان - رضي الله عنه - يصوّر الفتنة بأنها كغمامة جاءت على المسلمين، فلم يعد أحد يرى شيئًا، والكل يسير في طريق يريد أن يصلوا إلى الصواب، فاجتهد فريق منهم في الطريق، فوصل، فهذا عليّ ومن معه، واجتهد آخرون لكي يصلوا، ولكنهم أخطأوا الطريق، فمعاوية ومن معه، والبعض انتظر حتى تنقشع الغمامة ثم يرى الرأي، وكان هو - رضي الله عنه - من هذه الفئة، ثم يقول - رضي الله عنه -: والمجاهد أفضل.
أي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أفضل، لكن الأمر فيه خطورة كبيرة، وفيها احتمالية الخطأ في الوصول، ولم يكن علي - رضي الله عنه - يجبر أحدًا على الخروج معه في هذا الأمر، بل كان الأمر تطوعيًا، ومن اعتزل فلا شيء عليه، ولا يُجبَر على رأي من الآراء.
خرجت السيدة عائشة - رضي الله عنها - من مكة ومن معها من الناس؛ طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وأمّرت السيدة عائشة - رضي الله عنها - عبد الله بن الزبير على الصلاة، وكانت ترى أنه أعلم الناس مع وجود أبيه، وجهّز يعلى بن أميّة البعير، وكانت ستمائة بعير، وبالمال الذي أتى به معه من اليمن عندما قدم إلى مكة.
وكان عددهم عند خروجهم من مكة تسعمائة، ثم بلغ عددهم بعد قليل ثلاثة آلاف في طريقهم إلى البصرة، واشتروا للسيدة عائشة - رضي الله عنها - جملًا وركبت في الهودج فوق الجمل، وانطلقوا نحو البصرة.
علم علي - رضي الله عنه - بهذا الأمر كله، وكان حينها على نيّة الخروج للشام، لكن مع هذه المستجدات قرّر - رضي الله عنه - الانتظار حتى يرى ما تصير إليه الأمور.
السيدة عائشة - رضي الله عنها - وجيشها يصلون إلى البصرة
قدِم الجيش الذي خرج من مكة وفيه السيدة عائشة - رضي الله عنها - إلى البصرة، وقبل دخولهم أرسلوا رسائل إلى عثمان بن حنيف والي البصرة من قِبل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يُخلي البصرة لجيش السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأخذ المدد، والأخذ على يد من *** عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأرضاه، ولم يكن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - يعلم من *** عثمان من أهل البصرة، ولا يعلم أيضًا من وافق من أهلها على ال***، ومن لم يوافق، ولكن مما يُذكر أن حكيم بن جبلة وهو أحد رؤوس الفتنة كان قد هرب من المدينة إلى البصرة بعد *** عثمان - رضي الله عنه -، وكان مختبئًا في مكان لا يعلم به أحد، وهو من رءوس قومه، ومن إحدى القبائل الكبيرة.
ثم كان الحوار عن طريق الرُّسل بين السيدة عائشة، ومعها طلحة، والزبير، وبين عثمان بن حنيف والي البصرة - رضي الله عنهم - وأرضاهم جميعًا.
فأرسل إليهم عثمان بن حنيف: ما الذي أتى بكم؟
فقالت السيدة عائشة: إن نريد إلا الإصلاح.
أي أنه ما أتى بهم إلى البصرة، إلا لأنهم يريدون أن يجمعوا كلمة المسلمين، وأنهم يرون أنه لن تجتمع كلمة المسلمين إلا بعد أن يُ*** من *** عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
فأرسل عثمان بن حنيف إلى طلحة، والزبير - رضي الله عنهما - وقال لهما:
ألم تبايعا عليَّ بن أبي طالب؟
فقالا: بايعنا مكرَهيْن.
فوقف عثمان بن حنيف على المنبر يستشير الناسَ في هذا الأمر، فقام رجل يُسمّى الأسود بن سريع، وأشار بأنه لا بأس بأن يضع أهل البصرة يدهم في يد هذا الجيش القادم من مكة؛ ل*** ***ة عثمان ما دام لا يوجد أحد منهم في البصرة، فلما قال ذلك حُصب بالحجارة، فعلم عثمان بن حنيف أن ل***ة عثمان أعوانًا في البصرة، وكاد أن يحدث ما يخشاه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إن *** ***ة عثمان في هذا التوقيت.
ومن ثَمّ رفض عثمان بن حنيف والي البصرة دخول جيش السيدة عائشة - رضي الله عنها - إلى البصرة، فلما هددوه أنهم سوف يدخلون بالقوة أخذ جيشه ووقف على حدود البصرة، فقام طلحة بن عبيد الله، وخطب في الناس وذكّرهم بدم عثمان، ثم قام الزبير بن العوام، وخطب في الناس خطبة، وبقي الحال على ما هو عليه، ثم قامت السيدة عائشة - رضي الله عنها -، وخطبت في الناس خطبة عصماء بليغة، ورققت قلوب الناس لدم عثمان - رضي الله عنها -، وقالت أن من عطّل حدّا من حدود الله فلا تجب له مبايعة إلا بعد أن يأخذ هذا الحدّ، وقد جئنا لأخذ هذا الحدّ، ولو أخذ علي - رضي الله عنه - هذا الحدّ، وأقامه على مستحقيه بايعناه.
وبعد أن خطبت - رضي الله عنها - انقسم جيش عثمان بن حنيف إلى فئتين فئة مع السيدة عائشة، وجيشها وفئة ظلّت معه، وقويت شوكة جيش السيدة عائشة - رضي الله عنها -، وضعفت شوكة جيش عثمان بن حنيف، ومن معه من الموالين لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وفيهم الكثير من المؤيدين ل*** عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، والقبائل التي منها مَن *** عثمان، ولو لم تشترك هي في ال***، لكنهم يريدون أن يكون لهم الأمر، فلما كان هذا الأمر بدأ عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - يفكر فيما سيفعله؛ هل يصالحهم درءًا لهذه الفتنة، أم يرسل إلى علي رضي الله عنه؟
وخاف أهل الفتنة من أمر الصلح؛ لأنه لن يكون في مصلحتهم على الإطلاق، فأتى حكيم بن جبلة في هذا الوقت، ومعه قوة من قبيلته، وأنشب القتال مع جيش السيدة عائشة، وبدأ يرميهم بالسهام ويردوا عليه، ودارت الحرب بين الفريقين، وكثر ال***ى وكثرت الجراح، فلما رأى عثمان بن حنيف هذا الأمر أعلن أنه يقبل الصلح والتفاهم في الأمر، وكفّ الصحابة رضوان الله عنهم في فريق السيدة عائشة - رضي الله عنها - عن القتال، واجتمع الفريقان السيدة عائشة، وطلحة والزبير - رضي الله عنهم - جميعًا من ناحية، ومن الناحية الأخرى عثمان بن حنيف - رضي الله عنه -، اتفقوا على أن يرسلوا رسولًا من البصرة إلى المدينة يسأل: إن كان طلحة والزبير قد بايعا مكرهين؟
يترك عثمان بن حنيف البصرة بمن فيها، ويخليها للسيدة عائشة، وجيشها، وإن كانا قد بايعا طائعين يرجعوا جميعًا إلى مكة، ويتركوا البصرة، فأرسلوا كعب بن ثور القاضي، فلما ذهب إلى المدينة، وقف في الناس، وكان في يوم جمعةٍ، فأخبرهم بما يحدث في البصرة ثم سألهم: فهل بايع طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام مكرهيْن أم طائعيْن؟
فقام أسامة بن زيد حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابن حبّه، فقال: بل بايعا مُكرَهيْن.
فكاد أن يُ*** من قِبل أهل الفتنة، وكانت لهم سيطرة بالمدينة، لولا أن قام صهيب بن سنان الرومي، وأبو أيوب الأنصاري ودافعا عنه، وقالا له: ألا وسِعك ما وسعنا من السكوت.
وعاد كعب بن ثور إلى البصرة، وقال للقوم: بل بايعا مكرهين.
وعلم علي - رضي الله عنه - بقدوم كعب بن ثور، وعودته بهذا الخبر، فأرسل إلى عثمان بن حنيف رسالة يوضح فيها الجانب الفقهي في أمر الصلح هذا، وأنه غير جائز تمامًا، وأنهما حتى لو بايعا مكرهين، لا يصح ترك الأمر لهما يسيطرا على الأمور، والصواب أن يطيعا الخليفة، حتى وإن بايعا مكرهين، وعثمان بن حنيف - رضي الله عنه - لم يصالح إلا اضطرارًا؛ نظرًا لضعف جيشه، فأصرّ عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - على عدم تسليم البصرة لهم، وحدث القتال مرة أخرى، وقُتل حكيم بن جبلة في هذا القتال ومعه ستمائة من أهل البصرة، وأُسر عثمان بن حنيف، ولم يُ***، ثم أطلقوه.
فلما علم علي - رضي الله عنه - بهذا الأمر، توجه بجيشه وكانوا تسعمائة إلى البصرة، وتوجه بهم إلى (ذي قار) فقابله رجل يُسمى ابن أبي رفاعة بن رافع وقال له: يا أمير المؤمنين أي شيءٍ تريد وأين تذهب بنا؟
فقال له علي - رضي الله عنه -: أما الذي نريد، وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه.
قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندَعهم بغدرهم، ونعطهم الحق ونصبر.
قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندَعهم ما تركونا.
قال: فإن لم يتركونا؟
قال: امتنعنا منهم. -أي بالسيف-.
قال: فنعم إذن. وخرج معهم.
وقام إليه الحجاج بن غزية الأنصاري، فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرنا الله كما سمانا أنصارًا.
وقبل أن يصل إلى (ذي قار) قابله عثمان بن حنيف، وأخبره بما حدث في البصرة وم*** الستمائة وغيرهم، فقال علي - رضي الله عنه -: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وأرسل ابنه الحسن، والقعقاع بن عمرو، وعمار بن ياسر - رضي الله عنهم - جميعًا إلى الكوفة لأخذ المدد منها.
كان في الكوفة أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - وكان ممن يرى رأي عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - من اعتزال الفتنة كليةً، وأنه لا يصح أن يقتتل المسلمون بالسيوف، فقام الحسن، والقعقاع، وعمّار - رضي الله عنهم - جميعًا في المسجد، وأخذوا يقنعون الناس بالخروج معهم، بينما كان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قد كلم الناس بأنه يجب اعتزال الفتنة، وعدم الخروج مع أيٍّ من الفريقين، فقام أحد رعاع الناس محاولًا إرضاء الحسن، والقعقاع، وعمّار - رضي الله عنهم -، وسبّ السيدة عائشة؛ ظنًا منه أن هذا يرضيهم.
فقال له عمار بن ياسر: اسكت مقبوحًا منبوحًا، وقال - رضي الله عنه -: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا، والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه، أو إياها. والحديث في البخاري.
وقام حجر بن عدي فقال للناس: انفروا إلى أمير المؤمنين خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
وبدأ الناس يميلون إلى رأي القعقاع، وعمار، والحسن - رضي الله عنهم - جميعاً، وخرج معهم اثنا عشر ألفا، وأتى لعلي - رضي الله عنه - أناس من قبيلة طيء وقيل له:
إن منهم من يريد الخروج معك، ومنهم من جاء ليسلم عليك.
فقال رضي الله عنه: جزى الله كلاً خيراً، ثم قال: (وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 95).
وفي الطريق إلى (ذي قار) قابلهم المستشار الأول لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهو عبد الله بن عباس، فقال للقوم: يا أهل الكوفة، أنتم لقيتم ملوك العجم- أي الفرس- ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق، حتى يبدءونا بالظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله - تعالى -. فاجتمع الناس على ذلك.
القعقاع - رضي الله عنه - وبشائر الصلح
وبعد أن اجتمع الجيش في (ذي قار) توجهوا نحو البصرة، وفي هذا الوقت كان الناس بين مؤيد لعلي - رضي الله عنه - ينضم إلى صفه؛ وبين مؤيد لما عليه السيدة عائشة فينضم إلى صفها، فوصل تعداد جيش علي - رضي الله عنه - إلى عشرين ألفا، بينما وصل تعداد جيش السيدة عائشة - رضي الله عنها - إلى ثلاثين ألفا، واقترب الجيشان من البصرة، وكلاهما لا يريد قتالاً، فأرسل علي - رضي الله عنه - القعقاع بن عمرو رضي الله عنه؛ ليتفاوض، ويتحدث في أمر الصلح مع السيدة عائشة، وطلحة، والزبير - رضي الله عنهم - جميعاً، فقال القعقاع - رضي الله عنه - للسيدة عائشة - رضي الله عنها -: أي أُمّاه - فهي - رضي الله عنه - أمه وأم جميع المؤمنين - ما أقدمك هذه البلد؟
فقالت - رضي الله عنها -: أي بني، الإصلاح بين الناس.
فسألها أن تبعث لطلحة، والزبير أن يحضرا عندها، فأرسلت إليهما فجاءا.
فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها؟.
فقالت: إني جئت للإصلاح بين الناس.
فقالا: ونحن كذلك.
فقال: وما وجه الإصلاح، وعلى أي شيء يكون، فوالله لئن عرفناه لنصطلحن، ولئن أنكرناه لا نصطلحن؟.
فقالا: ***ة عثمان، فإن هذا إن ترك، كان تركا للقرآن.
فقال القعقاع: ***تما ***ته من أهل البصرة، وأنتما قبل ***هم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، ***تم ستمائة رجل، فغضب لهم ستة آلاف، فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير، فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم، فأديلوا عليكم كان الذي حذرتم، وفرقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون، وتجمعون منه.
يعني أن الذي تريدونه من *** ***ة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها، وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير؛ لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد ***ه، فعليّ أعذر في تركه الآن *** ***ة عثمان، وإنما أخر *** ***ة عثمان إلى أن يتمكن منهم، فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة، ثم أعلمهم أن خلقاً من ربيعة، ومضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع.
وبدأ القوم يتأثرون بقوله.
فقالت له عائشة أم المؤمنين: فماذا تقول أنت؟
قال: أقول: إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة، وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر، كانت علامة شر، وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولا، ولا تعرضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وأيم الله إني لأقول قولي هذا، وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي قد حدث أمر عظيم، وليس ك*** الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة القبيلة.
فقالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم علي، وهو على مثل رأيك صَلُح الأمر.
فرجع إلى علي، فأخبره فأعجبه ذلك، وأتفق القوم على الصلح، وكره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه، وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه، أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء، وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيباً، فذكر الجاهلية، وشقاءها، وأعمالها، وذكر الإسلام، وسعادة أهله بالألفة والجماعة.
وقال علي - رضي الله عنه -: إني متوجه بقومي إليهم للمصالحة، فمن كانت له يد في *** عثمان بن عفان فلا يتبعنا، فقاموا معه إلا ألفين وخمسمائة، وهم من شاركوا ورضوا ب*** عثمان - رضي الله عنه -، ويعلنون ذلك صراحة.
بدأ هؤلاء ال***ة يشعرون بتحييد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لهم، فخافوا على أنفسهم، وذهب علي - رضي الله عنه - بمن معه من القوم إلى السيدة عائشة، ومن معها وجاء الليل، وبات الفريقان خير ليلة مرت على المسلمين منذ أمد بعيد، ونام أهل الفتنة في شر ليلة يفكرون كيف سيتخلصون من هذا الصلح الذي سيكون ثمنه هو رقابهم جميعاً، وخططوا من جديد لإحداث الفتنة التي كانت نتيجتها موقعة الجمل.
موقعة الجمل
قبل الدخول في أحداث معركة الجمل، نتناول بعض الشبهات والأسئلة ونرد عليها.
الشبهة:مبايعة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لم تكن مبايعة شرعية، ومن ثَم يحق لمعاوية - رضي الله عنه - ألا يبايع عليًا - رضي الله عنه -، خاصة أن من بايعه إنما هم أهل الفتنة، ومبايعتهم غير شرعية وغير جائزة.
الرد: معظم الناس، وخاصة كبار الصحابة، وهم أهل الحل والعقد، هم الذين بايعوا عليًا - رضي الله عنه -، ومنهم أيضًا طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام - رضي الله عنه - اللذين كانا يطالبان بدم عثمان، أولًا قد بايعا، وبايع أيضًا أهل الفتنة، ومبايعتهم في هذا الإطار لا تقدم ولا تؤخر بعد مبايعة أهل الحل والعقد من الصحابة، ولكن ما حدث أن الرؤى توافقت في هذا التوقيت، فقد كان أهل الفتنة يريدون تولية علي - رضي الله عنه -، وكان يريد ذلك أيضًا جميع أهل المدينة، ولم يعترض أحد على تولية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - لم يكن يعترض مطلقًا على تولية علي - رضي الله عنه -، ولكن كان الاختلاف في ترتيب الأولويات؛ فمعاوية - رضي الله عنه - يريد القصاص من ***ة عثمان - رضي الله عنه -، وعلي - رضي الله عنه - يريد استقرار الدولة أولًا، ثم يرى رأيه في أهل الفتنة، وي*** منهم من يستحق ال***، ويعزر من يستحق التعزير بعد أن تقوى شوكة المسلمين، وتزول الفتن القائمة.
الكل إذن على اتفاق على تولية علي - رضي الله عنه -، ونذكر في هذا الإطار أن عليًا - رضي الله عنه - كان مرشحًا للخلافة مع عثمان - رضي الله عنه -، ولم يعدل أهل المدينة به، وبعثمان - رضي الله عنهما - أحدًا، ولكن كان هناك إجماع على تولية عثمان - رضي الله عنه - في ذلك التوقيت، فمن الطبيعي أن يتولّى علي - رضي الله عنه - الإمارة بعد عثمان - رضي الله عنه -، خاصة بعد أن أجمع أهل الحل والعقد على توليته.
سؤال:كيف يتم اختيار أهل الحل والعقد؟
الإجابة:أهل الحل والعقد في هذه الفترة كانوا هم كبار الصحابة من المهاجرين، والأنصار، وأهل بدر، وكان هؤلاء هم أهل الحل والعقد منذ عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وحتى هذا الوقت؛ وقت خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فكان يتجمع هؤلاء جميعًا - رضي الله عنهم -، ويأخذون القرارات المهمة التي لا يستطيع الوالي أن يأخذ فيها قرارًا بذاته، وبالأولى إذا لم يكن هناك والٍ، ويراد تولية أحد ليكون واليًا على أمر الأمة.
