|
الأدب العربي قسم يختص بنشر ما يكتبه كبار الشعراء والأدباء قديمًا وحديثًا |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() النحو العربي والنص د. عبد السلام السيد حامد النحو العربي والنص : مدخل لبحث العلاقة بينهما - د . عبد السلام حامد (*) أقصد بالنص هنا نص الكلام العربي الذي هو موضوع النظر في اللغة من أجل استنباط القواعد والتحليل والتفسير، لا النص بالفهم العام الذي له أشكال وأنماط كثيرة منها العلميّ (ككتب النحو نفسها) وغير العلمي، ومنها المتن والشرح والحاشية والنص النثريّ والمنظومات وما شابه هذه الأقسام. وتراث النحو العربي مليء بهذا كله، وهو مما يشكل مجالاً واسعاً للنظر وللبحث فيه من جوانب وزوايا نصية فكرية وثقافية مختلفة، كشهرة بعض النصوص ونفوذها وتأثيرها بحسب الزمان أو المكان أو نمط التأليف وما نتج عن ذلك. وبناءً على هذا يتحدد ما أقصده في العنوان السابق المثير لأفكار وأسئلة عديدة في ثلاثة محاور، الأول: موقف النحو العربي من نص اللغة، والثاني : علاقة هذا النحو بما يسمى "نحو النص"، والثالث : جدوى منهج نحو النص ومدى أهميته بالنسبة للنحو العربي. والغرض من دراسة هذه الجوانب الثلاثة ومن البحث نفسه، تكوين رؤية شاملة لعلاقة هذا النحو بالنص على مستوى الأصول والقواعد والمنهج قديماً وحديثاً. ويأتي ذلك إيماناً بأن هذه الرؤية لها أهميتها في أنها تعد مدخلاً لدراسة هذه القضية التي يمكن أن توسع تفاصيلها وجوانبها بأشكال أخرى فيما بعد، وأنها تعد مراجعة ـ تحاول أن تجمع بين القرب والبعد ـ لأمور كلية قد ينسي تناول جزئياتها منفصلاً بعضها عن بعض عن أهمية النظر فيها مجتمعة لاستنباط نتائجها. أولاً ـ موقف النحو العربيّ من النص: نصوص الكلام العربي التي كانت أمام النحاة هي : القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والشعر، والنثر. وقد كان للنحاة العرب ثلاثة مواقف من هذه النصوص : الأول : موقف يتعلق بالتوثيق، والثاني : موقف يتعلق بالاستشهاد والتقعيد، والثالث : موقف يتعلق بالتحليل والتطبيق . أ ـ موقف التوثيق : ينصب هذا على توثيق ما سوى القرآن الكريم والحديث؛ لأن المقصود هنا توثيق علماء أصول النحو واللغة لنصوص الشعر والنثر، والضوابط التي وضعها هؤلاء تتعلق بمحاولة توثيق المرويّ من اللغة سنداً ومتناً على غرار ما تم في الحديث، وهي من الناحية النظرية جيدة ومقبولة، لكنها من الناحية العملية كان يحكمها "العصبية والمنافسة"؛ ولذا يبطل مفعول ضبط الرواية ـ كما حاول العلماء أن يقيموها ـ ويصير من اليسير تصفية هذه القضية وعزلها ([1]). على أن أهم ما في هذه المسألة ما ترتب عليها من وجود شواهد شعرية داخلها الزيف والاضطراب وخالطها الضعف. وتصنف المظاهر العامة لهذه الشواهد فيما يأتي ([2]): 1 ـ الشواهد المجهولة النسبة. 2 ـ الشواهد المتعددة النسبة. 3 ـ الشواهد ذات الوجوه المتعددة. 4 ـ الشواهد المصنوعة. 5 ـ الشوهد المحرفة. 6 ـ الشواهد التي أسيء فهمها. فالشواهد المجهولة النسبة وُضع لها ضابط هو ـ كما ذكر الأنباري ـ عدم الاستشهاد بما لا يعرف قائله، لكن هذا الضابط جاء متأخراً بعد جهد عظيم كان النحاة قد بذلوه في الشواهد واستنباط القواعد منها. ولذلك استمر الاعتماد على هذا النوع من الشواهد ([3]). والشواهد المتعددة النسبة تمثل نقطة ضعف لاحتمال كونها مصنوعة أو ملفقة وغير موثقة أو محرفة المتن، ولذا فهي في حاجة في وقتنا الحاضر إلى تنقية ومراجعة بعد توافر ظروف التحقيق الكثيرة المعاصرة. والشواهد ذات الوجوه المتعددة قد تثبت القاعدة وقد تنفيها، وأسباب تعدد وجوهها أحد أمور ثلاثة هي : ورود أكثر من رواية عن الشاعر نفسه، والتغيير من الراوي، والتغيير من النحاة. والتغيير من الراوي والنحاة أدخل في دائرة الاحتمال والظن من غيرهما؛ وذلك لنصرة آرائهم ومذاهبهم القائمة على قواعد وتفريعات ولهجات وغايات مختلفة. من ذلك ما أنشده أبو العباس المبرد في قصر الممدود من الأبيات الآتية : للنمر بن تولب : يسرّ الفتى طولُ السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعلُ وليزيد بن الصعق : فزِعتمْ لتمرين السياط وأنتـمُ يشنّ عليكم بالفنا كل مربـعِ وللطرمّاح : وأخرج أمّه لسواس سلمى لمعفور الفدا ضرِم الجنينِ وقد بين علي بن حمزة الصواب في ذلك بقوله إن بيت النمر روايته : "طول السلامة والغنى"، وأن بيت ابن الصعق روايته "بالقنا"، وأن بيت الطرّماح روايته : "لمعفور الضنى"، ثم قال : " وهذا من فعل أبي العباس غير مستنكر!! لأنه ربما ركب هذا المذهب الذي يخالف فيه أهل العربية واحتاج إلى نصرته، فغيّر له الشعر واحتج به " ([4]) . ومثل هذا قول أفنون التغلبيّ : أم كيف يَنفع ما تُعطي العَلوقُ به رئمان أنفٍ إذا ما ضُنَّ باللبـنِ فقد" أنشده الكسائي في مجلس الرشيد بحضرة الأصمعي؛ فرفع "رئمان" فأنكر عليه الأصمعي ذلك وقال : إنه بالنصب، فقال له الكسائي : اسكت، ما أنت وهذا؟ يجوز الرفع والنصب والجر، فسكت، هذا مع أن حق المعنى والإعراب (فضلاً عن الرواية) النصب ـ كما بين ابن الشجري ـ لأن "رئمان" مفعول "تعطي" ([5]). ومما ورد فيه هذا أيضاً قول طفيل الغنوي : لأيّامها قِـيدت وأيامـها جَرَتْ لغُنْمٍ ولم تؤخذْ بأرضٍ وتُغصبِ فقد جوّز بعض القدماء في "أيامها" الثانية الأوجه الثلاثة الرفع والنصب والجر. وكذلك قول كعب بن زهير : ضخـمٌ مُقـلّّدُها عَبْـلٌ مُقيّـدُها في خَلْقها عن بنات الفحلِ تفضيلُ ذكر ابن هشام أنه يجوز في " ضخم " الرفع والنصب والجر، والرفع على أربعة أوجه، والنصب بإضمار أمدح أو على أنه حال، والجر على أنه صفة لنضاخة (قبل ذلك ببيتين) على لفظها أو لعذافرة (قبل ذلك بثلاثة أبيات) على المعنى ([6]). ومثل هذا عند المحدثين ما ورد في قول المرار بن منقذ ([7]): ثـم تنهـدّ على أنمــاطها مثـلَ ما مالَ كثيـبٌ منقعرْ عَبَـق العنبرُِ والمسـك بها فهيَ صفراء كعرجون العمرْ فقد أجاز محققا المفضليّات جعل (عبق) اسماً مبتدأً وجر (العنبر) على أنه مضاف إليه، وعلى هذا يكون الخبر "بها"، وأجازا أيضاً جعل (عبق) فعلاً ماضياً والفاعل هو (العنبر) . ومثل هذا التعدد المبنيّ على ما يجوز في الموضع الواحد في الشعر لا يمكن أن يكون قد صدر عن الشاعر؛ لأنه يمثل مفارقة للتاريخ الصحيح بالضرورة . ولقائل أن يقول إن هذا التعدد أمر مقبول لاعتبارات من أهمها : إثراء تعدد أوجه القراءة الشعرية المفتوحة، وظروف عدم التحقق من الرواية وفقد الدليل على الوجه التاريخي المحدد الصحيح، وصيرورة الشعر بعد رحيل قائليه ملكاً للثقافة العربية ومعطياتها اللغوية الائتلافية تقرؤه على النحو الذي تسمح به القواعد. وهذا القول صحيح إذا أعيا التحقيق التاريخي المستمد من منهج لغوي يجب الأخذ به، وهو منهج يفترض أن يقوم على أدلة مختلفة أهمها الاحتكام إلى الخصائص اللهجية للشاعر وطلب الاتساق في شعره، وضرورة الاطراد في شعر القبيلة، وتحري الصواب النحوي، ونفي التعدد في موضع مقتضاه التوحد ([8]). والشواهد المصنوعة تكمن أدلة صناعتها في: النص على نسبة الصنعة لبعض النحاة، والطعن الصريح في بعض الشواهد ووسمها بالصنعة، كطعن المازني في شاهد تأنيث "السكّين" الذي أنشده الفراء : فعيث في السَّنام غداةَ قرٍّ بسكيـنٍ موثّقة النصابِ وكذلك نسبة بعض الشواهد إلى شعراء لم يوجدوا أصلاً أو شك في وجودهم، كالذي ينسب إلى مجنون بني عامر : بكيتُ على سرب القطا إذ مررنَ بي فقلت ومثــلي بالبـكاء جديــرُ أسربَ القطا هل من يعيـرُ جناحَه لعلّي إلى من قـد هويـتُ أطيـرُ وظهور أمارات الصنعة في الرصف اللغوي لبعض الشواهد، كالأبيات التي يستشهد بها النحاة على لغة من يلزم المثنى الألف وفتح النون مثل : أعرف منها الجيد والعينانا ومنخرين أشبـها ظبيـانا والشواهد المحرفة لا يستبعد الباحث أن يكون بعض تحريفها من تعمد النحاة أنفسهم، ومما يدل على هذا اختلاف روايتها في كتب النحو عما هي عليه في مصادرها الأصلية، ومن أوضح الأمثلة على ذلك الاستشهاد على أن "أنْ" تجزم المضارع بقول امرئ القيس : إذا ما ركبنا قـال ولدانُ أهلـنا تعالوا إلى أنْ يأتنا الصيدُ نَحطبِ والرواية في الديوان (إلى أن يأتيَ الصيدُ نحطبِ) ، وكذلك الاستشهاد على الجزم بلن بقول كثير عزة : أيادي سبا يا عزّ ما كنت بعدكمْ فلن يحلُ للعينيـن بعدك منظرُ والرواية في الديوان المطبوع هكذا (فلم يحل للعينين) . ويعدّ تحريف الشواهد أكثر جوانب هذه القضية خطراً؛ لما ترتب عليها من تفريعات وآراء وجزئيات أسهمت في تضخيم قواعد النحو العربي وتعقيدها وحشوها بغير الصحيح وما لا فائدة فيه . والشواهد التي أسيء فهمها نتجت عن عزل الشواهد من سياقها فكان لهذا أثر في القول بالتأويل بصوره المختلفة، ومن هذا توجيه الأشموني جر الملحق بجمع المذكر السالم بالكسرة في بعض ما ورد من الشعر بأنه لغة خاصة مع أنه في الحقيقة للضرورة الشعرية ([9])، وكذلك القول بأن ما ورد في الحديث " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " يعد مما جاء على لغة "أكلوني البراغيث" مع أن للحديث رواية أخرى مشهورة هي " إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" ([10]). وقد كان الدافع الذي سمح للنحاة بأن يُدخلوا هذه الشواهد الضعيفة بأنواعها ومظاهرها المختلفة مجال النحو هو " مراعاة القواعد لا النصوص، فقد وجهوا جهدهم أساساً في الدراسة لخدمة القواعد فانزلق بهم ذلك إلى استخدام نصوص ما كان لها أن تستخدم أو على الأقل : كان ينبغي لها أن تُحقّق وتنخل قبل أن تستخدم " ([11]). ب ـ موقف الاستشهاد والتقعيد : مع القرآن : النحو العربي ـ ككل العلوم العربية ـ نشأ في كنف النص القرآني وكان من أوائل العلوم التي اعتنت به، وكان هذا الاعتناء ـ في البدء ـ لصيانته وحفظه من وقوع اللحن والتحريف في قراءته. وموقف النحاة من القرآن من حيث الاستشهاد يتلخص في أنهم من الناحية النظرية كانوا يؤمنون بما قرره السيوطي من بعد وهو أن " كل ما ورد أنه قرئ به جاز الاحتجاج به في العربية سواءٌ أكان متواتراً أم شاذاً، وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة إذا لم تخالف قياساً معروفاً، بل (و) لو خالفته يحتج بها في ذلك الوارد بعينه ولا يقاس