|
الأدب العربي قسم يختص بنشر ما يكتبه كبار الشعراء والأدباء قديمًا وحديثًا |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() ظاهرة لزوم الدور في النحو العربي : مشكلاتها وطرائق دفعها د. محمد ذنون يونس فتحي ملخص البحث: يتناول هذا البحث ظاهرة نقدية شاعت في العلوم العربية كافة بعد تسربها من الدراسات الفلسفية والمنطقية، ألا وهي ظاهرة (لزوم الدور)، فقد تكفل البحث بتعريف هذه الظاهرة وتحديدها وكيفية حصولها ومكانه، فعالج المبحث الأول مفهوم الدور وأنواعه في حين ناقش المبحث الثاني المكان الذي تحدث فيه هذه الظاهرة وخصها بمقامي التعريف والتعليل، وكان المبحث الثالث الذي اختص ببيان الأشكال التي يلزم منها الدور والطرائق التي يتسرب إليها من خلال أقلام المؤلفين والكتاب النحويين، واختتم البحث بذكر طرائق دفع الدور والأساليب التي اعتمدها النحويون لرد هذه الظاهرة المتوهمة في بعض العبارات النحوية. ويمكن تصنيف هذا البحث في سيل الدراسات النحوية النقدية التي تعالج ظاهرة مؤدية إلى فساد التعريف والعلة، وليتعرف دارس النحو العربي على هذه الإشكالية وكيفية لزومها ودفعها بأسلوب علمي دقيق. المبحث الأول: الدور وأنواعه إن الدور في اللغة من:" دار الشيء يدور دورا ودورانا... إذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه...، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض"([1])، ومعناه الاصطلاحي عند الحكماء والمتكلمين:" توقف كل من الشيئين على الآخر"([2])، واشترط وقوعه بين الطرفين؛ لأن التوقف يستدعي وجود متوقِّّف ومتوقَّف عليه، وهو نوعان: 1- دور محال: ويسمى(السبقي)لاستلزامه توقف الشيء على نفسه وتقدم الشيء على نفسه، والمستلزم لكون الشيء الواحد موجودا ومعدوما في وقت واحد، وكون الشيء الواحد معلوما ومجهولا في آن واحد؛ إذ من المعروف أن العلَّة أقدم وجودا من المعلول؛ فلو توقف وجود العلة على وجود المعلول؛ لزم كون العلة الموجودة معدومة في آن افتراضها موجودة؛ ومن المعروف أيضا أن العلم بالتعريف أقدم من العلم بالمعرَّف؛ وأنه علة لمعرفة المعرَّف، فلو توقف التعريف على المعرَّف لزم كون الشيء الواحد معلوما ومجهولا في آن واحد؛ وهذا الدور المحال نعبّر عنه بأنه :"توقف كل واحد من الشيئين على الآخر قبله"؛ فالمعرَّف متوقف على التعريف فإذا توقف التعريف عليه لزم الدور المحال([3])، وهو ينقسم إلى نوعين أيضا: أ- (الدور المصرح والصريح والظاهر): وذلك إن كان التوقف بمرتبة واحدة كتوقف (أ) على (ب) وتوقف (ب) على (أ)، وكقولنا: الشمس: كوكب نهاري، والنهار: زمان كون الشمس طالعة، وكقولنا: خالد أوجد بكرًا، وبكر أوجد خالدا، فبكر متوقف في وجوده على خالد ثم خالد توقف في وجوده على بكر والواسطة واحدة وهي بكر، وهذا الدور باطل لما يلزمه من التناقض، إذ يلزمه أن يكون الشيء سابقًا لا سابقًا مؤثرًا لا مؤثرًا، بل يلزم أن يكون الشيء نقيض نفسه ضرورة المغايرة بين المتقدم والمتأخر والأثر والمؤثر، ويلزم منه أن يكون الشيء الواحد موجودا ومعدوما معا وهو محال، وذلك لأنه إذا توقف (أ) على (ب) كان (أ) متوقفا على (ب) وعلى جميع ما يتوقف عليه (ب)، ومن جملة ما يتوقف عليه (ب) هو (أ) نفسه فيلزم توقفه على نفسه، والموقوف عليه متقدم على الموقوف، فيلزم تقدمه على نفسه، والمتقدم من حيث إنه متقدم يكون موجودا قبل المتأخر، فيكون(أ) حينئذ موجودا قبل نفسه، فيكون موجودا ومعدوما معا وهو محال([4]). ب- (الدور المضمر والخفي): وذلك إن كان التوقف بمراتب كتوقف (أ) على (ب) وتوقف (ب) على (ج) وتوقف (ج) على (أ)، وكقولنا: الحركة: خروج الشيء من القوة إلى الفعل بالتدريج، والتدريج: وقوع الشيء في زمان، والزمان: مقدار الحركة، وسمي خفيا لغموض التوقف فيه بسبب تعدد المراتب وتكثرها بين الموقوف والموقوف عليه([5])، وهو محال أيضا للوازم الفاسدة المتقدمة. 