#1
|
|||
|
|||
![]()
مخاطر الدولة الدينية
لا يزال العلمانيُّون يَصُدُّون الناسَ عن شرع ربِّهم الذي فرَضَه على العالَمين منهجَ حياة ونجاة، فيكْذِبون على الدِّين تارةً، ويعبثون بالحقائق التاريخية تارةً، ويَقلِبون الوقائع الحيَّةَ المشاهَدة تاراتٍ! يَبتغون من وراء ذلك كلِّه تَشويهَ صورة الدين وأهله في الناس. وكان مِن مَكْرهم أخيرًا التلبيسُ على الناس بما اصطلحوا عليه باسم "الدولة الدينيَّة"، وما زيَّفوه حول هذا المصطلح مِن تحريفٍ للدِّين والتاريخ، وكذبٍ في الواقع. والدولة الدينية عند العلمانيين العرب تَعني ابتداءً: الدولةَ "المسلِمة"، التي تُحكم وتُساس بشرع الله -تعالى- وإنما اصطلحوا على لفظة "الدِّينية" بدل "المسلمة"؛ تَمْويهًا على الناس؛ لئلاَّ يصطدموا بمشاعر الجماهير المسلمة الحيَّة تُجاه إسلامهم. ومِن المعلوم أنَّ غير المهتمِّين بالعمل الإسلامي من أصحاب الديانات المحرَّفة، لا يُبالون كثيرًا بضرورة سياسة دُوَلهم بما يَعتقدون مِن دِين، نعم، تقوم دول وكيانات على أخلاط شتَّى، تَحْوِي من ضمنها معتقَداتٍ باطلةً جائرةً تُسمَّى عندهم دينًا، لكنْ لا تُساس ولا تُحكم بها خالصةً، مثلَما هو مقصود ومفترَضٌ في العمل الإسلامي السياسي. يقول ابنُ خلدون - رحمه الله - في مقدمته: "اعلم أنَّ الملَّة (كلَّ مِلة) لا بد لها مِن قائم عند غَيبة النبيِّ؛ يَحملهم على أحكامها وشرائعها، ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف، والنوعُ الإنساني أيضًا - بما تقدَّم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري - لا بد لهم مِن شخص يَحملهم على مَصالحهم، ويَزَعُهم عن مَفاسدهم بالقهر، وهو المسمَّى بالمَلِك. والملة الإسلامية لما كان الجهادُ فيها مشروعًا لعموم الدعوة وحمْل الكافة على دين الإسلام - أيْ: أحكامه - طوعًا أو كرهًا - اتحدت (وفي بعض نسخ "المقدمة": اتخذت) فيها الخلافة والمُلك لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معًا. وأما ما سوى الملة الإسلامية، فلم تكن دعوتُهم عامةً، ولا الجهادُ عندهم مشروعًا، إلا في المدافعة فقط، فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك؛ وإنما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرَض، ولأمر غير ديني، وهو ما اقتضتْه لهم العصبية؛ لما فيها من الطلب للملك بالطبع لِمَا قدمناه؛ لأنَّهم غيرُ مكلَّفين بالتغلُّب على الأمم كما في الملة الإسلامية، وإنما هم مَطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم" اهـ. إذًا عالَمية الدعوة الإسلامية هي التي أوجبت "الدولة الدينية" على العامِلِين في الدعوة وللدعوة، ومن هنا نَفْهَم أنَّ محاربة العلمانيين للدولة الدينية إنما هي محاربة للدعوة الإسلامية خاصة؛ إذ لا دعوة غير الدعوة الإسلامية تحتِّم مبادِئُها على أتباعها قيامَ دولة تُباشر مهامَّ الدعوة؛ وإنما هذا من خصائص الإسلام وحْدَه؛ العالَمية. فإذا تقرَّر أن "الدولة الدينية" المرفوضة عند العلمانيين والتغريبيِّين إنما هي "الدولة المسلمة"، فليُعْلَم كذلك أنَّ الأسبابَ المُعلَّلَ بها رفضُ الدولة الدينية عندهم إنما هي أكاذيبُ تاريخيةٌ، وأباطيلُ فكرية، ليس لها أصل صحيح مِن العقل أو التجرِبة. يُستنتج من تلك الأوهام كلِّها أخيرًا ما يسمونه: "مخاطر الدولة الدينيَّة"؛ أي: مِن رجعية، وتخلُّف، تحلُّ مكان التمدُّن والتحضُّر الذي نحياه! أو كراهيةٍ وتعصُّبٍ بدل السماحة والإنسانية التي تغمرنا! فالدولة الدينيَّة تَعني الرجوعَ للقرون الوسطى والتخلُّفَ الحضاري، كما تعني رفض التعدُّدية الدينية والمذهبيَّة للناس وفي الناس، ومن هنا كانت ذاتَ مَخاطر على المجتمعات. وهكذا تَختلِق العلمانيةُ الأكاذيبَ التاريخية؛ لتسيء للدَّعوات التي أَسَّست دولاً دينية، فتصوِّرُ - في مَعْرِض الاتِّعاظ من الحركات أو الدول الدينيَّة - حركةَ الشيخ محمد بن عبدالوهاب بأنها حركة بدوية إسلامية، متشددة عنصرية، تَمنع من التقدُّم الحضاري، وترفض الآخَر. وكذلك يصوِّرون حركة الجهاد الأفغاني العربي ضد السوفييت، وما عقب هذا الجهادَ مِن إقامة الدولة المسلمة على الأرض الأفغانية، على أنها حركةُ عصاباتٍ الْتَحَفَت الدِّينَ لتمارِس إرهابَها العالَمي، وتغرِّر بأتباعها من أجل مكاسب أخرى. وهكذا يُلحِق العلمانيون بكلِّ حركة دينية قامت كلَّ نقيصة؛ لتشويه "الدولة الدينية"؛ أي: النظام الإسلامي في الحكم والسياسة. والخَلْط بين بعض الممارسات البشرية السياسية والحُكْمية، وبين الطعن في جدوى صلاحية الحكم السياسي الإسلامي - سِمَة أساسية، وخصيصة أكيدة للعلمانيين وأذنابِهم في العصر الحديث، على أن هذا الخلط عادةً ما يُزاد فيه من الكذب، ويُنقص منه من الحقيقة؛ ليتمَّ تشويه الإسلام على وجه كامل. التجربة الإسلامية: وقد كان للحكم الإسلامي تجارِبُ ناجحة في الأمم العربية وغيرِها، تكْفُل لنا صحة سياسته وحكمه، وتضْمَن للبشرية العِصمةَ مِن زَلَلِ المناهج البشرية، أو المناهج الممتزجة بين الأديان المحرَّفة والنظريات الفلسفية، وبين القوانين البشرية. وهذه التجارب كفَلَتْ للأمة الإسلامية حقوقَها ورِيَادتَها في الأمم، حتى سقطت آخرُ خلافة إسلامية في أوائل القرن المنصَرِم، وحلَّ مِن يومها بالأمة التأخُّرُ التامُّ في السِّباق الحضاري، والضعف والوهن المُجرِّئُ للأمم علينا، كما جرَّ علينا الفُرقةَ والشَّتات بين القُوَى المختلفة والمسيطرة على العالم كلِّه. وكان سقوط الخلافة العثمانية التي مثَّلَتْ آخرَ معاقل الإسلام القائمة بعالَمِيته، على يد العلمانية الغربية التي كانت خَصْمَ الإسلام آنذاك، كما تزامن هذا مع الغزو الغربي للبلاد المسلمة وفَرْض العلمانية فيها، وبدأت مِن هنا التجربةُ العلمانية في عامة البلاد الإسلامية. وعن العلمانية: وفي معرِض التحذير من الدولة الدينية، تغُضُّ العلمانية الطَّرْفَ عن واقعها وتجربتها في الشعوب العربية منذ أكثرَ مِن سبعين عامًا، وما جنَتْه تلك الشعوبُ من استبداد الأنظمة الفاسدة، وتأخُّر البلاد في شتى مناحي الحياة ومجالاتها! ونحن نسأل: إذا كانت الدولة الدينية هي سبب تأخُّر الشعوب وتخلُّفها، ووقوع الفوضى العنصرية وأزمتها، فلماذا تعاني البلادُ العربية التي وقعت تحت وطأة النُّظُم العلمانية التي تفصل دينَ الشعوب عن حُكْمها وسياستها، لماذا تعاني هذا التأخُّرَ الحضاري، والفساد المستشري فيها؟ حتى إننا في بعض البلدان لا نحتاج لبرهان على سوء الحال العام للبلاد في ظل "الدولة العلمانية"، التي لا تُقِيم للدين في المجال الحكمي والسياسي وزنًا. ونسأل كذلك: لماذا عَجزت الأمة العربية التي سِيقَت بنظم الحكم العلماني عن الدفاع عن مقدساتها وأراضيها وشعوبها؟ وقد استعَدَّت الأمة بكلِّ دواعي الدفع وردِّ الظلم. في حين إن الأمة قامت تدفع العدوَّ الصِّهيوني عن بلادها في منتصف القرن الماضي، وهي أقلُّ عددًا وعتادًا من اليوم، ولا عجب؛ فإن بقايا رُوح الخلافة الإسلامية فيها يومئذٍ كانت حاضرةً، ولهذا هبَّتْ لنُصرة القدس وفلسطين. واليومَ لم يعد من الحلول المطروحة بشكل عام في الأمة أصلاً "الخيارُ الجهادي العسكري"، الذي يَحفظ على الأمة وَجَاهتَها بين أمم الأرض، ويردُّ إليها ما اغتُصب منها. أليست "الدولة الدينية" التي ينفِّر عنها العلمانيُّون وأذنابُهم، ويُلْصِقون بها النقائص - أحفظَ لكرامة الفرد في المجتمع، ولكرامة الأمة بين الأمم من العلمانية الذليلة إذًا؟ وعن العنصرية في الدولة الدينية: والمنهج الإسلامي الذي جاء بما يُوافق الفطر ويطابقُها، لم يكن ليصادم الناس في أعظم ما فُطروا عليه؛ فكلُّ كائن في هذه الحياة يميل لمن هو من ***ه في الدين أو العِرق، لكنَّ هذه الموافقة في المنهج الإسلامي للفطرة لم تكن في الظلم والعدوان؛ بل كانت في المعروف والإحسان. فالمنهج الحقُّ العَدْلُ يَحكم بين الناس كذلك بالحقِّ والعدل، فيُنْزِل الناس منازلَهم بقدْرِ ما يحمل على صلاحهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وإنما يقع الاشتباهُ على البعض في هذا، مِن قياسهم الفاسد بين غير المتماثِلَينِ، فيطالبون بمساواة المرأة بالرجل! والكافر بالمسلم! وهذا خلافُ النَّظَر العقلي عند التحقيق؛ إذْ صلاح الناس في معاشهم، لا يتِمُّ بغير ما يُوجب التفريق بين أصنافهم. ثم إن المنهج الإسلامي - لأنه المنهج الرباني الوحيد في الأرض - كان له حقُّ فرْضِه على الناس ليَسْعدوا به في الدنيا والآخرة؛ ولهذا ضيَّق على أهل الكفر والفسق؛ حتى يَضمن لهم فلاحهم، ويأخذَ بحُجُزِهم عن الهلاك، وحتى لا يختلط الباطل بالحق، فتكون فتنة. وهذا معنى قول ربِّنا - تبارك وتعالى -: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص: 28] وقولِه -تعالى-: ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [القلم: 35 - 36]. فالمنهج الإسلامي - الذي هو الإيمان - يَعني الصلاح والفلاح، وكلُّ ما سواه بعدَه يعني الإفساد والخراب، وما كان للعقل أن يَمْتري في فرض الصلاح، ورفض الفساد. والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين. |
#2
|
|||
|
|||
![]() جزى الله كاتبه وناقله خير الجزاء
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() موضوع اكثر من رائع جزاكم الله خيرا
__________________
تذكروني بدعوة ![]() |
#4
|
||||
|
||||
![]()
بارك الله فيك على الموضوع القيم والمميز
|
![]() |
العلامات المرجعية |
|
|