#1
|
||||
|
||||
![]() وأرسلنا الرياح لواقح
د. عبدالمحسن صالح كثير مِن آيات القرآن الكريم تُثير فينا دوافع الفِكر، وحبَّ التأمل في مَغزاها ومعناها، وهي رغم إيجازها، تضَع لنا النقط فوق الحروف، وتترك لنا حرية التدبُّر فيما انطوت عليه مِن دلالات لا يُدركها إلا قوم يعملون ويتفكَّرون، ومِن هذه الآيات العظيمة: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22]. لو أننا تعمَّقنا في المعاني التي تُشير إليها هذه الآية إيجازًا، لوجدْناها علومًا قائمة بذاتها، لكن تلك المعاني لم تتكشَّف على حقيقتها إلا من خلال الدراسات الكثيرة والمتشعِّبة التي قام بها علماء هذا الزمان عن طبيعة السُّحُب وما حملَت، وطبقات الهواء وما أخفّ، ودورة المياه في الطبيعة كيف دُبِّرت، وطاقة الشمس على البحار كيف استُغلَّت، والماء الذي تجرَّعناه كيف سار في أجسامنا ودارَ دون أن يكون لنا في أحكامه مِن خيار، ثم لا نستطيع له اختزانًا؛ فلقد جاء كل شيء بحساب ومِقدار؟! على أن المعاني التي انطوت عليها هذه الآية والمُقتضبة قد اختَلَف في تفسيرها الأوائل والمُحدَثون؛ فمنهم من أخذ بظاهر المعنى دون باطنه، ومنهم من أخذ بالباطن دون الظاهر، ومنهم من مرَّ عليها مرَّ الكرام؛ ظنًّا منه أن المعنى واضِح. والواقع أن كل مُفسِّر كان على حق وصواب فيما رأى، وهذا عطاء جَميل من القرآن الكريم؛ فبقدر ما يَعرف الإنسان بقدر ما ينهَل مِن تلك المعاني، إن سطحيةً فسطحيةٌ، وإن تعمُّقًا فتعمُّق، ولكلٍّ ما سعى! دعنا إذًا نتعرَّض لما انطوَت عليه تلك الآية الكريمة من معانٍ أصيلة، ولنَتناولها بشيء من واقع علومنا الحديثة، فذلك يوضِّح - بلا شك - ما في القرآن من عطاء عظيم، رغم التلميح فيه دون التصريح، والإيجاز دون الإسهاب! الرياح وما لقَّحت! إن أول حقيقة عِلمية تُبرزها لنا الآية هي التي تتناول الرياح وكيف أُرسِلت أو سارت في غُلافنا الهوائي، صَحيح أننا لا نرى تياراته التي تَسري مِن مكان إلى مكان، ولا تياراته الصاعدة والهابطة، لكنَّنا نرى آثارها في ظواهر لا نَكاد نُحصيها عدًّا، لكن علينا أن نتعرَّض فقط لما له صلة بموضوعنا؛ فلولا الهواء ما كان السحُب، ولولا السُّحُب ما كان الماء العذب، ولولا اللواقح الدقيقة التي تتخلل الهواء لما كان المطر، ولولا المطر لما كانت حياتنا وحياة كل الكائنات التي تعيش على الأرض، ولولا... ولولا... إلخ. أرأيت إذًا كيف أن هذه الحلقات ترابطَت في سلسلة من الأحداث والظواهِر، وكأنما كل حلقة منها تقود إلى الأخرى؛ لتُوضِّح لنا أن كل أمر قد دُبِّر بحكمة بالغة، وليتبيَّن لنا: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21] ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، ولا شكَّ أن لهذا الهواء في الأرض دورة لا تتوقَّف أبدًا، ومِن وراء هذه الدورة طاقة حرارية جبّارة تأتي من الشمس، فتُحرِّكه في تيارات لها مَسارات قُدِّرت تقديرًا، وبحيث استطاع العلماء مَعرفة اتِّجاهاتها، والتنبُّؤ بمَواعيدها، وتمييزها بمُسمَّياتها، واحتمالات سقوط أمطارها أو بَردِها... إلخ، وطبيعي أننا لا نستطيع أن نُوفِّي هذا الموضوع حقَّه لضيق المجال، لكن يكفي أن نشير هنا إلى أن الله قدَّر الأمور من خلال شرائع ونواميس صاغها العلماء في مُعادلات ونظريات وقوانين، وبها أدركنا كيف يتصاعَد البُخار من البِحار، فيُصبح سحابًا، ليسقط أمطارًا، فتسيل به جداول وأنهار، بها عذوبة ولنا فيها حياة. على أن طبيعة هذه الرياح، وحملها للسحاب، والاتجاه به إلى مناطق قد تجود بمائها عليها أو لا تجود، كل هذا وغيره يتبع ظروفًا جوية عبَّر القرآن الكريم عنها أوجزَ وأجملَ تعبير: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57]. ولكلمة "لواقح" معنيان صالحان لتطبيقهما في مجالين مُختلفَين، أي: كأنَّما الآية قد تركَت لنا الحرية في اختيار ما نراه من معان؛ فالرياح قد تَحمل حبوب اللقاح مِن زهرة إلى زهرة من النوع ذاته، (مِن فعل لقَحَ؛ أي: أبر؛ أي: وضع طلع الذكور في الإناث كما في النخيل وسائر أنواع النباتات)، ولقد دُبِّرت الأمور هنا بحِكمة بالغة؛ إذ لا بد أن تُنتج الزهور بلايين فوق بلايين مِن حبوب اللقاح؛ حتى يكون احتمال التلقيح بالرياح مَضمونًا، ولا بد أن تكون هذه الحبوب ضئيلة الوزن والحجم جدًّا حتى تَنتثِر في الهواء، وتَحملها الرياح أو النسمات إلى مياسم الأزهار (الجزء المُستقبِل لحبوب اللقاح)، وعلى المياسم مادة لَزِجة، ولزوجتها تَصطاد لقاحاتها التي تؤدِّي إلى إخصابها. وطبيعي أن ميسم الزهرة - وليكن مثلاً ميسم زهرة الباذنجان - قد يَستقبِل حبوب لقاح لأنواع أخرى كثيرة من نباتات لا تمتُّ لنوعه أو ***ِه بصِلة، ومع ذلك فقد دُبِّرت الأمور تدبيرًا مُتقنًا، بحيث لا يَسمح هذا الميسم لأية حبة لقاح من أي نوع بالإنبات والإخصاب، وكأنما هناك "كلمة سر" بين النوع والنوع، وعن طريقها يكون القبول، لكن هذه الشفرات أو اللغات التي تَستخدِمها النباتات كثيرة جدًّا، وعددها بعدد أنواع النباتات التي لا تحصيها عدًّا، لكن ذلك موضوع طويل ومتشعِّب ومُثير، وقد نُفرد له دراسة أخرى مُستقلَّة؛ لنعلم منها كم هي منظمة ومُتفاهمة هذه الكائنات التي لا ترى ولا تسمع ولا تَشمُّ... إلخ، ومع ذلك تستطيع أن تتعارَف بلغات خاصة، وكأنما هي أمم أمثالنا! إذًا؛ فقبل أن تَنقل الرياح حبوب اللقاح التي تَنتشِر في كل متر مكعَّب من الهواء بالآلاف، خاصة في فصل الأزهار أو الربيع، كان لا بدَّ من وسيلة تمهِّد لحبة اللقاح معرفة النوع الذي تَنتمي إليه؛ حتى لا يَختلط على ميسم الزهرة الحابل بالنابل، وقد كان، فلا ينبغي لحبة لقاح النخيل أو القرع أو الطماطم أو أي نبات آخر أن تَنبت في غير موضعها... ﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ﴾ [القمر: 5]، ﴿ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 15]. لواقح السحاب: المعنى الآخر الكامن في الآية الكريمة يُشير إلى أن تكوين السُّحُب، وما يَتبعه مِن تساقُط الأمطار، لا يتمُّ إلا إذا حملَت الرياح لواقحَها، هو أمر لم تَكشف عنه إلا البحوث العلمية الحديثة، لكن السبق في هذا المضمار كان للقرآن؛ إذ إن تسلسل الآية يشير إلى ذلك إشارة واضحة؛ لأن اللواقح في الرياح قد سبقت نزول الماء، أو ارتبطت به ارتباطًا صريحًا وواضحًا. فما هي هذه اللواقح؟ وكيف تؤدِّي إلى تكوين السحُب والأمطار؟ الواقع أن عملية البخر من المحيطات والبحار تؤدِّي إلى تطاير جزيئات الماء إلى الهواء، لكن هذه الجزيئات قد تَبقى مُبعثَرة ومُشتَّتة في الجو على هيئة غاز، وطبيعي أن الهواء يحمل دائمًا نسبةً من الرطوبة أو جزيئات الماء، وهذه نُحدِّدها بمقاييس الرطوبة، فنقول مثلاً: إن الهواء مُشبَّع بالرطوبة، أو ما دون ذلك، فإذا تشبَّع فإنه لا يقبل بخرًا جديدًا، لكن هذا التشبُّع يَعتمِد على درجة الحرارة السائدة، فعلى سبيل المثال نقول: إن مائتي قدم مكعَّبة من الهواء تستطيع أن تستوعب كمية من بخار الماء تتراوَح ما بين 12 - 14 جرامًا عند درجة التجمُّد (الصفر المئوي)، لكن هذا الحجم ذاته قد يستوعب أكثر من 45 جرامًا عند درجة 20 مئوية، فإذا برد الهواء أقل مِن ذلك تخلَّص من حمله شيئًا فشيئًا على هيئة قطرات دقيقة للغاية (التكثيف الذي نراه مثلاً على كوب ماء مثلج، وهي دليلنا على البخار الذي يَنتشر في الهواء ولا يرى). لكن ذلك لا يشرح لنا فكرة تكوين السحب والأمطار، صحيح أن السحُب تتكوَّن أساسًا من عمليات البخر، لكن البخر - في حد ذاته - لا يؤدِّي إلى تكوين السحاب، بل لا بد من وجود عامل أو وسيط أو نواة لتجمع الجزيئات الشاردة، وتؤلِّف بينها في قطراتٍ جد دقيقة من الماء، وهي التي تكوِّن السحاب بكل أشكاله وصوره وأنواعه. ولكي نوضِّح أكثر نقول: إن السحابة تتكوَّن من أعداد لا حصر لها من قطرات صغيرة وخفيفة، ولهذا تحملها تيارات الهواء إلى أعلى، وهي لخفَّتها وضآلتها تبقى مُعلَّقة فوق رؤوسنا على هيئة تجمُّعات صغيرة أو ضخمة، وتُعطينا تكوينات سحابية مُختلفة، لكن لا بد من وجود اللواقح أو النَّوى الذي يُساعد على تكثيف جزيئات الماء في قطرات دقيقة، وهذه اللواقح تُوجد دائمًا في الهواء بصور مُتباينة؛ فقد تكون على هيئة سناج أو هبوب أو غبار أو بللورات ملح، أو مما تَتركه الشهُب أثناء احتراقها في طبقات الجو العليا، مُخلِّفة وراءها غبارًا دقيقًا... إلخ. وطبيعي أننا لا نرى هذه اللواقح لدقَّتها؛ ففي الغلاف الهوائي الموجود فوق المدن الصناعية المُزدحِمة يوجد حوالي مليونَين ونصف مليون لاقحة في كل بوصة مكعبة من الهواء، وهذا يُنبئك بدقة أحجامها، أو إذا شئتها مقياسًا فإن قُطرَ اللاقحة أقل جزء من ألف جزء من الملليمتر، لو أنك جمعت 2500.000.000.000 لاقحة (أي: 2.5 مليون مليون)، فإنها بالكاد تزن جرامًا واحدًا، ومع هذه الدقة المتناهية، إلا أنها تقوم بدور أساسي في تجميع البخار على هيئة قطرات دقيقة تتراوح أقطارها ما بين عشر ملليمتر إلى جزء من ألف جزء من الملليمتر، أو قد نتصور ضآلة هذه القطرات لو علمنا أن قطرة ماء المطر المنهمِر والمتوسِّطة حجمًا قد تكوَّنت من تجمُّع حوالي مليون قطرة دقيقة. يتبع |
العلامات المرجعية |
|
|