اهلا وسهلا بك فى بوابة الثانوية العامة ... سجل الان

العودة   بوابة الثانوية العامة المصرية > قصر الثقافة > قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية

قضايا سياسية وأخبار مصرية وعربية وعالمية منتدى يختص بعرض كافة الأخبار السياسية والإقتصادية والرياضية في جميع أنحاء العالم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 05-03-2013, 09:51 AM
الصورة الرمزية simsim elmasry
simsim elmasry simsim elmasry غير متواجد حالياً
عضو قدوة
 
تاريخ التسجيل: Sep 2010
المشاركات: 1,872
معدل تقييم المستوى: 16
simsim elmasry has a spectacular aura about
Mnn خطاب عبدالناصرفى مجلس الامة1965يحل ألغاز اليوم ياريت نقرأه ونستفيد بدل كثرة الشعارات

أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:
دخل التاريخ قبلنا الآن إلى هذه القاعة، ودخلت الثورة، كلاهما يريد أن يطل على المشهد الجديد والمجيد الذى تنزل عليه الأضواء هنا وتتجه إليه الأنظار. إن هذا المجلس الشعبى المنتخب بالإرادة الحرة لجماهير شعبنا المناضلة يمثل تحولاً هائلاً للتاريخ السياسى والاجتماعى والقومى لهذه المنطقة، التى تعيش وتعمل فوقها - بالخير وبالحق - أمة عربية واحدة يتسع الأفق أمامها بعرض ما بين المحيط والخليج.
إن هذا المجلس الشعبى المنتخب حدث خطير فى حياة الأمة العربية وحاسم. إن إرادة الثورة الشعبية فتحت طريقه، وهيأت مكانه، وأعدت له الدور الكبير. إن إرادة الثورة الشعبية فتحت طريقاً لما تمكنت بعزمها وبعون الله من هزيمة الاستعمار، وإسقاط الرجعية ورأس المال المستغل؛ شركاء الحلف غير المقدس ضد الشعب، يريدون إرهابه وإخضاعه؛ لكى يتمكنوا من مواصلة استنزاف ثروته وعمله، ولكى يضمنوا ترفهم وغناهم على حساب الدم والعرق، يسيلان بغير حساب من ملايين العاملين.
إن إرادة الثورة الشعبية هيأت مكانتها لما صممت، بوعيها وباستلهام ضميرها الوطنى، على أن تضع قوى الشعب العاملة وطلائعها الثورية المنظمة على رأس العمل الوطنى وفى قيادته.
إن إرادة الثورة الشعبية أعدت له دوره الكبير، لما حددت بالرؤية الواضحة أبعاد الآمال المتجددة والمتسعة دواماً أمام من طال حرمانهم من الحقوق المشروعة للإنسان، فى عصر تمكن فيه التقدم الفكرى والعلمى من بلوغ قمم رائعة مشرقة.
إن هذا المجلس الشعبى المنتخب يمثل مرحلة تتفرد عن كل ما سبقها؛ فهو لا يتفرع عن التراكمات والرواسب التى رزحت على صدر مصر قرون الزمان الطويلة والمتعاقبة بالظلم والظلام، ولا يمثل سيطرة طبقية تحتكر الامتيازات أو تسعى لاحتكارها. ولقد شهدت مصر حتى فى هذا القرن العشرين شكلاً من التجارب الدستورية، لكنها إلى ما قبل الثورة كانت كلها تعبر عن الثورة المضادة التى انتكست إليها ثورة سنة ١٩١٩، هذه التى شهدنا فى أعقابها سنة ١٩٢٣ واجهة دستورية، بدأت بمجلس يمثل الاتجاه إلى المصالحة مع القوى الرجعية والاستعمارية، ثم انتهت سنة ١٩٥٠ بمجلس يمثل الاستسلام الكامل أمام الرجعية والاستعمار. وبين الخطو تردداً نحو المصالحة وبين الارتماء اليائس للاستسلام؛ مجالس تعاقبت تحت هذه القبة أبعد ما تكون عن الحقيقة الوطنية الأصيلة، مع تفاوت فى الظلال بين النوايا الطيبة والمخدوعة، وبين التآمر الجرىء على حقوق الشعب.
إن هذا المجلس الشعبى المنتخب ظاهرة جديدة من ظواهر عصر جديد، وإننا لنقول بغير تجاوز إنه ما من مجلس نيابى على طول تاريخ التطور السياسى فى مصر، يملك الفرصة على خدمة الحقيقة الوطنية بمثل ما يملك هذا المجلس، الذى عقد جلسته الأولى هذا الصباح، وتلك مسئولية عظمى تقف اليوم أمام امتحان تاريخى خطير؛ أى أنه لا يكفى أن نقول إن هذا المجلس ظاهرة من ظواهر عصر جديد، وإنما الأهم من ذلك أن يستطيع هذا المجلس أن يخدم عصره وأن يحسن التعبير عن مقتضياته.
إن هذا المجلس القائم على إرادة الجماهير عليه دائماً أن يبقى معها، لا يملك أن يرتفع بالجاه فوق مطالبها، ولا يملك أن يهبط بالنسيان إلى ما دون آمالها، عليه أن يبقى مع الجماهير دائماً ولا ينسى، وأن يضئ بالنور جوانب حياتها.
إنه قادم بالثورة، وعليه أن يستكمل الطريق إلى الثورة، إنه قادم بالأمل وعليه أن يحمل الأمل إلى مداه، إنه قادم من إرادة التغيير العميق، وعليه أن يذهب بها إلى أهداف التغيير العريضة والرحبة؛ إلى أهداف فى الكفاية والعدل بغير حدود، إلى ديمقراطية اجتماعية وسياسية بغير قيد، إلى مجتمع تتكافئ فيه الفرص بين الأفراد، وتذوب فيه الفوارق بين الطبقات، إلى آفاق يستطيع منها الإنسان العربى أن يكون شرفاً للحياة، وتستطيع فيها الحياة أن تكون شرفاً للإنسان العربى.
هذا هو الحدث الخطير الذى يمثله مجلسكم، وهذا هو الطريق، والمكان، والدور والمسئولية المترامية الأطراف، ولإن كنا نقف أمامها بالتهيب، ونسأل أنفسنا صادقين إذا كانت أكتافنا تستطيع أن تحتمل هذا العبء الضخم الثقيل، فإن نضال شعبنا العظيم يقدم الجواب القاطع على أى تساؤل، ويحسم باليقين كل شك.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:
إن الالتفات إلى الماضى يكون مفيداً فى بعض الأحيان بقدر ما يساعد على تحديد النظر إلى المستقبل، وإذا كنا نقف أمام ما يتعين علينا أن نحمله فوق أكتافنا فى مرحلة قادمة، فلعل التصور الدقيق لمقدرتنا على التحمل الفعلى يقوى من طاقتنا ويعيننا على ما هو منتظر ومأمول. أتساءل أمامكم الآن - ونحن أمام المسئولية الرابضة فى انتظارنا بضخامة الجبل - كيف كانت أحوال وطننا قبل اثنتى عشرة سنة مضت؟ فى مثل هذا اليوم من سنة ١٩٥٢، كان الإنجليز يحتلون ضفاف قناة السويس، متمركزين فى أقوى قواعدهم العسكرية فى الشرق الأوسط، وكانوا يفرضون على محافظات القناة كلها حكمهم السافر، لدرجة أنه لا يدخل فرد - رسمى كان أو غير رسمى - إلى المنطقة بغير تفتيش يقوم به الجنود الإنجليز.
وكان الاحتلال البريطانى ينظر إلى القاهرة بالاستعلاء، يصم أذنيه عن نداءات الحرية المنبعثة من الشوارع باليأس، ويغمز بطرف عين للقصور الحاكمة، مالكة الأرض وما عليها، مطمئناً إلى ارتباطها به، وإن تظاهرت بمسايرة الشوارع الصاخبة بنداءات الحرية.
كان حلف المصالح أقوى من أى ارتباط، وكانت هناك فى الحكم وزارات تتوالى؛ تجىء الواحدة منها لتسد ثغرة، ثم تذهب بعد أن تتفتح عليها ثغرات؛ أبرزها عجز جميع الوزارات التى تولت الحكم فى ذلك الوقت عن إقناع سلطات الاحتلال بأن تقبل مبدأ المفاوضة معها لإيجاد بديل يحل محل معاهدة سنة ١٩٣٦، التى أسقطها الضغط الشعبى، الذى ما لبث أن تبدد بعد ذلك؛ لعدم وجود القيادة القادرة على رسم الطريق بعد المرحلة الأولى، الأمر الذى أظهر وبوضوح أن المشكلة لم تكن مجرد غياب القيادة الصالحة، ولكن ضعف إيمان القيادة القائمة على الأمور بالخطوة التى أرغمت عليها؛ بدليل أنها لم تتخذ إجراءً واحداً تستعد به لما بعد الخطوة الأولى.
كان الحكم يعيش أزمة فى ذلك الوقت تقطع كل ارتباط له بالواقع الفوار والمتحرك، وكان الملك على القمة فى القاهرة يحكم من فوق قوة الاحتلال التى تحاول أن تغطى الاستعلاء بالخديعة، ومن فوق الأحزاب السياسية التى فشلت المكابرة عن تغطية عجزها وهوانها، وكانت أوسع السلطات تتهادى فى صالونات القصور، أو تتسلل من سراديبها.
فقد كان الملك مشغولاً عن كل شىء بمغامراته وصفقاته، وولى العهد الذى حمله بين يديه وأطل به من الشرفة على بعض ضباط الجيش فى ظروف حريق القاهرة ليقول لهم إنه يهديه إلى الوطن وكان يقصد - طبقاً لواقع الحال - أنه يهدى الوطن كله إليه.
وكانت الجماهير ضائعة؛ ما تريده تراه يبتعد عنها، وما ترفضه تجده يقترب منها ويضغط عليها، يكاد يخنق أنفاسها، وما كان ليتردد لو استطاع.. الماضى وراءها يشحب، والحاضر شك، والمستقبل ضباب.
وتندفع الجماهير غاضبة تبحث عن طريق للخلاص، تفتش فى أعماق وجدانها الذاتى، تستنجد بكل القيم النضالية والروحية المستقرة بضميرها، تهيب بالعقل الواعى أن يسارع لنجدتها فى أزمتها العنيفة؛ لكى تستطيع بالإيجابية أن ترتفع على ثورة الغضب وتحولها إلى إرادة للثورة.
كان المجتمع المصرى كله فريسة متناقضات تضغط عليه من الخارج، وتتصادم فيه من الداخل، وترجه حركتها رجاً عنيفاً يكاد يهدم كيانه، وكان المجتمع يدور حول نفسه يبحث عن طريق، وكل طريق أمامه يبدو مسدوداً ويريد مخرجاً، وكل باب يصادفه يجده محصناً بأقفال الحديد، ومع ذلك لم يكن الشعب قد ترك نفسه لليأس واستسلم، كانت المقاومة ضد كل ذلك أقوى ما تكون، وأشرف وأنبل ما تكون. كان الشعب المصرى يومها فى صورة عظيمة؛ كأنها صورة الإنسان البطل فى أعماق البحر يصارع الأخطبوط الرهيب، ويناضل لتحرير الحياة من أذرعه المتعددة، وانتصر الإنسان، وسادت إرادته فوق ضراوة الوحوش.
كيف كانت الصورة العملية لانتصار الإنسان المصرى يومها؟ كانت الصورة العملية للانتصار هى أن بعض الطلائع المنتمية بالولاء للشعب تحفزت؛ تتلقى من الشعب نفسه - سيدها ومعلمها العظيم - إرادته، ثم تضع فى خدمة هذه الإرادة أول ما تملكه وأخر ما تملكه، وهو حياتها، ثم تتحرك استجابة لندائه، وكل دليلها إلى حركته ستة مبادئ أمسكت بها تشبثاً وإيماناً، فوق أرض كل ما عليها يهتز ويترنح، كأنه أطلال القاهرة التى أكلتها النيران.
كانت المبادئ الستة فى ذلك الوقت العصيب كما يلى:
- القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين.
- القضاء على الإقطاع.
- القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم.
- إقامة عدالة اجتماعية.