2- دور جائز ويسمى(المعي): فإنه لا يستلزم كل تلك المحالات بسبب أن توقف كل واحد من الشيئين على الآخر معه لا قبله؛ فلا يلزم كون الشيء موجودا ومعدوما في آن واحد، ولا كون الشيء معلوما ومجهولا كذلك، وهذا النوع من الدور يجوز ارتكابه في التعاريف لعدم استلزامه المحال، كتوقف كون هذا ابنا لذاك على كون ذلك أبا له وبالعكس، ومن أمثلة هذا الدور قول المعرِّف الصرفي لـ (أبى يأبى): إنه فعل ثلاثي مفتوح العين في الماضي والمضارع غير شاذ، فيتوجه إليه اعتراض بأن هذا التعريف مستلزم للدور، وكل تعريف هذا شأنه باطل، والنتيجة: إن هذا التعريف باطل، وهنا يسلِّم صاحب التعريف بأن في تعريفه دورا، ولكنه لا يسلم أنه الدور المحال قائلا: لمَ لا يجوز أن يكون دورا معيّا؟ وتوضيح الاعتراض أولا: إن المعترض رأى في التعريف دورا ؛ لأن قول صاحب التعريف (غير شاذ) يدل على أن (أبى يأبى) من الباب الثالث؛ الذي فتحت عينه لأجل حرف الحلق؛ ومن المعلوم أن حرف الحلق (الألف) على قول بعض الصرفيين([6])؛ أصلها ياء وقلبت ألفا لأجل تحركها وانفتاح ما قبلها، وهكذا لزم توقف كل واحد من الشيئين على الآخر وهو الدور؛ ولكن صاحب التعريف قبل بلزوم الدور؛ ولكنه منع أن يكون من الدور المحال، وإنما كان هذا الدور معيا لأن توقف الألف على الفتحة هو مع توقف الفتحة على الألف، ولبيان ذلك نقول: إن الحرف الصامت يحتاج عند وجود نطقه إلى مصوِّت قصير (كالفتحة والضمة والكسرة)، مع أن هذه المصوتات محتاجة إلى الحرف الصامت وجودا، وذلك يؤدي إلى الدور ولكن هذا الدور غير محال؛ لأن توقف كل واحد منهما على الآخر معه لا قبله؛ فلا تلزم المحالات المتقدمة([7]). ولقد أوضحنا في رسالتنا للماجستير(مباحث المصطلح النحوي في حواشي شرح القطر- 1996م، بإشراف الاستاذ الدكتور عبد الوهاب محمد علي العدواني) العبارات التي يشوبها الغموض وتقارب الدلالة مما يؤدي إلى الاضطراب في تحديد المراد منها، ولا بأس من التطرق لها استكمالا للفائدة، وهذه العبارات هي: - تقدّم الشيء على نفسه. - توقّف الشيء على نفسه. - تعريف الشيء بنفسه. والعبارة الثالثة تستلزم العبارتين الأوليتين ولذا ابتدأنا بها؛ إذ تعريف الشيء بنفسه أعم من التعريف بما يساويه كتعريف الملكات باعدامها، مثل قولهم: الحركة ما ليس بسكون والبصر عدم العمى([8])، وأعم من أخذ المعرّف في أجزاء التعريف، كتعريف المرفوعات بـ: ما اشتمل على علَم الفاعلية([9])، وكلاهما ممنوع عند أهل النظر؛ لما قرّروه من أن معرفة التعريف أقدم من معرفة المعرّف، لأن معرفة المعرِّف علة لمعرفة المعرَّف، والعلة مقدمة على المعلول([10])، وفي الأول: وهو تعريف الشيء بما يساويه يحصل العلم بهما معا، وفي الثاني: وهو أخذ المعرَّف في أجزاء التعريف يلزم كون المجهول معروفا، فتعريف الشيء بنفسه مستلزم للعبارة الثانية وهي(توقّف الشيء على نفسه) وهذا هو الدور، فالدور هنا أمر لزومي وإذا تحقق الدور لزم تحقق العبارة الأولى وهي(تقدّم الشيء على نفسه)؛ لانا لو أخذنا(يتعدى) مثلا في تعريف (الفعل المتعدي) لزم تعريف الشيء بنفسه، ومن ثم سيتوقف فهمه على المعرَّف وهو(الدور) ونتيجة لهذا يلزم العلم بالشيء قبل نفسه لأن التعاريف معلومة قبل المعرَّفات، ولقاعدة اللازم للازم الشيء لازم له، يعني تعريف الشيء بنفسه مستلزم توقفه على نفسه وتوقفه في نفسه مستلزم تقدمه عليها، ونتيجة هذا أن تعريف الشيء بنفسه مستلزم تقدمه على نفسه، وبهذا كانت العبارة الثالثة مستلزمة للأولى، ويكون التعبير بـ(لزوم الدور) حقيقة؛ لأن الاستلزام فيها ظاهر إطلاقه، وأما العبارة الثانية فدالها المطابقي هو الدور، وهو أن يؤخذ في التعريف لفظ يتوقف في تعريفه الخاص به على المعرَّف الأول، ومثال ذلك: أخذ العامل في تعريف الإعراب، واخذ الإعراب في تعريف العامل على سبيل المعاوضة، فيصدق حينئذ (توقف كل من الشيئين على الآخر)([11]). وحين يكون الاعتراض على صريح التعريف ممنوعا