|
أرشيف المنتدى هنا نقل الموضوعات المكررة والروابط التى لا تعمل |
|
أدوات الموضوع | ابحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
![]()
بما أن ابن خلدون قد أقام جسوراً قوية بين التاريخ، وعلم الاجتماع، من حيث إنه جعل وظيفة المؤرخ، رصد التاريخ الاجتماعي (علم العمران) بالدرجة الأولى ، فإن تبادل التأثير بين العلمين في المنهج، تصبح قوية الوشائج... ومن هنا نراه يرفض في دراسة علم الاجتماع، اتباع المناهج المرفوضة في دراسة التاريخ، فيرفض اتباع الطريقة الوصفية التاريخية الخاصة، التي لا عمل لها، إلا وصف الظواهر الاجتماعية، وماكانت عليه، دون استخلاص النتائج فيما يتعلق بطبيعة هذه الظواهر، وقوانينها، ويرفض اعتماد الطريقة الوعظية الإرشادية المباشرة، التي تحث على التمسك بالمبادئ التي تقررها نظم المجتمع، كما أنه - أخيراً - يرفض الاتجاه الفكري، الذي يتحدث فيما ينبغي أن تكون عليه الظواهر الاجتماعية طبقاً للمنظور الذي ينظر من خلاله كل منهج إلى المجتمع.
وهكذا يَرْشَحُ المنهج الاجتماعي على المنهج التاريخي، ويلتقيان دون برزخ ، ويبدو المنهج التاريخي في الفكر الخلدوني، محصوراً في رصد (تاريخ المجتمعات كما كانت فعلاً)، بطريقة علمية، تكشف قوانين حركتها الداخلية، التي تسير هي الأخرى، في نشأتها وتطورها، ومختلف أحوالها، حسب قوانين ثابتة مضطردة، مثل القوانين التي يخضع لها القمر، في تزايده وتناقصه، والليل والنهار، في اختلافهما باختلاف الفصول.. كما هدته تأملاته العميقة لشؤون الاجتماع الإنساني، إلى أن الظواهر الاجتماعية لا تشذ عن بقية الظواهر الكونية، وأنها محكومة في مختلف جوانبها بقوانين تشبه القوانين التي تحكم ظواهر الفلك، والطبيعة، والحيوان، والنبات، وما إلى ذلك. لقد أصبح موضوع التاريخ، هو تاريخ الاجتماع (العمران)، وهو الأمر الذي لم يلتفت إليه المؤرخون عن قصد ، وإن تطرقوا إليه عفواً... كما أنه ليس تاريخ الاجتماع الوصفي، بل الاجتماع الذي يخضع لتحليل وتفكيك، يتعرف المؤرخ من خلالهما، على البناء الداخلي، الذي يتحرك المجتمع به: (كيفيات الوقائع) -حسب مصطلح ابن خلدون- بعد أن يستخدم المؤرخ النظر في (باطن) المجتمع، و (تعليل) المكونات.. لقد اشترك العلمان إذن، في وظيفة واحدة، فالعمران هو موضوع الاجتماعي والمؤرخ، والبحث في الاجتماع (في شروطه وقوانينه)، هو موضوع التاريخ . إن منهجية علم التاريخ، وموضوعه (العمران) ، عند ابن خلدون، حضاريان شاملان، يخضعان لمنظوره الإسلامي، وليسا (ماديين) ، أو(دنْيويين)، بهذا الإسقاط غير العلمي، الذي يجهد أصحابُ التفسير المادي ، والدنيوي العلماني أنفسهم ، من فرضه قسراً، وبهتاناً، على فكر ابن خلدون. بل إن ابن خلدون، كان يلح على أن ينتقل علما التاريخ والاجتماع، من مرحلة الوصف، إلى مرحلة التحليل ، ومن الظاهر، إلى الباطن، من أجل اكتشاف سنن الله الاجتماعية، التي تتحرك بها الوقائع، في بنائها الكلي، وإطارها الحضاري ، وصولاً إلى التفاعل الإيجابي والشرعي، مع هذه السنن، ليس لأن ذلك عبادةٌ شرعية، وتنفيذٌ لأوامر إلهية، جاءت في القرآن فحسب ، بل لأن ابن خلدون وغيره، من العلماء، والمفكرين المسلمين، لا يرون في معرفة قوانين الحركة الداخلية لأي كائن ، ما يراه التفسير غير الإسلامي لأية أحداث ، وما يراه الماديون والطبيعيون من استقلالية وإرادة ووعي، بل يرون فيها أسلوب النظام الإلهي في الإبداع، وهم مؤمنون بأن هذه الأساليب