سؤال:لماذا لم يشترك علي ومعاوية - رضي الله عنهما - في *** ال***ة أولًا، ثم يتم بعد ذلك اختيار الخليفة، ومبايعته؟.
الإجابة:اختيار الخليفة ومبايعته أهمّ بكثير من *** ***ة عثمان - رضي الله عنه -؛ وذلك لأن البلاد لا تسير دون خليفة، أو أمير، فكيف يتم *** هؤلاء ال***ة، ومن المتوقع حدوث حربٍ ضارية وكبيرة على مستوى الدولة الإسلامية كلها؟.
ورأينا كيف قُتل ستمائة من المسلمين في البصرة وحدها، فكيف لو كان الأمر في غيرها من البلاد أيضًا؟.
ثم إنه إذا حدثت الحرب، وحدث القتال مع أهل الفتنة، فمن بيده أن يصدر قرارًا باستمرار الحرب أو وقفها، هل هو علي بن أبي طالب أم معاوية أم السيدة عائشة أم طلحة أم الزبير - رضي الله عنهم - جميعًا؟.
ثم إذا حدث أن دولة معادية للدولة الإسلامية استغلت نشوب القتال بين المسلمين وأهل الفتنة في الداخل، وهاجموا الدولة الإسلامية، فمن بيده القرار حينئذٍ؟.
وهل يتم وقف الحرب مع أهل الفتنة، وقتال المهاجمين من الخارج، أم يقاتلوا في الجبهتين داخليًا وخارجيًا؟.
ومن الذي يستطيع أن يأخذ هذا القرار ولا يوجد خليفة للمسلمين؟.
لا شكّ أن الأمر سيكون في منتهى الخطورة، ثم إنه عند تعارض مصلحتين تُقدم الأكثر أهمية فيهما، وتُؤخر الأخرى لوقتها، وإذا تحتّم حدوث أحد الضررين تمّ العمل بأخفهما ضررًا تفاديًا لأعظمهما.
وفي تلك الفترة حدث أمرٌ عظيم كان من الممكن أن يودي بالدولة الإسلامية كلها ولكن الله سلّم.
رأى قسطنطين ملك الدولة الرومانية ما عليه حال الدولة الإسلامية بعد م*** عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فجمع السفن وأتى من البحر متوجهًا إلى الشام؛ للهجوم على الدولة الإسلامية، وبينما هو في الطريق إلى المسلمين، وكانت الهلكة محققة للمسلمين إن وصل إليهم نظرًا لما هم عليه من الفتن والحروب بينهم وبين بعضهم، ولكن الله - تعالى -بفضله ومنّه وكرمه أرسل على تلك السفن قاصفًا من الريح، فغرق أكثر هذه السفن قبل الوصول إلى الشام، وعاد من نجا منهم، ومعهم قسطنطين إلى صقلية، واجتمع عليه الأعوان، والأمراء، والوزراء، وقالوا له: أنت ***تَ جيوشَنا. ف***وه.
وعلى فرض أن قسطنطين هذا نجح في الوصول إلى الشواطئ الشمالية للشام، فمن يستطيع أن يجمّع الجيوش لمحاربة هؤلاء الرومان، وأي جيوشٍ يجمعها، ففي كل بلد أمير، ولكل بلد جيشها، فمبايعة الخليفة إذن كانت أمرًا من الضرورة بمكان.
وإذا نظرنا إلى المدة التي كانت فيها الشورى لاختيار عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بعد م*** عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يكن المسلمون في تلك المدّة القصيرة دون أمير، بل كان أميرهم في هذه الثلاثة أيام هو عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وأرضاه، فلا يصح بحال أن يمر على المسلمين يوم واحد دون أن يكون عليهم أمير، ولما بويع عثمان - رضي الله عنه - بالخلافة، قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: قد خلعت ما في رقبتي في رقبة عثمان.
بل إن الصحابة - رضي الله عنهم - قد اختاروا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يدفنوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما مات الصديق - رضي الله عنه - بين المغرب والعشاء، بايع المسلمون في الفجر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه، فالأمر عظيم، وجلل، ولا يصح تأجيله بحال من الأحوال، وكان من الواجب على الجميع أن يبايعوا الخليفة الذي اختاره أهل الحل والعقد، واختاره أهل المدينة والكثرة الغالبة من أهل الأمصار، وهو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
سؤال:من الذي استخلفه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على المدينة عندما توجه إلى الكوفة؟
الإجابة:استخلف - رضي الله عنه - قثم بن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، وهو ابن أخيه، ولم يستخلف أحدًا من أهل الفتنة، بل أخذهم معه في الجيش، وأَخْذِهِ لهم معه في الجيش ضرورة اضطر إليها، وهو - رضي الله عنه - أكثر الناس كراهية لهم، ولما سمع - رضي الله عنه - أن جيش السيدة عائشة يدعون: اللهم العن ***ة عثمان.
قال - رضي الله عنه -: اللهم العن ***ة عثمان.
ولم يأخذهم معه حبًا فيهم، أو مساندة لهم.
قصة ماء الحوأب ونباح الكلاب
ذكروا أن السيدة عائشة - رضي الله عنها - وأرضاها ومن معها، مروا في مسيرهم ليلاً بماء يقال له: الحوأب، فنبحتهم كلاب عنده، فلما سمعت ذلك عائشة قالت: ما اسم هذا المكان؟
قالوا: الحوأب.
فضربت بإحدى يديها على الأخرى، وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أظنني إلا راجعة.
قالوا: ولم؟.
قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لنسائه: ((ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب)).
ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: ردوني ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب.
يقول ابن العربي في العواصم من القواصم أن هذه الرواية لا أصل لها، ولم ترد، وأنها غير صحيحة.
لكن البعض صحح هذا الحديث، والشيعة في كتبهم، وكذلك بعض الكتّاب من السنة الذين ينقلون دون تمحيص، أو تدقيق يذكرون هذه القصة في كتبهم ويعلّقون عليها بقولهم: إن السيدة عائشة لما عزمت على العودة لشكها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عناها بأنها هي التي ستنبحها كلاب الحوأب، وأنها بذلك تفرّق كلمة المسلمين، يقولون أن طلحة بن عبيد الله، والزبير، وعبد الله بن الزبير اجتمعوا على السيدة عائشة، وأقسموا لها أن هذا المكان ليس ماء الحوأب، وأتوا بخمسين رجل شهدوا على ذلك، فيقول المسعودي وهو من كبار علماء الشيعة في كتابه (مروج الذهب) عن هذه الشهادة: فكانت أول شهادة زور في الإسلام.
وهذا الحديث كما ذكرنا ليس له أصل، وإن صح فليست السيدة عائشة - رضي الله عنها - هي المعنيّة بهذا القول، وإنما قالت ذلك- إن كانت قد قالته- تقوى وخشية أن تكون هي المقصودة بهذا الكلام، وأن عبد الله الزبير بن العوام قد قال لها أنها ما خرجت إلا للصلح بين المسلمين، وأن هذا لا ينطبق عليها مطلقًا، وتُذكر رواية أخرى، وهي مشكوك في صحتها أيضًا تقول: إن إحدى الجاريات كانت موجودة مع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وجّه إليهن هذا الكلام، وأن هذه الجارية ارتدت، و***ت على يد خالد بن الوليد في حروب الردة، وهي المقصودة في الحديث.
ولو صحت الرواية الأولى لكان من المستحيل على السيدة عائشة - رضي الله عنها - وأرضاها أن تكون قد علمت، وتيقنت أنها صاحبة هذا الأمر، واستمرّت فيه، ومن المستحيل على الصحابة الأخيار الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم - جميعًا، من المستحيل أن يكونوا قد شهدوا زورًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شهد لهم بالجنة.
رءوس الفتنة يدبرون ويخططون
بعد أن أوشك الطرفان أن يصلا إلى موقف موحد بعد حديث القعقاع مع السيدة عائشة وطلحة والزبير وبعد أن ذهب علي - رضي الله عنه - بمن معه من القوم إلى السيدة عائشة، ومن معها، وجاء الليل، وبات الفريقان خير ليلة مرت على المسلمين منذ أمدٍ بعيد، ونام أهل الفتنة في شر ليلة يفكرون كيف سيتخلّصون من هذا الصلح الذي سيكون ثمنه هو رقابهم جميعًا، وخططوا من جديد لإحداث الفتنة.
في هذا الوقت أشار بعض الناس على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوّام - رضي الله عنهما – أن الفرصة سانحة ل*** ***ة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وذلك لأن عليًا - رضي الله عنه - عندما توجه للصلح مع القوم قال: لا يصحبنا أحدًا شارك، أو أعان على *** عثمان بن عفان.
فانسلخ من ***، ومن شارك، وتقدم بقية الجيش للبصرة، فأصبح أهل الفتنة بعزلة عن جيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فرفض طلحة والزبير - رضي الله عنهما -، وقالا: إن عليًا أمر بالتسكين.
فمن الواضح أن لديهم قناعة تامة بالصلح والأخذ برأي علي - رضي الله عنه -.
واجتمع ***ة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وتشاوروا في الأمر، فقال بعضهم: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم، فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا علياً بعثمان.
فهم يريدون هنا *** علي - رضي الله عنه - أيضًا، وهذا مما يدل بشكل قاطع أن عليًا - رضي الله عنه - لم يكن له أي تعاون مع هؤلاء ال***ة، فها هم يريدون ***ه، حتى تظل الفتنة دائرة.