فلزوم الدور راجع إلى قضيتين ضمنيتين متلازمتين هما: إن التعريف ليس أخفى من المعرّف، والعلم بالتعريف قبل العلم بالمعرّف([12])، وتبين مما ذكرناه قبلا أن للدور نوعين آخرين يمكن تقسيم الدور إليهما باعتبار وقوعه في عبارات الدارسين، هما: أ- الدور باعتبار المطابقة: وهو توقف كل من الشيئين على الآخر، ومنه اعتراض أبي الثناء الآلوسي على تعريف ابن هشام لمصطلح (الإعراب المعنوي) وهو: تغيير أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلة عليه، فقد أخذ (العامل) في تعريفه، ولما عرّف النحاة (العامل) أخذوا (الإعراب) في تعريفه أيضا في قولهم: العامل: ما به يحدث المعنى المحوج للإعراب([13])، وإنما كان هذا ممنوعا لأنه يؤول إلى تعريف الشيء بنفسه، فكأننا لما أخذنا العامل في تعريف الإعراب المعنوي عرّفنا الإعراب بالإعراب؛ لأن العامل قد عرِّف به، ولذا يتجوّز بعضهم بإطلاق تعريف الشيء بنفسه على الدور مراعين حالة ما يؤول إليه، وتعريف الشيء بنفسه لا يغني السامع شيئا؛ إذ هو محتاج إلى تعريف واضح الدلالة لا يشوبه الغموض والإحالة لتنقية ما في حسه اللغوي من دلالات وتصورات عند سماع المصطلح مجرّدا، وهذا الفهم كثيرا ما يكون غير مراد، فلو أفاد التعريف ما أفاده المصطلح من البيان لم تحصل للسامع فائدة جديدة، فيكون هذا كتحصيل الحاصل، فانتفت قيمة التعريف وذهب غرضه، ولذا حرص المحشون تبعا لغيرهم على الاهتمام بهذا الجانب الحيوي في التعاريف ليزول الغموض وتنتفي الشكوك، وللهرب من لزوم الدور هذا قدّم الصبان(ت 1205هـ) تعريفا آخر للعامل بقوله:" الطالب لأثر مخصوص"([14])، علما بأن دفع الدور بهذا غير متعين، فالأوجه أن يقال: المراد بالعوامل في تعريف الإعراب الأفراد والأمثلة الخارجية دون المفهوم، والمعرَّف هو المفهوم، فلا توقف بين التعريفين لاختلاف الجهة وينتفي تبعا لذلك تعريف الشيء بنفسه، ويرشح هذا التوجيه قول ابن هشام نفسه: العوامل الداخلة؛ لأن المفاهيم لا توصف بالدخول، فالموصوف به حينئذ إنما هو الفرد الذي يدخل على الأسماء والأفعال فيحدث فيها الأثر المخصوص، وهي متوقفة على العلم بالوضع دون المعرَّف. ب- الدور باعتبار اللزوم: ولما كان تعريف الشيء بقسميه (التعريف بالمساوي والتعريف بأخذ المعرَّف في أجزاء التعريف مستلزما لتوقف الشيء على نفسه وهو توقف كل من الشيئين على الآخر كان الدور المتحصل في هذا القسم لزوميا، ومنه اعتراض أبي الثناء الآلوسي على تعريف مصطلح(الطلب) بـ: الأمر بالصيغة([15])، إذ الطلب في الاصطلاح هو: استدعاء مطلوب غير حاصل وقت الطلب([16])، وهو بمعنى الأمر فيلزم عليه أخذ المعرَّف في أجزاء التعريف، وهذا من تعريف الشيء بقسمه الثاني، ومنه يعلم أن الأخذ المذكور قد لا يكون باللفظ نفسه بل بمفهومه ومعناه، وإذا أخذ المعرَّف في أجزاء التعريف فسيتوقف فهم التعريف على المعرَّف والمفترض هو العكس،وهذا الاعتراض متجه إلى قضية ضمنية مفادها: إن التعريف ليس أخفى من المعرَّف، فكأنه قال: إنه أخفى؛ لتوقف فهمه على فهم المعرَّف، فأجاب لدفع هذا الخفاء في التعريف بتحرير المراد(باصطلاح أهل المناظرة) بأن (الأمر) الوارد في التعريف متحقق بالمعنى اللغوي الصادق بالطلب وغيره، كنحو: لا تضرب ولتضرب وضربا، فكانت هذه الصيغ من حيث العموم اللغوي أوامر بيد أنها ليست في الاصطلاح طلَبا؛ لأن المراد بالطلب هنا بمعونة المقام(:علم النحو): الصيغة المعينة من قبل الواضع وهي: اضرب وأشباهها؛ لأن الطلب في غير علم النحو شامل للاستفهام والنهي والتمني...الخ، وبعد هذا الجواب اندفع التوقف من جهة الأمر(التعريف) على الطلب(المعرَّف) للعموم والخصوص المتحقق بينهما، ولا بأس في التوقف الآخر لأنه الأصل، إذ فهم المعرَّف متوقف على فهم التعريف. ويمكن لنا أن نقسم الدور باعتبار تحققه وعدم تحققه إلى نوعين أيضا، هما: 1- الدور الحقيقي: وهو المتحقق في عبارات النحويين عند الاستدلال أو التعريف للمصطلحات، حيث يقع المعلول علة والمعرَّف تعريفا، كما سيتضح ذلك في هذا البحث. 