- إقامة جيش وطنى قوى.
- إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
لم يكن هناك غير هذه المبادئ الستة مجرد إشارات إلى طريق صعب وبعيد، ومع ذلك فلقد بدت يومها إغراقاً فى التفاؤل؛ خصوصاً فى جو الواقع الذى ولدت منه كرد عليه، وقبول لتحديه.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:
إن هذه المبادئ الستة بشكلها العام وبساطتها، وبرغم كل التحديات التى كانت تواجهها استطاعت أن تكون سلاحاً للإنسان المصرى، يكفل له النصر فى صراعه مع وحوش الأعماق، وفوق ذلك فلقد استطاعت أن تحقق له النصر، قبل أن يضيق صدره ويفرغ ما اختزنه فى رئتيه من أنفاس الثورة، ويصعد إلى السطح ليملأ رئتيه بالهواء النقى، عائداً إلى الحياة منتصراً وسيداً.
ماذا حدث فى كل مبدأ من هذه المبادئ الستة؟ وكيف تحول كل واحد منها على مدى السنين القليلة التى انقضت، منذ ذلك الوقت، إلى سلاح يحقق انتصار الإنسان المصرى وسيادته؟
أولاً- المبدأ الأول: القضاء على الاستعمار.
لا أظننا نحتاج إلى جهد كبير لكى نثبت أن هذا الوطن الذى كان قاعدة وطيدة للاحتلال الأجنبى قبض على أقداره أكثر من ٧٠ سنة، وأرهب إرادته بـ ٨٠ ألف جندى بريطانى مسلح على ضفتى قناة السويس، هو اليوم من طلائع الاستقلال الوطنى فى العالم كله.
لقد واجه الاحتلال البريطانى بإصرار، وتمكن بالمقاومة العنيدة من إرغامه على الجلاء فى يونيو سنة ١٩٥٦، ليعود إلى ملاقاته غازياً فى أكتوبر من نفس السنة، ويهزمه بالسلاح على ضفاف نفس القناة التى كانت قاعدة له، ويفرض عليه التراجع مدحوراً مهزوماً، يطرده مرتين من فوق أرضه فى نفس السنة؛ مرة بالمقاومة السلبية، ومرة ثانية بإيجابية الحرب الشاملة، ويدرك الشعب أن الوجود الاستعمارى على أرضه ليس هو مجرد القواعد العسكرية الظاهرة، وإنما القواعد الخفية أخطر وأضر، فإذا هو بين الحربين؛ حرب المقاومة السلبية، التى انتهت بالجلاء، وحرب النصر الكامل، يؤمم شركة قناة السويس ركيزة الاستعمار الرأسمالى الاحتكارى، ويؤكد سيادته عليها ملكية وإدارة وانتفاعاً.
وبينما نار المعركة مازالت تشتعل على الشواطئ المعرضة للغزو، إذا إرادة الثورة الشعبية تصفى بقية قواعد الاستعمار الرأسمالى الاحتكارى فى الداخل، وتقوم بتمصير جميع المصالح المملوكة لدول الاستعمار، وفى مقدمتها الجزء الأكبر من البنوك، وشركات التأمين، وشركات التجارة الخارجية. وكلها أعصاب الاقتصاد الحساسة والمسيطرة.
وفوق ذلك يدرك الشعب فى نفس المرحلة أهمية وحدة الحركة المعادية للاستعمار، ويرى ضرورة خلق جبهة للحرية عريضة، فإذا إرادته الثورية من أكثر القوى فاعلية فى إنجاح مؤتمر باندونج، الذى كان، عدا أهميته فى تاريخ التضامن الآسيوى - الإفريقى، أعلى نداء جماعى ارتفع لمقاومة الاستعمار والتصدى له، ثم يمتد الطريق بعد نداء باندونج، وبعد انتصار السويس يزداد طولاً وعرضاً ليمهد لأضخم زحف للحرية حدث فى إفريقيا، ثم تجىء الدار البيضاء أول جهد إفريقى منظم نذر نفسه لتحرير شعوب القارة، ثم تلتقى إرادة إفريقيا كلها على الحرية بغير بديل فى أديس أبابا.
ولم تكن الحرية مجرد خلاص من قواعد الاستعمار، وإنما كانت أرحب من ذلك آفاقها، تريد تحرير ضمائر الشعوب التى طال كبتها وتحرير أفكارها، تحرير رأيها، وتحرير ثقافاتها. ومشت دعوة الحياد الإيجابى جنباً إلى جنب مع دعوة مقاومة الاستعمار، وأكد عدم الانحياز قيمته الفعالة فى خدمة هدف السلام الذى لا تهدده الأحلاف العسكرية، ولا القنابل الذرية، ولا التمييز العنصرى. وفى المناداة بذلك كله، وفى العمل الإيجابى من أجله، يقف الشعب المصرى طليعة بين الطلائع، لا استعمار على أرضه، لا حلف يضغط عليه، لا ارتباط يقيد إرادته، لا تهديد يخيفه، لا تشهير يخجله، لا شىء.. إلا أرض حرة، وشعب حر، وإرادة حرة. والشعب والأرض والإرادة مع الإنسانية كلها ولها.
ثانياً- المبدأ الثانى: القضاء على الإقطاع.
كانت ملكية الجزء الأكبر والأخصب من الأرض الزراعية فى يد العدد القليل من الملاك الكبار، إلى جانب مساحات أخرى شاسعة تملكها الشركات الزراعية المملوكة للأجانب، وإن حاولت إخفاء هويتها الحقيقية وراء واجهات مصرية، وبمقتضى القوانين الاشتراكية - وبينها وبين قانون الإصلاح الزراعى - فلقد وصلت الأرض التى تم الاستيلاء عليها لتوزيعها لصالح الفلاحين ما مساحته ٩٤٤٤٥٧ فداناً.
وفوق أوضاع الملكية فلقد كانت الظروف الاقتصادية على الأرض الزراعية لا تسمح بأى استغلال مثمر على الأرض الخارجة عن ملكية الإقطاعيين؛ فقد كان اقتصاد هذه الملكيات غير الإقطاعية ضعيفاً بسبب حاجتها إلى التمويل المنظم والخبرة الفنية. وبتحديد إيجار الأرض الزراعية الذى كان جزءاً من الإصلاح الزراعى، وبتدعيم التعاون وإتاحة فرصة التمويل المعفى من الفوائد أمامه، وبالاتجاه الآن إلى التجميع الزراعى على أوسع نطاق، فإن هناك تحولاً فى ظروف إنتاجية الأرض الزراعية يضاف إلى التحول الذى طرأ على ملكيتها. ولقد ارتفع متوسط دخل الأسر التى استفادت بالأرض الموزعة عليها من أملاك الإقطاعيين القدامى من ٢٧ جنيهاً فى السنة قبل التمليك إلى ١٥٠ جنيهاً فى السنة بعده، وتبلغ جملة الزيادة فى دخول المنتفعين من توزيع الأرض، التى تم توزيعها ٢٥ مليون جنيه فى السنة، راحت تؤدى دورها فى مستوى حياة الملاك الجدد بالحق.
كذلك حقق قانون تحديد الإيجارات أثراً يزيد عن ذلك، فلقد ارتفع دخل الفدان الواحد بالنسبة للمستأجر من ٩ جنيهات إلى ٢٧ جنيهاً سنوياً، وتقدر الزيادة فى مجموع دخول المستأجرين فى ظل قانون تحديد الإيجارات بمبلغ ٥٦ مليون جنيه كل سنة.
ولقد بلغت قيمة القروض التى قدمت من غير فوائد للفلاحين فى أخر إحصاء عن سنة ١٩٦٣ ما قيمته ٦٠ مليون جنيه، ومن تأثير ذلك أن الإقطاع تراخت قبضته على الريف المصرى، فى مقابل فاعلية متزايدة كل يوم لجماهير الفلاحين المنظمة اقتصادياً فى إطار التعاون، والمنظمة سياسياً داخل وحدات الاتحاد الاشتراكى.
كذلك فإن التغييرات العميقة فى المجتمع المصرى أنهت تأثير الإقطاع فى العاصمة، وكانت سلطة الحكم فيها خلال السنوات التى تلت ثورة سنة ١٩١٩ إلى ما قبل ثورة ١٩٥٢ قد استقرت بصفة دائمة بين ١٦ أسرة مصرية من كبار ملاك الأراضى، قدمت من أصولها أو فروعها غالبية الوزراء الذين تولوا مقاليد الحكم فى مصر خلال هذه الفترة الخطيرة والحرجة، وكانت مدخراتهم من استغلال الريف قد أتاحت لهم - بالتعاون مع بعض العناصر الأجنبية المغامرة - أن يدخلوا إلى مجال الرأسمالية، الصناعية والتجارية، وأن يضاعفوا أرباحهم من وراء الحماية الجمركية، التى كان الشعب المستهلك يدفعها لتذهب مزاياها إلى جيوب قلة المنتفعين.
ثالثاً- المبدأ الثالث: القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم. إن المصالح الرأسمالية المتحكمة فى الوطن أدركت - منذ اليوم الأول - أنها لا تستطيع أن تفرض سيطرتها على الحكم؛ الذى وضعته الجماهير الثورية فى قيادة التغيير الذى بدأ مع ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢؛ لكن الرأسمالية المتحكمة تصورت أنها تستطيع تعزيز مواقعها الفعلية، وزيادة تركيز احتكارها للثروة، من إحساسها برغبة الثورة فى توسيع قاعدة الإنتاج، ولم تدرك هذه المصالح أن أى ثورة - تستحق هذه الصفة المجيدة - يتعين عليها أن تسأل نفسها دائماً.. زيادة الإنتاج لمن؟ ولقد بدأت الإرادة الشعبية الثورية تجيب على هذا السؤال عملياً بالاتجاه إلى إقامة وحدات إنتاج قوية - يملكها الشعب - نواة لقطاع عام، ما لبث أن عزز نفسه بالسيطرة الكاملة على المال متمثلاً فى البنوك وشركات التأمين، والتجارة الخارجية، التى جرى تأميمها ونقلها إلى الملكية العامة، ثم اتباعها بقرارات يوليو الاشتراكية سنة ١٩٦١، التى ضمنت الملكية العامة للجزء الأكبر من وسائل الإنتاج؛ خصوصاً فى المجال الصناعى، ثم رسمت الحدود الواضحة للملكية العامة بحيث تشمل الهياكل الرئيسية للإنتاج؛ كالسكك الحديدية، والطرق، والموانى، والمطارات، وطاقات القوى المحركة، ووسائل النقل البرى والبحرى والجوى، وبعد ذلك الصناعات الثقيلة، والمتوسطة، والتعدينية، وصناعات البناء والجزء المؤثر من الصناعات الاستهلاكية، بما لا يسمح بالاستغلال. وارتبط بذلك تحقيق إشراف الشعب الكامل على التجارة الخارجية وكسر أى احتكار فى التجارة الداخلية، مع فتح مجالها واسعاً فسيحاً للنشاط الخاص؛ وبذلك فإن الإقطاع التقليدى الذى أراد أن يهرب إلى المظهر العصرى للاستغلال الرأسمالى قد تهاوى من جميع أركانه وتداعى؛ خصوصاً بعد أن فقد سند المصالح الخارجية شريكته فى نهب ثروة الشعب وجهده.
رابعاً- المبدأ الرابع: إقامة عدالة اجتماعية.
إن معاناة التجربة قد أثبتت أن العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق إلا على دعامتين من الكفاية والعدل، إحداهما لا تستطيع أن تصل إلى هدف بمفردها، بل إن إحداهما من غير الأخرى تسير فى اتجاه معاكس للهدف؛ الكفاية أى زيادة الإنتاج بغير عدل تعنى المزيد من احتكار الثروة، والعدل أى توزيع الدخل القومى بغير زيادة فى طاقته لا تنتهى إلى غير توزيع الفقر والبؤس، وإنما كلتاهما معاً الكفاية والعدل يداً بيد يصل إلى غايته.
