#16
|
||||
|
||||
![]() فانظر إلى بركة القرآن؛ ولذلك وصفه الله -تعالى- بأنه مبارك، فقال: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾(76). فالبركة فيه عامة في كل شيء.
فأخلص لله –تعالى، واطلب الأجر من الله، ينفعك الله بهذا القرآن وينفع غيرك حينما تتلوه، كما مرَّ من قصص التي ذكرها العلماء في كتبهم، وكما يذكر ابن الجوزي في قصص كثيرة حينما يُتْلى عليهم القرآن الكريم، فالقرآن مؤثر، بليغ التأثير في نفس الإنسان إذا أقبلت عليه؛ لأن الله –تعالى- قال: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾(77). فالنفس البشرية إذا أقبلت تأثرت، وإذا أعرضت وأدبرت حُرِمت هذا الأجر العظيم، فهنا يقول: تعلموا هذا القرآن واتلوه. أي: أكثروا من تلاوته؛ فإنكم تؤجرون على تلاوته، ليس أجرًا عامًّا، بل أجر مفصل -كما جاء في هذا الأثر، وهو أيضًا مخرج عند الترمذي بسند صحيح من حديث عبد الله بن مسعود(78). لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: « مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ؛ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ: الـمْ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»(79)، فمَن يستشعر هذه المعاني العظيمة وهذا الأجر الدقيق المفصل؟! يُضَم إلى هذا الأجر الوارد في سورة فاطر الآنف الذكر، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- في هذا الأثر وفي غيره يحث أصحابه وأتباعه إلى تلاوة هذا القرآن الكريم، ثم جاء وصف آخر فقال –صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ وُالشِّفَاءُ النَّافِعُ»(80)، فبدأ يبين أوصاف القرآن الكريم وأنه هو حبل الله الممدود العباد، كما قال -تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾(81). وحبل الله هو القرآن كما فسرها غير واحد من الصحابة والتابعين، والقرآن هو النور، قال -تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾(82)، هو النور المبين والشفاء، قال -تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾(83)، وهو النجاة لمن اتبعه، قال -تعالى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى﴾(84)، وهو النجاة والعصمة، قال -تعالى: ﴿ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(85)، ومن تمسك به لا يعوج فيقوم؛ ولهذا قال الله –تعالى- لنبيه: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾(86)، والذي أوحي إليه هو القرآن. وهو صراط الله، قال -تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾(87)، قالوا: هو القرآن، والصراط المستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه، بل هو مستقيم لا يزيغ بصاحبه عن الحق، ولا يحتاج إلى مَن يقوِّمه؛ لأنه على الصراط والحق، لكن المعرض العاصي هو الذي يحتاج إلى تقويم. وعجائب القرآن لا تنقضي؛ فلا يقف المسلم عند تفسير آية بقول واحد إلا ما ثبت في القرآن الكريم أو عن النبي -عليه الصلاة والسلام- لأنه لا ينطق عن الهوى لا يقول إلا حقًّا، فإذا ثبت التفسير عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في آية ما فحسبك بها ولا تعدوها إلى تفسير آخر، وكذلك إذا وجدت التفسير في القرآن فلا تعدوه إلى غيره؛ ولهذا لا تنقطع عجائبه، فأما الآيات التي ليس لها تفسير في القرآن ولا السنة ولا أقوال الصحابة فهذه نعود إلى استنباط أهل العلم من المفسرين الذين يستخرجون معانيه ودقائقه، كما قال الله -تعالى: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾(88). فالعلماء فسروا القرآن واستخرجوا هذه المعاني والاستنباطات العجيبة، كما فعل الشنقيطي(89) في تفسيره "أضواء البيان" في دقائق تفسيرية عجيبة قد لا تجدها في كتب التفسير المتقدمة، وهو ما يُسمَّى بالتفسير بالرأي المحمود المنطلق من الضوابط والقواعد الشرعية، هذا هو التفسير الصحيح، ومن دقائقه مثلاً في قوله -تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ﴾(90)، يقول أهل التفسير: يمكن أن يكون السياق بالمعية بدون التحتية، أي: كانتا مع عبدين صالحين لكن التحتية هنا لا تعني الذلة والهوان والازدراء وإنما تعني الرحمة، كما قال –تعالى- في آية أخرى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾(91)، هذه هي المودة والرحمة، وفيها أيضًا: لا يمكن أن تعلو على الرجل في بعض الأحيان وفي بعض القضايا والأمور، وهذه ولاية الزوج، وإن لم يكن لها زوج فإنها تحت ولاية الأب أو الابن أو الأخ أو العم.. أو غير ذلك، فلها ولِيٌّ يتولى أمورها وشئونها؛ ولهذا قال: ﴿ تَحْتَ عَبْدَيْنِ﴾، والتحتية هنا تعني الرأفة والرحمة بها. وَلاَ يَخْلَقُ عن كثرة الرد، فالقرآن لا يخلق مهما كررته بل تتجدد لك المعاني، ويقول بعض أهل العلم: إنك إذا قرأت الآية من القرآن أو السورة ثم رجعت إليها مرة أخرى، فستخرج لك معانٍ أخرى غير المعان السابقة إلى ذهنك، مثل حبات الماس، فعندما تلفها تعطيك لونًا أحمر أو أخضر أو أصفر.. وهي حبة واحدة، لكن لها ألوان كثيرة، كذلك الآية مليئة بالمعاني والعجائب والعبر والعظات؛ ولهذا قال: « لاَ تنقطعُ عَجائبَه ولا يَخْلَقُ عن كثرةِ الردِّ»(92)، أي: لا يبلى لو رددت الآية؛ ولهذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- كما عند ابن ماجه، يمكث ليلة يردد آية في آخر سورة المائدة، وهي: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(93)(94). فالإنسان إذا قرأ القرآن ومر بآية فيها رحمة تأمل: ماذا فيها؟ ماذا أعد الله؟ وتمنى أن يكون منهم، وإذا مر بآية عذاب سأل الله العافية وأن يبعده عن هذا الطريق، ويتأمل أحوال الكافرين فيها، وإذا مر بآية فيها خلق السماوات والأرض فإنه يتأمل ويتفكر، والله –تعالى- قال: ﴿ قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾(95)، وقال -تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾(96) فالأمر ليس مجرد تلاوة فحسب، بل ينبغي أن نربي أنفسنا وأطفالنا الصغار على التدبر والتأمل والتذكر على حسب عقولهم ومستوياتهم العقلية؛ حتى ينشأ الصغير وهو يحب القرآن، ويحب البحث والتأمل فيه. لأن الطفل إذا حفظ القرآن بدون تدبر فإنه يكون معرضًا للنسيان، وهذا حال الصغار في الغالب، لكن إذا اجتمع التدبر مع التلاوة التدبر والتذكر والتفكر ثبت هذا، وتعلم الصغير حب القرآن الكريم، وجاء في الحديث الثالث عشر، وقد أخرجه الدارمي والحاكم، وفيه بيان للفضل المترتب على قراءة القرآن، والأثر والرابع عشر فيه بيان الفضل والثواب، وقد أخرجه البيهقي في الشعب وابن الأنباري في الوقف، فيه بيان أيضًا لفضل قراءة القرآن وتحذير لقارئ القرآن أن يعبث مع العابثين أو يهزل مع الهازلين، أو يلعب مع اللاعبين، أو يضيع الوقت فيما لا يفيد ولا ينفع، ولا يجهل مع الجهال الذين يذهبون لفعل المعاصي والمخالفات والمنكرات، وإنما قد منحه الله –تعالى- هذا القرآن وكأنها نبوة أتاه الله إياها؛ لأنه عندما قال: « مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدَرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبِيْهِ - أَوْ بَيْنَ كَتِفَيِهِ»(97)، كما في الحديث؛ وذلك لأن القرآن وحي من الله -تعالى، والوحي نزل على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهذا القرآن هو وحي من الله -تعالى، قال -تعالى: <A href="javascript:void(0)">﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(98)، وهو النبي -عليه الصلاة والسلام- فكأن الذي جمع القرآن وعمل بما فيه وتأمله فكأنما شارك في فضل النبوة وثوابها وأجرها، وفضل هذه النبوة يكون على قدر حفظه للقرآن. |
#18
|
||||
|
||||
![]() فضل من تعلم القرآن وعلمه عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ(1) قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ(2) يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ(3) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ شُعْبَةُ(4): قُلْتُ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(5)، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَذَلِكَ الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا، فَكَانَ يُعَلِّمُ مِنْ خِلاَفَةِ عُثْمَانَ إِلَى إِمْرَةِ الْحَجَّاجِ(6)، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(7)، وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ(8) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(9)، قَالَ: وَأَخَذَ بِيَدِي فَأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِي أُقْرِئُ، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِر(10) قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ: « أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطَحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ فَيَأْخُذَهُمَا فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ؟»، قَالَ: قُلْنَا: كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ يُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: « فَلأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ»(11)). فهذا باب في فضل مَن تعلم القرآن وعلمه، وقد ساق المؤلف عددًا من الأحاديث الواردة في هذا الفضل، ومنها حديث علقمة، وعلقمة هو علقمة بن مرثد الحضرمي، وقد وثقه أهل العلم وابن حجر(12) كما في التقريب، وقال الإمام أحمد: هو ثبت في الحديث، قال: سمعت سعد بن عبيدة السلمي أبا حمزة الكوفي وهو أيضًا ثقة عن عبد الرحمن السلمي وهو عبد الله بن حبيب الكوفي المقرئ مشهور عند أهل العلم بكنيته ثقة ثبت، تصدر للتعليم، وتعلم على يديه عدد كبير من الطلاب وصاروا من أهل الإقراء؛ لأنه قرأ على وعثمان -رضي الله عنه- وتوفي سنة ثلاث وسبعين من الهجرة.