عليه نحو (استحوذ) " ([12]). وأما من الناحية العملية، فقد كان الأمر بخلاف ذلك؛ إذ إن معظمهم لم يستخدموا القرآن في دراسة مسائل النحو، ولم يولوه ما هو حقيق به من الاستشهاد والاحتجاج. والشواهد على ذلك كثيرة منها أن كتاب سيبويه ـ وهو قمة الدراسات السابقة عليه ودستور ما جاء بعده ـ فيه اعتماد يكاد يكون كاملاً على الشعر العربي القديم في الاستقراء وتقرير الأصول، وتغافل واضح عن آيات القرآن والشعر الإسلامي، ولا يزيد ما فيه من الآيات عن ثلاثمائة آية، ومعظمها يذكر بعد الشعر كأنما يساق بهدف التقرير والتوكيد لا الاستشهاد، وبناءً على هذا لا يُعَدّ من الغريب الزعم بأن " هذا الانصراف عن الاعتماد على النص القرآني في الاحتجاج قد شمل معظم النحاة تقريباً ... ماعدا "ابن هشام" الذي وجه الكثير من عنايته إليه، فزاد على تنظيمه للقواعد وترتيبها وحسن عرضها الاستدلال عليها من القرآن الكريم في غالب الأحوال كما يبدو ذلك في كتابه "شذور الذهب" وشرحه له " ([13]). ويقول ابن حزم : " والعجب ممن إن وجد لأعرابي جلف أو لامرئ القيس أو الشماخ أو الحسن البصري لفظاً في شعر أو نثر جعله في اللغة واحتج به وقطع به على خصمه، ولا يستشهد بكلام خالق اللغات ولا بكلام الرسول وهو أفصح العرب، وما في الضلال أبعد من هذا " ([14]). وقد ترتب على هذه الظاهرة أمران : الأول : الاضطراب أمام النصوص القرآنية والاضطرار إلى توجيهها توجيهاً خاصاً بها. والثاني : رفضهم أحياناً بعض القراءات القرآنية لمخالفتها للقواعد المعدة لديهم المأخوذة من نصوص أخرى، وجعل القراءة مجال تطبيق الأحكام لا الاستنباط منها . وقد حمل لواء تلحين القراء والقراءات نحاة البصرة المتقدمون، ثم تابعهم غيرهم من اللغويين والمفسرين؛ فكان مما لحنوه القراءات الخاصة بالفصل بين المضاف والمضاف إليه، والعطف على معمولي عاملين مختلفين، وتسكين لام الأمر مع "ثم"، وتسكين الحركة الإعرابية ([15]). وكان أبو علي الفارسي على رأس هؤلاء، ومن شواهد هذا لديه وصفه لهمز "معايش" في قراءة ابن مجاهد عن نافع [الأعراف : 10] بأنه غلط([16]). ولأجل هذا اجتهد ابن جني في كتابه "المحتسب" للدفاع عن القراءات الشاذة وذكر أن شذوذها لا يغض من ثبوت روايتها ولا من رسوخ قدمها في العربية، وكان مما قاله في ذلك أنه على رغم خروج الشاذ عن إطار القراءات السبع " إلا أنه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالروايات من أمامه وورائه، ولعله أو كثيراً منه مساوٍ في الفصاحة للمجمع عليه، نعم وربما كان فيه ما تلطف صنعته، وت*** بغيره فصاحته، وتمطوه قوى أسبابه، وترسو به قدم إعرابه... ولسنا نقول ذلك فسحاً بخلاف القراء المجتمع في أهل الأمصار على قراءتهم، أو تسويفاً للعدول عما أقرته الثقات عنهم، لكن غرضنا منه أن نُري وجه قوة ما يسمى الآن شاذاً، وأنه ضارب في صحة الرواية بجرانه، آخذ من سمت العربية مهلة ميدانه، لئلا يَرى مُرًى أن العدول عنه إنما هو غض منه أو تهمة له. ومعاذ الله وكيف يكون هذا والرواية تنميه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟! والله تعالى يقول : " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " ([17]) . والذي دعا النحاة إلى مثل هذا الموقف العملي السلبي من القرآن الكريم وقراءاته هو "التحرز الديني" ومعناه أنهم أرادوا أن يحفظوا للقرآن قدسيته وهيبته، وأن ينأوا به عما يشيع في مسائل النحو من تعدد الآراء وإعمال الذهن والأخذ والرد والرغبة في التصرف بحرية مع النص المدروس. مع الحديث النبوي: احتج علماء اللغة في كتبهم منذ بداية التأليف بالحديث. أما النحاة فقد سكتوا عن الاحتجاج به وأحجموا عن هذا من لدن سيبويه إلى أن جاء ابن مالك في القرن السابع الهجري؛ فاعتمد عليه وخالف العرف الشائع في هذا؛ فعلق أبو حيان في شرحه للتسهيل على ذلك وأنكر على ابن مالك فعله وعدّ سكوت القدماء عن الاستشهاد بالحديث منعاً متعمداً وعلله بأمرين، الأول: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، والثاني: وقوع اللحن فيما روي من الحديث؛ لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ([18]). وبإثارة أبي حيان لهذه الفكرة وتعليقه عليها وتفسيره لها صارت الفكرة قضية مشهورة وموضوع بحث ونظر وصار فيها ثلاثة اتجاهات : اتجاه المنع وقد تزعمه أبو حيان وهو ممن جاء بعد ابن مالك مباشرة، واتجاه التوسط بين المنع والجواز ومن أبرز من مالوا إلى هذا أبو الحسن الشاطبي (ت 790) في شرح الألفية، واتجاه الجواز والسير على خطا ابن مالك، على نحو ما نجد عند الدماميني في شرحه للتسهيل والبغدادي في خزانة الأدب. ويظهر موقف ابن مالك واضحاً من الحديث النبوي الشريف في كتابه " شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح "، وبرغم أن الغرض الأصليّ منه ـ كما يبدو من عنوانه ـ توجيه بعض وجوه الاستعمال والتراكيب المشكلة نحوياً في صحيح البخاري، جعله ابن مالك كتاباً نظرياً وتطبيقياً وجمع فيه بين التقعيد والتطبيق، معتمداً على مختلف أنواع الشواهد التي كان من أهمها الأحاديث؛ حتى إننا نرى مسائل أجازها ابن مالك وكان للحديث فيها القول الفصل، ومن ذلك : ـ جواز ثبوت الخبر بعد "لولا" (وهو ما خفي على النحاة إلا الرماني وابن الشجري). ـ وجواز حذف الموصول لدلالة صلته أو بعضها عليه ، وهو مما انفرد به الكوفيون ووافقهم الأخفش عليه؛ استناداً إلى الحديث : " مثَل المهجّر كالذي يُهدي بَدَنَة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً ثم دجاجة، ثم بيضة " . ـ وصحة العطف على ضمير الرفع المتصل غير المفصول بتوكيد أو غيره، وهو مما لا يجيزه النحاة في النثر إلا على ضعف، ويزعمون أن بابه الشعر، والصحيح جوازه نظماً ونثراً ([19]). وبذلك تبرز قيمة هذا الكتاب في أنه أول كتاب اختص الحديث النبوي الشريف بالدراسة النحوية، وقد تهيأ له من النصوص ما لم يتهيأ لكتاب في مثل حجمه الصغير ؛ إذ ضم سبعمائة وثلاثين شاهداً ما بين آية وحديث ومنظوم ومنثور، وتكاد شواهد النثر تتكافأ فيه مع شواهد الشعر إن لم تزد عليها، وبذا كان هذا الكتاب علامة نصيّة مميزة في تاريخ النحو العربي لها أثرها فيمن جاء بعد ابن مالك ([20]). ومن الجدير بالذكر هنا أن تفسير أبي حيان لموقف النحاة الأوائل من الاستشهاد بالحديث بأنه كان امتناعاً للسببين السابق ذكرهما ـ هو الذي شاع فيما بعد وتناقله عنه العلماء الأقدمون وكان له أثره في الدراسات المعاصرة لدى المحدثين ومنهم الدكتور محمد عيد الذي اتفق مع أبي حيان في النتيجة ـ وهي أن أوائل النحاة امتنعوا عن الاحتجاج بالحديث واجتنبوه ـ واختلف معه في السبب؛ فقد كان رأيه أن الذي دفعهم إلى هذا هو التحرز الديني نفسه الذي كان سبب امتناعهم عن الاحتجاج بالقرآن الكريم، وأما ما يذكر في هذا من تعليل منع الاستشهاد بالحديث بأنه كان بسبب الرواية بالمعنى أو اللحن في المتن، فإن ذلك ـ في رأيه ـ لا يؤيده التاريخ المبكر لتوثيق الحديث وجمعه ومعاصرته لدراسة اللغة وجمعها وتقعيدها؛ إذ التقى الاثنان في زمن واحد دون أن يثمر هذا الاعتمادّ على الحديث في الاحتجاج والاستشهاد ([21]). لكنّ في هذه القضية تفسيراً آخر لابن الطيب الفاسي (ت 1170هـ) فهو يرى أن موقف القدماء لم يكن امتناعاً عن عمد بل كان سكوتاً وانصرافاً عن الاحتجاج بالحديث لعدم شهرته بينهم، وفي هذا الشأن يقول راداً على أبي حيان : " وحاصل ما قاله أن هؤلاء المذكورين لم يستدلوا بالحديث، ولا أثبتوا القواعد الكلية. وهذا لا دليل فيه على أنهم يمنعون ذلك ولا يجوزونه كما توهمه، بل تركهم له لعدم تعاطيهم إياه، وقلة إسفارهم عن محيّاه ... وأيضاً في الصدر الأول لم تشتهر دواوين الأحاديث ولم تكن مستعملة استعمال الأشعار العربية والآي القرآنية، وإنما اشتهر وكثرت دواوينه بعد، فعدم احتجاجهم به لعدم انتشاره بينهم، وعلماء الحديث غير علماء العربية. ولما تداخلت العلوم، وتشاركت في صدور العلماء استعملوا بعضها في بعض، وأدخلوا فناً في فن ... وبالجملة فكون هؤلاء لم يحتجوا بالحديث لا يلزم منه أنهم يمنعونه كما هو ظاهر لا خفاء فيه " ([22]). وأياً كان التفسير فالموقف واحد والأثر واحد : ظل النحو العربي حتى عصر ابن مالك غير معتمد على الحديث في الاستشهاد والتقعيد . مع الشعر والنثر: كان من الطبيعي بعد أن ترك النحاة الاستشهاد بالقرآن والحديث، أن يكون جل على اعتمادهم على الشعر وغريب النثر، لكن الشعر هو الذي حظي بنصيب الأسد في ذلك، حتى صارت دراسة النحو مصطبغة بصبغة الشعر، بالرغم من أنه يمثل لغة خاصة مليئة بالقيود ومواضع الضرورة ، وقد وجدوا فيه على كل حال ـ من وجهة نظرهم ـ نمطاً منضبطاً يكفل حفظه وسهولة تداوله وكونه ديوان العرب إمكان الاطمئنان إليه في الاستشهاد . وقد كان معيارهم الذي عنوا به في الشعر والنثر وعولوا عليه كثيراً معيار النقاء والفصاحة؛ لذلك احتفوا في الشعر كثيراً بنمط خاص منه هو الرجز، ولم يأخذوا من النثر إلا الغريب والنادر والبدوي ([23]). وموقف الاحتجاج والاستشهاد هذا كان بالنسبة لغير القرآن والحديث (أي الشعر والنثر) مقيداً زمانياً بما يسمى عصر الاستشهاد، وهو يمتد مما روي من الجاهلية إلى منتصف القرن الثاني الهجري؛ إذ قُبِلَ كل ما ورد قبل هذا التاريخ شعراً كان أو نثراً، يستوي فيهما ما كان عن البدو وما كان عن الحضر. وقد استمر الأخذ والاستشهاد بالنسبة للبدو إلى نهاية القرن الرابع الهجري. وبناءً على هذا تعامل النحاة مع الشعر الذي خرج عن هذا الإطار الزمني بالرفض؛ ولهذا كان الأصمعي يقول : " بشار خاتمة الشعراء، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم " ([24]). وقد سُمي الشعراء الذين جاءوا بعد هذا الزمن المحدد بالشعراء المحدثين أو المولدين وأصبح من اليسير نعتهم باللحن . يقول الدكتور محمد عيد : " فبعد الطبقة الأولى من شعراء الدولة العباسية ـ وقد عاش معظم شعرائها في الدولة الأموية ثم الدولة العباسية، وعاصروا فترة الانتقال بين العصرين اللغويين ـ عمموا الحكم باللحن على أخطاء الشعراء بعد ذلك في الدولة العباسية ، وقد وصف بذلك من شعراء الطبقة الثانية أبو العتاهية (ت 211) وأبو نواس (ت 198) والعباس بن الأحنف (ت 192) وانسحب هذا الحكم على الشعراء في الطبقة الثالثة، طبقة أبي تمام (ت221) وديك الجن (ت225) وغيرهم، ثم طبقة ابن الرومي (ت283) والبحتري (ت284) وابن المعتز (ت 296) وغيرهم وفي القرن الرابع المتنبي (ت 354) وأبو فراس (ت 367) ثم أبو العلاء المعري (ت 447) . كل هؤلاء الشعراء ـ وأمثالهم كثيرون ـ مما لا يقارن بهم المتقدمون من حيث الفن والصناعة رفض اللغويون الأخذ عنهم تعميماً للرأي الذي اعتنقوه عن الاحتجاج والأخذ عن الحضر في تلك الفترة .