فقام عبد الله بن سبأ وقال: لو ***تموه لاجتمعوا عليكم ف***وكم.
وهذه الفئة كما نرى إنما هم أهل فتنة، ويطلبون الحياة الدنيا، أما جنود علي - رضي الله عنه -، ومن مع السيدة عائشة - رضي الله عنه - إنما يريدون الآخرة، وإرضاء الله - تعالى -، والجنة، ويظنون أنهم على الحق، ويجاهدون في سبيل الله، ويحتسبون أنفسهم شهداء في سبيل الله إن ***وا في ميدان الحرب.
فقال أحد الناس: دعوهم، وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها.
أي يرجع كلٌ إلى قبيلته ويحتمي بها، فرفض عبد الله بن سبأ هذا الرأي أيضًا وقال: لو تمكّن علي بن أبي طالب من الأمور لجمعكم بعد ذلك من كل الأمصار و***كم.
وكان عبد الله بن سبأ معهم كالشيطان يرتّب لهم الأمور حتى يتم اختيار الرأي الصائب من وجهة نظرهم.
فأشار على مَنْ معه مِنْ أهل الفتنة في تلك الليلة التي كان المسلمون سيعقدون الصلح في صبيحتها أن تتوجه فئة منهم إلى جيش الكوفة، وفئة أخرى إلى جيش البصرة، وتبدأ كل فئة منهما في ال*** في الناس وهم نيام، ثم يصيح من ذهبوا إلى جيش الكوفة ويقولون: هجم علينا جيش البصرة.
ويصيح من ذهب إلى جيش البصرة ويقولون: هجم علينا جيش الكوفة.
وقبيل الفجر انقسم أهل الفتنة بالفعل إلى فريقين، ونفذوا ما تم الاتفاق عليه، و***وا مجموعة كبيرة من الفريقين، وصاحوا، وصرخوا أن كل من الفريقين –البصرة والكوفة- قد هجم على الآخر، وفزع الناس من نومهم إلى سيوفهم، وليس لديهم شك أن الفريق الآخر قد غدر بهم، ونقض ما اتفق عليه من وجوب الصلح، ولم يكن هناك أي فرصة للتثبت من الأمر في ظلام الليل وقد عملت السيوف فيهم، وكثر ال*** والجراح، فكان هَمّ كل فريق هو الدفاع عن نفسه (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) [الأحزاب: 38].
وكان أبو سلام الدالاني قد قام إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في تلك الليلة، وقبل أن يحدث القتال، وسأله: هل لهؤلاء القوم- يعني السيدة عائشة، وطلحة والزبير - رضي الله عنهم - جميعًا- حجة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله في ذلك؟
قال: نعم.
قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك؟
قال: نعم.
قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟ أي بالقتال بيننا وبينهم.
قال: إني لأرجو أن لا يُ*** منا ومنهم أحد نقّي قلبه لله، إلا أدخله الله الجنة.
وهذا لأن كل واحد منهما كان متأولًا أنه على الحق، واجتهد في ذلك، فمنهم من أصاب فله أجران، ومنهم من أخطأ فله أجر واحد، ولا ينطبق عليهم الحديث: ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بَسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)).
بداية القتال
بدأت الحرب يوم الأربعاء 15 جمادى الثاني سنة 36 هـ، 7 من ديسمبر سنة 656 م، واستيقظ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من نومه على صوت السيوف، والصراخ، والصياح، ولا يعلم من أين بدأ القتال، وكيف نشب بين الفريقين، وكذلك الحال في معسكر السيدة عائشة - رضي الله عنها - ومن معها طلحة، والزبير، وابنه عبد الله، وسائر الجيش، وصرخ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في الناس أن كُفّوا، لكنه لم يستطع لشدة المعركة، فلما نظر - رضي الله عنه - إلى المسلمين تتطاير رءوسهم بأيدي بعضهم البعض فقال: يا ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة.
ونادى في الناس: كفوا عباد الله، كفوا عباد الله.
ثم احتضن ابنه الحسن، وقال: ليت أباك مات منذ عشرين سنة.
فقال له: يا أبي قد كنت أنهاك عن هذا.
قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا.
فلم يكن يتوقع أحد أن تتفاقم الأمور إلى هذه الدرجة، وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد ذلك: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وظل - رضي الله عنه - في محاولة كف الناس عن القتال، لكنه لم يستطع، وقد عمّت الفتنة، واشتد القتال.
ممن التقى بسيفه مع الآخر في هذه المعركة الزبير بن العوّام، وعمار بن ياسر - رضي الله عنهما -.
كم من المرات قاتلا جنبًا إلى جنب تحت راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدر، وما بعدها، وكان عُمْر عمار بن ياسر حينها تسعين سنة، وعمر الزبير بن العوام خمسة وسبعين سنة، ومع قدرة الزبير على *** عمار - رضي الله عنهما - إلا أنه لا يستطيع، فقد تحملا معًا الكثير في سبيل بناء الدولة الإسلامية التي يُهدم اليوم من دعائمها الكثير، وقد تربيا معًا على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعُذّبا كثيرًا في سبيل الله، ولكنها الفتنة، وما كان لهما أن يتقاتلا، وهما في هذا العمر دفاعًا عن باطل، أو رغبةً في الدنيا.
فيقول الزبير - رضي الله عنه - لعمار بن ياسر - رضي الله عنه -: أت***ني يا أبا اليقظان؟
ويضربه عمار بن ياسر - رضي الله عنه - بالرمح دون أن يدخله في صدره ويقول له: لا يا أبا عبد الله.
ويخشى الزبير بن العوّام أن يكون ممن وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالفئة الباغية حين قال لعمار بن ياسر - رضي الله عنه -: وَيْحَكَ ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
فيخشى الزبير - رضي الله عنه - أن يكون من هذه الفئة الباغية، ويريد أن يكفّ عنه، وهذا ما حدث، ولم ي*** أحدهما الآخر.
ويبحث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن الزبير بن العوّام - رضي الله عنه -، ويلتقيان، فيقول علي - رضي الله عنه - للزبير - رضي الله عنه -: أما تذكر يوم مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني غنم، فنظر إليّ وضحك، وضحكتُ إليه، فقلتَ:
لا يدع ابن أبي طالب زهوه.
فقال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَرِّدٍ لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ؟
فقال الزبير: اللهم نعم، ولو ذكرتُ ما سرتُ مسيري هذا، ووالله لا أقاتلك.
وبعدها أخذ الزبير بن العوّام - رضي الله عنه - خيله، وبدأ في الرجوع عن القتال، ولم يأخذه الكبر والعزة، وهو أحد رءوس الجيش الذي يبلغ تعداده ثلاثون ألفًا، وذلك لما ذُكّر بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبينما هو ينسحب من ساحة القتال، ويعود، يقول له ابنه عبد الله بن الزبير: جمعت الجموع، ثم تعود.
فيقول الزبير - رضي الله عنه -: والله لا أقاتل عليًا.
ويخرج الزبير - رضي الله عنه - من ساحة القتال متجهًا إلى مكة، وفي منطقة تًسمّى وادي السباع، وعلى بعد أميال قليلة من البصرة يتبعه عمرو بن جرموز، وهو ممن كان في جيش علي - رضي الله عنه -، ومع الزبير - رضي الله عنه - غلامه، فيقول ابن جرموز لهما: إلى أين المسير؟
فيقولان: إلى مكة.
فيقول: أصحبكما.
وفي رواية أن الزبير - رضي الله عنه - كان يقول: إني أرى في عين هذا الموت.
ويأتي وقت الصلاة، فيؤمّهما الزبير - رضي الله عنه -، وبعد أن يكبر تكبيرة الإحرام يهجم عليه ابن جرموز وي***ه وهو يصلي، ثم يأتي بسيف الزبير - رضي الله عنه - إلى علي - رضي الله عنه - فرحًا مسرورًا، ظانًا بذلك أنه يدخل السرور على قلب علي - رضي الله عنه -، ويصل الخبر إلى علي - رضي الله عنه - فيبكي بكاءً شديدًا، ويرتفع نحيبه، ويمسك سيف الزبير - رضي الله عنه - ويقول: طالما كشف هذا السيف الكُرَب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ورفض علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يدخل عليه عمرو بن جرموز وقال: بَشّر قاتل ابن صفية بالنار.
فلما أُخبر بهذا ابنُ جرموز *** نفسه فباء بالنار، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
ولا زال القتال مستمرًا بين الفريقين، وكان طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - يقاتل بيده اليسرى، بينما كانت يده اليمنى شلّاء من يوم أُحد، حين صد بها الرمح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وبينما هو يقاتل -وكان عمره أربعًا وستين سنة-، أتاه سهم طائش لا أحد يعرف مصدره، ويقول من يكرهون الدولة الأموية: إن الذي رماه بالسهم هو مروان بن الحكم.
ولم تثبت أي رواية هذا الأمر، و*** هو الآخر - رضي الله عنه - وأرضاه، وقد كان هو والزبير - رضي الله عنهما - من أوائل من أسلم من الصحابة، وظلوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي حياتهم كلها مجاهدين في سبيل الله، ويتزعم الجيش في هذا الوقت عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -، وعن أبيه وأرضاهما.
ويشتد القتال بين الفريقين، وتتطاير الرءوس والأيدي والأرجل، ويذكر الرواة أن هذه الموقعة كانت أكثر المواقع قطعًا للأيدي والأرجل.