والأسباب، لا تستطيع أن تكون المسبِّب، ولا أن هذه القوانين تغني عن المقنن، بل يرون في دقتها، وإبداعها، أقوى الأدلة، على عظمة الخالق المبدع، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وهذا الفقيه المالكي العظيم، وهذا القاضي الشرعي المسلم، وهذا الفيلسوف، والمنظر الاجتماعي والتاريخي (ابن خلدون)، لم يكن إلانبتةً إسلامية، تجاوزت الواقع السياسي المريض، واتصلت أوثق الاتصال بالقرآن الكريم، والسيرة النبوية، وعصور الازدهار الإسلامية، راشدية، وأمويةً، وعباسية... فربطت بين الحركة الداخلية والمحرك، والأسباب ومسببّها العظيم سبحانه وتعالى. والجدير بالذكر ، أن علماء الاجتماع المعاصرين المنصفين، يعتبرون النظرية الاجتماعية الخلدونية، بما انطوت عليه من عناصر تجديدية، هي نتيجةٌ بارزة، ومعلم واضح، في مسيرة الفكر الاجتماعي الإسلامي... وهؤلاء العلماء الاجتماعيون المعاصرون، يُبدون استياءهم، من أن النص القرآني، قد فسِّر وشُرح من وجهة نظر لغوية، وبلاغية وفقهية، ولم يأخذ حقه من الدراسة، باعتباره كتاباً لتربية المسلمين. وقد تم عزل الفكر الاجتماعي المبثوث فيه، والذي يهدف إلى تربية المسلمين، وتكوين عقائدهم ، وأخلاقهم، وشريعتهم، وتوجيه سلوكهم، وهو الأمر الذي يستثنى منه ابن خلدون العظيم. وكان من نتائج تركيز ابن خلدون، على الجوانب الاجتماعية، في منهجه التاريخي، ما ذهب إليه بعض المفكرين، من أن ابن خلدون، كان إلى الاجتماع (علم العمران)، أقرب منه للتاريخ وفلسفته... بيد أن الاتجاه الأغلب ـ مع ذوبان الفواصل إلى حد كبير، بين علمي الاجتماع وتفسير التاريخ في الفكر الخلدوني ـ يميل إلى أن النظرية الخلدونية هي نظرية في فلسفة التاريخ... وإن كانت تتكئ على مقولات اجتماعية كثيرة ، جعلت بعضهم يميل إلى تسميتها: (سوسيولوجيا التاريخ). والجدير بالذكر ،أن ابن خلدون مزج الظاهرة الحضارية (بالدولة) ، مع أن الحضارة كيان (عام)، والدولة كيان (خاص) ، وهذا ملحظ على النظرية.. ومفتاح (الدولة) عنده ـ التي يكاد يساويها بالظاهرة الحضارية ـ هي (العصبية)، التي تعد نظرية في البناء الاجتماعي، يُفسَّر على ضوئها نشوء الدول وسقوطها، فبقدر قوة العصبية تقوم الدولة وتتطور، وبقدر انحلال العصبية، في الأجيال التالية المترفة، تسقط الدولة أو تنحل. ولقد شابت رؤية ابن خلدون الاجتماعية، نظرة تشاؤمية فرضتها عليه الأوضاع الفاسدة ، التي كانت تسود عصره.. فنظريته لا تخلو من تعبير عن واقع الأمة الإسلامية المفكك، خلال القرنين السابع (سقوط الموحدين)، والثامن (تداعي الأندلس ولا سيما غرناطة)، كما أن نظريته اتكأت على التجربة التاريخية الإسلامية، بالدرجة الأولى. ويعزو كثير من علماء الاجتماع المخلصين، ضعف النهضة الاجتماعية في العالم الإسلامي الحديث، والمعاصر، إلى سيطرة الفكرة الخاطئة، التي اعتنقها مدبرو الأمر فيهم، وقادة ثقافتهم (من العلمانيين)، وهي فكرة التفرقة بين الدين والاجتماع الإنساني، تلك التي برزت بين المسلمين، لا جهلاً بحقيقة الدين، وإنما انحرافاً مقصوداً لتشويهه، وصرف الناس عن التمسك به، وتقليداً لقوم قصروا معنى الدين على ما يريدون. وكان من نتيجة هذه الفكرة، كما يرى هؤلاء الاجتماعيون، أن تصدّى' للإصلاح الاجتماعي، دعاة لم يعتمدوا في دعوتهم على سلطان الدين. وانكمش أمامهم علماء الدين، وقصروا ـ في الغالب ـ أنفسهم على تلقين الناس رسوم العبادات، وكيفياتها الظاهرة، وأحكام صحتها وفسادها. ومن هنا استقر في تصور كثير من الناس، أن الدين بأحكامه وإرشاداته شيء ، وأن الاجتماع بمقتضياته وشؤونه، شيء آخر، وصرنا نسمع في المسألة الواحدة ، أن رأي الدين كذا، ورأي علم الاجتماع كذا(!!)