والحديث الأول: أخرجه أحمد وأبو داودوالترمذي والبيهقي، وحديث عليٍّ أخرجه أحمد والدارمي والترمذي، وحديثمصعب بن سعد بن أبي وقاص وهو أيضًا ثقة توفي سنة مئة وثلاثة، وأبوه هو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهذا الحديث أخرجه أيضًا الدارمي وابن ماجه، أما حديث عقبة بن عامر ففي صحيح مسلم وعند أحمد وأبي داود، وأصله في صحيح البخاري من حديث عثمان -رضي الله عنه: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(13)، وجاء في بعض الروايات: « أَفْضَلُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ»(14). ولما سمععبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمن السلمي هذا الحديث أثَّر في نفسه تأثيرًا بالغًا، وكان سببًا في جلوسه في المسجد لإقراء القرآن الكريم كما جاء في هذا الأثر، وأنه مكث من خلافة عثمان إلى إمرة الحجاج، أي: ما يزيد على ثلاثين عامًا، كلها في إقراء القرآن الكريم رغبة في الحصول على هذه الخيرية وهذا الثواب العظيم الذي أعده الله -تعالى- لمن علَّم القرآن. والقرآن الكريم أنزله الله –تعالى- وجعل فيه الخير والبركة، أنزله الله –تعالى- رحمة لهذه الأمة وهداية لها، كما قال -تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(15)، وجعله صراطًا مستقيمًا لمن أراد الاستفادة منه وأراد اتباعه، وأخرج الله بهذا القرآن الكريم الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى الصراط المستقيم، فمن أحب أن يكون قريبًا من الله –تعالى- دائم الصلة به مذكورًا عنده فعليه أن يداوم على هذا قراءة القرآن، ولا ثمة سبيل ولا طريق إلا من طريق القرآن الكريم، ولأجل هذا نال قارئ القرآن ومقرؤه هذه الخيرية الواردة في هذا الحديث. وقوله -عليه الصلاة والسلام: « خَيْرُكُمْ»، خير هنا بمعنى أفعل التفضيل، بمعنى: أخيركم أو أكثركم نفعًا وأرفعكم منزلة، وقد تأتي خير أحيانًا ولا يقصد بها التفضيل؛ لأنه قد يقصد بها بيان مكانة شيء وإظهاره، كما جاءت الآية في سورة الفرقان حينما قال الله -تعالى: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾(16)، فلا مفاضلة بين الجنة والنار أبدًا، وكما جاء في البيت لحسان حينما قال: أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء فلا يمكن أن يفاضل بين النبي -عليه الصلاة والسلام- وبين غيره، كما أنه لا يصح أن يفاضل بين الجنة والنار، وإنما أراد الله –تعالى- أن يبين مكانة هذه الجنة ويرد على المشركين وعلى الكفار حينما كذبوا بذلك اليوم؛ لأن الله –تعالى- قال قبلها: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾(17)، ثم قال: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾. وقوله –صلى الله عليه وسلم: « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»، تعلم القرآن يدخل فيه حفظه وتجويده وإقامة حروفه وإعرابها ومدارسته وفهم معانيه وتدبر آياته ومعرفة المقاصد العظيمة التي من أجلها نزل هذا القرآن العظيم ومعرفة أحكامه وحلاله وحرامه وعبره ومواعظه وزواجره وأوامره ونواهيه، هذا هو تعلم القرآن، وليس المقصود القراءة فحسب، إنما القراءة المصحوبة بالعمل والعلم، والعلم لا يكون إلا من التدبر كما تقدم، ولا بد من تعلم آياته وحفظها وإتقانها وضبطها وتعلم الأحكام التي فيها والآداب التي اشتملت عليها، هذا يدخل في تعلم القرآن. ثم يتعدى هذا النفع إلى الآخرين ولا يقتصر على نفسه فحسب، بل يسعى في تعليم غيره من الناس، فهذا من النفع المتعدي إلى الآخرين، وأشرف ما يتعلمه الإنسان ويعلمه هو القرآن الكريم، ويدخل في هذا الحديث أيضًا الذي يسعى في تعلم القرآن أو في تعليم القرآن؛ لأنه يقول: « وَعَلَّمَهُ»، وقد ذكر العلماء منهم ابن حجر وغيره أن الذي يسعى إلى توفير أسباب تعلم القرآن من: المكان والتهيئة والطعام والشراب والمصاحف وكل الوسائل المتعلقة بذلك تشمله هذه الخيرية وهذه الرفعة حسب ما يقدمه وحسب ما يعمله، مع التفاوت في هذا الخير والفضل، لكن الذي يسعى في جمع الناس على القرآن الكريم، وإن لم يكن متعلمًا القرآن الكريم، لكنه سعى ودل الناس عليه، وحث الناس على حفظه، وهيأ المكان وأمَّن الوسائل التي يحتاجها المعلم والمتعلم فهو -إن شاء الله- داخل في هذه الخيرية، كما ذكر ذلك أهل العلم؛ لأن مَن دل على خير فله مثل أجره. وهذا الحديث دل على فوائد منها، أولاً: حصول الخيرية لمن تعلم القرآن وعلمه، واقترن ذلك بالإخلاص لله -تعالى. الثاني: فضل العلم المتعدي نفعه للآخرين؛ لأنه قال: « وَعَلَّمَهُ»، والفعل المتعدي النفع لا شك أنه أفضل من العمل القاصر، فالذي يتعبد الله لنفسه كأن يكثر من النوافل أو من الصيام أو من قراءة القرآن هذا عمل خير، ويثاب عليه، لكن إذا كان هذا العمل يتعدى إلى الآخرين فإن الفضل أكثر؛ ولهذا الله -تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(18). وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: « أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»(19)، وحثَّ على السعي على الأرملة والمسكين والضعيف هذه أعمال متعدية النفع للآخرين، والصحابة والتابعون -رضوان الله عليهم- يسعون إلى تعليم غيرهم ممن لم يتعلم القرآن الكريم، كما فعل عبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمن السلمي؛ حيث مكث في هذا المكان أكثر من ثلاثين عامًا في المسجد يعلم فيه القرآن ليحصل على هذا النفع المتعدي؛ لأنه يعلم أنه إذا علم هذا الإنسان القرآن سوف يعلم غيره، وهذا يعلم غيره، حتى وصل إلينا، فالخير ينال هؤلاء كلهم، فهؤلاء نظروا نظرة بعيدة إلى المنفعة والمصلحة العامة للمسلمين، فقدموا هذا العمل على غيره من الأعمال. ومما دل عليه الحديث أيضًا من الفوائد: الترغيب في تلاوة القرآن والحث على المداومة على تلاوته، يضم هذا الفضل إلى الآيات التي وردت في القرآن الكريم، ومن الفوائد كذلك: أن القرآن أشرف العلوم على الإطلاق؛ لأن الله وعد بهذا الأجر والثواب على لسان نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- لمن قرأه، ومن الفوائد أيضًا: أن شرف العلم بتعليم الآخرين لهذا القرآن؛ لأن من علم غيره يستلزم منه أن يكون عالمًا، كما قال الله -تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(20). |
#19
|
||||
|
||||
![]() فلا يدعو إلى الله إلا مَن تعلم وعلم وتفقه، فإذا تفقه وتعلم وعلم غيره دخل في هذه الآية، بعكس الكافر الذي هو على كفره ويصد الناس عن دينهم بهذا الكفر، كما قال الله - تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴾(21).