ونبدأ بالكفاية فى مجالاتها المختلفة:
لقد بذلت خلال السنوات التى مضت جهود مضنية فى تطوير الزراعة؛ ولكن الزراعة بطبيعتها أصعب مجالات الإنتاج استجابة للجهد، وأكثرها حاجة للصبر والعناء، وإن بقى تطويرها دائماً أضمن الأسس لإقامة اقتصاد سليم. ولقد قطعت الجهود شوطاً لا يتهاون به فى سبيل إدخال العلم والدراسة الفنية الحديثة؛ لخدمة مشكلة تطوير الزراعة، وتحققت بالفعل بعض النتائج فى متوسط غلة الفدان الواحد من المحاصيل، لكن أكبر الآمال مازالت معلقة على تجارب التعاون الزراعى، التى تغطى الآن مساحات واسعة من الرقعة الزراعية المصرية؛ تستهدف إعادة تنظيم الجمعيات التعاونية لكى تقدر على رفع المستوى الفنى والعلمى للزراعة، وتيسر حصول الفلاحين على القروض والتقاوى والأسمدة والآلات.
كذلك تستهدف هذه التجارب التعاونية تحسين التربة، والرى والصرف، واستنباط البذور الجديدة، والتوسع فى الخدمة بالآلات، وزيادة الثروة الحيوانية، وتدعيم الصناعات الريفية وتوسيع نطاقها.
ولقد نفذت مشروعات للرى والصرف قيمتها ١٢٥ مليون جنيه، وهناك الآن مشروعات للرى والصرف المترتب على السد العالى تبلغ قيمتها ٧٣ مليون جنيه، على أن الناحية التى تحقق فيها النجاح الكبير هى ناحية استصلاح الأراضى الجديدة داخل الوادى، وفى الصحارى المحيطة به. وفى داخل الوادى، وباحتساب ما يجرى إصلاحه الآن فعلاً لينتهى هذا العام، فإن الأرض الجديدة التى تم استصلاحها داخل وادى النيل الحالى تصل إلى ٥٠٥ ألف فدان، عليها قراها الجديدة ولها خدماتها.
وفى الصحارى، بدأ الوادى الجديد يكشف إمكانياته العظيمة، وإذا كانت المساحة التى يجرى استصلاحها الآن هى ٣٢.٠٠٠ فدان، فإن الاحتمالات التى تتكشف مع كل يوم، تعطى الأمل فى مئات ألوف من الأفدنة الجديدة.
وعلى الساحل الشمالى الغربى ١٠.٠٠٠ فدان جديدة تزرع الآن بالفاكهة، تستمد مياهها من ٨٣٤ ساقية تعمل بمراوح الهواء، وتحتها ٨.٥٠٠ فدان فى وادى النطرون.
كما أن الساحل الشرقى يفرغ اليوم من إعداد ٨.٥٠٠ فدان، تستمد مياهها من ٤٨ بئراً تفجرت من بطن الصحراء، وأهم شىء فى هذه الأرض الجديدة، إلى جانب قيمتها الإنتاجية والحياة التى تمنحها لملاكها الجدد، هو روح الحياة ذاتها؛ روح الرواد الذين يزرعون الأمل حيث كان اليأس، ويفرشون الخضرة حيث كان البوار.
وبعد ذلك كله وقفة؛ فهناك معجزة الإنسان فى هذا العصر الذى نعيش فيه، السد العالى الذى يقف فى الوسط ما بين ثورة الزراعة وثورة الصناعة، يمد تأثيره إلى الاثنتين معاً؛ إلى الزراعة فى الأرض الجديدة التى تصل إلى مليونى فدان، وإلى الصناعة بطاقة الكهرباء التى تزيد عن ١٠ مليار كيلو وات/ساعة.
إن السد العالى هو صورة كاملة للثورة المتعددة الجوانب فى نضال الشعب المصرى، السياسى، والاجتماعى، والعلمى، والاقتصادى، والعسكرى، والمعنوى.
كل هذه الجوانب كان لها دورها فى القصة الرائعة للسد العالى، الذى أصبح اليوم رمزاً حياً وخلاقاً لنضال الإنسان المصرى وآماله. ولو مررنا ببعض الأرقام عن أثر هذا السد وبنائه لاتضحت أمامنا قيمته الحقيقية فائدة ورمزاً؛ الفائدة تحسبها الأرقام على النحو التالى:
إن السد يضيف إلى الدخل القومى سنوياً ٢٣٤ مليون جنيه؛ أى ما يقارب نصف كل الدخل القومى الذى كان لمصر قبل الثورة، ويوفر إنتاج السد عدا ذلك ١٠٠ مليون جنيه من العملات الأجنبية كل سنة؛ من خفض الاستيراد ورفع التصدير، ويمد رقعة وادى النيل الحالى بخصوبة ٢ مليون فدان، ويعطى طاقة من الكهرباء مقياسها ١٠ مليار كيلو وات/ ساعة فى السنة؛ أى ضعف الطاقة الكهربائية الحالية فى السنة؛ بما فيها طاقة مشروع كهربة خزان أسوان، وكل محطات الكهرباء الجديدة التى أقيمت بعد الثورة. ولقد بلغ مجموع ما أنفق على السد مباشرة حتى الآن ١٠٠ مليون جنيه، وفوق ذلك فهناك خدمات غير مباشرة فى مناطق العمل، وصلت إلى ٤٣ مليون جنيه.
أنتقل إلى السد كرمز حتى صباح هذا اليوم - ٢٦ مارس سنة ١٩٦٤ - قام الإنسان المصرى بما يلى:
حفر فى الصخر والجبل لشق قناة التحويل ما حجمه ١٠.٤٦٥.٠٠٠ متر مكعب، حفر فى الصخر أنفاقاً حجمها ٥٣٨٥٠٠ متر مكعب، بنى بالأسمنت المسلح ما حجمه ٣٦٨٣٣٨ متر مكعب، ألقى فى عرض النهر لوضع قاعدة جسم السد من الصخور، ما حجمه ٨.٥٩٤.٠٠٠ متر مكعب، وضع من الصلب بوابات على الأنفاق حجمها ٢١.١٤٠ طن.
وعندما تصل المرحلة الأولى من بناء السد إلى نهايتها، فى ١٥ مايو القادم، سيكون الإنسان المصرى قد أضاف إلى هذه الكتل الخيالية من البناء أرقاماً قياسية أخرى، وإنه من حسن حظ جيلنا أن يرى المنظر التاريخى المهيب الذى سوف يجرى فيه تحويل مجرى نهر النيل إلى قناة التحويل.
إن ذلك المنظر فى ١٥ مايو القادم لن يكون تاريخياً مهيباً فحسب، وإنما سوف يكون إرادة جبارة تملى على الطبيعة مشيئة الإنسان، وتكرم روح الله فيه بتأكيد سيادته وتفوقه على كل الصعاب.
وأضيف إلى ذلك أنه من حسن الحظ أن صديقاً عزيزاً لهذا الشعب، وممثلاً لشعب صديق عزيز، سوف يحضر معنا هذا الاحتفال؛ وأقصد به الرئيس "نيكيتا خروشوف" رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى.
أنتقل الآن إلى الصناعة:
فى معرض الحديث عن العمل من أجل المبدأ الرابع من المبادئ الستة؛ مبدأ إقامة عدالة اجتماعية. بعد الزراعة فى باب محاولة الكفاية أصل إلى الصناعة، نلقى معاً نظرة على تطورات الإنتاج فى السلع التى كنا ننتجها فى مصر فعلاً سنة الثورة. لقد وصل الإنتاج فى هذه السلع إلى ما يلى بأرقام سنة ١٩٦٣ التى تسجل الآن زيادات أخرى سنة ١٩٦٤.
أرقام سنة ١٩٦٣ كما يلى:
غزل القطن ١٢٢.٨٩٦ طن بزيادة ١٢١%.
نسيج القطن ٨٠.١٠٩ طن بزيادة ١٠٠.٣%.
نسيج الصوف ٣.٦٠٩ طن بزيادة ٣٠٨.٣%.
نسيج الجوت ٢٤.١٩١ طن بزيادة ١٤٠٠%.
السكر ٣٥٥.٦٢٦ طن بزيادة ٨٨.٧%.
الأسمدة الأزوتية ٧٣٩.٢٤٧ طن بزيادة ١٣٥.٧%.
الورق ٩٤.٨٧٤ طن بزيادة ٣٧٤.٤%.
حديد التسليح ١٩٦.٨١٢ طن بزيادة ٢٩٣.٦%.
مواسير زهر وأدوات صحية ٥٣.٨٣٣ طن بزيادة ٢٢٠.٤%.
بطاريات سائلة للسيارات ١٥٤.٣٣١ بطارية بزيادة ٧٥٧.٤%.
بطاريات جافة ١٥.٨٢١.٠٠٠ بطارية بزيادة ١٢١٨.٤%.
مصابيح كهربائية ٩.٩٤٩.٠٠٠ لمبة بزيادة ٢٩٨%.
مواسير ومنتجات خرسانية ١٥٢.٧٦٣ طن بزيادة ٧٤٨.٧%.
بترول خام ٥.٦٥٠.٠٠٠ طن بزيادة ١٥٨.٦%.
بعد ذلك ننتقل إلى نظرة ثانية على قائمة السلع التى لم نكن ننتجها قبل الثورة، وأرقام إنتاجها بالنسبة لسنة ١٩٦٣ كما يلى: خام حديد ٤٨٨.٨٩٧ طن.
كتل صلب نصف مشكلة ٦٧.٣٠٦ طن.
قضبان سكك حديد وقطاعات صلب ٤٨.٣٧١ طن.
ألواح صاج ٢٩.٤٢٥.
مواسير صلب ولوازمها ٢.٨٧٤ طناً.
سيارات للركوب ٥.٥٠٧ سيارة.
سيارات أتوبيس ٥٦٥ سيارة.
سيارات لورى ١٣٦٢ سيارة.
جرارات ٦٣٢ جراراً.
دراجات ٤١.٩١١ دراجة.
عربات سكة حديد ٤٦٠ عربة.
أسطوانات بوتاجاز ١٠٦.٦٠٣ أسطوانة.
رشاشات للنباتات ٤٩.٩٠٠.
عدادات المياه ٣٨.٥٩٥ عداداً.
كابلات وأسلاك ٢٥ ألف طن.
محولات كهربائية ٩٩.٢٥٠ محولاً.
عدادات كهربائية ٩٣ ألف عداد.
أجهزة الطهى بالبوتاجاز ٦٢.٠٦٥ جهازاً.
ثلاجات كهربائية ٢٦.٢٤١ ثلاجة.
أجهزة راديو عادية وترانزيستور ١٧٧.٩١٥ جهازاً.
أجهزة تليفزيون تصنيع ٥٠ ألف جهازاً.
أجهزة تليفون ٣٩.٤٦٨ جهازاً.
سماد نترات النشادر الجيرى ٣٢٩.٨٢٧ طن.
سماد كبريتات النشادر ٢٨.٨٣٠ طن.
ورق الكتابة والطباعة ٢٥.٨٥٦ طناً.
ورق كرافت ١٥.٠٩٤ طناً.
إطارات كاوتشوك داخلية وخارجية ٥١٨.٧٧٤ إطاراً.
صودا كاوية للحرير الصناعى ١٦ ألف طن.
منظفات صناعية ٢٥١٠ طن.
أدوات منزلية من الخزف والصينى ٢٤٠٣ طن.
أدوات صحية من الخزف والصينى ٣٦٧٣ طناً.
أسمنت حديدى ٧٧٢.٣٩١ طن.
أسمنت أبيض ٣٣.٠٧٩ طن.
خشب حبيبى ٥٥٨٣ طناً.
زجاج إنجليزى منقوش ٥٤٥١ طناً.
سردين معلب ٣.٤٩٨.٠٠٠ علبة.
لبن مبستر ١٣.٢٩٥ طناً.
وغيرها.. وغيرها مئات من السلع الجديدة تخرج من ٧٥٠ مصنعاً جديداً تم إنشاؤها وبدأت العمل خلال سنوات الثورة.
نظرة ثالثة نلقيها معاً على البرنامج الثالث للصناعة، الذى يتكلف ١٠٠٠ مليون جنيه، والذى بدئ بالتعاقد على بعض مشروعاته فعلاً، تقدماً إلى الخطة الخمسية الثانية التى تبدأ من ١٩٦٥ حتى ١٩٧٠.