موقف السيدة عائشة رضي الله عنها
وحتى هذه اللحظة لم تدخل السيدة عائشة - رضي الله عنها - ساحة القتال، فيذهب إليها كعب بن ثور قاضي البصرة ويقول لها: يا أم المؤمنين، أنجدي المسلمين.
فتقوم السيدة عائشة - رضي الله عنه - وأرضاها، وتركب الهودج ويوضع على الجمل، وتدخل إلى ساحة القتال؛ لتنصح المسلمين بالكفّ عن القتال، وعن هذه المجزرة التي لم تحدث من قبل في تاريخ المسلمين.
وتسيء كتابات مَن تربَوا على أيدي الغرب إلى السيدة عائشة - رضي الله عنها - وأرضاها في هذا الموقف، فيقول طه حسين في كتابه (علي وبنوه): إن السيدة عائشة خرجت تتحدث إلى مَن على يمينها محرّضة، وإلى مَن على شمالها محمسة، وإلى مَن أمامها مذكرة، وأنها كانت تشجع الناس على القتال.
ويقول طه حسين أيضًا: إن عليَا - رضي الله عنه - عندما سمعهم يلعنون ***ة عثمان، قال: يلعنون ***ة عثمان، والله ما يلعنون إلا أنفسهم فهم ***وه، اللهم العن ***ة عثمان.
ولا يصح من هذا كله إلا الجملة الأخيرة: اللهم العن ***ة عثمان.
وقد قالها علي - رضي الله عنه - عندما سمع دعاء الفريق الآخر على ***ة عثمان، ولا ندري من أين أتى طه حسين بهذه القصة، وبهذا الكلام الذي لم يذكر أي توثيق له.
وعلى هذا النسق أيضًا تقول زاهية قدّورة في كتابها: "عائشة أم المؤمنين": إن السيدة عائشة بدأت تحركاتها الظاهرة؛ لنشر الدعاية ضد علي بحجة المطالبة بدم عثمان، بل إنها اتهمت عليًا ب*** عثمان، ولهذه الخصوم بين عائشة وعلي أسباب:
1- أن عائشة كانت أول زوجة بنى بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة - رضي الله عنها -، وخديجة هي أم فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحقدت عليها فاطمة؛ لأنها زوجة أبيها، وحزن علي - رضي الله عنه - لهَمّ زوجته، ونشأت بين علي وعائشة الخصومة بسبب هذا الأمر.
2- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يحب السيدة فاطمة حبًا شديدًا، وقال عنها: إنها سيدة نساء العالمين، فتقول الكاتبة إن هذا أيضًا جعل الغيرة تزيد في قلب السيدة عائشة.
3- تقول الكاتبة أن عليًا - رضي الله عنه - أشار على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتطليق السيدة عائشة بعد حادث الإفك قبل أن يتحقق الأمر، والنساء سواها كثيرًا، وذلك لكراهته لها، وازداد الأمر تعقيدًا كما تقول الكاتبة.
4- أن السيدة فاطمة وزوجها سيدنا علي قد أظهرا الشماتة سرًا أو جهرًا - على خلاف- عندما اتهمت السيدة عائشة - رضي الله عنها - في حادث الإفك.
5- أن عليًا كان يحقد على السيدة عائشة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقرّب أباها أبا بكر - رضي الله عنه - أكثر منه، ومن ثَمّ حقد عليها، وحقدت هي عليه أيضًا.
6- أن السيدة عائشة لم تُرزق بأولاد بينما رزق علي وفاطمة بالحسن والحسين اللذين كان يحبهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأوجد ذلك الغيرة عند السيدة عائشة.
7- تذكر الكاتبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما مرِض مرَض الموت اختار بيت السيدة عائشة، فغضب علي لهذا الأمر.
8- تقول الكاتبة أن السيدة عائشة سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته يأمر أن يصلى أحد بالناس فقالت لبلال: "اجعل أبا بكر يصلي بالناس".
فحقد عليها عليّ لهذا الأمر واتهمها به، وبعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال الناس: كيف يرضاه الرسول لديننا بأن أمره أن يؤمهم في الصلاة ولا نرضاه لدنيانا.
فكان خليفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، فتشير الكاتبة بهذا أن هذه لعبة لعبتها السيدة عائشة؛ ليتسلم والدها الخلافة، ثم تأتي الكاتبة برواية أخرى تقول أن العباس - رضي الله عنه - قال لعلي - رضي الله عنه -: امدد يدك أبايعك فيقول الناس: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله، فلا يختلف عليك اثنان. فقال له علي: وهل يطمع فيها طامع غيري.
9- بعد وفاة السيدة فاطمة ذهب سائر زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- وقدمن العزاء لعلي - رضي الله عنه -، ولم تذهب السيدة عائشة، ونُقل على لسانها لعلي - رضي الله عنه - ما يدل على السرور.
ثم تقول الكاتبة: هذه هي الأسباب التي ظهرت في شكل خصومة انتهت إلى سفك الكثير من الدماء في موقعة الجمل.
وهذا الكتاب من المفترض أن يكون كتابًا لأهل السنة، لكن كل مصادر الكتاب عن علم الكاتبة، أو عن جهلها مصادر شيعية.
وما حدث أن السيدة عائشة - رضي الله عنها - عندما ذهب إليها كعب بن ثور يطلب منها نجدة المسلمين، ودخلت هودجها، ووضع الهودج على الجمل، ودخلت ساحة القتال نادت على المسلمين جميعًا: الله الله يا بَنِي، اذكروا يوم الحساب.
وأعطت مصحفها لكعب بن ثور وقالت له: ارفعه بين الناس، لعل الله أن يزيل به ما بين الناس.
فلما أخذ المصحف، ورفعه تناوشته السهام، فقُتل لتوّه، ودخلت السيدة عائشة بالجمل في ساحة القتال، ومن ثَم سُمّيت الموقعة بموقعة الجمل، فكان الناس جميعًا يقاتلون حميّة حول الجمل بينما السيدة عائشة - رضي الله عنها - من داخل الهودج تأمر الناس بالكف عن القتال، إلا أن الناس جميعًا كانوا يتفانون في القتال حول الجمل، و*** ممن يمسك بخطام الجمل سبعون رجلًا، فكان احتدام القتال، وقوته، ومنبعه من حول جمل السيدة عائشة - رضي الله عنها -، فأشار القعقاع بن عمرو التميمي - رضي الله عنه - ب*** الجمل، أو عقره مع المحافظة والحماية لهودج السيدة عائشة - رضي الله عنها -، وذلك حتى يهدأ القتال، وتزول الفتنة، واجتمع القوم على الجمل لي***وه، أو يعقروه، بينما الفريق الآخر يستميت في الدفاع عن الجمل، وكان آخر المدافعين عن الجمل عبد الله بن الزبير بن العوّام، وهو ابن أخت السيدة عائشة - رضي الله عنها -، فلما أُخبرت السيدة عائشة بذلك قالت: واثكل أسماء.
فقد ظنت - رضي الله عنها - أنه سيموت في هذا الموقف، وقد جُرح - رضي الله عنه - سبعة وثلاثين جرحًا، وكان من المقاتلين الأشداء، لكنه لم ي*** - رضي الله عنه -، بل استمرت حياته، وامتدت بعد ذلك مدة طويلة.
بعد قتال مرير أفلح فريق علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في عقر الجمل، ولما وقع الجمل انهارت معنويات جيش السيدة عائشة - رضي الله عنها - وبدأ الناس يفرون، وأصبح النصر في جانب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ورُشق هودج السيدة عائشة رضي الله عنها- قبل أن يسقط- بالرماح من كل جانب حتى أصبح مثل القنفذ كما يقول الرواة، ويأمر علي - رضي الله عنه - الناس بالكف عن ضرب الهودج بالسهام، والسهام لا تفرق بين الجمل، والهودج منها ما يرمي به أهل الفتنة، ومنها ما هو غير مقصود.
واجتمع المسلمون على هودج السيدة عائشة، فرفعوه من على الجمل المعقور ووضعوه على الأرض، وأمر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن تنصب على الهودج قبّة، فنُصبت عليه خيمة حتى يُحفظ سترها - رضي الله عنها -، وجاءها أخوها محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -، وكان مشاركًا في حصار عثمان - رضي الله عنه - لكنه تاب وندم وبكى، وعاد إلى صف المسلمين وحاول أن يرد ال***ة بسيفه عن عثمان - رضي الله عنه - لكنه لم يستطع، وبعد ذلك بايع عليًا - رضي الله عنه -، وها هو الآن يقاتل في صف علي - رضي الله عنه -، ونحسبه على خير، فقال للسيدة عائشة: هل وصل إليك شيء من الجراح؟ فقالت له: لا، وما أنت بذاك.
مما يدل على عدم رضاها عنه لما فعله ابتداءً في حق عثمان - رضي الله عنه -.
ثم جاء عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وكان عمره يومئذٍ تسعين سنة بينما كان عمر السيدة عائشة - رضي الله عنها - أربعًا وأربعين، أو خمسًا وأربعين سنة-، فقال لها - رضي الله عنه -:
كيف أنتِ يا أم؟
فقالت: لست لك بأم.
فقال: بلى، أمي وإن كرهتِ.
بين علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما
وجاء إليها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مسلِّمًا، وسائلًا فقال: كيف أنت يا أم؟
فقالت: بخير.
