|
حي على الفلاح موضوعات وحوارات ومقالات إسلامية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
![]()
الظاهر والباطن
وقانون (ما في قلبي على لساني) الناس ثلاثة أصناف في قضية السر والعلن، والظاهر والباطن، ويمكن أن نوضِّح حقيقة هذه المسألة من خلال ما يأتي: الصنف الأول: هو الذي يتكلَّمُ بكل شيء، ولا يبقى على لسانه شيء، فكل معلومة عرَفها لا بد أن يُذيعَها، وكل خبر يسمعه حتمًا سوف يحكيه، وكل أمر وصَله، فبصورة تلقائية سيصلُ لِمَن حوله، أخباره وأموره كلها على طرفِ لسانه، كما يعبِّر عن هذا عامةُ الناس. يتكلم بكل ما خطَر على باله، يحكي كلَّ ما يدور في رأسه، يصرِّح بالأشياء التي تحدُث معه، لا يُخفي سرًّا، ولا يعرف الكتمان، صريح غاية الصراحة، واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، يتمتع بمنهج ظاهري من الدرجة الأولى، لا يعرفُ الخداع، ولا اللف ولا الدوران، بل كل القضايا والمسائل عنده في رتبة واحدة، يمتاز بصفاء النفس، وحُسنِ الطويَّة، وسلامة السَّريرة ونقائها، خالٍ من الغش، بعيدٍ عن الخداع، لا يعرف التلوُّنُ إلى منهجِه سبيلًا. يحبُّه الناس عامة، وإن كانوا يحذرون من الكلام أمامه، يطمئنُّ المرءُ إليه رغم التوجُّس من صراحته، يُثنون عليه ثناءً عاطرًا، بأن الرجل صادق وصريح، (والذي في قلبِه على لسانه). ورغم أن هذا الصنفَ من البشر، له محاسنُ كثيرة، ومنافع جمة، فإننا لا يمكنُ أن نجعل منهجه وسلوكه، منهجًا صوابًا، بهذا الإطلاق والتعميم الذي يُطلِقُه الناس. ذلك لأن الإنسان لا بد أن تكون عنده خاصية السِّرية، في بعض المسائل التي تدخُل في إطار السياسة، أو الاجتماع، أو الاقتصاد، أو غير ذلك من الأسرار، فلا يصح أن يُعلِن المرءُ عن كل أسراره، وإلا صار من الحمقى بامتياز، فعلى سبيل المثال: في البيوت والحياة الأُسرية وما يجري فيها، تُعتبر من خواص البيوت التي لا يجوزُ للإنسان أن يبوحَ بها، فلو باح بها - والبيوت أسرار - يُكتَب في ديوان المغفَّلين، لا شك في هذا ولا ريب. ولا يجوز للمرء أن يحدِّث بكل ما سمع، فالمجالس بالأمانات؛ ((وكفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع)). تخطر ببال المرء مسائلُ فظيعة، فلا يحق له أن يتكلم عنها، وإلا كانت طامة ومصيبة، وربما ينتج عنها من الأثر ما يُفسِد كثيرًا. وهكذا باقي الأمور والمسائل؛ لذا جعَل الله - تبارك وتعالى - للمرء عقلًا، هو مناط التكليف، حتى به يضبط أموره وقضاياه، ومن ثم يُحاسَبُ على أقواله وأفعاله، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر. وأكرَم اللهُ المرء بهذا اللسان، الذي يصدر منه العجب العجاب، وأمرنا ربُّنا أن نتأدَّبَ بالآداب الشرعية في قضايا اللسان، وأن نحذَرَ آفاتِ اللسان ومزالقَه. الخلاصة: إن طِيب القلبِ مَحمَدةٌ، وإن سلامة الصدر فضيلة، وإن خلوص النفس من الغل والحقد صلاحٌ، ولكن قانون (ما في قلبي على لساني) قانون ليس صحيحًا، ومن ثَمَّ لا يكون محمدةً للمرء أبدًا، بل هو مذمَّة، وإن كان القصد منه التعبيرَ عن حالة سلامة الصدر، وحُسْن الطويَّة، لكن نحن محكومون بقواعدَ وأصولٍ وضوابطَ، لا يجوز تجاوزُها؛ ففي الحديث الصحيح: ((رُفِع القلمُ عن ثلاثة........ وذكَر منهم المجنون))، والعقل مناطُ التكليف، كما يعبِّر عن هذا العلماءُ. الصنف الثاني: ذاك الذي يكونُ في الاتجاه المعاكس للصنف الأول، أو هو الذي يمثِّلُ الاتجاه (الباطني)، الذي يغالي في الكتمان، ويبالغ في التخفِّي، فلا تأخُذ منه حقًّا ولا باطلًا، ولا تعرف له ظاهرًا من باطن، يعطيك نصف الكلمة، ويبلع النصفَ الباقي، إذا شعَر أن فكرتَه وصَلت إليك، يبدأ باللف والدوران، يُكثِر من الصمت حتى لا يكاد يُبين، يتلوَّنُ بصورة مدهشة، متقلب في أمورِه كلها، لا تكاد تعرف منه ما يريد حتى لو أوضَح وأفصح، لا يتكلَّمُ كلمةً إلا تلفت عن يمينه وشماله، وفوقه وتحته، وأمامه ووراءه. يُظهر لك الودَّ وهو سم زعاف، يُبدي لك قناعةً ويُخفي غيرها، يُكلِّمُك في المشرق وهو يريدُ المغرب، أمورُه مخلطة مشوشة، لونُه باهت لا تستطيع تحديدَه بشكل دقيق، قادر على التكيُّف في كل بيئة، عنده ولَعٌ بخداعِ مَن أمامه، ويشعر بسعادة لا