2- الدور المتوهم: وهو الناشئ عن عدم ملاحظة الفرق بين التوقف بين الشيئين والافتقار في كل واحد منهما للآخر،فقد بين أبو حيان العلاقة الوطيدة القائمة بين الاشتقاق والتصريف التي قد يتوهم منها (لزوم الدور)، في حين لا يوجد توقف في الحقيقة وإنما مجرَّد افتقار بينهما، بقوله:"جعلتم معرفة الاشتقاق متوقفة على معرفة التصريف، وأهل التصريف يجعلون معرفته متوقفة على معرفة الاشتقاق لتعريف الزائد فيحكم بزيادته، فإنا لا نعلم أن (كوثرا) مشتق من الكثرة حتى يعلم أن الواو زائدة، ولا نعرف أنها زائدة حتى نعلم أنه مشتق من الكثرة، وذلك دور فيمتنع، قلنا: إذا عرفنا الأصلي من الزائد حكمنا باشتقاقه من الأصلية، فكل من التصريف والاشتقاق يفتقر إلى الآخر ولا يتوقف عليه"([17]). ولم تكن الانتباهة على هذا العيب الاستدلالي مقصورة على الدرس الفلسفي فحسب، بل انتبه قدامى النحويين وهم يتحدثون عن العلة وشروطها على هذا الخطأ الاستدلالي الذي يرتكبه بعض مصنفي النحو، فقد عقد ابن جني بابا تحدّث فيه عن (دور الاعتلال) وقصد به مصطلح الدور الذي عرّفناه سابقا موردا لزوم الدور في كلام أبي العباس المبرِّد عندما علَّل: "وجوب إسكان اللام في نحو ضربْنَ وضربْتُ إلى انه لحركة ما بعده من الضمير يعني مع الحركتين قبل، وذهب أيضا في حركة الضمير من نحو هذا إنما وجبت لسكون ما قبله، فتارة اعتلّ لهذا بهذا ثم دار تارة أخرى فاعتلَّ لهذا بهذا، وفي ظاهر ذلك اعتراف بأن كل واحد منهما ليست له حال مستحقة تخصه في نفسه، وإنما استقر عليه لأمر راجع إلى صاحبه"([18])، ولم يكن ارتكاب الدور مقتصرا على المبرِّد بل وقع فيه سيبويه أيضا عندما أجاز (الجر) في: هذا الحسنُ الوجهِ، تشبيها بـ: الضارب الرجلِ، علما بأن الجر إنما جاز في الضارب الرجل لتشبيهه بالحسن الوجهِ، فقد:" صار كل واحد من الموضعين علة لصاحبه في الحكم الواحد الجاري عليهما جميعا"، ولكنه يجيب عن هذا الدور الأخير بما يقوّيه ويثبته معللا ذلك بالكثرة:" فالعذر أن الجرَّ لما فشا واتسع في نحو: الضاربُ الرجلِ والشاتمُ الغلامِ والقاتلُ البطلِ، صار لتمكنه فيه وشياعه في استعماله كأنه أصل في بابه، وان كان إنما سرى إليه لتشبيهه بالحسن الوجهِ، فلما كان كذلك قوي في بابه حتى صار لقوته قياسا وسماعا كأنه أصل للجر في: هذا الحسنُ الوجهِ"([19])، ولكنه سماه عذرا ضعيفا والأضعف منه الاعتذار عن المبرد؛ لأن علة سيبويه قائمة على التشبيه بين شيئين فيمكن القول: إن الفرع قوي قوة الأصل فصار علة بعد أن كان معلولا ، في حين خلا تعليل المبرد من التشبيه فلا يمكن الاعتذار عنه بمثل ذلك، وان كنت اعتقد بأن الأولى في التعليل هو تشبيه الضارب الرجلِ بالحسن الوجهِ؛ لأن الضارب عامل في المفعول به فلما خرج إلى الجر علل بالحمل على الصفة المشبهة، ويكون التعليل للجر في الحسن الوجهِ على الأصل في قانون الإضافة، لأن عمل الصفة المشبهة ضعيف؛ لأنها تعمل لشبهها باسم الفاعل([20]). وقد يطلق الدور بمعناه اللغوي وهو ما يعبر عنه أحيانا بـ(الكرّ إلى ما منه الفرّ)، فقد عقد ابن جني بابا بعنوان (باب في الدور والوقوف منه على أول رتبة)، ومثاله أنا لو نسبنا إلى (العصا) نقلب الألف واوا فنقول(عصَوِيّ) فتدخل الواو حينئذ في باب الواو المتحركة المفتوح ما قبلها وهذا يقتضي قلبها ألفا، ولكن تجنب هذا فرارا من الدور؛ لأنه لو قلبت الواو ألفا نعود فنقلبها واوا لوقوعها قبل ياء النسب فترجع إلى الواو([21])، وليس هذا من الدور الاصطلاحي في شيء لانه لا توقف بين الطرفين على علة واحدة. المبحث الثاني: أين يقع الدور إن الكلام اللغوي إما مشتمل على (نسبة وحكم) وهو المسمى عند المنطقيين بالقضايا التصديقية مثل(زيد قائم)، وإما خال منهما وهو ما يسمى عندهم بالتصورات كتصور(زيد) مثلا، والعلم إما