ـــ

إن تنفيذ هذا البرنامج سوف يؤكد الثورة الصناعية فى مصر؛ إذ يقيم فيها الصناعات الثقيلة، ويضيف إلى الإنتاج الصناعى زيادة قدرها 670 مليون جنيه، ويصل ما يمكن تصديره منها إلى ما قيمته 250 مليون جنيه سنوياً بعد الوفاء بحاجة الاستهلاك، ويستوعب 170 ألف عامل مدرب جديد، إلى جانب مئات الألوف من العمال، فى الإنشاء والخدمات المترتبة على التصنيع. وأضيف بعد ذلك إلى الصناعة قوة الكهرباء، لقد وجهنا خلال الفترة الماضية إلى الكهرباء استثمارات حجمها 120 مليون جنيه، تحوى المحطة الهائلة التى جرى تركيبها على خزان أسوان القديم، والتى كانت حلماً من أحلامنا يبدو بعيد المنال ضائعاً فى ضباب المناورات الحزبية. ولا تشمل هذه الاستثمارات محطة السد العالى الجبارة، فهذه على المرحلة الثانية من السد العالى تتكلف وحدها ما يزيد عن 100 مليون جنيه أخرى، لكنها سوف تصل بنا إلى مضاعفة كاملة لطاقة الكهرباء فى بلادنا، وتصل بها إلى مستوى الكهرباء العالمى فى الدول الصناعية المتقدمة.
ولقد جرت دراسات حول كهرباء منخفض القطارة، وجرت دراسات حول كهربة قناطر النيل كلها التى يتوقع الخبراء أن تضيف إلى طاقتنا 10 مليار كيلو وات/ساعة فى السنة، ومهما يكن فنحن نثق فى قدرتنا على التصدى لأكبر المشروعات؛ إن التنظيم والكفاءة التى بنت السد العالى، تقدر على التصدى لأى مشروعات تراود أحلام عباقرة المهندسين.
أتجه بعد ذلك إلى المواصلات فى خدمة الإنتاج؛ التعبير الصحيح عن الكفاية - الجناح الآخر للعدل - فى مبدأ إقامة العدالة الاجتماعية، مرة ثانية أصل إلى صورة مجيدة من آمال الشعب المصرى ونضاله؛ أقصد بها قناة السويس التى استطاع الشعب المصرى أن يفرض تأميمها، واستردادها من الاحتكار الاستعمارى، الذى كان يسلبها ويجرح بذلك كرامة مصر وعزتها فى الصميم، فضلاً عن جريمة السرقة.
إن الشعب المصرى لم يثبت صلابته وشجاعته باسترداد القناة فقط، ولكنه وضع هذه الشجاعة والصلابة فى إدارتها أيضاً، وتحويلها إلى ممر عالمى للتجارة يفخر به هذا العصر الحديث.
كان أقصى ما تحلم به شركة قناة السويس السابقة أن تصل فى تعميق القناة إلى غاطس عمقه 36 قدماً، فإذا الهيئة المصرية لقناة السويس تحقق الحلم القديم وتفوقه، وتصل بمشروعها إلى غاطس عمقه 38 قدماً، وليس هذا هو الفارق الوحيد، أضع أمامكم هذه الأرقام للمقارنة فى أخر سنة للشركة السابقة:
قبل التأميم كانت الأرقام تقول: سنة 1955 عبرت قناة السويس 14666 باخرة، حمولتها الصافية 115.756.000 طن من البضائع، وبلغت إيراداتها 32.333.500 جنيه، بعد التأميم والعدوان بسبع سنوات أصبحت الصورة سنة 1963 وبأرقامها كما يلى:
عبرت قناة السويس 19.146باخرة حمولتها الصافية 210.498.000 طن من البضائع وبلغت إيراداتها71.294.000 جنيه، فوق ذلك أقامت الهيئة المصرية لقناة السويس أضخم الترسانات البحرية وبنت فيها الآن 4 بواخر حمولة كلا منها ثلاثة آلاف طن وهى تبنى الآن باخرة حمولتها 6 آلاف طن وتستعد لبناء باخرة ثالثة حمولتها 1200 طن.
وإلى جانب ذلك تقوم هذه الترسانات ببناء القاطرات البحرية وال****ات والروافع. وتمد الهيئة المصرية بعد ذلك عملياتها إلى تحسين الخدمة فى موانيها فتضع جهوداً طيبة فى تحسين ميناء بورسعيد، وتمد جهودها إلى أبعاد أوسع فتتولى الآن عملية تطوير ميناء كوناكرى فى غينيا، وبعض العمليات الرئيسية فى ميناء الشويخ بالكويت.
بعد قناة السويس شريان الملاحة العالمى العظيم انتقل إلى غيرها من ميادين المواصلات؛ فى السكك الحديدية مثلاً، صرف عليها مثلاً من سنة 1957 حتى الآن مائة مليون جنيه، زادت طاقتها على نقل البضائع فى السنة من 6 مليون طن إلى 12 مليون طن، وزادت قدرتها على نقل الركاب من 85 مليون راكب إلى 150 مليون راكب الآن.
فى التليفونات مثلاً زادت قيمة رأس المال المستثمر بنسبة 700% وزادت الإيرادات بنسبة 362%.. زاد عدد الخطوط من 63 ألف خط إلى 184 ألف خط بزيادة 300%.. زاد عدد دوائر الترنك إلى 180 دائرة بزيادة 310%.
فى البريد؛ زاد المستثمر فى هيئة البريد عن رأس مالها أكثر من 7 مرات.
بلغت إجمالى استثمارات الطرق البرية 41 مليون جنيه، زادت حمولة الأسطول التجارى البحرى المصرى بنسبة 400%.
أصل إلى مجال هام يربط الكفاية والعدل معاً.. يربط الإنتاج والخدمات، بل هو فى قيمته يؤدى دوراً كبيراً أعظم من دور الربط؛ لأنه كشاف التقدم ورائده، ذلك هو مجال البحث العلمى.
إن الاستقلال العلمى والفنى هو البعد الثالث للاستقلالين السياسى والاقتصادى ولقد شملت الجهود كل نواحى الأبحاث وميادينها؛ فى أبحاث الصناعة ثم إنشاء المركز القومى للبحوث الكيماوية، المركز القومى للبحوث الفيزيائية، مركز بحوث النسيج بالإسكندرية، مركز بحوث البترول بمدينة نصر، مركز بحوث الفلزات فى حلوان، المركز القومى للمعايرة بالهرم، كذلك تم إنشاء مصنع تجريبى نصف صناعى لنقل التجربة من مرحلة المعامل إلى مرحلة التصنيع؛ متمثلة فى ظروف الإنتاج.. فى أبحاث التعدين والمياه ثم التركيز على بحوث الصناعة الاستراتيجية والتعدينية والمياه الأرضية والجوفية، ويعمل إلى جانب مجلس التعدين والمياه اللجنة العليا لبحوث ما بعد السد العالى؛ لتقوم بدراسة كل الظواهر المتوقعة من جيولوجية أو نباتية أو زراعية أو بحوث خاصة بالبحيرة خلف السد، ومشكلة بخر الماء، وكذلك اللجنة العليا لوقاية الشواطئ المصرية من التآكل وعوامل التعرية.
فى الأبحاث الطبية وضعت موضع التنفيذ حلول علمية للمشاكل التى صاحبت الإنسان المصرى فى عصور تطوره كالأمراض المتوطنة والبلهارسيا.
فى أبحاث النقل والمواصلات بدأ فى إنشاء مركز للبحوث الإلكترونية، ومركز لبحوث السيارات، ومركز لبحوث المنشآت البحرية ليساند عمليات بناء السفن.
فى أبحاث الزراعة والإنتاج الحيوانى تم إنشاء مركز لبحوث المحاصيل الزراعية، ومركز لبحوث الإنتاج، ومركز لبحوث وقاية النباتات، ومركز لبحوث الاقتصاد الزراعى، ومركز لبحوث الزراعة الآسيوية، ومركز لدراسة المناطق الجافة، ومركز لبحوث المحاصيل البستانية، ومركز لبحوث الوراثة.
فى أبحاث البحار؛ استكملت معامل معهد بحوث البحار والمصايد بالإسكندرية، تم التعاقد على سفن جديدة للأبحاث لارتياد البحار العميقة.
فى أبحاث القرية؛ أنشئت اللجنة العليا لبحوث إصلاح القرية.
فى أبحاث البناء والمساكن؛ يجرى استكمال معهد أبحاث البناء.
فى مجال الطاقة الذرية؛ كان بدأ عمل المفاعل الذرى بأنشاص سنة 1960 إيذاناً بدخول الجمهورية العربية عصر الذرة فعلاً، وفى غضون السنوات الماضية منذ إنشاء مؤسسة الطاقة الذرية تم إعداد جيل من الباحثين المدربين، وهيأت الوسائل والمعدات والأجهزة التى تكفل لهم مسايرة التقدم العلمى، وقامت البعثات للبحث والكشف محلياً عن الخامات المشعة ذات الأهمية فى الأغراض الذرية.
وتم الاهتمام أيضاً بالتصنيع المحلى للأجهزة النووية والنظائر المشعة بقصد الاعتماد على أنفسنا وإمداد الدول العربية والأفريقية النامية بحاجتها منها. ولقد كان الاهتمام باستخراج النظائر المشعة فى التطبيقات الطبية والزراعية والصناعية الأثر الكبير مما أدى إلى إنشاء مركز النظائر الإقليمى للدول العربية بالقاهرة فى أوائل 1963 لتدريب الأخصائيين من أبناء الدول العربية فى هذا الميدان الجديد.
ولقد بدأنا الآن فى الاستعداد لإنشاء مفاعل القوى لإنتاج الكهرباء نظراً للحاجة الملحة لمصادر جديدة للقوى.
وفى الوقت نفسه اتجه الاهتمام إلى الفضاء؛ فقامت اللجنة العليا لأبحاث الفضاء، ووضعت برنامجاً وتخطيطاً للعمل، وبدأت فى تنفيذ هذا البرنامج لإعداد جيل من الباحثين فى علوم الفضاء حتى لا نتخلف عن الركب. وجرى إنشاء وحدات للأبحاث الأمر الذى سيترتب عليه الكثير من التطور فى مجال الاتصالات اللاسلكية بين جميع أجزاء العالم الأساسية والعلمية، وإنشاء محطة تتبع لاسلكى، ورصد الأقمار الصناعية، والتعمق فى الدراسات المؤدية إلى الاستخدام السلمى للفضاء؛ كالطبيعة الجوية ودراسة أعالى الغلاف الخارجى، والمسح المغناطيسى للأرض، والتنبؤ الجوى قصير المدى وطويل المدى.
ولقد بلغ الاستثمار الكلى فى المشروعات العلمية 58 مليون جنيه منها 30 مليون جنيه - حتى الآن - فى الطاقة الذرية، والباقى فى معاهد الأبحاث المختلفة؛ على أن الاستثمار الحقيقى هو فى هذا الجيش من العلميين الذين تذخر بهم معاهدنا وجامعاتنا ومصانعنا من وحدات الإنتاج والخدمات إذ تجاوز عدد الأفراد العلميين 50 ألف سيعمل منهم فى مجالات البحث العلمى فى معاهد البحث العلمى وفى الجامعات ما يقرب من 6 آلاف باحث غير من يعاونوهم من فنيين وإداريين. وفوق ذلك فلقد كان لابد للعلم المصرى أن يتصل بالعالم فقام مجلس البحوث الخارجية، وبدأ إنشاء معهد البحوث الإفريقية، وساهمت الجمهورية العربية المتحدة فى الجهود الدولية الرامية إلى استخدام العلوم والتكنولوجيا لصالح الأمم النامية، وكانت عنصراً فعالاً فى كل المؤتمرات الدولية التى رعتها الأمم المتحدة من أجل هذا الهدف الكبير.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:أشعر أننى أطلت عليكم حديث الأرقام ودلالاتها، ولكنى أؤمن أن صورة التحول العظيم، الذى كانت نواته تلك المبادئ الستة، التى استخلصت من الظروف الملبدة بالضباب قبل الثورة، لا يمكن أن يرسمها غير الأرقام، لذلك فإنى أستأذن فى مواصلة حديث الأرقام. لقد فرغت منه فيما يتعلق بالنصف الأول من المعنى الحقيقى للمبدأ الرابع، وهو إقامة عدالة اجتماعية، لقد فرغت من الكفاية، النصف الأول من العدالة الاجتماعية، والذى بغيره لا يمكن للنصف الثانى أن يؤدى دوره، لهذا أنتقل الآن إلى العدل ذاته، أى إلى التوزيع.