نظيرَ لها وهو يفعل ذلك، يتمتع بأساليبه الالتوائية، يفرح إذا لم يفهمِ المقابل ما يريد. من هؤلاء (المنافقون) الذين ظهَروا في المدينة أيامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم كفَّارٌ لم يؤمنوا بالإسلام دينًا، ولا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولًا، إلا أنهم شعَروا أن لو أظهروا العداوةَ للرسول وللمسلمين، سيكون أمرُهم إلى زوال، وأمورهم حتمًا في خسار. فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر؛ إمعانًا في العداء للإسلام؛ لأن الإفسادَ من الداخل لا يوازيه إفساد، والتخريب من باطن السلة، أبلغ من إدخال الفساد من خارجها. كانوا يلقَوْن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهٍ، وإذا خلَوْا ببعضهم البعض نالوا منه أيما نَيْلٍ. يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ![]() ويروغ منك كما يروغ الثعلب ![]() ملمسُهم ناعم، لكن قرصتَه إلى القبر، كما يعبَّر عن هذا في المثَلِ الدَّارج. كم أشعلوا من فتن، وكم أشاعوا من أكاذيبَ، وكم نشَروا من أباطيل، وكم نسَجوا من كوارثَ، وكم عبثوا وأفسدوا، كم بحثوا لهم عن شقوق في جُدُرِ الفتنة؛ كي يتسللوا من خلالها، فيُفسِدوا ويُخربوا، وهؤلاء يُخزون في الدنيا، وفي الدَّرْك الأسفل من النار يوم لقاء الله! ومن هذا الصنف (الباطنيون) الذين ظهَروا في بعض بلدان المسلمين، وما زالوا إلى يومنا هذا، فهم أولًا: يُظهرون غيرَ ما يبطنون، في أدقِّ ما يتعلق بالإنسان وأعزِّه، ألا وهو الدِّين، وذلك من خلال شُعبتي المنهج والسلوك، أما المنهج فتمثل في عقيدة أن للنصوص ظاهرًا وباطنًا؛ للتحلُّل من تكاليف الشريعة، ومن ثم كمدخل لتفسير النص بلا قواعد، ولا ضوابط، فيحدُثُ الاختلالُ، وتسُود الفوضى. أما على مستوى السلوك، فبدأ من الإنسان الباطني، الذي يُظهِر خلاف ما يُبطِن، بحسب الأرضية التي يوجد فيها، فيتلوَّن كالحرباء، ويُغيِّر جِلده كالأفعى، وصاحب وجوه وأقنعة، وهو ممثل يغيِّر هيئتَه على ضوء الدور الذي سيمثِّله، ونتج عن هذا ويلٌ وثُبور وكوارثُ لها أول، وليس لها آخر، بحقيقة التاريخ والماضي، وبفعل الحاضر، وقراءة المستقبل. من ثمارها (ال*****ة) وما نتَج عنها من ويلٍ ومصائب، ودمار للقِيَم، وهدم لأخلاق، وهرج ومرج، وإشاعة للمنكر الذي يدعو إليه واحدٌ مِن كبار منظِّريهم، باسم الحرية والتقدُّم، ودعوة للثورة على القديم. وطيف من هذا الاتجاه، أولئك الذين يقولون (بالتَّقيَّة)، فلا تدري كيف تتعامل معه، ولا تعرف من أين تبدأ، وإلى أين تنتهي، حتى في قضايا العقيدة والدِّين، فجعلوا هذا من الدين، وزعموا أن (مَن لا تقيَّةَ له لا دينَ له). ويا لها من مصيبة كبيرة، خصوصًا وهي تُنسَبُ إلى الدِّين، وهي بهذا الإطلاق لا تمُتُّ إلى الدِّينِ بصلة، بل هي تخريبٌ متعمَّد وعن سابق إصرار! الصنف الثالث: هو ذلك الصنف المتوازن، الذي يأخُذ الأمور بأنصبتها الصحيحة، من خلال فهمٍ سليمٍ للأمور والقضايا والمسائل، لا يعرفُ الغشَّ، ولا يتعامل بالخداع، ظاهرُه كباطنه، إلا أنه لا يُفرِط في سرٍّ، ولا يعتدي على أحد، الأصل عنده الإعلان، ويكتُمُ إذا كان الكتمانُ في صالح الفرد، أو المجموعة. وكل هذا من خلال الانضباط بفتوى أهل العلم، فلا يحوِّلُ الأصل فرعًا، ولا الفرع أصلًا. نظيف الظاهر، نقي الباطن، حَسَن السريرة، جريء في بيان مواقفِه، عظيمٌ في أدبه، لا يعرف التلوُّنُ إلى وجهِه طريقًا، ولا النفاقُ إلى سلوكه سبيلًا. لا يؤمِنُ بالباطنية وعقائدها وسلوكياتها، ويرى نفسَه حرًّا أكبَرَ من أن تستهويَه خدعةُ دعوة إلى حرية زائفة، تنزلق به إلى مهاوي الرَّدى، وهو يعلم أنه يضحك على نفسه، ولكن من وراء ستار، لكنه مكشوف. يؤمن أن الشريعة، تتمثل في الكتاب والسنَّة، وفُهومِ السلف لهما، له مكانتُه في عالم المنهج الإسلامي، ويعتقد اعتقادًا جازمًا أنها نصوصٌ عربية فصيحة بليغة؛ لفهمها طرائقُه المعروفة عند العلماء، فلا يجوز تجاوزُها بِذَريعة الظاهر والباطن. وهو لا يقول بالتقيَّةِ، بل يرى أنها مخالفة للدِّين، وأن الدِّينَ أكبرُ من أن يربِّيَ الناسَ على التقيَّةِ. |
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|