معلومات تصديقية أو تصورية توصل إلى مجهولات تصديقية أو تصورية، فالموصل إلى النتائج التصديقية هي القضايا التصديقية المحتوية على نسبة وحكم؛ لاشتمالها على المحكوم به وعليه والنسبة الرابطة بينهما([22])، ولكن قد يحدث عند الاستدلال للتوصل إلى النتيجة الوقوع في الدور، حيث تكون النتيجة متوقفة على الدليل فلو توقف الدليل على النتيجة لزم الدور([23])، وهو ممنوع لأنه يخالف فكرة الاستدلال على الشيء لغرض إثباته، في حين يكون الموصل إلى المجهولات التصورية هي المعلومات التصورية بعد تركيبها بنسق معين قد قرر في علم المنطق وهو المسمى بـ(التعريف)، فإننا إذا أردنا أن نصل إلى مجهول تصوري كالإنسان مثلا عمدنا إلى ألفاظ مفردة ونسقناها في ضوء معطيات منصوص عليها، توصلنا من خلالها إلى فهم حقيقة (الإنسان) فنقول: إنه حيوان ناطق، ولكن التعريف لا يشتمل على نسبة وحكم، بل هو تصوير وشرح وبيان للماهيات المجهولة([24])، وقد أشار التفتازاني إلى وظيفة التعريف في تحصيل تصور الشيء المراد تعريفه عندما قال :" معرِّف الشيء ما يقال عليه لإفادة تصوره"([25])، أي ما يحمل على المعرَّف حتى يفيد تصوره إما بالكنه أو بوجه يمتاز عما عداه([26])، وقد يقع المعرِّف في الدور عندما يورد لفظا في تعريفه متوقفا فهمه على المعرَّف، والمفترض توقف المعرَّف عليه دون العكس، وهو ممنوع للزوم التعريف بالاخفى والمجهول، ويقتضي هذا الكلام المختصر ضرورة التعرف على أنواع التعريف، لكي نعرف مواطن وقوع الدور من عدمها، وهي : 1. التعريف اللفظي: وهو بيان معنى لفظ مبهم بلفظ أوضح منه في الدلالة، كقول بعضهم :" الغضنفر: الأسد" أي ما وضع له الأول هو ما وضع له الثاني، فهذا النوع من التعريف لا يعطي معنى الغضنفر، وإنما يفسر اللفظ بلفظ آخر مشهور ومعروف([27])، أي أن هناك وضعين لمسمى الأسد هو الغضنفر والأسد، وقصد من خلال التفسير بيان أن ما وضع له الغضنفر من معنى هو بعينه ما وضع له الأسد، فهو بيان لفظي فقط، وهذا كثير الوقوع في كلام الناس، حيث يعمدون إلى تفسير ألفاظ غير مشهورة بألفاظ أخرى مشهورة، سواء كانت مترادفات أم متقاربات بأن يكون أحدهما اسما والآخر صفة، إذ نقول :"القاطع : السيف" فإن لفظة السيف موضوعة لتلك الماهية، بخلاف لفظ القاطع ، فإنه مجرد صفة له في حالة معينة، ومع ذلك فقد يقع أحدهما تفسيرا للآخر عند الجهالة، ولو تأملنا هذا النوع من التعريفات لوجدنا أنه الدور بعينه لتوقف كل منهما على الآخر، وهو غير مضرّ؛ لأننا لم نقصد من التعريف بيان حقيقة الشيء وكنهه حتى تلزم الجهالة المرفوضة عند التحديد، وإنما القصد تفسير اللفظ وبيان معناه الوضعي في اللغة بلفظ أوضح منه عند المخاطب ليس إلا، فكما أن الدور المعي غير مضر فلزوم الدور في التعريف اللفظي الواقع في صناعة المعاجم كذلك. 2. التعريف المعنوي : وهو ما يقصد به تحصيل صورة جديدة في ذهن من له التعريف مخاطبا أو غيره([28])، وهذا النوع يفسر معنى اللفظ المجهول، وهو المراد عند إطلاق كلمة (التعريف) في علم المنطق، لأن الغاية من بحثه في علم المنطق الوصول إلى المجهولات التصورية من خلال المعلومات التصورية بعد ترتيبها بنسق منطقي مقبول([29])، وليست مهمته الكشف عن لفظ مبهم بلفظ آخر أوضح منه. والتعريف المعنوي ينقسم باعتبار تركبه إلى : 1- التعريف بالحد: وهو التعريف المتكون من الذاتيات كال*** والفصل، وهو إما تام أو ناقص، ويفيد العلم بكنه المعرف . 