أولاً: لقد كان القضاء على الاستغلال مقدمة طبيعية لعدالة التوزيع، ولقد وجهت إلى الاستغلال ضربات متلاحقة، بدأت بالإصلاح الزراعى.. إلى تأميم قناة السويس.. إلى التمصير.. إلى تأميم البنوك وشركات التأمين وتجارة القطن.. إلى قرارات يوليو المجيدة وقرارات أغسطس سنة 1963.. إلى قرارات مارس سنة 1964 التى أنهت مشكلة التعويضات عن التأميم، وقامت بعملية تصفية للامتيازات القديمة، لم يكن منها مفر، ولم يكن توجيه الضربات إلى الاستغلال موقفاً سلبياً، ولكن تحويل رأس المال الضخم أداة الاستغلال الرئيسية إلى الإنتاج العام والخدمة العامة كان من أبرز نقط الارتكاز للعمل الوطنى الإيجابى.
إن تحويل هذه المقادير الضخمة من رأس المال إلى ملكية الشعب العامل وإلى خدمته؛ ساعدت إلى حد كبير على تعزيز العمل من أجل الكفاية، وخدمت الفرصة المتكافئة للمواطنين سواء بالطريق المباشر، أو بالطريق غير المباشر.
إن الأرض التى وزعها الإصلاح الزراعى من أملاك أى إقطاعى قديم، حولت فلاحاً معدماً وأسرته إلى مالك له حق الحياة. ورأس المال الضخم الذى تحرر من الاحتكار شارك فى إقامة مصانع أتاحت عشرات الألوف من فرص العمل للذين كانوا يبحثون عن العمل، وفوق ذلك فلقد فتحت أمام الألوف من الشباب المتعلم - الذى كانت الحواجز الطبقية تقف حائلاً أمامه - أبواباً إلى مراكز القيادة فى وحدات الإنتاج الضخمة، ولقد وصلت فرص العمل التى وفرتها السنوات الثلاث الماضية من الخطة وحدها، إلى أكثر من 800 ألف فرصة عمل جديدة، تعنى أجوراً جديدة، وبيوتاً يشع منها الضوء، وأطفالاً يولدون ومن حولهم بسمة الحياة.
يكفينى أن أضيف هنا، أن إجمالى الأجور زاد بنسبة ما تحقق حتى الآن بالخطة ما قيمته 152 مليون و400 ألف جنيه، فبلغ مجموع الأجور 701 مليون و900 ألف جنيه بعد أن كان 549 مليون و500 ألف جنيه عند البدء فى تنفيذ الخطة.
ثانياً: ولتعزيز حق العمل وظروفه فلقد تحققت الخطوات الثورية التالية:
1- أصبح هناك حظر على الفصل التعسفى للعمال.
2- أصبح للعمال 25% من صافى أرباح الشركات التى يعملون فيها.
3- أصبح للعاملين فى كل شركة أربعة أعضاء يمثلونهم بالانتخاب من بينهم فى عضوية مجالس إدارات شركاتهم.
4- أصبحت ساعات العمل 7 ساعات فى اليوم، على ألا يترتب عليها أى خفض فى الأجور مع يوم محدد للاجازة فى الأسبوع.
5- أصبح هناك حد أدنى للأجور.
6- أصبح هناك عمل واحد للرجل الواحد؛ حتى تكون الفرصة فسيحة أمام العدد الأكبر من أصحاب الحق فى العمل.
7- أصبح نظام معاشات العمل يظل كل العاملين.
8- أصبحت هناك تأمينات ضد العجز المؤقت أو الدائم.
9- أصبحت هناك تأمينات ضد البطالة.
ثالثاً: ولم يعد التعليم بكل مراحله امتيازاً، بل أصبح حقاً مجانياً لكل مواطن من بداية مراحل التعليم إلى نهايتها، ولقد صرف على التعليم العادى إلى ما قبل مستوى الجامعات والمعاهد العليا فى الفترة الماضية ما مقداره 540 مليون جنيه، وفى ميزانية العام الأخير وحده 66 مليون جنيه لهذا المستوى من التعليم، وفى أسرة المدارس الآن 4 مليون فتى وفتاة، وفى العام الدراسى الجديد ستقبل المدارس 678 ألف طفل مستجد بنسبة 80.6% ممن هم فى سن الإلزام، وستصل النسبة إلى 100% فى نهاية الخطة الخمسية الثانية سنة 1969 - 1970.
وفى جامعاتنا الآن 120 ألف طالب، وهناك 25 ألف طالب فى المعاهد العليا، ويبلغ عدد الذين يتلقون العلم فى مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، ووافدين إلينا، من 60 دولة، 25 ألفاً من طلاب العلم بينهم ألف طالب فى كليات الجامعة، وآلاف فى المعاهد العليا والجامعة الأزهرية قلعة الإسلام العظيمة. ومجانية التعليم الجامعى كاملة، وفوقها نظام محدد للقبول فى الجامعات والمعاهد على أسس تضمن تكافؤ الفرصة، ومكافآت مالية تقدم للمتفوقين من الطلبة تشجعهم وتعينهم على مواصلة الدرس والتحصيل.
وتمتد جهود التعليم المصرى إلى ما وراء حدود مصر؛ فلقد أنشىء فرع لجامعة القاهرة فى الخرطوم يضم الآن 1600 طالب، كذلك اشتركت الجمهورية العربية المتحدة فى إنشاء جامعة بيروت العربية وتضم الآن 2000 طالب، إلى جانب أساتذة من جامعاتنا يخدمون بشرف وتجرد فى جامعات المغرب، والجزائر، وليبيا، والسودان، ولبنان، والعراق، والسعودية، إلى جانب 4500 مدرس، وإلى جانب 16 مدرسة ومعهد أنشأتها الجمهورية العربية المتحدة فى عدد من بلاد إفريقيا المتعطشة للعلم.
ومن شبابنا الآن 6100 مبعوث يدرسون فى الخارج، ويحصلون أخر ما يتوصل إليه العلم والفكر ويعودون به؛ ليضعوه فى خدمة التطور.
وفى مجال رعاية الشباب: فلقد أنشىء مجلس أعلى لرعاية الشباب، أنشئ 1174 مركزاً وساحة شعبية وناد وحمام سباحة ومعسكرات دائمة يشترك فى نشاطها ربع مليون من الشباب كل سنة، كذلك أنشىء إستاد القاهرة الكبير.
رابعاً: لقد زادت ميزانية الصحة بنسبة 340% عما كانت عليه سنة الثورة، وفى السنوات الثلاثة الأخيرة وحدها وجهت إلى الصحة مبالغ تصل إلى 93 مليون جنيه، تزيد على مجموع ما صرف على الصحة فى 70 عاماً قبل الثورة، وعدا الجهود الضخمة التى وجهت إلى القضاء على بعض الأمراض المتوطنة كالملاريا، وعدا خدمات الصحة الوقائية، وإنشاء 297 وحدة صحية فى سنة 1963 وحدها، وخدمات توفير الدواء، الذى وجهت إلى إنتاجه استثمارات تصل إلى 1500% عما كانت عليه قبل الثورة، وخفض ثمن المستورد منه بنسبة 25% من أسعاره قبل سنة 1960، عدا ذلك كله فإن هناك عدة معالم بارزة فى مجال الاهتمام بالصحة وتوفير الخدمة الطبية:
1- القرار الذى صدر فى يناير سنة 1962 بإنشاء 2500 وحدة صحية ريفية تخدم كل منها 5000 نسمة يسكنون قرية واحدة، أو مجموعة من القرى لا تبعد عن بعضها بأكثر من 3 كيلو مترات.
2- قانون التأمين الصحى الذى يضمن الرعاية الطبية بالتأمين الصحى لكل العاملين فى الدولة، والمؤسسات العامة، والهيئات العامة، والشركات، والمتقاعدين عن الخدمة، ويقدر عددهم الآن بـ 3 مليون مواطن، وتجرى الآن دراسة مد التأمين إلى أسرهم.
3- صدور القانون الذى يكفل صرف المرتب بالكامل لمرضى الأمراض المزمنة مدة علاجهم، وإلى حين يتم شفاؤهم.
ويساعد وراء ذلك كله نظام للرعاية الاجتماعية يقوم بنشاط كبير فى رعاية الأسرة ورعاية الطفولة؛ بإنشاء دور الحضانة، ولقد أنشىء منها 600 دار توجه اهتمامها على الخصوص لأطفال الأسر العاملة، ورعاية الفئات ذات الظروف الخاصة كالأحداث، الذين تعمل من أجلهم 16 مؤسسة تخدم الآن عشرة آلاف حدث، والتأهيل المهنى للمصابين بأمراض كان يمكن أن تعجزهم عن الحياة، وقد تم تأهيل 40 ألف مواطن من هذه الفئات فى السنوات الأخيرة.
وتمتد الرعاية الاجتماعية بعد ذلك إلى أسر المسجونين، وعدا ذلك نظام للضمان الاجتماعى يحاول أن يمد يد المجتمع إلى الذين لا يستفيدون من نظم التأمينات الاجتماعية والمعاشات، وفى هذا المجال فإن النشاط الأهلى يقوم بدور مشكور، من خلال ستة آلاف جمعية ومؤسسة للخدمة الاجتماعية.
خامساً: فى مجال الإسكان: لم تترك علاقات السكان بالملاك بغير تحديد، وإنما صدرت قوانين متلاحقة تخفض إيجارات المساكن، وتضع الحدود لضمان مصالح الطرفين - المستأجرين والملاك - معاً فى المستقبل، ثم وضعت سياسة للإسكان استثماراتها فى الخطة 174 مليون جنيه، وفى حدود السنوات الـ 5 التى مضت أنشئت 185 ألف وحدة سكنية فى المدن، و50 ألف وحدة سكنية بمناطق الإصلاح الزراعى، وبنيت 33 قرية جديدة تضم 16 ألف مسكن للمهاجرين من النوبة إلى شمال أسوان.
ووصلت مياه الشرب النقية إلى 14 مليون نسمة فى الريف، ولم يكن هناك من تصل إليهم مياه الشرب النقية فى الريف غير مليون ونصف المليون قبل الثورة.
سادساً: فى مجال الثقافة والإعلام:
تقدمت الجهود إلى مدى يبعث على الرضا تحت شعار الثقافة للشعب، ولقد ظهرت خلال السنوات الماضية طلائع كثيرة بدأت تصوغ فناً جديداً للشعب يعكس حياته الجديدة، ويرفع قيمتها، وليس من شك أن الثورة الثقافية تستحق أعظم الجهود وأكثرها عمقاً.
إن العشرات من محطات الإذاعة والتليفزيون، والمئات من المسارح ودور السينما ومراكز الإشعاع الفنى والثقافى، وآلاف الكتب تعيش مع الجماهير كل ساعة؛ تقدم لها العالم البعيد والواقع القريب بالكلمة والصورة. وإن المعارض العديدة التى تفتح أبوابها للناس كل يوم لتحمل إلى الحاضر لمسات قوية ومضيئة، تشير إلى طاقات مبدعة بدأت تفاعلها مع القيم الجديدة للمجتمع.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:
فى هذا كله كان جناح العدل يتصل بجناح الكفاية؛ ليسمح للمجتمع المصرى الجديد أن يرتفع وأن يحلق، ولربما كان المقياس الشامل لقوة التحليق، هى الخطة التى تعبر عن طاقة الجناحين معاً الكفاية والعدل.
لقد اتجه إلى الخطة الشاملة - بأهدافها الاقتصادية والاجتماعية فى مرحلتها الأولى التى قاربت نهايتها - استثمارات قدرها 1577 مليون جنيه، ولقد ارتفعت بها طاقة الإنتاج فى سنة 1963 - بأسعار سنة الأساس 59/60 - من 2548 مليون جنيه إلى 3080 مليون جنيه؛ أى بزيادة فى الإنتاج قدرها 532 مليون جنيه، نسبتها بالزيادة 20.9%. ولا شك أن أرقام السنة الرابعة بعد أن تنتهى ويتم حسابها، وكذلك السنة الخامسة والأخيرة سوف تحقق النتائج المستهدفة من الخطة.