وهنا ينشأ سؤال: إذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»(22)، فهل يلزم من هذا الحديث أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه المتفقه في الدين الذي يعلم الناس أمور دينهم؟ قال ابن حجر: لا يلزم من ذلك؛ لأن المخاطبين بذلك -يعني بالحديث- كانوا فقهاء، وهم أهل اللسان، فكانوا يعلمون معاني القرآن بالسليقة أكثر من غيرهم بالاكتساب؛ فكان الفقه لهم سجية، ومن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك؛ لأن مَن كان قارئًا أو مقرئًا ومتقنًا وضابطًا لكنه لا يفهم معاني القرآن ولا يفهم أحكامه ولا يفهم الدلائل لا يستطيع أن يستنبط هذا، نقول: إن له ثواب وأجر التلاوة، ويناله من الخير والخيرية والفضل والمنزلة بحسب حفظه وتعلمه للقرآن، فإذا وجد إنسان لا يعرف شيئًا من أمور الدين إلا ما يتعبد الله –تعالى- به، ولكنه متقن للقرآن وحافظ، فهذا على أجر عظيم ويناله من الخيرية بقدر ما عنده من هذا الحفظ، ومَن كان قارئًا ومقرئًا وهو يخالف نصوص القرآن في الفهم فهذا وَبَال عليه، كما كان الخوارج يفعلون ذلك والنبي -عليه الصلاة والسلام- قد حذر منهم؛ حيث قال: «يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»(23)، أو قال: « لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهِمْ»(24)، فهم لا يعملون بالقرآن، وإن عملوا به عملوا على خلاف الهدي الصحيح والسنة الصحيحة، كما فعلوا على مدار تاريخ الإسلام منذ أن نبتت نبتتهم وإلى يومنا هذا، فهم يفهمون القرآن فهمًا معكوسًا على غير فهم السلف الصالح لهذا القرآن العظيم، حتى إنهم كما يقول ابن عباس -رضي الله عنه- عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فنزَّلوها على المسلمين، واستباحوا بذلك دمائهم وأعراضهم و***وهم وأثاروا الفتن. فمثل هؤلاء لا يشملهم هذا الأثر ولا الآثار التي وردت في فضل القرآن، لكن الذي يتعلم القرآن ويعلمه على قدر طاقته واستطاعته فنقول: إنه ينال من الأجر والخيرية والثواب بقدر ما يحصله من علم وعمل، والصحابة -رضوان الله عليهم- هم المخاطبون بهذا الحديث، ولكنه شامل، فهو يشملهم ويشمل مَن بعدهم. قالابن حجر: ومَن كان في مثل شأنهم شاركهم في هذه الخيرية الموعود بها، وإلا فالأمة بمجموعها موصوفة بالخير؛ كما قال الله -تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(25). فأهل القرآن العاملون به المتدبرون لآياته وأحكامه العاملون بها هؤلاء هم صفوة الناس، وهم قريبون من الله –تعالى- كما تقدم في الحديث السابق: « إِنَّ للهِ أَهْلِينَ». قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: « أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»(26)، فينبغي أن نفهم هذا المعنى وألا ننزله إلا على مَن يستحقه. وقد جاء هذا الوصف لمن قرأ القرآن وعلمه؛ لأن القرآن خير الكلام والعلوم؛ فتعلمه وتعليمه خير من تعلم غيره من سائر العلوم؛ لأنه مشتمل على علوم شتى؛ مثل: علوم الاعتقاد والفقه والتفسير والتاريخ... فهو أفضل العلوم بالنسبة إلى غيره من العلوم الأخرى. والحديث الثامن عشر -حديث عقبة بن عامر- عند مسلم(27) وأحمد(28) وأبي داود(29)، يقول: خرج إلينا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ونحن في الصُّفة -المراد بالصفة هنا الموضع المظلل في مؤخرة المسجد النبوي بالمدينة، يسكنه مَن لم يكن له منزل من الفقراء والمحتاجين ومن قدم إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من ضواحي المدينة ليتعلموا العلم ويقرؤوا القرآن- وقال: « أَيُّكُمْ يَغْدُو»، أي: يذهب في وقت الغدو وهو أول النهار، وبطحاء مكة هو موضع قرب المدينة مكان موضع قرب المدينة « إِلَى بُطْحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ»، والعقيق وادٍ مشهور من أودية المدينة، « فَيَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ»، كوماوين: تثنية كومة أنثى أكوم، والأكوم نوع من أنواع البعير الضخم الجسم والسنام رفيع السنام -يعني أنفسُها وأحسنها- « زَهْرَاوَيْنِ»، تثنية زهراء، والزهر هو الحسن والبهجة، قال: « بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ»، يعني: أنها من أنفس النوق وأجملها وأحسنها وأسمنها، فمن كانت كذلك من النوق فهي ذات قيمة نفيسة عند العرب. وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يضرب الأمثلة للصحابة بما كانوا يعايشونه ويفتخرون به ويحبونه، وكانت العرب في ذلك الوقت يحبون الإبل ويتنافسون في تربيتها وشرائها، كما قال الله –تعالى- مذكرًا لهم بها: ﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾(30)، مع أنه يوجد شيء أكبر من الإبل في الخلقة، لكنه ذكر الإبل لأنها مشتهرة عندهم ومعروفة، وكما جاء في الحديث الآخر: «خُيْرٌ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ»(31)، فالتمثيل بالإبل كثير في السنة النبوية؛ لأنها من أنفس الأشياء عندهم من بهيمة الأنعام، فيضرب لهم المثل بهذا الأمر ليتحفزوا لهذا العمل الذي سيقدمون عليه ويفعلونه. قال: « فَيَأْخُذُهُمَا فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ»(32)، يعني: في غير معصية، قال: قلنا: كلنا يا رسول الله يحب ذلك، أي أنهم يحبون أن يأخذوا هذا الشيء وأن يتحصلوا عليه، ثم دلهم على ما يشابه ذلك أو أفضل منه ليشجعهم ويحفزهم عليه فقال: « فَلأَنْ يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ مِنْ أَرْبِعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ»، أي: من خمس ومن ست.. إلخ، وهذا من باب المتقدم من باب التمثيل والتقريب للصحابة -رضوان الله عليهم- حتى يقبلوا على هذا الخير، وأن ما سيذهبون إليه في تعلم القرآن الكريم أو جزء منه وهو آيات فقط، وهو خير من هذا الذي أنتم تظنون والذي تحبون؛ لأنهم قالوا: كلنا يحب ذلك يا رسول الله. وقد مثَّل لهم النبي –صلى الله عليه وسلم- بالآية وليس بالسورة ولا بالجزء؛ وذلك ليقربهم من تلاوة القرآن الكريم، وإلا فإن الدنيا كلها حقيرة أمام كتاب الله -جل وعلا- ولا تقابل بشيء من معرفة أمر وارد في كتاب الله، وهذا من باب الحث والترغيب في تلاوة القرآن الكريم، وهذا يدلنا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يستخدم الأمثلة لأصحابه، وأنتم تعلمون أن الحديث الوارد عند قوله-تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾(33). من ذلك أيضًا ما ورد عن عبد الله بن مسعود، إذ قال: خط النبي -صلى الله عليه وسلم- خطًّا وخط عن جانبه خطوطًا وقال: « هَذَا سَبِيلُ اللهِ وَهَذِهِ سُبُلُ الشَّيْطَانِ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطُانٌ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا»(34)، فكان يمثل -عليه الصلاة والسلام- ويضرب الأمثلة لأصحابه، وأحيانًا كان يمثل لهم بيده وذلك عندما قال: « بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ»(35)، وأشار بالسبابة، وقال: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»(36)، وقال في عدِّ الشهر: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا»(37)، فكل شيء كان يرغب النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يوصله إلى الصحابة فإنه يسعى إلى توصيله، وقد فعل، فما من خير إلا دل عليه ولا شر إلا حذر منه، ففي هذا الحديث وسيلة من وسائل التمثيل التي تدفع الإنسان وتشجعه وتحسه على فعل الخير والإقدام عليه، وأنه سوف ينال أكثر مما ضُرِب له من هذا المثل، فجعل الناقة بمثابة الآية والناقتين بمثابة الآيتين، سواء قصرت أم طالت. |