2- التعريف بالرسم: وهو التعريف المتكون من العرضيات كالخاصة والعرض العام وهو أيضا أما تام أو ناقص، ويفيد العلم بالمعرف على وجه الامتياز عما عداه، بحيث لا يغدو مختلطا بغيره من الحقائق والمفاهيم([30]). ومن المناسب بيان موقف الدراسات اللغوية من هذه التقسيمات؛ لأهميتها في الاستعمال الاصطلاحي الواقع في المؤلفات العلمية، ولبيان تفرد هذه الدراسات عن التأصيل المنطقي المتعمق لاختلاف جهة البحث ودائرة الاهتمام، فالحد عند أهل العربية مرادف للمعرِّف، والأصوليون وأهل العربية لم يفرقوا بين التعريف والحد، فقد أطلقوا كلتا التسميتين على الأخرى لترادفهما عندهم، وبقي مصطلح الرسم دخيلا على دراساتهم ومذكورا على سبيل المماشاة للمناطقة، وتوضيح ذلك يقودنا إلى الغرض من مصطلح(التعريف) في الحقول العلمية، فللمناطقة اهتماماتهم الخاصة وللنحاة والأصوليين اهتمامات أخرى، فكل علم له موضوع وغاية خاصّتان به، من أجلهما تتمايز العلوم وتفترق الدراسات، فغرض المناطقة الكشف إما عن ماهيّات الشيء أو عوارضه ليحصل الإطلاع على كنه المعرّف أو امتيازه من جميع ما عداه أو بعضه، ولنميّز بين ما هو ذاتي داخل في حقيقة المعرّف، وما هو عرضي خارج عن حقيقته لازم له، لأنهم يبحثون عن عناصر التركيب وخصائص المكوّنات. أما الأصوليون وأهل العربية فهم في صوب آخر، لأن غرضهم تحديد المفهوم النحوي أو الأصولي بشكل يدفع اشتباه المصطلح بغيره ويفسّر المراد منه ويحدّد العناصر المكونة للمفهوم، والخصائص والشروط اللاحقة به، سواء كان المعرِّف ذاتيا أم عرضيا، فالتعريف عندهم سواء سمّي حدّا أو رسما هو(الجامع المانع)([31])، بأية طريقة سلكت في تعريفه: ضابطة أو شرطا أو حكما أو تمثيلا أو تقسيما أو بيان وظيفة أو تحديد شكل، فبؤرة التعريف هي تحقيق عنصر التمييز وعدم الاختلاط المفهومي، هكذا فهم ابن هشام(ت761هـ) مصطلح(التعريف) فيما نقله عنه أبو الثناء الآلوسي(ت1270هـ) وسنورده كاملا، لأنه وثيقة تاريخية لم نجدها فيما بين أيدينا من كتب ابن هشام، وهي تدلّ على مدى التعمّق في أغراض العلوم، وما ينبغي أن يؤخذ منها ويطرح، قال ناقلا عنه:" إن المصنف نفسه صرّح في بعض تعليقاته: بأن حدود النحاة وغيرهم من علماء الشرع ليست حقيقيّة يراد بها الكشف التامّ عن حقيقة المحدود، وإنما الغرض منها تمييز الشيء ليعرف أنه صاحب هذا الاسم، ولهذا لا تراهم يحترزون عما يحترز عنه أهل العقليات من استعمال ال*** البعيد ونحوه، وإنما وقع الاعتراض عليهم بذلك وأمثاله في كتب النحو من جهة متأخري المشارقة الذين نظروا في تلك العلوم ولم يراعوا مقاصد أرباب الفنون"([32])، ونجد صدى ذلك عند عبد الغفور(ت912هـ)([33]) وعبد الحكيم(ت1067هـ)([34]) في حاشيتهما على الفوائد الضيائية في شرح عبارة ابن الحاجب(ت646هـ)([35]): "وقد علم بذلك حد كل واحد منها" ما حاصله: "انه ليس غرض الأدباء من الحد إلا التميّز التام، وأما التمييز بين الذاتيات والعرضيات فوظيفة الفلاسفة الباحثين عن أحوال الموجودات على ما هي عليه، فالحد عند الأدباء هو المعرِّف الجامع المانع وهكذا ذكره عصام الدين(ت1037هـ)"([36]) حيث قال: "معنى الحد عند الأدباء المعرِّف الجامع المانع كما صرَّح به ابن الحاجب في الأصول"([37]). ولقد بيَّن علماء البحث والمناظرة - لطبيعة اهتماماتهم بالدليل والاستدلال والتوضيح للحقائق التي يتم فيها التنازع والاختلاف العلمي - وقوع (الدور) عند التعليل والتعريف، وذكروا شروطا يلتزم بها مورد الدليل والتعريف؛ حتى لا يؤدي عمله إلى نقض لدليله أو تعريفه نتيجة الوقوع في الدور، وبحثوا ذلك كله في (النقض) عند بيان وظائف المعترض والمجيب له ذاكرين الأصول والقواعد التي يعترض بها المعترض، ويدافع بها المستدل عن دليله أو المعرِّف عن تعريفه، فقد ذكروا أن التعريف باعتبار نفسه لا يتعلق به منع ولا نقض ولا معارضة عند مناقشته، وإنما تتحقق هذه الوظائف الثلاثة باعتبار شرائطه، حيث تتولد من هذه الشرائط قضايا ضمنية يدعيها صاحب التعريف، منها: أ- المساواة للمعرَّف: أي أن جميع ما يصدق عليه المعرَّف يصدق عليه التعريف ، فلا يجوز أن يكون التعريف أعم من المعرَّف أو أخص منه مطلقا أو من وجه أو مباينا له، وللتمثيل على أنواع التعريفات نمثل لها بالآتي : 1- المساوي: كقولنا: الإنسان: حيوان ناطق. 2- الأعم: كقولنا: الإنسان:حيوان. 