هذا طبعاً بخلاف أعراب البادية وشعرائها، فهم ... موثقون لدى العلماء تؤخذ عنهم اللغة أياً كانت هذه اللغة !! ولو كانت لهجة رديئة أو ضعيفة، فمثلاً شاعر مثل "عمارة بن عقيل" من طبقة ابن الرومي في الدولة العباسية استخدم أحياناً لغات رديئة ، وكان أبو حاتم لا يثق بعربيته، ومع ذلك أخذ النحاة عنه اللغة، وقال عنه المبرد : ختمت الفصاحة في شعر المحدثين بعمارة بن عقيل !! وكان ذلك لأنه ممن يسكنون بادية الكوفة " ([25]). إذن هذا هو موقف النحاة من الشعر الذي ورد بعد عصر الاستشهاد : لا يستشهدون ولا يحتجون به، وإن جاز لهم أن يستخدموه للتمثيل في النحو أو المعاني كما فعل ابن جني مثلاً مع المتنبي. ومن ذلك ما ورد عند تفريقه بين القول والكلام من أن كل واحد منهما قد يقع في موقع صاحبه وأن القول يمكن أن يكون مجازياً ؛ فقد كان مما مثّل به لذلك بيتان للمتنبي هما : فلو قدر السنانُ على سنـان لقال لك اللسان كما أقـولُ لو تعقل الشجر التي قابلتها مدّت محييةً إلـيك الأغصُنا ثم قال : " ولا تستنكر ذكر هذا الرجل ـ وإن كان مولّداً ـ في أثناء ما نحن عليه من هذا الموضع وغموضه ... فإن المعاني يتناهبها المولَّدون كما يتناهبها المتقدمون . وقد كان أبو العباس ـ وهو الكثير التعقب لجلة الناس ـ احتج بشيء من شعر حبيب بن أوس الطائي لما كان غرضه فيه معناه دون لفظه ، فأنشد فيه له ([26]): لو رأينا التوكيد خُطّةَ عجزٍ ما شفعنا الأذانَ بالتثويب ج ـ موقف التحليل والتطبيق : تناول النحاة النصوص بأنواعها المختلفة بالتحليل والتطبيق بغرض الشرح والتفسير والتوجيه بما تسمح به أدواتهم وقواعدهم وأصولهم ومناهجهم ، يوجه ذلك كله أهداف معينة أهمها : تفسير النص لغوياً ونحوياً وتيسيره للفهم من هذه الجهة([27]) ، ومحاولة حل مشكله وبيان أوجهه الغريبة وتأويلها بحيث يبدو متفقاً مع القواعد، وتعليم الناشئة وإعطاؤهم أمثلة وشواهد متنوعة متعددة لتطبيق القواعد الصرفية والنحوية . إننا نلحظ ذلك في كتب إعراب القرآن الكريم وتفسيره وبيان معانيه وتوجيه مشكله وشاذه وسائر ما ألفه النحاة في هذا الباب ، وكذلك كل ما ألفوه في شرح الشعر وإعرابه، مضافاً إليه القليل الذي ألّف في إعراب الحديث. ومن أوضح نماذج ذلك في الشعر شرح ابن جني لشعر المتنبي ولبعض شعر هذيل ولأرجوزة لأبي نواس وتأويله لمشكل أبيات الحماسة ([28]) . تعقيب : 1 ـ ظهور مشكلة في توثيق شواهد الشعر خاصة يجعلنا نتوقف كثيراً وندقق في التعامل مع هذه الشواهد ونحاول تمحيصها وتمييز الصحيح منها مما يشوبه ضعف أو تزييف ، معتمدين في هذا على مجموعة من الأسس والمبادئ ومن ذلك ما جاء متأخراً وصرح به أبو البركات الأنباري وهو أنه لا يجوز الاحتجاج بشعر أو نثر لا يعرف قائله أو تتمته ما لم يكن قد صدر من ثقة يعتمد عليه؛ مخافة أن يكون مصنوعاً أو لمن لا يوثق بكلامه. ومن هذا ما استشهد به الكوفيون على جواز إظهار "أن" بعد "كي" وهو البيت المجهول القائل : أردتُ لكيما أن تطير بقْرِبتي فتتركَها شَنّـاً ببيــداءَ بلقعِ ومن هذه الأسس أيضاً اعتبار أبيات سيبويه " أصح الشواهد، اعتمد عليها خلف بعد سلف، مع أن فيها أبياتاً عديدة جُهل قائلوها، وما عيب ناقلوها. وقد خرج كتابه إلى الناس والعلماء كثير، والعناية بالعلم وتهذيبه وكيدة، ونُظر فيه وفُتّش، فما طعن أحد من المتقدمين عليه ولا ادّعى أنه أتى بشعر منكر. وقد روي في كتابه قطعة من اللغة غريبة لم يدرك أهل اللغة معرفةَ جميع ما فيها، ولا ردّوا حرفاً منها ... " ([29]) . وقد اجتهد البغدادي صاحب هذا الكلام كثيراً في تحري الدقة في الشواهد التي ذكرها في كتابه (خزانة الأدب) من حيث ضبط روايتها وردها إلى أصولها ومحاولة بيان الرواية الصحيحة فيما تعددت روايته، كل ذلك بالرجوع إلى مصادر جمة ([30]) . 2 ـ نستطيع من خلال تحليل مواقف النحاة السابقة من النصوص توثيقاً واستشهاداً وتقعيداً وتطبيقاً أن نستنبط فكرة مهمة تتعلق بما يمكن أن نسميه " بتنميط النصوص "، وأقصد بهذا محاولة وضع أطر عامة تميز كل نوع من أنواع النصوص عن غيره، عن طريق مراجعة جهود النحاة في النصوص من هذه الزوايا وفحصها بروية وعمق. وفكرة تنميط النصوص شبيهة بالحديث عن الأساليب، وهي مستعارة مما سماه فان دايك " بالأبنية العليا ". لقد قال إن أنماط النصوص ـ كالشعر والقصة والرواية والإعلان ـ أبنية عليا أي هياكل مجردة وهي تختلف عن المضمون وتختلف أيضاً عن الأنظمة الثانوية التي تحتاج إليها ، ومثال هذا، حادثة ما؛ فهي يمكن أن تؤدى في شكل الشعر أو القصة أو الرواية أو السرد