#20
|
||||
|
||||
![]() فلو فكر الإنسان وتأمل هذه الأحاديث التي ذكرها النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحث على تلاوة القرآن والإقبال عليه وقراءته ما سمحت له نفسه أن يضيع لحظة واحدة في حياته إلا وفيها عمل صالح يقدمه لربه -جل وعلا- إما عمل قاصد أو عمل متعدي نفع. فالذي يحرص على هذا فإنه قد قدم أعمال الدنيا على الآخرة، ومَن حرص على الآيات وحفظها على تلك قدم أعمال الآخرة على الأولى، وقد قال الله –تعالى- للنبي: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى﴾(38)، وقال: ﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾(39)، فعمل الآخرة هو الذي يبقى ويدوم ويزيد وينفع الإنسان في دنياه وأخراه، وهذا كله في القرآن الكريم؛ ولهذا جاء الحث والترغيب في فضل هذا القرآن الكريم وتعلمه، وكان الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- متميزون بالاهتمام بالقرآن وحفظه وتلاوته وتعليمه، كما كانأبيٌّ(40) -رضي الله عنه- وسماه النبي -عليه الصلاة والسلام- في قوله: « أَقْرَأُكُمْ أُبَيٌّ»، وأثنى على أبي موسى الأشعري(41) وعبد الله بن مسعود ومعاذ(42) وعليٍّ وعثمان بما عندهم من القرآن الكريم: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾(43)(44). (1) علقمة بن مرثد، الإمام الفقيه الحجة، أبو الحارث الحضرمي الكوفي. حدث عن أبي عبدالرحمن السلمي، وطارق بن شهاب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعد بن عبيدة، وأمثالهم. عداده في صغار التابعين، ولكنه قديم الموت. حدث عنه غيلان بن جامع، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وشعبة، وسفيان الثوري، ومسعر بن كدام، والمسعودي وآخرون. قال الإمام أحمد: هو ثبت في الحديث. قالابن حجر في التقريب: ثقة. توفي سنة عشرين ومئة. انظر: تهذيب الكمال (20/308 ترجمة 4018)، سير أعلام النبلاء (5/206 ترجمة 81).
(2) سعد بن عبيدة، الإمام الثقة، أبو حمزة السلمي الكوفي، من علماء الكوفة، وكان زوج ابنة أبي عبدالرحمن السلمي. حدث عن ابن عمر، والبراء بن عازب، والمستورد بن الأحنف. وعنه زبيد اليامي، وإسماعيل السدي، ومنصور، والأعمش، وفطر بن خليفة. وثقه النسائي وغيره. قال ابن حجر في التقريب: ثقة. مات في الكهولة في حدود سنة بضع ومئة. انظر: تهذيب الكمال (10/ 290 ترجمة2220)، وسير أعلام النبلاء (5/ 9 ترجمة 5). (3) أبو عبد الرحمن السلمي، مقرئ الكوفة، الإمام العلم، عبد الله بن حبيب بن ربيعة الكوفي، من أولاد الصحابة، مولده في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. أخذ القراءة عرضا عن عثمان، وعلي، وزيد، وأبي، وابن مسعود. أخذ عنه القرآن: عاصم بن أبي النجود، ويحيى بن وثاب، وعطاء بن السائب وعبد الله بن عيسى بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، ومحمد بن أبي أيوب، والشعبي، وإسماعيل بن أبي خالد، وعرض عليه الحسن والحسين -رضي الله عنهما-. وقد كان ثبتا في القراءة، وفي الحديث حديثه مخرج في الكتب الستة. قالابن حجر في التقريب: ثقة ثبت، مات بعد السبعين. انظر: تهذيب الكمال (14/ 408 ترجمة 3222)، وسير أعلام النبلاء (4/267 ترجمة 97). (4) شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي، أبو بسطام الواسطي مولى عبدة بن الأغر مولى يزيد بن المهلب بن أبي صفرة. الإمام الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، عالم أهل البصرة وشيخها، سكن البصرة من الصغر، ورأى الحسن، وأخذ عنه مسائل. كان من أوعية العلم، لا يتقدمه أحد في الحديث في زمانه. قال ابن حجر في التقريب: ثقة حافظ متقن. ولد سنة ثمانين، في دولة عبد الملك بن مروان، ومات سنة ستين ومئة. انظر: تهذيب الكمال (12/ 479 ترجمة 2739)، وسير أعلام النبلاء (7/ 202 ترجمة 80). (5) أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5027) من حديث عثمانبن عفان -رضي الله عنه-. (6)الحجاج بن يوسف الثقفي. ولد سنة خمس وأربعين. كان ظلوما، جبارا، ناصبيا، خبيثا، سفاكا للدماء. وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة، وتعظيم للقرآن. ساق الذهبي من سوء سيرته في تاريخ الإسلام، وحصاره لابن الزبير بالكعبة، ورميه إياها بالمنجنيق، وإذلاله لأهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة، وحروب ابن الأشعث له، وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله. نسبه ولا نحبه، بل نبغضه في الله؛ فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان. له حسنات مغمورة في بحر ذنوبه. وأمره إلى الله. وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء. قالابن حجر في التقريب: وقع ذكره وكلامه في الصحيحين وغيرهما، وليس بأهل أن يُروى عنه. أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلا. انظر: تاريخ الإسلام (2/ 1071 ترجمة 33)، وسير أعلام النبلاء (4/343 ترجمة 117). (7) صحيح لغيره: أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (1318)، الترمذي: كتاب فضائل القرآن عن رسول الله، باب ما في تعليم القرآن (2909) وقال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح لغيره. (8) مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني. كان فاضلاً كثير الحديث. روى عن علي والكبار. كان ثقة كثير الحديث وذكره بن حبان في كتاب الثقات. قالابن حجر في التقريب: ثقة. مات سنة ثلات ومئة. انظر: تهذيب الكمال (28/ 24 ترجمة 5982)، وسير أعلام النبلاء (4/ 350 ترجمة 125). (9) حسن صحيح: أخرجه ابن ماجه: المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن (213)، وقال الألباني في صحيح ابن ماجه: حسن صحيح. (10) عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي بن عمرو بن رفاعة بن مودوعة بن عدي بن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة الجهني. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرا. روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. كان قارئا عالما بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعرا، كاتبا، وهو أحد من جمع القرآن. مات عقبة في خلافة معاوية. انظر: الاستيعاب (ص: 561 ترجمة 1898)، والإصابة (4/ 520 ترجمة 5605). (11) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه (803). (12) أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر، شهاب الدين أبو الفضل الكناني العسقلاني الشافعي. قاضي القضاة، حافظ زمانه. نشأ يتيما، وأكمل حفظ القرآن في التاسعة من عمر، وصلى التراويح بالناس في الحرم المكي وله اثنا عشر عاما. رحل حبا في العلم وتطلبا للشيوخ. من أبرز شيوخه: ابن الملقن، والسراج البلقيني، وأبو الحسن الهيثمي. من أبرز تلاميذه: السخاوي، ابن قاضي شهبة، ابن تغري بردي. له مؤلفات حسان؛ أهمها: "فتح الباري"، و"لسان الميزان"، و"الدرر الكامنة". ولد سنة ثلاث وسبعين وسبع مئة، وتوفي سنة ثنتين وخمسين وثمان مئة. انظر: الضوء اللامع (2/ 36 ترجمة 104)، وحسن المحاضرة (1/ 363 ترجمة 102)، وله ترجمة موعبة في الجواهر والدرر لتلميذه السخاوي. (13) سبق تخريجه. (14) أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5028). (15) الإسراء: 9. (16) الفرقان: 15. (17) الفرقان: 11 - 12. (18) الحج: 77. (19) أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيمًا (6005). من حديث سهل بن سعد.أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم (2983) من حديثأبي هريرة -رضي الله عنه. (20) فصلت: 33. (21) الأنعام: 157. (22) سبق تخريجه. (23) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به (5058)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه. (24) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3610،7562)، مسلم: كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري. (25) آل عمران: 110. (26) سبق تخريجه. (27) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة (803) بنحوه. (28) أخرجه أحمد في المسند (17408). (29) أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن (1456). (30) الغاشية: 17. (31) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي -رضي الله عنه- (3701)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فقضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- (2406) من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-. (32) سبق تخريجه. (33) الأنعام: 153. (34) أخرجه أحمد في المسند (4142،4437) من حديث ابن مسعود. وأصله في صحيح البخاري بمعناه. (35) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثت (6504)، مسلم: كتاب الفتن واشراط الساعة، باب قرب الساعة (2950) من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه. (36) سبق تخريجه. (37) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأيتم الهلال (1908)، ومسلم: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (1080) من حديثابن عمر -رضي الله عنهما. (38) الضحى: 4. (39) الأعلى: 17. (40) أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار. سيد القراء،أبو منذر الأنصاري النجاري المدني المقرئ البدري، ويكنى أيضا أبا الطفيل. شهد العقبة، وبدرا، وجمع القرآن في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعرض على النبي -عليه السلام-، وحفظ عنه علما مباركا، وكان رأسا في العلم والعمل -رضي الله عنه-. قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: « ليهنك العلم أبا المنذر». مات سنة اثنتين وثلاثين. انظر: الاستيعاب (ص: 42 ترجمة 2)، وأسد الغابة (1/ 168 ترجمة 34). (41) عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن غنم بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر أبو موسى الأشعري. مشهور باسمه وكنيته معا وأمه ظبية بنت وهب بن عك أسلمت وماتت بالمدينة وكان هو سكن الرملة وحالف سعيد بن العاص ثم أسلم وهاجر إلى الحبشة. كان حسن الصوت بالقرآن. شهد فتوح الشام ووفاة أبي عبيدة واستعمله عمر على إمرة البصرة بعد أن عزل المغيرة وهو الذي افتتح الأهواز. مات سنة خمسين. انظر: الاستيعاب (ص: 851 ترجمة 3137)، والإصابة (4/ 211 ترجمة 4901). (42) معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدي بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج، أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي ثم الجشمي. أحد السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود. توفي في طاعون عَمَوَاس سنة ثماني عشرة. انظر: الاستيعاب (ص: 650 ترجمة 2270)، وأسد الغابة (5/ 187 ترجمة 4960). (43) المائدة: 54. (44) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب مناقب أبي بن كعب -رضي الله عنه- (3808)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود (2464) من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما. |
#21
|
||||
|
||||
![]() ذكر أخلاق أهل القرآن قال محمد بن حسين(1): (يَنْبَغِي لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمُوا كِتَابَهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ، وَأَهْلِ اللهِ وَخَاصَّتِهِ، وَمِمَّنْ وَعَدَهُ اللهُ مِنَ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ، وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾(2). قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، وَمِمَّا قَالَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ الْكِرَامِ السَّفَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ»(3). وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ(4): سَمِعْتُ عِيسَى بْنَ يُونُسَ(5) يَقُولُ: إِذَا خَتَمَ الْعَبْدُ الْقُرْآنَ قَبَّلَ الْمَلَكُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ(6). فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعًا لِقَلْبِهِ، يُعَمِّرُ بِهِ مَا خَرَبَ مِنْ قَلْبِهِ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِ الْقُرْآنِ، وَيَتَخَلَّقُ بِأَخْلاَقِهِ الشَّرِيفَةِ، يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ مِمَّنْ لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ). يذكر المؤلف أخلاق أهل القرآن، وأن الله -جل وعلا- قد فضلهم على غيرهم من سائر الناس، حيث مَنَّ الله عليهم بتلاوة القرآن، وحفظه ومدارسته، فإذا كانوا كذلك، فإنه ينبغي عليهم أن يتخلقوا بما في هذا القرآن من الأخلاق، والقرآن هو منهج الأخلاق الفاضلة، ومنهج الأخلاق الكاملة، فما من خلق حسن إلا دَلَّ عليه، وما من خلق سيئ إلا حذر منه، وكل هذا جاء في القرآن الكريم. وتكفي هذه الآية التي جاء الفضل فيها، في سورة البقرة: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾(7). والتفسير هذا يروى عن مجاهد(8)، قال: يعملون به حق عمله، كما تقدم، ثم استشهد المؤلف بالحديث المخرج في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ الْكِرَامِ السَّفَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ». وفي رواية: « وَهُوَ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ»(9). أَيْ: يشق عليه تلاوته، فقوله: « وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ». الماهر هو القارئ الحاذق الحافظ، المتقن، الضابط لتلاوة آيات القرآن الكريم، ولا تشق عليه القراءة في أية سورة، أو في أية آية. فيعرف الأحكام المتعلقة بألفاظ الكلمات من الحسن والجودة والضبط والإتقان؛ ولهذا يقولون -إذا كان القارئ جيدًا: القارئ متقن، أو محرر. كما ذكرابن الجزري(10) في كتابه: (غاية النهاية)، حيث ترجم فيه لنحو من خمسة آلاف عَلَم من أعلام القرآن، على مر العصور إلى عهده، وقد تُوفِّي سنة اثنين وثلاثين وثمانمئة من الهجرة.