3- الأخص: كقولنا: الحيوان: ناطق. 4- من وجه: كقولنا: الإنسان: أبيض. 5- المباين : كقولنا :الإنسان : حجر. وصاحب التعريف فيها جميعا يدعى أن تعريفه مستكمل للشرائط([38]) . ب- الجلاء والوضوح منه : فيشترط أن يكون التعريف أجلى من المعرَّف وأوضح منه، لأن التعريف وضع لبيان المعرف وشرحه، فلا بد أن يكون أوضح منه في الفهم، لأن التعريف علة لمعرفة المعرَّف، فلو كان خفيا غير أجلى من المعرَّف لزم كون معرفة المعرَّف سببا للمعرفة بالتعريف وذلك عكس الافتراض([39])، ويتحقق الخفاء وعدم الوضوح في الآتي: 1- التعريف المستلزم للدور: فقد تأتي بعض التعريفات متوقفة على المعرَّف كالتعريف بالمساوي في المعرفة والجهالة([40])، أو أخذ المحدود في أجزاء الحد فيؤدي إلى توقف فهم التعريف على المعرف، والأصل أن يتوقف فهم المعرف على التعريف دون العكس، فإذا حصل ذلك لزم توقف كل من الشيئين على الآخر وهو الدور، وسبب ذلك كون التعريف أخفى من المعرف، إذ لو كان أوضح منه لما لزم ذلك، ومثال ذلك قول الفلاسفة: الحركة ما ليس بسكون، والعلم عدم الجهل والبصر عدم العمى حيث عرِّفت الملكة بالعدم([41])، وهو التعريف بالمساوي للمعرَّف في المعرفة والجهالة، فالحركة متوقفة على التعريف؛ لأن معرفة المعرَّف متوقفة على التعريف، والتعريف هنا قد توقف على المعرَّف، لأن الأعدام إنما تعرف بملكاتها، فلزم توقف كل من الشيئين على الآخر، والتعريف على هذا أخفى من المعرَّف، وإنما قيدوا المساواة بالمعرفة والجهالة؛ لأن المساواة بين المعرف والتعريف تكون مطلوبة في الصدق دون غيرها، ومعنى المساواة في الصدق أن يكون التعريف جامعا مانعا، فكل ما صدق عليه التعريف أو المعرف صدق عليه الآخر، دون المساواة في المعرفة والجهالة لأنها تؤدي إلى التعريف بالأخفى، فإذا قيل: ويشترط في التعريف مساواة للمعرف، علم أن المراد المساواة في الصدق، وإذا قيل: لا تجوز المساواة بين التعريف والمعرف علم أن المراد التساوي في المعرفة والجهالة([42])، أو كأخذ المحدود في أجزاء الحد، كتعريف المرفوعات بما اشتمل على علم الفاعلية، حيث يلزم منه توقف الشيء على نفسه، وإذا تحقق (الدور) لزم منه شيء آخر وهو (تقدم الشيء على نفسه) وكله محال؛ لأنه يلزم منه كون المجهول معلوما، مع أن المقرر في التعاريف أن معرفة الحد أقدم من معرفة المحدود، لأن معرفة التعريف علة لمعرفة المعرَّف والعلة متقدمة على المعلول، وفي التعريف بالمساوي في المعرفة والجهالة يحصل العلم بهما معا، وفي أخذ المحدود في أجزاء الحد يلزم كون المجهول معروفا، ومثل ذلك اعتراض أبي الثناء الآلوسي(ت 1270هـ) على تعريف ابن هشام لـ (الإعراب المعنوي): وهو تغيير أواخر الكلم لاختلاف العوامل الداخلة عليه، فقد أخذ (العامل) في تعريفه ولما عرف النحاة (العامل) أخذوا (الإعراب) في تعريفه أيضا، وذلك في قولهم: العامل ما به يحدث المعنى المحوج للإعراب، ومثال آخر للدور كأخذ المحدود في أجزاء الحد بشكل صريح، كقول الصرفيين في تعريف مصطلح (المتعدي) بأنه (الذي يتعدى إلى مفعول به)، ومن أمثلة التعريف المساوي في المعرفة والجهالة تعريف النحوي لمصطلح (المفرد) بأنه : ما ليس بمركب، حيث يدعي أحد بأنه مجهول كجهالة المعرف. وهنا قد يقول قائل، هل كل مساو للمعرف في المعرفة والجهالة دور ؟ والجواب عن ذلك بأن المساوي للمعرف في المعرفة والجهالة قد يكون دورا وقد لا يكون، لأنه يلزم من بعضه توقف كل من الشيئين على الآخر، إلا أنهم قد فصلوا بينهما، لأن أهل المنطق قد اشترطوا كون التعريف معلوما قبل المعرف، فلو علم بهما معا كما في التعريف بالمساوي (العلم: عدم الجهل)- ووجه الدور فيه أن الجهل لكونه أمرا سلبيا للعلم محتاج في تصوره الى الملكة(العلم)، فلزم توقف الجهل على العلم، وتوقف العلم على الجهل، وذلك هو الدور، أو تأخر العلم بالتعريف عن العلم بالمعرَّف كما في أخذ المحدود في أجزاء الحد - لزم الدور، ومن أمثلة التعريف المساوي للمعرَّف في المعرفة والجهالة من دون لزوم الدور تعريف النحوي لمصطلح المفرد بأنه المعرب بإعراب واحد ، حيث يدعي أحد بأنه مجهول كجهالة المعرف. 