بصفة عامة أو أي شكل آخر، ولكل واحد من هذه الأنواع أنظمته الخاصة، ولو أخذنا نوعاً من هذه الأنواع كالشعر مثلاً فسندرك أن الشعر نفسه بناء علوي أما العروض فهو نظام ثانوي لازم له ، وهذا يختلف عن مضمون القصيدة ([31]). وبتطبيق هذه الفكرة على نصوص اللغة العربية وموقف النحاة منها يمكننا أن نرصد ما يأتي: أ ـ في القرآن الكريم : نجد لدى النحاة القدماء ـ على مستوى كتب التقعيد ([32]) ـ بعض المظاهر التي قد تبدو محاولة منهم لاكتشاف أبنية أنماط القرآن الكريم ، والحقيقة أن هذه المظاهر ما هي إلا نوع من التأويل والتوجيه الخاصين اللذين يُشعران بإدراك النحاة لأنماط القرآن وأساليبه الخاصة دون أن يحددوا أنظمة هذه الأنماط والأساليب، ومن أمثلة هذه المظاهر: ـ قول بعضهم إن القرآن ينبغي أن يحمل على أحسن إعراب وأحسن تركيب، فلا يجوز فيه جميع ما يجوزه النحاة في شعر الشماخ والطرّماح وغيرهما من سلوك التقادير البعيدة والتراكيب القلقة والمجازات المعقدة ولا يحسن حمله على القليل جداً ([33]). ومن هذا الباب أيضاً اختيار المصطلح المناسب لإعراب الوظائف النحوية فيه، كتسمية ابن مالك لبدل الكل من الكل "بدلاً مطابقاً" تحرياً للدقة لوقوعه في اسم الله تعالى، كما في : " إلى صراط العزيز الحميدِ . اللهِ ... [إبراهيم : 1،2] ولفظ "الكل" لا يطلق إلا على ذي الأجزاء ([34]). ـ الحروف المقطعة في أوائل السور مبنية للشبه الإهمالي ولا محل لها من الإعراب لأنها من المتشابه الذي لا يدرك معناه. ـ وضع إطار خاص لنوع من المعاني يمكن تسميته "بالمعاني النحوية الدينية" ومن هذا : اعتبار ما ورد في القرآن من صفات الباري سبحانه مجموعاً بالواو والنون ملحقاً بجمع المذكر السالم، كقوله تعالى : "ونحن الوارثون" [الحجر : 23] وقوله : "فقدرنا فنعم القادرون" [المرسلات : 23] وقوله : " وإنا لموسعون ... فنعم الماهدون" [الذاريات : 47،48]، ولا يقاس على هذا لأن إطلاق الأسماء عليه توقيفيّ، واختصاص "كان" بالدلالة على الدوام في صفات الله سبحانه وتعالى كقوله : " وكان الله سميعاً بصيراً " [النساء : 134] ([35])، وقول بعض النحاة ـ كابن مالك ـ إن أفعل التفضيل يأتي عارياً من معنى التفضيل كما في قوله تعالى : " ربكم أعلمُ بكم " [الإسراء : 54] وقوله " وهو أهونُ عليه " [الروم : 27]. وقد اعتبر آخرون هذا نوعاً من التأويل مراعاة للمعنى الديني . وقد يكون تحديد أنماط المعاني النحوية الدينية وأساليبها في القرآن بالسلب والنفي، ومن هذا الإشارة مثلاً إلى أن التوكيد بـ " جميع " و"كلا" و"كلتا" لم يقع في القرآن، وإلى أن التوكيد بالنفس والعين لم يقع إلا في آية واحدة على تأويل هي قوله تعالى : "والمطلقات يتربص بأنفسهن ثلاثة قروء" [البقرة : 228] ([36]). ب ـ مما يدخل في باب التنميط في مجال الحديث النبوي العنعنة في إسناد الرواية، أي قول : عن فلان عن فلان عن فلان عن فلان إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر نص الحديث . ج ـ في الشعر : كان لاعتماد النحاة على الشعر كثيراً في الاحتجاج ـ أي ما وافق منه المعيار الزمني الذي حددوه ـ آثار غير حميدة في التقعيد النحوي للنثر الذي هو الأصل والمقصود بالتقعيد، وقد حاولوا من خلال القول بالضرورة الشعرية أن يجدوا مخرجاً من هذا الخلط في التقعيد بين الشعر والنثر، وأصبحت الضرورة المشجب الذي تعلق عليه كل مخالفة " حرصاً على القاعدة، فكثرت بذلك الضرورات في كتب النحو دون تفسير أو دراسة، وكان الأشبه بهم حين نظروا للشعر على أنه محل الضرورات أن يدرسوه دراسة منفصلة عن النثر وألا يفرضوا بعض تراكيبه على النثر " ([37]) . ومع ذلك أرى أنهم بقولهم في الشعر بهذه الضرورة أسدوا إليه نظرة خاصة تعني أن له لغة خاصة تميزه عن غيره، هذه اللغة هي اللغة الفنية التي تجعل أسلوبه ونمطه مختلفاً عن غيره من الأساليب والأنماط . وهذه الرؤية النحوية للضرورة هي ما ينبغي أن يؤخذ من كلام النحاة الكبار وآرائهم كالخليل الذي يقول : " الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاءوا. ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده، ومد المقصور وقصر الممدود، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته، واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد ويبعّدون القريب، ويُحتَجّ بهم ولا يُحتج عليهم، ويصورون الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل " ([38]). ومثل هذا قول ابن جني : " فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب من الضرورات على قبحها، وانخراق الأصول بها، فاعلم أن ذلك على ما جشمه منه وإن دلّ من وجه على جوره وتعسفه، فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله وتخمطه ، وليس بقاطع دليل على ضعف لغته، ولا قصوره عن اختياره الوجه الناطق بفصاحته. بل مثَله في ذلك عندي مثل مجري الجموح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس من غير احتشام، فهو وإن كان ملوماً في ***ه وتهالكه، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض مُنّته؛ ألا تراه لا يجهل أن لو تكفّر في سلاحه، أو اعتصم بلجام جواده لكان أقرب إلى النجاة، وأبعد عن الملحاة، لكنه جشِم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحامُ مثله، إدلالاً بقوة طبعه، ودلالة على شهامة نفسه ... فاعرف بما ذكرنا حال ما يرد في معناه، وأن الشاعر إذا أورد منه شيئاً فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعباً، ولا جشِم إلا أمما، وافق بذلك قابلاً له، أو صادف غير آنس به " ([39]) . فمثل هذا الكلام يسلك في الضرورة مسلكاً صحيحاً ويجعلها تنصب على "لغة الشعر"التي تتمثل في أمرين : الخصائص التركيبية (الصرفية والنحوية) والخصائص الفنية وهي الإطار الخارجي مجسداً في الوزن والقافية والمضمون الداخلي والربط بينهما . وبهذا يكون النحاة، كأنهم حاولوا تنميط لغة الشعر من خلال تحديد خصائصه اللغوية، وإن جاء هذا لدى معظمهم عفواً عند وضع القواعد ومحاولة طردها، ولم يكن ذلك التنميط بوعي وبقصد إلا عند النحاة الكبار : الخليل وسيبويه وابن جني وابن مالك. 3 ـ خلاصة موقف النحاة أمام النصوص توثيقاً واستشهاداً وتقعيداً أن أغلبهم راعوا القواعد واهتموا بها على حساب النصوص واعتمدوا على الشعر ـ وهو موضع ضرورة ـ وغريب النثر في فترة زمنية معينة وبيئة جغرافية ممتدة ومحددة، في مقابل قلة الاعتماد على القرآن والحديث فترة طويلة ـ وكان لهما فيهما متسع ـ فكان التأويل وتضخيم القواعد وتراكم التفريعات، نتيجة طبيعية لموقف النحاة هذا، بل كان التلحين أحياناً من نصيب بعض القراءات المتواترة وشعر الشعراء الكبار الذين جاءوا فيما بعد عصر الاستشهاد، على أن مذهب الكوفيين " كان أقل تكلفاً في حمل النص القرآني على ظاهره من مذهب البصريين الذي يقوم على التمحل والتكلف في كثير من المواطن لأن هذا النص يخالف ظاهرُه أصولهم " ([40]). ومن أمثلة التأويل بصفة عامة : ا ـ لا يصح عند البصريين أن تأتي صيغة "فاعل" بمعنى "مفعول" وما ورد من ذلك مثل : ماء دافق وسر كاتم وعيشة راضية، مؤول على النسبة إلى المصادر التي هي الدفق والكتم والرضا ([41]). ب ـ ذكر السيوطي في باب العطف أنه يجوز عطف الاسم على الفعل، والماضي على المضارع، والمفرد على الجملة، وبالعكوس، أي الفعل على الاسم، والمضارع على الماضي، والجملة على المفرد في الأصح، إذا اتحد المعطوف والمعطوف عليه بالتأويل، بأن كان الاسم يشبه الفعل، والماضي مستقبل المعنى، أو المضارع ماضي المعنى، والجملة في تأويل المفرد، بأن يكون صفة أو حالاً، أو خبراً أو مفعولاً، ومن أمثلة هذا قوله تعلى : " يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي" [الأنعام : 95] وقوله : " إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله " [الحديد : 18]، وقوله : " يقدم قومه يوم القيامة فأورده النار " [هود : 98] ، وقوله : " أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مُخضرّة " [الحج : 63] أي فأصبحت ([42]) . ومن المؤكد أن العدول في هذا وأمثاله في الصيغة أو في العطف عن الأصل له مغزى ومعنى ودلالة ولا يكفي فيه ما ذهب إليه النحاة من تأويل. ج ـ وقع في رواية بعض الأحاديث صور من الأساليب والتراكيب غير الجارية على الشائع من الاستعمال، فلجأ النحاة إلى تأويلها، ومن هذا: ـ " إن قعر جهنم سبعين خريفاً " : "سبعين" منصوبة على رأي الكوفيين الذين يجيزون أن تكون إنّ ناصبة للجزأين، والذين يمنعون هذا يخرجونه على أن "القعر" مصدر " قعرتُ البئر " أي بلغت قعرها، و" سبعين " منصوبة عندئذ على الظرفية . ـ " إنّ من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورّون ": قيل اسم إنّ ضمير الشأن المحذوف. ـ " كل أمتي معافىً إلا المجاهرون " : قيل : رفع ما بعد "إلا" جائز على لغة حكاها أبو حيان، وأجاز ابن مالك أن تكون "إلا" بمعنى (لكن)، وأن يكون ما بعدها مبتدأ حذف خبره. ويلاحظ على هذه شواهد الحديث هذه أن النحاة يتعلقون فيها بروايات غير مشهورة ويغفلون عن الروايات الصحيحة؛ فما من حديث من هذه الأحاديث إلا له رواية أخرى مشهورة ليس فيها إشكال نحوي ، وبناءً على هذا يثير التأويل هنا سؤالاً مهماً: أعلم النحاة بهذه الروايات الأخرى المشهورة ولكن دفعهم حب التأويل وإظهار الصنعة إلى التأويل ؟ أم أنهم لم يعلموا بها فيكون ذلك عذراً لهم على أساس القاعدة التى تقول : التأويل يسوغ إذا كانت الجادة على شيء ثم جاء شيء يخالف الجادة فيُتَأوَّل، ومن ثم رُدّ تأويل أبي علي لرفع ما بعد "إلا" بأنه على إضمار ضمير الشأن في : " ليس الطيبُ إلا المسكُ " ـ لأن أبا عمرو ذكر أن ذلك لغة لتميم ([43]). د ـ ثمة نوع من التأويل يعد وسيلة من خمس وسائل يُعترض بها على النقل في المتن، وذلك " مثل أن يقول الكوفي: الدليل على جواز ترك صرف ما ينصرف في ضرورة الشعر قول الشاعر: وممن ولدوا عـامِــــرُ ذو الطُّول وذو العرضِ فترك صرف (عامر) وهو منصرف فدل على جوازه. فيقول له البصري: إنما لم يصرفه لأنه ذهب به إلى القبيلة، والحمل على المعنى كثير في كلامهم ... فيقول له الكوفي: قوله (ذو الطول وذو