وكذلك الذهبي(11) أيضًا أَلَّف في طبقات القراء، وذكر فيها جملة وعددًا كبيرًا من القراء، يصفون القارئ الحاذق، هو الضابط المتقن المحرر، والذي يقيم الحروف إقامة عربية صحيحة، ويخرج كل حرف من مخرجه، فهذا هو معنى الماهر، سواء أكان ذلك في الوقف أم الابتداء، أو ما يتعلق بأنواع القراءة من الأحكام التجويدية. فالماهر بالتلاوة المتقن الحافظ الضابط لها، جاء في الحديث الثوابُ الذي يناله، والمنزلة التي يختص بها، والرفعة التي ينالها، وهي أنه يكون مع الكرام السفرة، في رواية: « الْبَرَرَةِ». والكرام السفرة هم الملائكة، والسفرة: هم الرسل الذين يأتون من عند الله -تعالى- إلى الأنبياء بالرسالات، فالملائكة -عليهم السلام- هم رسل الله إلى أنبيائه؛ ولأنهم يسافرون بين الله وبين الأنبياء، ويحملهم الله -تعالى- الأمانة، ويوحي بها إلى النبي. وقيل: إنهم سموا: سفرة؛ لأنهم يسافرون إلى الناس برسالات الله، ولأنهم يتنزلون بالوحي من عند الله، فهم سفراء الله إلى الأنبياء؛ ليبلغوا عن الله رسالاته. والمعية التي في هذا الحديث: « مَعَ الْكِرَامِ السَّفَرَةِ». يقول أهل العلم: إنها تحتمل أن يكون لقارئ القرآن منازل يكون فيها رفيقًا مع الملائكة، الذين هم السفرة، لاتصافه بصفاتهم؛ لأنهم هم الذين حملوا كتاب الله، وحملوا هذا القرآن وبلغوه، فحمله جبريل، وبلغه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام، فقارئ القرآن يحمل هذا القرآن في جوفه، ويحفظه، ففيه شبه بهؤلاء السفرة وهم الملائكة، فهو يعمل بعملهم، ويسلك مسلكهم، ويتصف بصفاتهم، ومَن اتصف بصفات قوم فهو معهم. |
#22
|
||||
|
||||
![]() والمرء يحشر مع مَن أحب؛ ولهذا وصف الحديثُ القراءَ المهرةَ الحافظون المتقنون، أنهم مع السفرة الكرام البررة، وسموا بررة -كما في بعض الروايات- لأنهم على طاعة؛ لأن البر هو الطاعة لله -تعالى. وقد بَيَّن الحديث فضلَ الماهر بالتلاوة، وما له من الأجر، وما للقارئ الذي تصعب عليه القراءة ويتعتع فيها، وما له من الأجر أيضًا، فقال: «لَهُ أَجْرَانِ». أما الأول: فلم يذكر شيئًا، إنما قال: «مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ». وليس معنى هذا أن الذي يقرأ القرآن وهو شاق عليه، أكثر أجرًا من الماهر بالتلاوة، فإن الماهر بالتلاوة له أجور متعددة وكثيرة، فبلغت هذه الأجور أنه هو والملائكة في معية واحدة، الذين ذكرهم الله -تعالى- في سورة عبس: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ (12). وهم الملائكة؛ لأن الحافظ المتقن الضابط الماهر، لا يمكن أن يكون أقل ثوابًا ممن هو أدنى منه وأقل، ولا يمكن أن يكون مَن هو أدنى منه أكثر منه ثوابًا، بل هو أكثر. فلا يفهم من هذا أن الذي يقرأ القرآن بإتقان وضبط فله أجر، والمتتعتع له أجران، بل الماهر فاق الأجرين، وزاد على ذلك، فهي أجور كثيرة متعددة، وهذا فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده. ثم ساق أثرًا عن عيسى بن يونس، قال: (وقالَ بشرُ بنُ الحارثِ). وبشر بن الحارث ثقة، تُوفَِّي سنة سبع وعشرين ومئتين، وهو عابد زاهد، وعالم جمع بين الإخلاص والورع والتقوى، يقول: (سمعتُ عيسى بنَ يونسَ). وعيسى بن يونس هو ابن أبي إسحاق السبيعي، المتوفى سنة سبع وثمانين ومئة، وهو ثقة حجة حافظ، وهو حفيد الإمام أبو إسحاق السبيعي(13)، المحدث المشهور، الذي اسمه: عمرو بن عبد الله بن أبو إسحاق السبيعي، وقد تُوفِّي سنة تسع وعشرين ومئة، وهذا حفيده، فهم بيت علم وأهل حديث. وأبو إسحاق السبيعي قيل: إنه اختلط آخر حياته، ولكن الصواب هو ما حققه بعض طلبة أهل العلم، وهو أنه لم يختلط في آخر حياته. يقول: (إذَا ختمَ العبدُ القرآنَ، قبَّلَ الملكُ بينَ عينيه). وهذا أيضًا من الفضل العظيم الذي يناله قارئ القرآن، وهذا الأثر موقوف على عيسى بن يونس السبيعي، فإذا كانت هذه الكرامة تنال قارئ القرآن، فالذي ينبغي عليه أن يعمر حياته بهذا القرآن، وأن يخلص لله -تعالى- في تلاوته، وأن يتقرب به إلى الله، وأن يكون متميزًا في حياته عن سائر الناس. فإذا علم أنه سيكون مع الملائكة، ومع السفرة الكرام البررة، وسينال هذا الفضل العظيم، فينبغي أن يكون له تميز في حياته، وخصوصية في حياته، ليس كسائر الناس، كما سيأتي بيانه من أبي بكر محمد بن الحسين، مما ينبغي على قارئ القرآن. (1) محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر البغدادي الآجري. الإمام المحدث القدوة، شيخ الحرم الشريف، صاحب التصانيف الحسان؛ منها: "الشريعة"، و"الأربعين". توفي سنة ستين وثلاث مئة. انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 133 ترجمة 92)، والوافي بالوفيات (2/ 267 ترجمة 847). (2) البقرة: 121. (3) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب التفسير، باب عبس وتولى كلح وأعرض (4937)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر في القرآن والذي يتعتع فيه (798) من حديث عائشة. (4) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء، الإمام العالم المحدث الزاهد الرباني القدوة، شيخ الإسلام، أبو نصر المروزي، ثم البغدادي، المشهور بالحافي، ابن عم المحدث علي بن خشرم. ولد سنة اثنتين وخمسين ومئة. ارتحل في العلم، فأخذ عن: مالك، وشريك، وحماد بن زيد، وعدة. حدث عنه: أحمد الدورقي، ومحمد بن يوسف الجوهري، ومحمد بن مثنى السمسار، وخلق سواهم. قال ابن حجر في التقريب: ثقة قدوة. مات سنة سبع وعشرين ومئتين. انظر: تهذيب الكمال (4/ 99 ترجمة 682)، وسير أعلام النبلاء (10/ 469 ترجمة 153). (5) الإمام القدوة، الحافظ، الحجة عيسى بن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، أبو عمرو، وأبو محمد الهمداني، السبيعي الكوفي، المرابط بثغر الحدث، كان سنة في الغزو وسنة في الحج. وكان واسع العلم، كثير الرحلة، وافر الجلالة. قال ابن حجر في التقريب: ثقة مأمون. مات سنة سبع وثمانين. انظر: تهذيب الكمال (23/ 62 ترجمة 4673)، وسير أعلام النبلاء (8/ 489 ترجمة 130). (6) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان(2074) من طريق بشر بن الحارث عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة به، قال البيهقي: قال بشر بن موسى قال ليعمر بن عبد العزيز فحدثت به أحمد بن حنبل فقال لعل هذا من هنات سفيان واستحسنه أحمد بن حنبل جدا (7) البقرة: 121. (8) مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، الإمام، شيخ القراء والمفسرين. روى عن: ابن عباس فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه. كان يقول: يقول: "عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عباس، أقفه عند كل آية، أسأله: فيم نزلت؟ وكيف كانت؟". وكان من أعلم التابعين بالتفسير. قال ابن حجر في التقريب: ثقة إمام في التفسير. توفي سنة ثلاث ومئة وقد نيف على الثمانين. انظر: تهذيب الكمال (27/ 228 ترجمة 5783)، وسير أعلام النبلاء (4/ 449 ترجمة 175). (9) سبق تخريجه. (10)محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف، أبو الخير، شمس الدين، العمري الدمشقي ثم الشيرازي الشافعي، الشهير بابن الجزري: شيخ الاقراء في زمانه. من حفاظ الحديث. ولد ونشأ في دمشق، وابتنى فيها مدرسة سماها (دار القرآن) ورحل إلى مصر مرارا، ودخل بلاد الروم، وسافر مع تيمورلنك إلى ما وراء النهر. ثم رحل إلى شيراز فولي قضاءها. ومات فيها سنة 833 هـ. (11) محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، شمس الدين أبو عبد الله الذهبي. الإمام، المحدث، مؤرخ الإسلام، صاحب العبارة الرشيقة، والجملة الأنيقة. من شيوخه: ابن دقيق العيد، وابن تيمية. مولده في سنة ثلاث وسبعين وست مئة، ووفاته سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. له من مؤلفات حسان جياد؛ منها: "سير أعلام النبلاء"، و"معرفة القراء الكبار". انظر: طبقات الشافعية الكبرى (9/ 100 ترجمة 1306)، وانظر مقدمة الدكتور/ بشار للجزء الأول من كتابه السير. (12) عبس: 13 - 16. (13) عمرو بن عبد الله بن عبيد أو على أو ابن أبى شعيرة، الهمدانى، أبو إسحاق السبيعى الكوفى، الحافظ شيخ الكوفة وعالمها ومحدثها. توفي سنة تسع وعشرين ومئة. وقيل قبل ذلك، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: ثقة مكثر عابد، اختلط بأخرة. انظر: التهذيب (22/ 102 ترجمة 4400)، وسير أعلام النبلاء (5/ 392 ترجمة 180). |