، وبذلك نام الرقيب القلبي، أو التنظيم الاجتماعي القيمي، في صور الإجرام، وهانت الأعراض وتفشت الموبقات. كان ابن خلدون ـ إذن ـ اجتماعياًًً واعياً بأصول العمران، من منظور إسلامي، وكان ابناً شرعياً للثقافة الإسلامية الأصيلة، ولم تكن منهجيته الجديدة في كتابة التاريخ ، وفي دراسة الاجتماع (العمران)، الذي هو علم جديد جداً ، تمتزج فيه علوم السياسة، وفلسفة التاريخ ، وعلم الاجتماع، بالمعنى الحديث -كما يقول الدكتور عبد الرحمـن بدوي- لم تكن هذه المنهجية الجديدة، إلا تعبيراً عن القرآن، الذي ينظر للإنسان ككل في مستوى الفرد، وللمجتمع ككل، تتعاون فيه النواحي السياسية، مع النواحي الاقتصادية ،مع النواحي الاجتماعية، والثقافية... أو بتعبير وجيز، (الجوانب الحضارية) الكاملة المتكاملة.. وكان مزج ابن خلدون بين منهجي علمي الاجتماع، والتاريخ، صورة من صور هذه الشمولية الحضارية.. ويخطئ هؤلاء الذين يحاولون أن يوجهوا فكر ابن خلدون توجيهاً أحاديّ النظرة، مادياً كان، أو اجتماعياً، فمقدمة ابن خلدون مزيج متناغم من فلسفة التاريخ، ومنهجه، وعلم الاجتماع والسياسة، وإذا كان لا بدَّ من إدراجها تحت علم واحد، فلنسمِّه: (علم العمران البشري)، بالمعنى الواسع الذي أراده ابن خلدون، لهذه التسمية. وهذا المعنى الواسع، مستقىً من النظرة القرآنية للاجتماع والحضارة، تلك التي لا تؤمن بالتمزيق ، ولا بالتشقيق، وترى المجتمع سفينة واحدة، وجسداً واحداً، وعناصر مادية ومعنوية متكافلة، وثنائيات متعاونة ، لامتضادة. وفي ضوء هذا النظر، فإن العوامل الفاعلة في التجربة الحضارية الإسلامية، إنما هي عوامل مشتركة في النهوض والسقوط. فالدين في عصر النهوض (العامل الأيديولوجي)، كان روحاً وثابة إيجابية، لكنه في عصر السقوط يصبح -على يــد المخرّفين- صـوفية ســكونية. وبالتــالي يلزم -لتحقيق النهوض- إعادة الإسلام الصحيح الإيجابي إلى دوره. ومع ذلك فالدين من غير عصبية (عاقلة يحكمها الإسلام أولاً) لا تقوم له دولة. فهذه العصبية هي (العامل الاجتماعي) الثاني، والضروري، بعد (العامل الأيديولوجي) ـ أما العامل الثالث فهو (العامل الاقتصادي)، الذي يمزج فيه ابن خلدون بين النشاط الاقتصادي البشري، والعامل الجغرافي الطبيعي، دون أن يركز بالقدر الكافي على قيمة (العمل)، كعصب للاقتصاد ، بل يركز على عامل خارجي اقتصادي في عصره هو (الغزو). ويلاحظ ضرورة التزام الترتيب في وضع العوامل المؤثرة ، لأن الترتيب هنا مقصود وليس مجرد جمع.. وهو يعكس مدى أولوية العامل وحجمه. ومن هذا المنطلق الحضاري الشامل، عالجت مقدمة ابن خلدون، قضايا تبدو للقارئ السطحي، موضوعات مجزأة، لكنها للباحث المتعمق، موضوعات منسّقة، ومرتبة، تغذي الروافد الثلاثة (السياسة، التاريخ، الاجتماع)، وتخضعها لقوانين يصل بها ابن خلدون، إلى المستوى العضوي البيولوجي، لكنه يعود فيعطيها بُعدها الاجتماعي البشري الذي يبتعد بها قليلاً عن الحتمية، والجبرية. وفي إطار هذا، تعالج المقدمة الأجزاء، والموضوعات التالية: الديباجة : وفيها يذكر ابن خلدون، أنه طالع كتب المؤرخين، فوجدهم (لم يلاحظوا أسباب الوقائع، والأحوال، ولم يراعوا ولا رفضوا ترهات الأحاديث، ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل)، فوضع هذا الكتاب، الذي يصف منهجه فيه قائلا : (وسلكت في ترتيبه وتبويبه، واخترعته من بين المناحي، مذهباً عجيباً، وطريقة مبتدعة وأسلوباً، وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، ما يمتعكم بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرف كيف دخل أهل هذه الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال، وما بعدك). وهذه الديباجة لا تعدو أن تكون (مقدمة) للمقدمة، بالمعنى المعروف للمقدمات، من شرح المنهج ، ومن بيان الجديد الذي يعتقد الكاتب أنه يضيفه، وأسباب التأليف، ومنهجه الجديد. 1 ـ الكتاب الأول ، ويتكون من : مقدمة : في فضل علم التاريخ ، وتحقيق مذاهبه، والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام ، وذكر شيء من أسبابها. الباب الأول : في العمران البشري على الجملة، وفيه ست مقدمات: الأولى : في أن الاجتماع الإنساني ضروري .. الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، في قسط العمران من الأرض، وفي الأقاليم، وتأثير الهواء في ألوان البشر وأخلاقهم، وشؤون معاشهم .. والسادسة، في الوحي والرؤيا، وفي أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو الرياضة، وفي حقيقة النبوة والكهانة والعرافة. الباب الثاني : في العمران البدوي، والأمم الوحشية، والقبائل، ومايعرض في ذلك من الأحوال . 2 ـ الكتاب الثاني، ويتكون من : الباب الثالث : وهو في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية، وفيه كلام عن نشأة الدول وتطورها، قوة ثم ضعفاً، مع بيان أنه (إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد، وحصول الترف والدعة، أقبلت الدولة على الهرم، وذلك أن للدول أعماراً طبيعية كما للأشخاص، وعمر الدولة (لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال، لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها، من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحسهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون.. والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به، وكسل الباقين عن السعي فيه... وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة، كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ منهم الترف غايته... فيصيرون عيالاً على الدولة، وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة. الباب الرابع : في البلدان والأمصار، وسائر العمران، وما يعرض في ذلك من الأحوال. الباب الخامس : في المعاش ووجوهه، من الكسب والصنائع، وما يعرض في ذلك كله من الأحوال. 3 ـ الكتاب الثالث، ويتكون من : الباب السادس : في العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه، وسائر وجوهه، وفيه يصف العلم والتعليم بأنها شيء طبيعي في العمران البشري، وأن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، ويضرب لذلك مثلاً حال (بغداد، وقرطبة، والقيروان، والبصرة، والكوفة، لما كثر عمرانها في صدر الإسلام، واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم، واستنباط المسائل والفنون، حتى أربوا على المتقدمين، وفاتوا المتأخرين، ولما تناقص عمرانها وابذعرّ سكانها، انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. إن هذه المقدمة، إنشاء لعلم جديد، سماه ابن خلدون: (العمران)، وأطلق بعضهم عليه تجاوزاً : (الاجتماع) ، وهم