العرض) يدل على أنه لا يذهب به إلى القبيلة، لأنه لو ذهب به إلى القبيلة لقال: ذات الطول. فيقول له البصري: قوله (ذو الطول) رجع إلى الحيّ، ونحو هذا في التنقل من معنى إلى معنى قول الشاعر: إن تميـماً خـُلقتْ مَلمـوما قوماً ترى واحدَهمْ صِهْمـيما والصهميم: الذي لا ينثني عن مراده ([44]) ". إن هذه الأمثلة السابقة المختلفة للتأويل تدل على أنه ـ في كثير من الأحيان ـ كان تأويلاً لخدمة القاعدة وجعلها مطردة ولتأييد المذهب ولم يكن معنياً بالتفسير إلا قليلاً، كما في القول بالتأويل مثلاً بالاعتماد على مبدأ شجاعة العربية عند ابن جني، وهو على كل حال كان مؤشراً على العدول في الأسلوب عن أصل القاعدة والاستعمال. وبناءً على هذا يكون مفهوم التأويل عند النحاة مختلفاً عن مفهومه عند البلاغين وعلماء الكلام والمفسرين وعلماء الأصول؛ فهو عند البلاغيين قائم في علم البيان على المجاز وهو من أسس البلاغة ، وعند علماء الكلام قائم على شروط محددة ويتعلق بصحة العقيدة أو عدم صحتها وهو نوعان صحيح وفاسد، وعند المفسرين التأويل قائم على الاستنباط والدراية وهو قسيم التفسير الذي يقوم على النقل والرواية، وهو عند الأصوليين يقوم على أساس تقسيم اللفظ من حيث الوضوح وعدم الوضوح وطرق الدلالة على المعنى([45]). والضابط العام للتأويل في هذه العلوم كلها هو صرف اللفظ عن ظاهره بدليل. 4 ـ لم يكن عمل النحاة في النصوص بمعزل عن السياق لغوياً كان أو مقامياً والشواهد على هذا كثيرة، لكنّ الملاحظة التي تلفت الانتباه هنا أنهم بذلوا جهداً كبيراً في محاولة حصر معاني الحروف والأدوات والتقعيد لها نظرياً، مع الإشارة أحياناً إلى ارتباطها الوثيق بالاستعمال والنص وكون معانيها سياقية لا تتضح ولا تتحدد إلا من خلال السياق. وبهذا ندرك أن أهم فوائد دراستهم للحروف تكمن في أمرين : الأول : الإشارة إلى أصل معنى كل حرف، وتظهر فائدة هذا عند العدول في الاستعمال عنه، والثاني : ربط بعضهم المعاني المختلفة بالسياق. فهمزة الاستفهام ـ كما قال المرادي ـ قد ترد بحسب المقام لمعان أخر مثل التسوية والتقرير والتوبيخ والتحقيق والتنكير والتهديد والتنبيه، و" أو " ذكر لها المتأخرون اثني عشر معنى والتحقيق ـ كما ذكر ابن هشام ـ أنها موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء كما بين المتقدمون، وقد تخرج إلى معنى "بل" أو إلى معنى "الواو"، وأما بقية المعاني فمستفادة من قرائن المقام ([46]). لكن من الحروف التي أشكلت على بعضهم "رب" ، وقد انقسموا في معناها إلى آراء وأقوال مختلفة أهمها فيما أرى يمكن أن يجمل في ثلاثة : الأول : أنها للتقليل وهذا مذهب أكثر النحاة ونسب إلى سيبويه وبه أخذ المرادي، والثاني : أنها للتكثير في الغالب وللتقليل قليلاً ، وقد انتصر لهذا الرأي وأيده بالشواهد المختلفة ابن مالك وابن هشام الذي أيد دلالتها على الكثرة بقوله تعالى : " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " [الحجر : 2] وبحديث : " يا رب كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ يوم القيامة " ثم بقول أعرابي وببيتين ثم قال : " ووجه الدليل أن الآية والحديث والمثال مسوقة للتخويف، والبيتين مسوقان للافتخار، ولا يناسب واحداً منهما التقليل " ([47])، وقال الرضي : " التقليل هو أصلها ثم استعملت في التكثير حتى صارت فيه كالحقيقة وفي التقليل كالمجاز المحتاج لقرينة "، والرأي الثالث : أنها حرف إثبات لم يوضع لتقليل ولا تكثير، بل ذلك مستفاد من السياق([48]). ويبدو أن سبب الإشكال هو عدم الالتفات إلى السياق، فالذين قالوا إنها للتقليل لا غير لجئوا إلى التأويل والتحايل؛ قال المرادي : " والدليل على ذلك (أي أنها للتقليل) أنها جاءت في مواضع لا تحتمل إلا التقليل، وفي مواضع ظاهرها التكثير، وهي محتملة لإرادة التقليل بضرب من التأويل. فتعين أن تكون حرف تقليل، لأن ذلك هو المطرد فيها "([49]) ؛ ولهذا كانت نظرة الرضي وابن مالك وابن هشام أقرب إلى الصواب لأخذهم بالسياق واعتمادهم على الشواهد العملية الواضحة التي يفهم من أغلبها معنى الكثرة ومن بعضها معنى القلة وعلى هذا بُنِيَ رأيهم، ومن أجل ذلك أيضاً كان من الآراء السديدة الرأي الثالث وهو رأي على قدر كبير من الأهمية لأنه يلفت النظر إلى القاعدة التي ينبغي التعامل مع الحروف كلها ـ لا رب وحدها ـ على أساس منها، وهي أن الحروف لها معان أصلية لكن لا يستفاد صواب المعنى إلا من السياق، وهذا هو معنى قول النحاة أنفسهم إن الحرف معناه في غيره . ويترتب على ما سبق أن النحاة إذا كانوا قد انتبهوا إلي دلالة السياق والمقام بصورهما المختلفة في وضع القواعد، فما زال أمامهم شوط بعيد من المعنى لم يقطع بعد، هو إعادة النظر في معاني الحروف ومراجعة ترتيبها وتنظيمها وربطها بالتنظير والتطبيق واعتبار معانيها هي معاني الجمل والمعاني المستفادة من النص بأكمله؛ لأن هذه الحروف لها عظيم الأثر في تمييز تركيب عن تركيب وأسلوب عن أسلوب، وهذا مما تتعلق به بلاغة القرآن وإعجازه ([50]) . انتهى الجزء الاول |
العلامات المرجعية |
|
|