#23
|
|||
|
|||
![]()
شكرااااااااااااااااااااا بارك الله فيكم
|
#24
|
||||
|
||||
![]() |
#25
|
||||
|
||||
![]() مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لاَ يُرِيدُ بِهِ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ
قال: محمد بن حسين -رحمه الله: (فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لِلدُّنْيَا وَلأَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ مِنْ أَخْلاَقِهِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِحُرُوفِ الْقُرْآنِ مُضَيِّعًا لِحُدُودِهِ، مُتَعَظِّمًا فِي نَفْسِهِ، مُتَكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ، قَدْ أَخَذَ الْقُرْآنَ بِضَاعَةً يَتَأَكَّلُ بِهِ الأَغْنِيَاءَ، وَيَسْتَقْضِي بِهِ الْحَوَائِجَ، يُعَظِّمُ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا وَيُحَقِّرَ الْفُقَرَاءَ، إِنْ عَلِمَ الْغَنِيَّ رَفَقَ بِهِ طَمَعًا فِي دُنْيَا، وَإِنْ عَلِمَ الْفَقِيرَ زَجَرَهُ وَعَنَّفَهُ؛ لأَنَّهُ لاَ دُنْيَا لَهُ، يَطْمَعُ فِيهَا، يَسْتَخْدِمُ بِهِ الْفُقَرَاءَ، وَيَتِيهِ بِهِ عَلَى الأَغْنِيَاءَ، إِنْ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ لِلْمُلُوكِ وَيُصَلِّي بِهِمْ طَمَعًا فِي دُنْيَاهُمْ، وَإِنْ سَأَلَهُ الْفُقَرَاءُ الصَّلاَةَ بِهِمْ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِقِلَّةِ الدُّنْيَا فِي أَيْدِيهِمْ، إِنَّمَا طَلَبُهُ الدُّنْيَا؛ حَيْثُ كَانَتْ رَبَضَ عِنْدَهَا، يَفْخَرُ عَلَى النَّاسِ بِالْقُرْآنِ، وَيَحْتَجُّ عَلَى مَنْ دُونَهُ فِي الْحِفْظِ بِفَضْلِ مَا مَعَهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، وَزِيَادَةِ الْمَعْرِفَةِ بِالْغَرَائِبِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي لَوْ عَقِلَ لَعَلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَلاَّ يَقْرَأَ بِهَا، فَتَرَاهُ تَائِهًا مُتَكَبِّرًا، كَثِيرَ الْكَلاَمِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ، يَعِيبُ كُلَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ كَحِفْظِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْفَظُ كَحِفْظِهِ طَلَبَ عَيْبَهُ، مُتَكَبِّرًا فِي جِلْسَتِهِ، مُتَعَاظِمًا فِي تَعْلِيمِهِ لِغَيِرِهِ، لَيْسَ لِلْخُشُوعِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ، كَثِيرَ الضَّحِكِ وَالْخَوْضِ فِيمَا لاَ يَعْنِيهِ، يَشْتَغِلُ عَمَّنْ يَأْخُذُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَنْ جَالَسَهُ، هُوَ إِلَى اسْتِمَاعِ حَدِيثِ جَلِيسِهِ أَصْغَى مِنْهُ إِلَى اسْتِمَاعِ مَنْ يُحِبُّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِعَ لَهُ، يُرِي أَنَّهُ لِمَا يَسْتَمِعُ حَافِظًا، فَهُوَ إِلَى اسْتِمَاعِ كَلاَمِ النَّاسِ أَشْهَى مِنْهُ إِلَى كَلاَمِ الرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ، لاَ يَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، وَلاَ يَبْكِي وَلاَ يَحْزَنُ وَلاَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْفِكْرِ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْهِ وَقَدْ نَدِبَ إِلَى ذَلِكَ، رَاغِبًا فِي الدُّنِيَا وَمَا قَرَّبَ مِنْهَا، لَهَا يَغْضَبُ وَيَرْضَى، إِنْ قَصَّرَ رَجُلٌ فِي حَقِّهِ قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ لاَ يُقَصَّرُ فِي حُقُوقِهِمْ! وَأَهْلُ الْقُرْآنِ تُقْضَى حَوَائِجُهُمْ، يَسْتَقْضِي مِنَ النَّاسِ حَقَّ نَفْسِهِ وَلاَ يَسْتَقْضِي مِنْ نَفْسِهِ مَا للهِ عَلَيْهَا، يَغْضَبُ عَلَى غَيْرِهِ زَعَمَ للهِ، وَلاَ يَغْضَبُ عَلَى نَفْسِهِ للهِ، وَلاَ يُبَالِي مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ؛ مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلاَلٍ؟ قَدْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ، إِنْ فَاتَهُ مِنْهَا شَيْءٌ لاَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ حَزِنَ عَلَى فَوْتِهِ، وَلاَ يَتَأَدَّبُ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ وَلاَ يَزْجُرُ نَفْسَهُ عَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، لاَهٍ غَافِلٍ عَمَّا يَتْلُو أَوْ يُتْلَى عَلَيْهِ، هِمَّتُهُ حِفْظُ الْحُرُوفِ، إْنِ أَخْطَأَ فِي حَرْفٍ سَاءَهُ ذَلِكَ لِئَلاَّ يَنْقُصَ جَاهُهُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ فَتَنْقُصُ رَتْبَتُهُ عِنْدَهُمْ فَتَرَاهُ مَحْزُونًا مَغْمُومًا بِذَلِكَ، وَمَا قَدْ ضَيَّعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيَنَ اللهِ –تَعَالَى- مِمَّا أُمِرَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ أو نُهِي عَنْهُ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ، أَخْلاَقُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ أَخْلاَقُ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ، لاَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، إِذَا سَمِعَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾(1)، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ طَلَبَ الْعِلْمِ؛ لِمَعْرِفَةِ مَا نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَنْتَهِي عَنْهُ، قَلِيلَ النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ، كَثِيرَ النَّظَرِ لِلْعِلِمْ الَّذِي يَتَزَيَّنُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا لِيُكْرِمُوهُ بِذَلِكَ، قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ الَّذِي نَدَبَ اللهُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَسُولُهُ؛ لِيَأْخُذَ الْحَلاَلَ بِعِلْمٍ وَيَتْرُكَ الْحَرَامَ بِعِلْمٍ، لاَ يَرْغَبُ فِي مَعْرِفَةِ عِلْمِ النِّعَمِ وَلاَ فِي عِلْمِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، تِلاَوَتُهُ لِلْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى كِبْرٍ فِي نَفْسِهِ وَتَزَيُّنٍ عِنْدَ السَّامِعِينَ مِنْهُ، لَيْسَ لَهُ خُشُوعٌ فَيَظْهَرَ عَلَى جَوَارِحِهِ، إِذَا دَرَّسَ الْقُرْآنَ أَوْ دَرَسَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ هِمَّتُهُ مَتَى يَقْطَعُ، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى يَفْهَمُ، لاَ يَتَفَكَّرُ عِنْدَ التِّلاَوَةِ بِدُرُوبِ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِرِضَا الْمَخْلُوقِينَ، وَلاَ يُبَالِي بِسَخَطِ رَبَ الْعَالَمِينَ، يُحِبُّ أَنْ يُعْرَفَ بِكَثْرَةِ الدَّرْسِ، وَيُظْهِرُ خَتْمَهُ لِلْقُرْآنِ لِيَحْظَى عِنْدَهُمْ، قَدْ فَتَنَهُ حُسْنُ ثَنَاءِ الْجَهَلَةِ مِنْ جَهْلِهِ، يَفْرَحُ بِمَدْحِ الْبَاطِلِ وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ أَهْلِ الْجَهْلِ، يَتْبَعُ هَوَاهُ فِيمَا تُحِبُّ نَفْسُهُ، غَيْرُ مُتَصَفَّحٍ لِمَا زَجَرَهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ، إْنَ كَانَ مِمَّنْ يُقْرِئُ غَضِبَ عَلَى مَنْ قَرَأَ عَلَى غَيْرِهِ، إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِالصَّلاَحِ كَرِهَ ذَلِكَ، وَإِنَ ذُكِرَ عِنْدَهُ بِمَكْرُوهٍ سَرَّهُ ذَلِكَ، يَسْخَرُ بِمَنْ دُونَهُ، يَهْمِزُ بِمَنْ فَوْقَهُ، يَتَتَبَّعُ عُيُوبَ أَهْلِ الْقُرْآنِ لِيَضَعَ مِنْهُمْ وَيَرْفَعَ مِنْ نَفْسِهِ يَسْخَرُ بِمَنْ دُونَهُ، يَهْمِزُ بِمَنْ فَوْقَهُ، يَتَتَبَّعُ عُيُوبَ أَهْلِ الْقُرْآنِ؛ لِيَضَعَ مِنْهُمْ وَيَرْفَعَ مِن نَفْسِهِ، يَتَمَنَّى أَنْ يُخْطِئَ غَيْرُهُ وَيَكُونَ هُوَ الْمُصِيبُ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِسَخَطِ مَوْلاَهُ الْكَرِيمِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ أَظْهَرَ عَلَى نَفْسِهِ شِعَارَ الصَّالِحِينَ بِتَلاَوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ ضَيَّعَ فِي الْبَاطِنِ مَا يَجِبُ للهِ، وَرَكَبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ مَوْلاَهُ الْكَرِيمِ، كُلُّ ذَلِكَ بِحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا، قَدْ فَتَنَهُ الْعُجْبُ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ، إِنْ مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَوْ مُلُوكِهَا فَسَأَلَهُ أَنْ يَخْتِمَ عَلَيْهِ سَارَعَ إِلَيْهِ وَسُرَّ بِذَلِكَ، وَإِنْ مَرِضَ الْفَقِيرُ الْمَسْتُورُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَخْتِمَ عَلَيْهِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَيَتْلُوهُ بِلِسَانِهِ، وَقَدْ ضَيَّعَ الْكَثِيرَ مِنْ أَحْكَامِهِ، أَخْلاَقُهُ أَخْلاَقُ الْجُهَّالِ، إِنْ أَكَلَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ شَرِبَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ نَامَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ لَبِسَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ جَامَعَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ صَاحَبَ أَقْوَامًا أَوْ زَارَهُمْ أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَوِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِمْ فَجَمِيعُ ذَلِكَ يَجْرِي بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْفَظُ جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ مُطَالِبٌ نَفْسَهُ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ وَلاَ يُشَارُ لَهُ بِالأَصَابِعِ)، قال محمد بن الحسين -رحمه الله: (فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ أَخْلاَقُهُ صَارَ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ؛ لأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ بِالأَخْلاَقِ الَّتِي لاَ تَحْسُنُ بِمِثْلِهِ اقْتَدَى بِهِ الْجُهَّالُ، فَإِذَا عِيبَ عَلَى الْجَاهِلِ قَالَ: فُلاَنٌ الْحَامِلُ لِكِتَابِ اللهِ فَعَلَ هَذَا، وَنَحْنُ أَوْلَى أَنْ نَفْعَلَهُ! وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِعَظِيمٍ، وَثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَلاَ عُذْرَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ، وَإِنَّمَا حَدَانِي عَلَى مَا بَيَّنْتُ مِنْ قَبِيحِ هَذِهِ الأَخْلاَقِ نَصِيحَةٌ مِنِّي لأَهْلِ الْقُرْآنِ لِيَتَعَلَّقُوا بِالأَخْلاَقِ الشَّرِيفَةِ وَيَتَجَافَوْا عَنْ الأَخْلاَقِ الدَّنِيَّةِ، وَاللهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاهُمْ لِلرَّشَادِ، وَاعْلَمُوا -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ- أَنِّي قَدْ رَوَيتُ فِيمَا ذَكَرْتُ أَخْبَارًا تَدُلُّ عَلَى مَا كَرِهْتُهُ لأَهْلِ الْقُرْآنِ، فَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهَا مَا حَضَرَنِي لِيَكُونَ النَّاظِرُ فِي كِتَابِنَا يَنْصَحُ نَفْسَهُ عِنْدَ تِلاَوَتِهِ الْقُرْآنِ، فَيُلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، وَاللهُ -تَعَالَى- الْمُوَفِّقُ). |
#26
|
||||
|
||||
![]() ثواب من تحلى بأخلاق القرآن
عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ(1) عَنْ أَبِيهِ(2) عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيهِ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟!»(3)، وَعَنْ خَيْثَمَةَ(4) قَالَ: مَرَّتِ امْرَأَةٌ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَتْ: طُوبَى لِحِجْرٍ حَمَلَكَ وَلِثَدْيٍ رَضَعْتَ مِنْهُ، فَقَالَ عِيسَى: طُوبَى لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ عَمِلَ بِهِ(5). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ(6) عَنْ أَبِيه(7) عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الرَّجُلِ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَظْمَأْتُ نَهَارَكْ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَيَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الرَّجُلِ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَظْمَأْتُ نَهَارَكْ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ»(8). عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ بَقِيتَ فَسَيُقْرَأُ الْقُرْآنُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ للهِ -تَعَالَى، وَصِنْفٌ لِلدُّنْيَا، وَصِنْفٌ لِلْجَدَلِ، فَمَنْ طَلَبَ بِهِ أَدْرَكَ)(9). قال: محمد بن حسين: (قَدْ ذَكَرْتُ أَخْلاَقَ الصِّنْفِ الَّذِي قَرَأَ الْقُرْآنَ يُرِيدُونَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- بِقِرَاءَتِهِمْ، وَأَنَا أَذْكُرُ الصِّنْفَيْنِ اللَّذَيْنِ يُرِيدَانِ بِقِرَاءَتِهِمَا الدُّنْيَا وَالْجَدَلِ، وَأَصِفُ أَخْلاَقَهُمْ؛ حَتَّى يَعْرِفَهَا مَنِ اتَّقَى اللهَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ فَيَحْذَرَهَا -إِنْ شَاءَ اللهُ). |
#27
|
|||
|
|||
![]()
ماشاء الله والحمد لله والله أكبر
__________________
أ/صبحي أبو الغيط ![]() |
#28
|
||||
|
||||
![]() |
#29
|
|||
|
|||
![]()
شكراااااااااااااااااااااااااا
|
#30
|
||||
|
||||
![]() |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|