2- التعريف المستلزم للتسلسل: حيث تأتي بعض التعريفات المتوقفة في الفهم على شيء آخر غير المعرف، وهو بدوره متوقف على آخر إلى ما لا نهاية، فيؤدي هذا إلى توقف فهم التعريف على أمور لا نهاية لها، والمفترض أن يكون التعريف واضحا غير متوقف على شيء آخر متسلسل([43]). 3- التعريف المشتمل على لفظ مشترك: حيث تأتي بعض التعريفات مشتملة على لفظ مشترك، وهو الدال على أكثر من معنى واحد، ومن ثم يؤدي هذا التكثير في المعنى إلى إيهام واضطراب في تحديد الدلالة المرادة من المعرَّف، وقد نبه العلماء على ضرورة الاحتراز عن اللفظ المشترك في التعريف حتى لا يكون التعريف أخفى من المعرَّف، وقد بينوا جواز وقوع المشترك في التعريف، إذا كانت هناك قرينة دالة على إرادة أحد معانيه، أو صلاحية كل من معانيه اعتمادا في التعريف([44]). 4- التعريف المشتمل على المجاز: حيث تأتي بعض التعريفات مشتملة على معنى مجازي، ويظهر ذلك عند الاعتراض على التعريف ودلالاته، فيتكئ صاحب التعريف على إرادة المجاز متخلصا من الاعتراض، ولكنه يقع في عيب أشار إليه أصحاب التعريف وهو عدم جواز استعمال المجاز في التعريف، لأن الغالب مبادرة المعاني الحقيقية إلى الفهم([45])، فيضيع الغرض المنشود من التعريف وهو الجلاء والوضوح، لكنهم بينوا جواز وقوع المجاز في التعريف إذا كانت هناك قرينة دالة على إرادته وتعيينه، أو أريد كل من المعنى الحقيقي والمجازي في تعريف واحد. 5- التعريف المستلزم اجتماع النقيضين ومصادمة البديهة وغيرها من أنواع الفسادات الطارئة على التعاريف، وكل تعريف هذا شأنه فهو باطل. ومما يجب التنبه له أن الدور كما يقع في التعريفات بشكل بارز يقع عند الاستدلال على الأحكام والمسائل العلمية أيضا([46])، وهو موضوع عنايتنا في هذا البحث أيضا، ومثال ذلك قولنا: درست لأنجح، فإن الدرس علة والنجاح معلول له، ولو تصورنا جعل النجاح علة والدرس معلولا، لزم توقف كل من الشيئين على الآخر وهذا باطل بداهة، ومن ذلك ما نجده من النقض ببيان استلزام الدعوى الدور: ومثال ذلك من علم الصرف أن(الباب الثالث) من أبواب الفعل الثلاثي المجرد يكون مفتوح العين في الماضي والمضارع بشرط أن يكون عين فعله أو لامه حرفا من حروف الحلق ما عدا (أبى يأبى) حيث جاء بفتح العين في المضارع والماضي مع عدم كون عينه ولامه حرف حلق، فقال الصرفيون: إنه شاذ أي مخالف للقياس، ولكن بعض العلماء ادعى أن (الألف) حرف حلق وفتحت العين لأجلها([47])، فكأنه قال بدعوى مفادها: أبى يأبى فيه حرف حلق وفتحت عينه لأجلها، فعندئذ يقول (السائل)أي المعترض: هذه الدعوى منقوضة لاستلزامها الدور، وبيان الدور فيها: أن وجود الألف موقوف على الفتح؛ لأنه في الأصل (ياء) قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فلو كان الفتح بسبب الألف لزم الدور؛ لتوقف الفتح عليها وتوقفها عليه، وكل ما يستلزم الدور فاسد، فهذه الدعوى فاسدة ومنقوضة، ومثل ذلك ما جرى الخلاف فيه بين العلماء في إمكانية تعريف (العِلم)، فذهب بعضهم إلى قضية مفادها: العلم يمكن تحديده وتعريفه، فتوجه إلى هذه الدعوى نقض ببيان استلزامها الدور، وكل ما يستلزم الفساد فاسد، ووجه الدور فيه: أن غير العِلم إنما يعلم ويعرف بالعلم، فلو علم (العلم) بالعلم لزم الدور([48])، ولكن الدليل إذا استلزم الدور الفاسد فإن الدعوى المبنية على شيء فاسد فاسدة أيضا، ولكن لا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول، إذ يحق لصاحب الدعوى أن يأتي بدليل آخر غير مستلزم للفساد المذكور ويثبت به المطلوب، وذلك لأن فساد الدليل غير مستلزم لفساد الدعوى لكونها لازما أعم([49])، بخلاف العكس؛ لأن انتفاء الأعم مستلزم لانتفاء الأخص. انتهى الجزء الاول |
العلامات المرجعية |
|
|