فقال: يغفر الله لكِ. وفي رواية فقالت: ولكَ.
وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان من جيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يسلّمون على أم المؤمنين - رضي الله عنها - وأرضاها، فما زالوا يعظّمون هذه السيدة التي هي زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والسيدة عائشة - رضي الله عنها - وأرضاها حتى نهاية المعركة كانت على يقين تام- بعد اجتهادها- أنها على الحق، وكانت أعلم الناس، وأكثر الناس رواية لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي هريرة - رضي الله عنه -، وكان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقول: كان إذا أُشكل علينا حديث من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدنا عند عائشة علمًا من كل حديث.
وقد كانت - رضي الله عنها - أحبّ الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإطلاق، روى البخاري بسنده عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟
قال: عَائِشَةُ.
فقلت: من الرجال؟
فقال: أَبُوهَا.
قلت: ثم من؟
قال: ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
فعد رجالًا.
ولا خلاف بين أهل السنة أن السيدة خديجة، والسيدة عائشة - رضي الله عنهما - أفضل زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كان الخلاف اليسير آيتهما أفضل.
بعد أن انتهت المعركة أدركت أنها كانت على خطأ، وندمت على قدومها، وكانت بعد ذلك كلما ذُكرت موقعة الجمل بكت، وتمنّت لو أنها قد ماتت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ثم أمر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يوضع هودج السيدة عائشة- وهي فيه- في أفخر بيوت البصرة، وكان بيت رجل يُسمّى عبد الله بن خلف الخزاعي، تحت الحماية والحراسة معززة مكرمة، ويذهب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ليتفقد ***ى الفريقين، وكانت لحظات شديدة، وقاسية عليه - رضي الله عنه -، وكان يبكي بكاءً مرّا شديدًا، ويمر - رضي الله عنه - على طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - وهو مقتول، وشهيد في ساحة المعركة، ويجلس بجواره ويبكي، ويقول: لهفي عليك يا أبا محمد.
ويمرّ على محمد بن طلحة بن عبيد الله، والذي قُتل أيضًا في هذه المعركة فيبكي عليه، ويقول: هذا الذي كنا نسميه السجّاد -من كثرة سجوده-، وقد كان - رضي الله عنه - تقيًا ورعًا، ويمرّ - رضي الله عنه - على ال***ى من الفريقين يدعو لهم جميعًا بالمغفرة والرحمة ويصلّي على الشهداء من الفريقين، ويأمر بدفنهم، وتُجمع الأسلاب وهو ما تركه جيش البصرة، فيضع علي - رضي الله عنه - هذه الأشياء في مسجد البصرة ويقول: من كان له شيء يعرفه فليأخذه.
ويأمر - رضي الله عنه - بعدم الإجهاز على الجرحى، بل مداواتهم، وعدم متابعة الفارّين وألا يُ*** أسير، وذلك لأن كلا الفريقين كان يظن أنه على الحق وكلاهما من المسلمين.
ويريد أهل الفتنة أن توُزع عليهم الغنائم، ومن فقه علي - رضي الله عنه - أن قال بعدم وجود الغنائم بين المسلمين، وإنما تكون الغنائم من الأعداء، ومع إصرار أهل الفتنة على رأيهم، قال لهم علي - رضي الله عنه -: فلنقسّم الغنائم، ففي سهم مَن تكون السيدة عائشة؟!
فبهتهم بهذا القول، فتركوه، وانصرفوا.
ويذهب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى السيدة عائشة - رضي الله عنها - في بيت عبد الله بن خلف الخزاعي، ويجهزها للذهاب إلى مكة بأفضل ما يكون التجهيز، ويختار لها أربعين امرأة هنّ أشرف نساء البصرة؛ ليرافقنها إلى مكة، ومعها محمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر - رضي الله عنهم - جميعًا.
وعلى باب بيت عبد الله بن خلف الخزاعي ذُكر لعلي - رضي الله عنه - أن اثنين من الناس يذكران السيدة عائشة بسوء، فأمر بجلد كل واحد منهما مائة جلدة؛ تعزيرًا لهما على سبّهما أم المؤمنين، وزوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الأمر كما نرى لم يكن فيه منتصر ومهزوم بالمعنى الحربي؛ لأن الجميع من المسلمين، ومع كون الغلبة لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، إلا أنه كان أشد الناس حزنًا، وأسفًا، وألمًا، وكان هذا أيضًا شعور مَنْ غُلِبَ ومَن غَلَبَ على السواء.
وقد استشهد في هذه المعركة العظيمة من كلا الفريقين عشرة آلاف؛ خمسة آلاف من جيش علي - رضي الله عنه -، وخمسة آلاف من جيش السيدة عائشة، وطلحة، والزبير - رضي الله عنهم - جميعًا، وكلٌّ من المسلمين، وقُتُل على أيدي المسلمين، وهذا العدد الضخم في يوم واحد، بينما قُتل في معركة القادسية ثمانية آلاف ونصف، وشهداء اليرموك كانوا ثلاثة آلاف، وشهداء معركة الجسر التي كانت من أشد الكوارث على المسلمين كانوا أربعة آلاف، بينما شهداء موقعة الجمل عشرة آلاف بأيدي المسلمين، فكانت من أشد البلاء على المسلمين (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُوراً) [الأحزاب: 38]، ويجزي الله - تعالى -من اجتهد منهم فأصاب أجران، ومن اجتهد فأخطأ أجرًا واحدًا، وكل من الأخيار.
موقعة صفين
مقدمة
بعد انتهاء معركة الجمل حرص علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على هودج السيدة عائشة - رضي الله عنها -، ونقله إلى أفخم بيوت البصرة، وعندما أرادت السيدة عائشة - رضي الله عنها - أن تذهب إلى مكة، أرسل معها أربعين من أشرف نساء البصرة المعروفات، كما أرسل معها أخاها محمد بن أبي بكر، وأرسل معها أيضًا عمار بن ياسر، ومجموعة من الجنود لحمايتهم جميعًا، وسار مع القافلة بنفسه بعض الأميال مشيّعًا، كما سار الحسن والحسين - رضي الله عنهما - مسافة أكبر خلف السيدة عائشة - رضي الله عنها - حتى سلكت طريق مكة.
وقد ودّعت السيدة عائشة - رضي الله عنها - الناس قبل أن تغادر البصرة، وقالت لهم:لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين عليّ في القدم، إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها - أي أقارب زوجها- وإن عليًا لمن الأخيار.
فقال علي - رضي الله عنه -: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذاكَ، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.
فهذه هي نظرة كل منهما للآخر.
مكثت السيدة عائشة - رضي الله عنها - في مكة، حتى حجّت هذا العام 36 هـ، ثم عادت بعد الحج إلى المدينة المنورة.
بعد أحداث الجمل بايع أهل البصرة جميعًا عليًا - رضي الله عنه -، سواءً من كانوا معه، أو من كانوا عليه، وتمكن - رضي الله عنه - من الأمور، وولّى على البصرة بعد أن تم له الأمر فيها عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، ثم ترك البصرة، وتوجّه إلى الكوفة التي كان أغلب جيشه منها، ونزل في بيت متواضع، ورفض أن ينزل في قصرها الذي كان يُسمّى القصر الأبيض؛ لأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يكره هذا القصر لفخامته، ومكث - رضي الله عنه - في الكوفة ليسيطر على الأمور، ودانت له البصرة والكوفة، وهي مناطق كبيرة، وبها من الجنود الكثير، ولا زال بعض من أهل الفتنة في جيش علي - رضي الله عنه - إلى هذا الوقت، منهم من قُتل في معركة البصرة الأولى التي قُتل فيها ستمائة، وكثير منهم قُتل في معركة الجمل.
أما مصر فقد كان على إمرتها أثناء خلافة عثمان - رضي الله عنه - عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد خرج بجيشه من مصر متوجهًا لنجدة عثمان - رضي الله عنه -، ولكنه لمّا علم بم***ه توجه إلى الشام، وكان ممن يرى رأي معاوية بن أبي سفيان، وطلحة، وعائشة، والزبير - رضي الله عنهم - جميعًا مِن أخذ الثأر لعثمان - رضي الله عنه - من قَتَلَتِه قبل البيعة.
وتولّى الأمور في مصر، وسيطر عليها محمد بن أبي حذيفة الذي كان أحد أقطاب الفتنة مع كونه تربى في كنف عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وأحد أبناء المجاهدين البررة حذيفة بن عتبة الذي استشهد في اليمامة، ولما لم يعطه عثمان - رضي الله عنه - الإمارة لعدم رؤيته لكفاءته نقم عليه، وتعاون مع عبد الله ابن سبأ في الفتنة، وتقلّد الأمور بعد ذلك في مصر، وكان معاوية - رضي الله عنه - في الشام على مقربةٍ من مصر، وهي أقرب إليه من المدينة، ومن العراق، فلما حدثت الفتنة، وحدثت معارك البصرة أرسل معاوية - رضي الله عنه - جيشًا صغيرًا لمحاربة أهل الفتنة في مصر، فخرج له محمد بن أبي حذيفة في العريش بسيناء، وتقاتلا، وقُتل محمد بن أبي حذيفة، ومعه ثلاثون آخرون من أهل الفتنة، وقبل أن يتمكن جيش معاوية - رضي الله عنه - من مصر أرسل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قيس بن سعد أحد رجالاته إلى مصر للسيطرة على الأمور، فذهب، ومعه سبعة من الرجال، فأسرع إليها قبل جيش معاوية، وسيطر عليها، وصعد المنبر، وأعلن أنه يبايع عليًا - رضي الله عنه -، فبايعه أهل مصر جميعًا إلا فئة قليلة جدًا انحازوا إلى قرية (خربته) بمنطقة البُحَيْرة بمصر، وتركهم قيس بن سعد درءًا للحرب في ذلك الوقت، وتمكّن لعليٍّ - رضي الله عنه - الأمر في مصر في ذلك الوقت، ولم يعجب هذا الأمر معاوية - رضي الله عنه -، فأرسل رسالة إلى قيس بن سعد والي مصر من قِبَل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وأقام معاوية - رضي الله عنه - الحجة على قيس بن سعد، وأن معاوية - رضي الله عنه - يتتبع ***ة عثمان، ويأخذ بثأره ممن ***وه.