وأصل الآن إلى المبدأ الخامس من المبادئ الستة: إقامة جيش وطنى قوى.
إن هذا الجيش قد تم بناؤه، لقد أصبحت القوات المسلحة المصرية فى البر والبحر والجو قوة هائلة، قادرة على الدفاع والهجوم معاً، قادرة على أن تحمى الأمن العربى والأمل العربى، قادرة على حفظ السلام وعلى ردع العدوان، قادرة على أن تقف مع الصديق وأن تقف للعدو، ولقد اختبرت قواتنا المسلحة كفايتها تحت أصعب الظروف، وأثبتت تفوقها وسيطرتها على احتمالات النصر، ولم تكتف بالسلاح التقليدى الذى تحطم إلى الأبد احتكاره سنة 1955، وإنما تقدمت إلى استكشاف الآفاق الجديدة فى العلم، وهى تملك الآن من الأسلحة الثورية ما يجعلها تتمكن من مواجهة التحدى تحت أية ظروف.
وأريد أمامكم أن أضيف شيئاً، إن القوات المسلحة المصرية لم تنس مكانها من شعبها، لقد أدركت بالوعى العميق، وبالحس الصادق؛ أن القوات المسلحة ولاؤها للشعب.. قوتها بيده.. وأمرها منه.. وتوجيهها وفق إرادته، وفى خدمة آماله ومجتمعه الجديد. إن القوات المسلحة - فى كل مرحلة التحول العظيم وأخطارها وتحدياتها ومؤامراتها وحروبها - كانت الدرع الفولاذى للجماهير.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:
يبقى المبدأ السادس من تلك المبادئ الستة: إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
ولعلها لم تكن محض مصادفة أن هذا المبدأ جاء ترتيباً فى نهاية المبادئ الستة؛ فإن كل مبدأ سبق، كان يمهد لهذا المبدأ اللامتناهى فى مصادره وآفاقه. لقد كان مستحيلاً للديمقراطية أن تتحقق قبل القضاء على الاستعمار، وعلى الإقطاع، وعلى الاحتكار، وعلى سيطرة رأس المال، وقبل إقامة العدالة الاجتماعية. إن كل خطوة تحققت بهذه المبادئ مكنت من خطوة مماثلة فى اتجاه الديمقراطية السليمة.
ولقد كانت هناك تجارب فى الديمقراطية تتماشى مع تطور التحول العظيم، وتساير خطاها حتى حققت الثورة الاجتماعية - التى فجرتها على النطاق الأوسع قوانين يوليو المجيدة - وضوح الرؤية الذى أسقط نهائياً تحالف الإقطاع ورأس المال، وقام بعزله عن قوى الشعب العاملة، وأقام الاتحاد الاشتراكى العربى طليعة لهذه القوى الشعبية العاملة، وسلحه بالوعى العميق بوحدة الديمقراطية، لا فاصل بين الجانب السياسى منها والجانب الاجتماعى.
إن الديمقراطية عملة واحدة ذات وجهين: سياسى واجتماعى، وبغير الوجهين معاً تصبح عملة زائفة لا سعر لها ولا قوة. وليس من شك أن هذا المجلس الموقر نفسه، الذى جرى انتخابه بعد تفجير الثورة الاجتماعية، وعلى أساس الميثاق، وبتمثيل حقيقى لقوى الشعب العاملة؛ يعطى الأغلبية بالحق للفلاحين والعمال، هو صورة مشجعة لما توصل إليه العمل من أجل إقامة حياة ديمقراطية سليمة. على أنى أضيف إلى ذلك: أن الديمقراطية لا تتحقق فى كمالها، إلا بقيام التنظيم السياسى شامخاً وفعالاً، وإلا بقيام المجالس الشعبية المنتخبة، توقع بإرادة الجماهير الحرة كل قرار، وتؤكد بالفعل - لا بمجرد القول - أن صوت الشعب من صوت الله، ومهما يكن فإن هذا المجلس الموقر الذى يجتمع اليوم تعبيراً عن الديمقراطية السليمة يملك الجهد الكبير فى خدمتها، بخدمة الإرادة الحقة والحرة للجماهير.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:
لقد قمنا برحلة طويلة، لكنه كان من المهم أن نعود إلى قياس الطريق الذى قطعناه؛ لكى نتأهب لمسئولية الطريق الذى مازال يمتد أمامنا، لكى يكون لنا مما حققناه دافعاً إلى ما ينبغى أن نحققه، لكى ندرك بتقدير للمسئولية - لا يشوبه الغرور أو الاستعلاء - أن أكتافنا تستطيع أن تتحمل عبء عصرنا وأمانته.
ولقد كانت تلك - أيها الإخوة - مرحلة التحول العظيم، بكل أثقالها الضخمة وآمالها المجنحة، بكل أخطارها المروعة واحتمالاتها المفعمة بالرجاء، كانت فوق وحداتها أثقال قرون تضغط عليه وتشده، وكنا نستطيع أن ننكص عن قبول تحدى العصر، نكتفى بعد 23 يوليو بتغيير فى شكل الحكم، لا يصل إلى المضمون؛ هروباً من فداحة المهمة التى تنتظر كل من يتصدى للتغيير العميق لأوضاع المجتمع.
وكان يمكن أن تشدنا الواجهات الشكلية للديمقراطية، ولقد كدنا أن نقترب من هذا المنزلق سنة 1954، ناسين أن القوة السياسية فى أى مجتمع؛ هى تعبير خارجى عن مواقع القوة الاقتصادية، ومهما أنشأنا من الواجهات، ومهما أطلقنا عليها من الأسماء البراقة والصفات؛ فلسوف يبقى دائماً أن كل شىء خارجى ليس إلا غطاء للحقيقة الداخلية ورداء. وإذا كانت القوة الاقتصادية - كما كان حالها سنة 1954 - فى يد القلة، فمعنى ذلك أن القوة السياسية كانت باقية فى يد القلة، بصرف النظر عن بلاغة الشعارات ورنينها فى الأسماع. وكان يمكن أن تقودنا ظروف الواقع إلى قبول أحكامها، وتظل الأمور تدور فى الحلقة المفرغة، تضيع بدايتها ونهايتها. كان يمكن أن نقبل فى هذه الفترة ما كان يبدو حقيقة واقعة، وهى أن طاقاتنا الحالية لا تستطيع أن تصل إلى مستوى آمالنا، ومن ثم فلابد من التواضع للآمال إلى قرب الطاقة الحالية.
ولقد كان من هنا التخوف من خطة لتنمية الدخل القومى تستهدف مضاعفته مرة على الأقل كل 10 سنوات، ولقد كان التجاوز عن الأمل والقبول بظروف الواقع استسلاماً له ويأساً من الثورة وتسليماً بعجزها عن التغيير الثورى، كذلك كان يمكن أن يضللنا فى هذه الظروف مظهر الرخاء عن جوهر الرخاء، إن الرخاء للقلة على حساب الكثرة فى المجتمع صدام فى داخله، لا يمكن تجنبه، ولا ضمان سلامه فضلاً عن عدم أخلاقيته، ومنافاته لكل مبدأ إنسانى، بل لكل حق إنسانى.
ولقد أدركنا بوضوح أن التنمية لابد أن تقترن بالتوزيع، كذلك أدركنا أن سلامة الاقتصاد الوطنى لا تقاس بسعر القطع بالنسبة لعملتنا فى أسواق المضاربة الدولية. إن السلامة الحقيقية للاقتصاد تقاس بقدرته على الإنتاج، وليس يهمنا أن يظل النقد المصرى محتفظاً بشكل قيمته، متحرراً من أعباء التنمية، متسكعاً فى أسواق المضاربة الدولية عاطلاً مستهتراً، لكنه براق المظهر يتحرك فى جو من الترف، لم يكن ذلك ما نريده للنقد المصرى، وما كان أسهل من أن نوفر له ذلك الشكل الخارجى، ونوفره عن العمل، ونتركه للتسكع الطليق، لكننا نطلب من كل قيمة فى وطننا، كما نطلب من كل إنسان فرد أن يتحمل طاقته؛ أداء للواجب ونهوضاً بأمانته.
وكان يمكن أن نتعجل النتائج وتضيق صدورنا فى انتظارها، نجد مدخراتنا تخرج من بناء المصانع لتتجه إلى بناء مصانع أخرى تنتزع حقولاً خضراء من الصحراء، فتجرى مسرعة إلى انتزاع حقول أخرى. وكان يمكن أن نقع فى خطأ آخر يتصل بتعجل النتائج، وإن كان على نقيض منه، كان يمكن فى هذه المرحلة أن ننسى البشر، ننسى أن الإنسان هو بناء المصانع، وهو فلاح الأرض، ولا يستطيع أن يبنى ويفلح بالكفاءة العالية؛ إلا إذا كان يملك العزة والكرامة، يشعر أنه سيد المصانع وسيد الأرض، كلها له، أقصد أنه كان يمكن هنا أن ننسى التوازن بين واجب الإنسان وحق الإنسان.
وفوق ذلك، فلقد كانت هناك الأخطار من الخارج، وفى مرحلة التحول العظيم، ووسط آمالها وأثقالها، ووسط عذاب الميلاد الجديد على مستوى شعب بأكمله، كانت هناك قوى خارجية تشعر بالخطر عليها من الأمل، ومن الميلاد الجديد، كان هناك الأعداء الثلاثة للثورة يناوشون ويقومون بالغارات على حدود العمل الوطنى بكل الأساليب، يريدون تشتيت جهده، ثم التقدم بعد ذلك إلى تحطيمه قبل فوات الأوان.
كان العدو الأول هو الاستعمار، وفى مرحلة التحول العظيم كانت حربه علينا ضارية، لا تتوقف ولا تهدأ، فى سنة 1952 بدأنا الخلاف معه من حول مائدة المفاوضات، فى سنة 1953 كنا فى حرب عصابات ضده فى منطقة القناة، فى سنة 1954 وفى سنة 1955 كنا فى معركة مستميتة ضد أحلافه وضد مطمعه فى فرض سياسة مناطق النفوذ، فى سنة 1956 كنا فى حرب مسلحة شاملة ضده، فى سنة 1957 عدنا إلى مواجهة حربه النفسية التى شنها بضراوة ليس لها مثيل، وإلى جوارها حرب التجويع بالحصار الاقتصادى، فى سنة 1958 كنا فى قتال سياسى من نوع جديد ضده على امتداد الأرض العربية كلها؛ حتى تحطم حلف بغداد واختفت مواجهة الاستعمار السافرة لنا، وبدأ عمله بالتخفى وراء واجهتين: إسرائيل والرجعية. وهنا أصل إلى العدو الثانى وهو إسرائيل والصهيونية العالمية، ولقد تنبهت إسرائيل منذ وقت مبكر إلى خطورة الثورة المصرية عليها، خصوصاً إذا ما نجحت فى التحول العظيم من التخلف إلى التقدم. ولقد كان العدو الإسرائيلى يدرك - وكنا ندرك معه - أن التقدم العربى هو القاعدة الثابتة والصلبة التى يمكن للأمة العربية منها أن تخوض المعركة ضده من مركز القوة.
وفى سنة 1952، 1953 حاول العدو الإسرائيلى أن يتلمس سبيلاً إلى الثورة المصرية بمختلف الوسائل، يظنها انقلاباً عسكرياً، ويظن بالفهم السطحى لتجربة مصر العربية سنة 1948 أن مصر من هذه التجربة قد تحول أنظارها عن مكانها القومى، وتركز اهتمامها على أرضها الوطنية وحدها. وما كانت الثورة المصرية لتترك أثرها فى التاريخ، لو نسيت للحظة واحدة أن وجودها الوطنى لا قيمة له إلا أنه جزء من وجود قومى أكبر. وحين أدرك العدو الإسرائيلى أن فهمه مناقض للحقيقة بدأ يتصرف بطريقة أخرى للغارات المسلحة على الحدود، كان يريد التخويف، ولقد فشل فيه، ونجح بأكثر مما يظن - وربما بأكثر مما يلائم مصالحه - فى شىء آخر؛ هو أنه لفت نظر مصر فى 28 فبراير سنة 1955 إلى أهمية القوة العسكرية كدرع للعمل الوطنى والقومى. واتجه العدو الإسرائيلى إلى التآمر مع الاستعمار والتواطؤ، وقام بدور التابع فى العدوان الثلاثى المشهور؛ فكشف بذلك قيمته السياسية والعسكرية على حقيقتها، وهو أنه ليس إلا قاعدة للاستعمار، وأداة يحاول أن يهدد بها التقدم الوطنى، ويعوق بها الالتقاء القومى لشعوب الأمة العربية.