كثيرون جداً، وبعضهم حاول ربطه بفلسفة التاريخ، وهم كثيرون، وبعضهم مثل الدكتور (محمد محمود ربيع) صاحب كتاب : (النظرية السياسية لابن خلدون) وبدرجة ما (محمد عابد الجابري)، وغيرهما ، حاولوا ربطه بعلم السياسة. والحق أن العلم الذي يمكن أن تكون المقدمة تعبيراً عنه، بدرجة أكبر من كل هذه العلوم، هو علم (الحضارة) أو فلسفة الحضارة... إنه ذلك العلم الذي ينتظم العلوم السابقة وغيرها، بطريقته الخاصة وأسلوبه المتميز، وهو العلم الذي سماه ابن خلدون: (العمران). إننا إذا حاولنا القيام بعمل تركيبي لمفردات المقدمة، التي أوردناها سلفاً، فإننا لن نستطيع الوصول إلى قواعد كلية تنتظم هذه المفردات، خارج نطاق (علم الحضــارة)، الجــامع لكل هذه المنظــــومــــة. كما أننا لو حاولنا توظيف هذه المفردات وفق منهجية علمية، وصولاً للأهداف التي حددها لنا ابن خلدون نفسه، فإننا سننتهي إلى النتيجة السابقة نفسها، فوظيفة علم العمران عند ابن خلدون تتجاوز (التاريخ)، لأن التاريخ يقتصر على ذكر ما حدث، أما علم العمران فيبين لنا : كيف ولماذا حدث، بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه، وهو علم يشرح من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني، ليعرفك كيف دخل أهل الدولة من أبوابها، ويعطيك لحوادث الدول عللاً وأسباباً. وكذلك في المقابل يعرفك بخروج أهل الدولة من التاريخ، ويعرفك على كل واقع منتظر، أي الصيرورة التاريخية، والشروط التي توجبها، والعوامل الفاعلة فيها. وتكاد صورة هذا العلم تتماثل مع علم الحضارة، بقدر ما تبتعد عن علم التاريخ التقليدي، أو عن علمي الاجتماع والسياسة، بالمنهجية والتركيز المعروفين في عصرنا. وهذه الخصائص ذات الطابع الشمولي أو الحضاري للمقدمة، التي لاتخلو من معالجة قضايا تاريخية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وأنثروبولوجية، ونفسية، في سياق مترابط ذي نسيج حضاري، يعطي للمقدمة أصالتها الإسلامية، عندما ندرك أن النظرة الإسلامية بعامة والقرآنية بخاصة، تعالج الإنسان الفرد والمجتمع والحضارة، بهذا الشمول وبهذا الترابط العضوي. ومع أن كثيراً ممن تأثروا بأيديولوجيات وافدة، قد حاولوا إخضاع المقدمة لعقائدهم المذهبية أو العنصرية، إلا أن الدكتور (عبدالرحمن بدوي) قد شذّ عن هؤلاء، فتحدث عن أصالة مقدمة ابن خلدون في عدد كبير من الجوانب، ثم انتهى إلى أن المميز الأكبر بين ابن خلدون وبين فلاسفة الحضارة والاجتماع، أن فلسفة الحضارة عند ابن خلدون تتلون باللون الديني، على عادته في كل المقدمة، كما أن المميز الأكبر أيضاً عنده -كما يقول بدوي- هو غلبة الروح الدينية على اتجاهه في التفسير والتعليل. وهو أمر مفهوم بطبعه لدى مفكر ينتسب بكل روحه إلى الحضارة الإسلامية وإلى العصر الوسيط. ومن العسير أن نعثر في تأويلاته وتعليلاته على نزعة عقلية صريحة. وأنىّ لنا أن نظفر بها عند رجل ـ حسب رأي الدكتور عبدالرحمن بدوي ـ يؤمن بالكهانة والرؤيا والسحر، ويسمح للخوارق بأن تدخل عوامل في توجيه الأحداث التاريخية!! ومع اختلافنا مع الدكتور (بدوي) في بعض عباراته ونظراته ، ومع إيماننا بأن تحليل ابن خلدون لهذه القضايا يبقى في إطار النظرة القرآنية ، ولا يشذ عنها، إلا أننا -مع ذلك- نوافقه على جوهر القضية، وهو الأصالة الإسلامية ، (والقرآنية بخاصة) لمقدمة ابن خلدون.
__________________
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|