كان قيس بن سعد بعيدًا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فهو في مصر بينما علي - رضي الله عنه - في العراق، وبينهما معاوية - رضي الله عنه - في الشام.
لم يردّ قيس بن سعد على رسالة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - ردًا حازمًا صريحًا، بل كان في رسالته تردد في الأمر، وأُشيع في الشام أن لقيس بن سعد علاقة في السرّ مع معاوية، وخشي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن تنقلب الأمور في مصر، ويتكرر ما حدث في البصرة، فعالج الأمر بأن عزل قيسًا، وولّى مكانه محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -، وذكرنا قبل ذلك أن محمد بن أبي بكر كان الصحابي الوحيد الذي شارك ابتداءً في أمر الفتنة، ولكنه - رضي الله عنه - تاب على يد عثمان - رضي الله عنه -، ورجع عن ما كان عليه، بل ودافع بسيفه عن عثمان - رضي الله عنه -، ولكنه لم يستطع أن يثنيهم عن *** عثمان - رضي الله عنه -، وشهدت له بذلك السيدة نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان - رضي الله عنهما -، وبعد ذلك بايع عليًا - رضي الله عنه -، وحسن عمله، ونحسبه على خير، والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدًا.
دانت السيطرة لعلي بن أبي طالب تمامًا على مصر، وبعدما عُزل قيس بن سعد - رضي الله عنه - رجع إلى علي بن أبي طالب، واعتذر له عن كون ردّه على معاوية - رضي الله عنه - كان فيه شيءٌ من التردد مما أثار الشكوك حوله، فقبل منه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، واشترك قيس بن سعد في جيش علي - رضي الله عنه -.
أرسل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهو في الكوفة رسالتين إحداهما إلى جرير بن عبد الله أمير من قِبَل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على (همذان) في أرض فارس، وطلب منه المبايعة، فبايع جرير - رضي الله عنه - كل أهل (همذان)، وأتى بالمبايعة إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
والرسالة الأخرى إلى الأشعث بن قيس في (أذربيجان) فأخذ له البيعة من أهلها، فتمت لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - البيعة في كل منطقة شرق العراق، وأصبحت كل مناطق الكوفة، والبصرة، وما يليها من البلاد تحت إمرة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكذلك المدينة المنورة، ومكة، واليمن، ومصر، ولم يتبق إلا منطقة الشام فقط لم تبايع عليًا - رضي الله عنه -، والدولة الإسلامية كلها قد اتفقت على أمير واحد هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأرضاه، ولم يخالف إلا إمارة واحدة هي إمارة الشام، وإن كانت إمارة كبيرة.
وكانت مشكلة كبيرة تحتاج إلى وقفة حازمة من علي - رضي الله عنه -، فأرسل جرير بن عبد الله البجلي أحد صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه؛ لكي يتحاور معه من أجل الوصول إلى حل لتلك المشكلة دون الدخول في حرب بين المسلمين، خاصة بعد موقعة الجمل المُرّة، والتي راح ضحيتها عشرة آلاف من المسلمين، وذهب جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - إلى معاوية - رضي الله عنه -، وعرض عليه أن يبايع عليًا - رضي الله عنه - جمعًا لكلمة المسلمين، وتجنبًا للحرب بينهم، فجمع معاوية - رضي الله عنه - رءوس الشام، وفيهم الكثير من الصحابة، والفقهاء، وكبار التابعين، والقضاة، واستشارهم في الأمر، فاتفق اجتهادهم جميعًا على عدم المبايعة إلا بعد أخذ الثأر من ***ة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وقالوا: إن علي بن أبي طالب قد آوى ***ة عثمان بن عفان، وعطّل حدّاً من حدود الله، ومن ثَم لا تجوز له البيعة.
وكان معاوية - رضي الله عنه - يرى أنه ولي دم عثمان، وأنه لا بدّ من الأخذ بثأره من هؤلاء ال***ة، وأنه لا يجوز له بحالٍ أن يقصّر في هذا الأمر، وتأوّل قول الله - تعالى -: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) [الإسراء: 33].
ومعاوية - رضي الله عنه - هو ولي ابن عمه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وقد قالت له السيدة نائلة بن الفرافصة - رضي الله عنه -: أنت وليّه.
وحمّلته هذه المسئولية في الأخذ بثأره ممن ***ه.
والآية تشير أن لولي المقتول الحق أن يعفو، أو أن يأخذ له الأمير القصاص، ولا يُحكَّم طالب الدم، ومن ثَم كان لا بدّ أولًا من وجود حاكم قد بايعه الناس أولًا، ويذهب طالب الدم إلى الحاكم بعد أن يبايعه أولًا، ثم يطالبه بالقصاص، لا أن يمتنع عن البيعة، ويطالب بالقصاص، ولكن معاوية - رضي الله عنه - رفض الاستجابة لجرير بن عبد الله، بل أرسل هو رسلًا إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه لا يبايعه إلا بعد أن يسلّمه ***ة عثمان بن عفان، أو ي***هم هو، وبعدها يبايعه.
ويرى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن هذه الفئة هي الوحيدة الخارجة عليه من كل الدولة الإسلامية، ومن ثَم تجب محاربتها لردها إلى الحق، وإلى جماعة المسلمين، ولكنه قبل أن يبدأهم بحربٍ يحاول أن يقرّب وجهات النظر، وأن يسلك مع أهل الشام مسلك التهديد بقتالهم، إن لم يبايعوا، ويعودوا إلى جماعة المسلمين، فأمر بتجميع الجيوش، واستشار الناس، فأشار الجميع بأن تخرج الجيوش، وأن يخرج علي - رضي الله عنه - بنفسه مع الجيش، وكان ممن عارض خروجه ابنه الحسن، ورأى أن قتال أهل الشام سوف يأتي بفتنة عظيمة، لكن علي - رضي الله عنه - كان يريد أن يقمع الفتنة من جذورها، وأن يحسم الأمر من بدايته.
خروج الفريقين إلى صفين
خرج علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من الكوفة، وعسكر في منطقة النخيلة خارج الكوفة، واستخلف على الكوفة عقبة بن عامر الأنصاري أحد البدريين من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرسل علي - رضي الله عنه - مقدمة جيشه نحو الشام، وتقدمت هذه المقدمة، حتى تجاوزت نهر الفرات، ووصلت إلى منطقة تُسمّى (صفين)، وتتبع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - المقدمة بجيشه.
ووصلت الأخبار إلى معاوية - رضي الله عنه - أن علي بن أبي طالب قد خرج بجيشه من العراق متوجهًا إلى الشام؛ لإجبار أهلها على البيعة، فاستشار معاوية - رضي الله عنه - رءوس القوم، فأشاروا عليه بأن يخرج لجيش علي - رضي الله عنه -، وألا ينتظر في أرض الشام حتى يأتوه، كما أشاروا عليه أن يخرج بنفسه مع الجيش كما خرج علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مع جيشه، ووافق - رضي الله عنه - على هذا الرأي، وخرج بنفسه على رأس الجيش، وقد كان من مؤيدي الخروج عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، والذي قام وخطب الناس قائلًا:
إن صناديد أهل الكوفة والبصرة- أي عظماءهم وشجعانهم- قد تفانوا يوم الجمل، ولم يبق مع علي إلا شرذمة قليلة من الناس، وقد قُتل الخليفة عثمان بن عفان أمير المؤمنين، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تتركوه.
أي دم عثمان - رضي الله عنه -، وحمّس عمرو بن العاص الناس على القتال، وعُقدت الألوية، وخرج معاوية - رضي الله عنه - بالجيش، وأرسل مقدمة جيشه تجاه جيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
كان عُمْر عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، وهو يحمّس الناس في هذا الوقت للقتال 86 سنة، فكان شيخًا كبيرًا، وهو من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووردت أحاديث كثيرة في فضله - رضي الله عنه -، ولا ينبغي لأحد أن يظن أنه - رضي الله عنه -، وهو في هذه الفترة من عمره يفكر في الإمارة، أو الدنيا، وهو على أبواب لقاء الله - تعالى -، ولقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
كان على مقدمة جيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - زياد بن النضر، وعلى مقدمة جيش معاوية - رضي الله عنه - أبو الأعور السلمي، وتلتقي المقدمتان في منطقة صفين.