وكان العدو الثالث هو الرجعية العربية، التى لم تر فى بداية الأمر من الثورة إلا أنها نظام للحكم قوى وقادر، وتصورت قوته وقدرته سلطة فى خدمة الأمر الواقع وتدعيمه، فلما وجدتها قوة وقدرة على التغيير الاجتماعى؛ بدأ الانقسام فى العالم العربى، وشنت الرجعية العربية على الثورة أخطر هجوم واجهته، منذ الانفصال الذى دبر بليل فى دمشق يوم 28 سبتمبر سنة 1961، إلى فضيحة مؤتمر شتورة الذى تكشفت فيه فى وضح النهار عداوة الرجعية لكل القوى الثورية. ثم استطاعت ثورة اليمن أن تقلب الدفة، وأن تعيد زمام المبادأة إلى قوة الثورة العربية، وأن ترغم الرجعية على التزام مركز الدفاع.
أيها الإخوة:
ولقد خرجنا من ذلك كله؛ من لقائنا الحر مع الضمير الوطنى لأمتنا ومطالبه، ومواجهتنا الشجاعة للأعداء الثلاثة، ولقد ملكنا شيئاً هاماً كانت له كل الفائدة فى الوصول بمرحلة التحول العظيم إلى قرب غايتها؛ هذا الشىء الهام هو الوضوح.. الوضوح الشامل، لم تعد جزئيات المشاكل أمامنا معارك متفرقة، وأصبحت الكليات مرتبطة متماسكة، تكاد أن تكون فى متناول أيدينا قوانين للحركة الاجتماعية والسياسية، تمد أثرها من مرحلة التحول العظيم إلى مرحلة تليها هى مرحلة الانطلاق العظيم.
على سبيل المثال: لم تعد إسرائيل فى مواجهتنا شيئاً، والاستعمار من حولنا شيئاً آخر يختلف، ولقد كانت هناك محاولات للتجزئة؛ تريد تفتيت المشاكل، تصور بالوهم أن إسرائيل هى مشكلة لاجئين تحل فلا يبقى من قضية فلسطين شىء، وتصور بالوهم أن القوى التى صنعت إسرائيل يمكن أن تكون صلة بيننا وبين إسرائيل، أو حكماً أو طرفاً محايداً.. تحطمت هذه الأوهام.
إن خطر إسرائيل هو وجود إسرائيل كما هى موجودة الآن، وبكل ما تمثله، وأول ما تمثله، كما يثبت استقراء التاريخ والتجربة، هى أنها بغير الاستعمار لا تكون، هى له ولخدمته، ولأهدافه فى السيطرة والاستغلال، يرتبط بذلك أن وجودها هو امتداد للوجود الاستعمارى، وينبع من ذلك أن انتصار الحرية والسلام فى تصفية الوجود الاستعمارى، لا يمكن أن تمضى بغير أثر على الوجود الإسرائيلى. معركة واحدة متصلة، وإن اتسع ميدانها ليشمل قارات بأكملها، وحين تحقق الحرية انتصارها الكامل فى إفريقيا، ولسوف تصل إلى ذلك مهما كانت الصعاب، فإن شمس الاستعمار الغاربة سوف تسقط فى المحيط، تجر ذيلها وراءها، ولن تهرب إسرائيل من المصير.
وحين نقرر دخول الحرب لمواجهة الخطر الإسرائيلى، فإنه يتعين علينا أن نرى بوضوح أبعاد المعركة وآفاقها، وأن ندرك أننا نحتاج فيها إلى أكثر مما يكفى لمواجهة اسرائيل وحدها، وإنما نحتاج إلى القوة القادرة على التصدى لمن وراء إسرائيل، أو على الأقل لإصابتهم بالشلل، ويتصل بذلك على الفور أن مشكلة إسرائيل ليست هى مشكلة فلسطين، وإنما هى - بعد فلسطين - أبعد أثراً وخطراً. إن إسرائيل خطر توسعى حقيقى يخطط لدولة أكبر من حدود الدولة الحالية، يعمل ليوم تتحول فيه الشعوب العربية بين الفرات والنيل إلى فلول من لاجئين.
من هنا فإن المحارب المصرى أو العراقى أو السورى لا يحمل سلاحه دفاعاً عن أسرة فلسطينية لاجئة؛ وإنما هو - إلى جانب ذلك - يحمل السلاح دفاعاً عن أسرته المصرية أو السورية أو العراقية، أمة عربية واحدة تواجه نفس المعركة؛ لأنها تواجه نفس الخطر، ويهددها نفس المصير، إذا لانت يوماً فى تصميمها، أو هانت وهان عليها التاريخ والمستقبل، وضاعت من يدها فرصة الحاضر استعداداً وتأهباً.
وعلى سبيل المثال أيضاً فإن الوضوح الشامل الذى حققته مرحلة التحول العظيم وتحققت به، مد أثره بعد ذلك إلى ربط العمل الوطنى بالعمل القومى، ولم يكن ذلك - كما يتصور البعض - تأثير ضغط العدو الواحد. إن الارتباط بين العمل الوطنى والعمل القومى هو حقيقة الوجود العربى ذاته تاريخاً، ومن هنا فهو حقيقته مصيراً. ولقد كانت التفرقة الطارئة جسماً غريباً مدسوساً فى الكيان العربى الواحد يصيبه بأمراض الحساسية ومضاعفاتها، وليس من شك أن التراكمات التى ترسبت وراء الحواجز الجديدة هى الآن عقبة فعلية، لكن ما هو أعمق منها وأقوى هو الحقيقة الواحدة الأصيلة، ولإن كانت هذه التراكمات المترسبة تقتضى علاجاً واعياً، فإن الهدف يبقى دائماً كما هو - بغير تحفظ ولا تردد - وهو أن الوجود الوطنى لأى شعب عربى هو جزء من الوجود القومى للأمة العربية كلها، وبهذا الوضوح القاطع وبغير احتمال للبس أو التأويل، وعلى سبيل المثال.
ثالثاً: فإن هذا الوضوح الشامل - الذى حققته مرحلة التحول العظيم وتحققت به - حتم وجود إطار واحد للعمل الوطنى، ولقد تمكنت التجربة المصرية فى مرحلة خصبة وغنية وخلاقة؛ من أن تضع إطار حركتها السياسية والاجتماعية، فى ميثاق للعمل الوطنى، حقق اتصال جبهاته وتماسكها، وصل ما بين الكفاية والعدل، وما بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، ما بين سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج، والإدارة الديمقراطية لهذه الوسائل المنتجة، ما بين أمان الإنسان على غده، وقدرته على إبداء رأيه اليوم، وصل ما بين الحرب ضد الاستعمار والحرب ضد التخلف.. ما بين القضاء على الرجعية والقضاء على الفقر.. ما بين تذويب الفوارق بين الطبقات وحق الفرصة المتكافئة أمام كل مواطن.. وصل ما بين القوة الاقتصادية والقوة العسكرية، والتقدم العلمى والفكرى والثقافى، بل وصل الميثاق إلى أبعد من ذلك فى استخلاصه بوضوح لعبرة مرحلة التحول العظيم، وما تستطيع أن تقدمه لخدمة مرحلة الانطلاق العظيم.
من استخلاص هذه العبرة صمم الميثاق على أن العمل الوطنى - اجتماعياً وسياسياً - لن يبلغ أهدافه فى مرحلة الانطلاق، إلا تحت قيادة تحالف قوى الشعب العاملة، بديلاً عن تحالف الإقطاع ورأس المال الذى سقط، بديلاً ليس غيره بديل.
على أنى أريد أمامكم أن أرفع صوتى بالتنبيه أن الميثاق فى يدنا طريق إلى التقدم الاجتماعى، وليس ينبغى تحويله إلى حاجز أمامه. إن الميثاق ليس نصاً جامداً، لكنه أسلوب للحركة الشاملة، إن الميثاق يجب أن يكون أداة فى يد تحالف قوى الشعب العاملة، ولا ينبغى أن يتحول إلى قيد عليها.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:
ولقد كان من أثر هذا الوضوح الذى حققته مرحلة التحول العظيم وتحققت به، أن شهدت الفترة التالية للميثاق وإقراره بواسطة المؤتمر الوطنى لقوى الشعب العاملة، خطوات هائلة فى مجالات كانت تبدو للوهلة الأولى وكأنها ميادين متفرقة متباعدة، وإن كانت فى واقع الأمر مترابطة ومتصلة.
فى مجال العمل الداخلى:
شهدت الخطوة النهائية فى تصفية التحالف الحاكم القديم للرجعية المتحالفة مع الاستعمار، وتصفية امتيازاتها الموروثة، ولم يكن هناك عداء ضد فرد أو ضد أسرة، وإنى لأقول أمامكم صادقاً إننى وقفت طويلاً بالتردد أمام القرار بفرض الحراسة على عدد من الأفراد من هذه الطبقة، التى مكنتها ظروف عديدة من احتكار الغنى على حساب جماهير الشعب، كنت أدرك أنهم بشر إلى جانب كونهم طبقة، ولقد كان هدفى أن أصفى الطبقة، ولكن أن يبقى لكل فرد من أفرادها كرامة المواطن، وحقه فى الحياة، طالما التزم بواجب المواطن.
ولقد حاولت قدر المستطاع تخفيف أثر التغيير عليهم، لكنى كنت أرى بحق أن شريعة العدل لابد أن تأخذ طريقها، ولست أريد أن أعد الأرقام فى تبيان ما كان الحال عليه، لكنى لا أتصور - ولا أظن أحداً يتصور معى - أن المجتمع الذى نعيش فيه كان يمكن له أن يتحمل وجود 100 أسرة مصرية وأجنبية، وصل ما تملكه وما استرد منها بالتأميم والحراسة والإصلاح الزراعى، ما تصل قيمته - بغير مبالغة - إلى ألف مليون جنيه. ولقد كان محتماً أن يبدأ تحالف قوى الشعب العاملة دوره العظيم فى قيادة المرحلة المقبلة على أرض ممهدة مكشوفة، وإلا فإن أعداء هذا التحالف - بحكم الطبيعة - كانوا يستطيعون لو ترك لهم سلاح المال، أن ينقضوا عليه ويدمروه، أو يسلبوا كل فاعلية تكون له.
وإذا كنت أعتبر أن تصفية الطبقة قد تمت، فإنه من الأمور الهامة هنا ملاحظتان:
الأولى: أن نرى بالتسامح أننا لم نكن ضد الأفراد، وإنما كنا ضد الامتياز الطبقى، ولقد كان من حقنا أن نصفى آثاره، ولكن ليس من حقنا أن نصفى كرامة الأفراد وإنسانيتهم، لذلك فإن صفحة جديدة يجب أن تفتح أمام الجميع بغير تمييز.
الثانية: أنه ينبغى لنا - مهما كان الثمن - ألا نسمح بظهور طبقة جديدة تظن أن الامتيازات إرثاً لها بعد الطبقة القديمة، وعلينا أن نقاوم مثل هذا الانحراف ونقومه، ونثور عليه إذا اقتضى الأمر، ونجرده من أى سلاح يكون قد حصل عليه؛ فإن هذا السلاح سوف يتجه لحظة تؤاتيه الفرصة إلى طعن تحالف قوى الشعب العاملة، قيادة العمل الوطنى الشرعية وطليعته فى الحق والواجب.