وأرسل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أوامره إلى مقدمته يقول لهم: ادعوهم إلى البيعة مرة بعد مرة، فإن امتنعوا، فلا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، ولا يقرب منهم أحد قرب من يريد الحرب، ولا يبتعد عنهم أحد بعد من يهاب الرجال.
وعرضت مقدمة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - البيعة على مقدمة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - مرة بعد مرة، لكنهم رفضوا البيعة، وبدأ الأعور السلمي من مقدمة معاوية القتال، ودار بينهم القتال ساعة، وسقط بعض ال***ى والشهداء، ثم تحاجزوا، كان ذلك في أوائل شهر ذي الحجة سنة 36 هـ أي بعد حوالي سبعة شهور، أو ثمانية من موقعة الجمل، وفي اليوم التالي تناوشت المقدمتان ساعة، ثم تحاجزوا، بعد أن سقط بعض ال***ى، والشهداء من الفريقين.
في اليوم الثالث جاء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بجيشه، وجاء معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - بجيشه.
كان تعداد جيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مائة وعشرين ألفًا، وجمع معاوية - رضي الله عنه - من أهل الشام وحدهم تسعين ألفًا، وهي أرقام ضخمة لم تصل إليها جيوش المسلمين من قبل، فقد كان تعداد المسلمين في اليرموك ستة وثلاثين ألفًا، وفي القادسية ثمانية وثلاثين ألفًا، بينما هم اليوم في صفين مائتان وعشرة آلاف، وكلهم من المسلمين، مائة وعشرون ألفًا مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وتسعون ألفًا مع معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -.
عندما يصل معاوية - رضي الله عنه - إلى أرض صفين يجد نهرًا يغذي تلك المنطقة كلها، فيسيطر على النهر، ويقطع الماء عن جيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ويكاد جيش علي - رضي الله عنه - أن يموت عطشًا بعد أن قُطع عنه الماء أكثر من يوم، ويتقاتل الفريقان على الماء، وفي آخر هذا اليوم أرسل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - صعصعة بن صوحان إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - يقول له:
إنا جئنا كافّين عن قتالكم، حتى نقيم عليكم الحجة، فبعثت إلينا مقدمتك، فقاتلتنا قبل أن نبدأكم، ثم هذه أخرى تمنعوننا الماء.
واستشار معاوية - رضي الله عنه - رءوس قومه في الأمر، فقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه-:
خَلِّ بينهم، وبين الماء، فليس من الإنصاف أن نشرب، ويعطشون.
فقال الوليد، وهو أحد من استشارهم معاوية - رضي الله عنه -:
دعهم يذوقون من العطش ما أذاقوا أمير المؤمنين عثمان بن عفان حين حاصروه في الدار.
فكان هذا رأيًا آخر، والذي حاصر عثمان - رضي الله عنه -، ومنعه الماء إنما هم أهل الفتنة، وهم يقولون: إن جيش علي يأوي هؤلاء ال***ة، ويجب أن يذوقوا ما ذاقه عثمان بن عفان.
فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح: امنعهم الماء إلى الليل، فلعلهم يرجعون إلى بلادهم.
وبعد تشاور، وتباحث بين الفريقين اتفقوا على أن يشرب الجميع من الماء دون قتال.
فكان ديدنهم- سبحان الله- أن يقاتلوا حتى إذا كفّ القتال، ذهبوا جميعًا، فشربوا من الماء دون أن يتقاتلوا عند الماء، ثم يأخذ كل فريق ***اه من ساحة المعركة، فيدفنوهم، ويصلّون عليهم، وهكذا كل يوم.
في اليوم الثالث من هذه الحرب أرسل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مجموعة أخرى لمعاوية - رضي الله عنه -، فأرسل له بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس، وشُبيس بن ربعي، وقال لهم: ائتوا هذا الرجل- يعني معاوية- فادعوه إلى الطاعة، والجماعة، واسمعوا ما يقول لكم.
فلما دخلوا على معاوية، بدأ بشير بن عمرو الأنصاري، فقال: يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك، ومجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله ألا تفرّق جماعة هذه الأمة، وألا تسفك دماءها بينها.
فقال له معاوية - رضي الله عنه -: هلّا أوصيت بذلك صاحبكم يعني عليَا - رضي الله عنه -.
فقال له: إن صاحبي أحق هذه البرية بهذا الأمر؛ لفضله، ودينه، وسابقته، وقرابته، وإنه يدعوك إلى مبايعته، فإنه أسلم لك في دنياك، وخير لك في آخرتك.
فقال معاوية - رضي الله عنه -: ويُتْرَك دم عثمان، لا والله لا أفعل ذلك أبدًا.
فالقضية عند كل من الطرفين واضحة تمامًا، ولا يرى أي خطأ فيما يراه، ويقاتل كل منهما على رأيه حتى النهاية.
وتفشل المفاوضات، وتبدأ المناوشات مرةً أخرى بين الفريقين، وفي كل يوم تخرج من كل جيش مجموعة تقاتل مجموعة من الجيش الآخر، وفي آخر اليوم يتحاجز الفريقان، ثم يعودان للقتال من جديد في اليوم التالي، وهكذا طوال شهر ذي الحجة، وفي تلك السنة أمّر علي - رضي الله عنه - على الحج عبد الله بن عباس، فأتم مهمته، ورجع بعد حجه إلى جيش علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
وفي شهر المحرم تهادن الفريقان، وحاولا الإصلاح، ولكن دون جدوى، وأرسل علي بن أبي طالب
- رضي الله عنه - عدي بن حاتم الطائي أحد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، ومع عدي يزيد بن قيس، وشُبيس بن ربعي، فقام عدي بن حاتم - رضي الله عنه -، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد: يا معاوية، إنا جئنا ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا، وأمرنا، وتُحقن به الدماء، وتأمن به السبل، ويُصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين، أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرًا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك، ومن معك من شيعتك.
ثم قال له كلمة قاسية شديدة قال: فانته يا معاوية، لا يصبك مثل ما أصاب أصحاب يوم الجمل.
فقال له معاوية: كأنك إنما جئت مهددًا، ولم تأت مصلحًا، هيهات، والله يا عدي، إني لابن حرب لا يُقعقع لي بالشنئان.
فقال له شُبَيْس بن ربعي: اتق الله يا معاوية، ولا تخالفه، فإنا والله ما رأينا رجلًا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
فتكلم معاوية، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنكم دعوتموني إلى الجماعة والطاعة، فأما الجماعة فمعنا هي، وأما الطاعة، فكيف أطيع رجلًا أعان على *** عثمان، وهو يزعم أنه لم ي***ه، ونحن لا نردّ ذلك عليه، ولا نتهمه به، ولكنه آوى ***ته، فيدفعهم إلينا حتى ن***هم ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة، والجماعة.
فيقول شُبيس بن ربعي: أنشدك الله يا معاوية لو تمكنت من عمار بن ياسر أكنت قاتله بعثمان؟
فقال معاوية: لو تمكنت منه ما ***ته بعثمان، ولكني أ***ه بغلام عثمان.
ومعاوية - رضي الله عنه - لا يقول هذا الكلام حميّةً لعثمان - رضي الله عنه -، ولا عصبية، ولكنه يرى أنه لا تعطيل لحدود الله مهما صغر المقتول، كغلام عثمان مقارنة بعثمان - رضي الله عنهما -، ومهما كان القاتل أو من أعان على إيوائه.
وأرسل معاوية - رضي الله عنه - بعض الرسل إلى عليٍ - رضي الله عنه - فيهم شرحبيل بن عمرو، وحبيب بن مسلمة، ولكن لم يتم الصلح طوال شهر المحرم.
في آخر يوم من أيام المحرّم استدعى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مناديه يزيد بن الحارث، وأمره أن يخرج إلى أهل الشام ويقول لهم: ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد استأنيتكم لتراجعوا الحق، وأقمت عليكم الحجة، فلم تجيبوا، وإني قد نبذت إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين.
وبهذا القول يتضح لنا أنه - رضي الله عنه - قد قرّر أن يستأنف القتال مرةً أخرى، ولكنه في هذه المرة سيكون أشد وأ***، ويخطب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - خطبةً عصماء في قومه يحمّسهم على الجهاد في سبيل الله، ثم يقول لهم: ولا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدّبرًا، ولا تكشفوا ستر امرأة، ولا تُهان، وإن شتمت أمراء الناس وصلحاءهم.
وقام معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - أيضًا في جيشه، وخطب في قومه خطبةً حمّسهم فيها على الجهاد في سبيل الله وقال لهم: (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128].
ويلتقي الجيشان في أول يوم في شهر صفر، وأخرج كلٌ من الفريقين مجموعةً تقاتل الأخرى.
في اليوم الأول أخرج علي بن أبي طالب فرقة كبيرة من جيشه، وعلى رأسها: الأشتر النخعي لمقابلة مجموعة مثلها من جيش معاوية.
والأشتر النخعي هذا كان أحد كبار رجال الفتنة كما ذكرنا من قبل، ولكنه كان صاحب بأس شديد، وله كلمة مسموعة في قومه، وكثير ممن خرجوا معه له عليهم الكلمة ورأي، ومن ثَمّ استعان به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ليقمع هذه الفتنة سريعًا لبأسه الشديد في الحرب، ولكلمته المسموعة في قومه، وقد كان النخعي قبل أحداث الفتنة من أشد الناس تقوى، ولكنه كان محبًا للرئاسة.
وللموضع تتمة

 

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 03:48 PM.