فى مجال العمل العربى: سمعت مرحلة ما بعد الميثاق الشعار الذى لا يمكن أن يكون هناك شعار غيره فى أى عمل عربى سليم، إننا نتعاون مع الجميع بقدر استعدادهم للتعاون معنا، ولكن لا وحدة إلا وحدة الهدف، ولم تسمع هذه المرحلة شعارها فقط، وإنما رأته بالعين تطبيقاً عملياً، وحين وقعت تغييرات فى العراق وسوريا فى فبراير ومارس على التوالى فى سنة 1963، وطلبت الحكومات التى تولت السلطة بعد هذه التغييرات وحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، لم تتردد الجمهورية العربية المتحدة فى فتح الباب للمناقشة بغير قيد أو شرط، ولما اكتشفت - أثناء المحادثات وبعدها - أنه لا تربطها بالحكومات الجديدة وحدة هدف، ملكت الشجاعة على أن تصارح الجماهير العربية برأيها، وتعتذر فى غير خداع للنفس أو للغير عن إتمام مشروع هذه الوحدة.
وقفت تحت شعار وحدة الهدف بصرف النظر عن المشاعر والعواطف، وحين تزايد الخطر الإسرائيلى فى فلسطين، بالاتجاه إلى مشروع تحويل مجرى نهر الأردن، وجهت الجمهورية العربية المتحدة دعوة إلى كل من يريدون التعاون معها فى مواجهة الخطر، واستقبلت بالترحاب كل الذين أبدوا رغبتهم فى التعاون معها، وقفت واستقبلتهم - برغم أية خلافات اجتماعية - تحت شعار التعاون مع الجميع بقدر استعدادهم للتعاون معنا مرة أخرى تحت المبدأ، مهما كانت المشاعر والعواطف.
فى مجال العمل العسكرى:
راقبت مرحلة ما بعد الميثاق أول صاروخ عربى ينطلق إلى الفضاء، يرمز إلى معان تفوق بكثير قوته المندفعة، يرمز إلى أن الجمهورية العربية المتحدة سوف ترتاد كل أفق، فى سبيل ضمانة سلامة الدفاع العربى على مستواه القومى، وكفاءته فى مواجهة الظروف على القيام بواجبه كاملاً، ويرمز فى نفس الوقت إلى إيمان الجمهورية العربية المتحدة بأن كفاءة الدفاع لا تحتاج إلى الحماسة وحدها؛ وإنما تحتاج إلى العلم الحديث، تمكينا للحماسة من أداء تأثيرها.
ولقد تأكد دور العلم فى الدفاع حين حلقت فى الجو المصرى أول طائرة مصرية، رسمت إلى أخر خط فيها، وصنعت بكل مسمار تحويه فى الجمهورية العربية المتحدة، وكان من اعتزازنا أن أول طائرة صنعناها هى - بشهادة الخبراء - من أقوى الأنواع العاملة منها فى العالم كله، ولم يكن هذا الاستعداد كله استعداداً صامتاً ساكتاً؛ لكنه كان على موقف التأهب لأى نداء فى خدمة هدفه.
ولقد كانت فى اليمن تجربته العظيمة أشرف التجارب وأكرمها تضحية وفداء، ولقد كان ذلك حين وقعت الثورة فى اليمن، وتعرضت من خارج الحدود لتهديد يتحفز بها من وراء الأرض اليمنية. ولإن كانت تجربة اليمن قد أدت دورها فى خدمة المبدأ، فلقد أتاحت للقوات المسلحة أن تختبر كفاءتها تحت ظروف حرب قاسية، اختبرت قدرتها على الحركة السريعة إلى الميدان، واختبرت سلامة خطوط مواصلاتها، واختبرت تحملها للحياة تحت أصعب الظروف، واختبرت صلابة الجندى المصرى، فلاح السهول الخضراء، يؤكد قدرته على بلوغ قمم الجبال الوعرة والموحشة، بل واختبرت أيضاً وحدة السلاح العربى، فإن جنوداً كثيرين رجالاً وشجعاناً من الجيوش العربية حددوا مكانهم فى المعركة، برغم ظروفهم الصعبة، ووقفوا إلى جانب شعب اليمن وثورته المجيدة وجيش مصر ومهمته المقدسة.
ولإن كنت قد وصلت إلى هذا الحد فلعلى أمامكم جميعاً، وأمام شعبنا العظيم، وأمتنا الواحدة، أن أبعث باسمنا جميعاً إلى القوة المصرية فى اليمن، تحية تليق بالأبطال وبنضالهم وتضحياتهم ونصرهم، الذى كان شرفاً لهم ولأمتهم، يبقى إلى أخر الزمان.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:
فى هذه المجالات، وفى غيرها على المستوى الوطنى والقومى والدولى، شهدت مرحلة ما بعد الميثاق وضوحاً حققته مرحلة التحول العظيم وتحققت به، وأظننى فى غير حاجة إلى التكرار بأن مجلسكم الموقر هذا، بكل ما يعنيه فى النضال الشامل، كان من آثار هذه المرحلة، والتحول السياسى المتواصل الذى تم فيها؛ استكمالاً للتحول الاجتماعى؛ وليكون قوة دافعة له فى نفس الوقت، تساعده على فتح الطريق أمام مرحلة الانطلاق العظيم، وتدعم تقدمه إلى أهدافها غير المحدودة.
ولقد رأينا كم من الطريق قطعنا بمرحلة التحول العظيم ومعها. لقد انتقلنا من مجتمع زراعى متخلف، إلى مجتمع يمشى بخطى ثابتة إلى عصر الصناعة، وعصر الكهرباء، وعصر الذرة وعصر الفضاء، وانتقلنا من سيطرة الاستعمار وطغيانه، إلى حرية تحققت بالقوة، حتى بقوة السلاح. ونحن نعتبر الحرية حقاً إنسانياً لكل الشعوب، ونقوم بدورنا فى رفع رايتها، حيث يرتفع نداء بها فى أقصى الأرض، وانتقلنا من تحكم طبقة واحدة تحتكر كل الامتيازات إلى وضع يسمح - لأول مرة فى وطننا - بقيام الديمقراطية الاجتماعية على أسس الكفاية والعدل، ويمكن للديمقراطية السياسية.
لقد اختفت الصورة القديمة لدولة الأمراء والباشوات والخواجات؛ لتقوم دولة الفلاحين والعمال، والمثقفين والجنود، والرأسمالية الوطنية، قوى الشعب العاملة وتحالفها القائد، وانتقلنا من بلد معزول - بضعفه وعقده - إلى بلد يتفاعل مع زمانه ومع أفكار هذا الزمان ومبادئه، ويتصل بكل شعوب الأرض ويمد يده إليها ويقبل أيديها الممدودة إليه. لكن ذلك كله لا يجعل الانطلاق العظيم يتحقق من تلقاء نفسه، وإنما كل ما تحقق هو - كما قلت وأؤكد - لا قيمة له إلا إذا كان دافعاً لمواصلة العمل.. انطلاقاً إلى آفاق بغير حد أمامنا، وتصدياً لمشاكل محددة حتى الآن تعترض الطريق.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:
أمامنا على مرحلة الانطلاق العظيم فى أعقاب مرحلة التحول العظيم أهداف ثلاثة كبيرة، ليست هناك حدود لمقدرتنا على الوفاء بها إذا ما تسلحنا بالإخلاص للتجربة والإخلاص للأمل معاً.. هناك:
أولاً- هدف التنمية المتواصلة، خطة شاملة تمهد لخطة شاملة، مضاعفة للدخل مرة تليها مضاعفة ثانية له تتخذ أساسها من نتيجة المضاعفة الأولى. لقد بدأنا التخطيط الشامل سنة 1960 بدخل قومى قدره 1285 مليون جنيه فى السنة، ونريد أن نصل به فى نهاية السنوات العشر - سنة 1970 - إلى ما قدره 2570 مليون جنيه فى السنة؛ لنصل به سنة 80 إلى 5140 مليون جنيه فى السنة وهكذا وهكذا إلى غير ما حد. بهذه السرعة فى التنمية، ولقد أثبتت الظروف قدرتنا على تحملها من غير دوار، فإن زيادة الدخل القومى تسبق أى زيادة قد لا يمكن السيطرة عليها فى عدد السكان، وفوق ذلك فإنها تستطيع تغيير مستوى حياة الجماهير العاملة تغييراً أساسياً حاسماً، وليس ينبغى أن تخيفنا أحلامنا ما دامت قدرتنا على العمل من أجلها باقية متزايدة.
إن الأحلام العظيمة، تصبح خطراً بالنسبة للذين تقطعت الصلات بين المنى والإرادة لديهم، لكنها بالنسبة للذين يملكون الصلة بين حق الحلم وواجب العمل هدف مشروع ومطلوب، لكن الإرادة وحدها لا تبلغ تحقيق الأحلام، لابد من التخطيط والمتابعة وكلاهما يحتاج إلى علم واسع، وخبرة عميقة بواقع العمل الوطنى، ثم لابد من التمويل الداخلى والخارجى وكلاهما يحتاج إلى التدبير السليم، والتوازن الدقيق. وليس الحل الصحيح للتخطيط والمتابعة وللتمويل الداخلى والخارجى هو التوقف والتباطؤ، ولكن المزيد من السرعة المبصرة بقدر أن يقرب بنا من الحل الصحيح.
إن الإسراع بعملية التنمية هو الوسيلة الوحيدة التى يستطيع الاقتصاد المصرى بها أن يصل إلى حد الاعتماد على نفسه فى إيجاد القوى الذاتية الدافعة لتقدمه من قلبه ومن داخله. وما أظن أننا نعانى نقصاً فى الكفايات، ولكننا نحتاج دائماً إلى أن نضع كل رجل فى موضعه الصحيح، ونسمح للتجربة أن تعطيه علمها.
ولإن كانت مشاكل التمويل الداخلى والخارجى أصعب وأعقد من مشكلة توفير الكفايات اللازمة لقيادة التخطيط، فإنه يتعين علينا أن نعتمد على الميزان الصحيح للاستهلاك، الذى لا يجور على المدخرات ويظلمها، ولا يجور على حق الإنسان الحى ويظلمه.
وبالنسبة للتمويل الخارجى فإن علينا دائماً أن نفرق بين الاقتراض للاستهلاك وبين الاقتراض للإنتاج، ولنتذكر - على سبيل المثال - أن دخل السد العالى فى ستة شهور يكفى لتغطية كل القروض التى حصلنا عليها من أجله.
إن النجاح فى التنمية يحل مشاكلها فى نفس الوقت، والمهم أن نواصل التقدم وأن يكون تقدمنا على خطة، وأن تكون الخطة تحت ضوء الشمس فكراً وواقعاً.
وهناك ثانياً - بعد التنمية - هدف الديمقراطية وتوسيع إطارها باستمرار، وتعميق مضمونها، وأمامنا فى المرحلة القادمة تفاعلات لابد لنا أن نمكن لها من إحداث أثرها على الحياة فى مجتمعنا؛ أمامنا استكمال بناء التنظيم السياسى للاتحاد الاشتراكى، وإذا كان الشكل العام لهذا الاتحاد يبدوا قائماً أمامنا، فإن هذا الشكل لابد له أن ينبض بحياة فعالة وخالقة، ولابد أن تسرى هذه الحياة الفعالة والخالقة إلى كل أجهزة التنظيم السياسى كالجهاز العصبى فى الجسم إلى كل قرية.. إلى كل مصنع.. إلى كل بيت، وليس ينبغى لنا أن نتوه فى الأبحاث الفلسفية عن مهمة الاتحاد الاشتراكى.
إن الاتحاد الاشتراكى باختصار هو التنظيم السياسى لقوى الشعب العاملة التى تعمل بواسطته؛ لضمان أن تبقى السلطة السياسية فى يدها باستمرار، لا تخرج منها إلى يد غيرها. ذلك هدف أى تنظيم سياسى بما فى ذلك الأحزاب، وإذا كان الحزب يمثل مصلحة معينة فى أى وطن من الأوطان أو طبقة، فإن الاتحاد الاشتراكى يتخطى مرحلة التعبير عن الفئة أو الطبقة لكى يعبر عن الإرادة السياسية لقوى الشعب العاملة المتحالفة داخله، ومن المهم إذن أن يكون هناك وضوح فكرى ووضوح فى تسلسل المسئوليات، وتفاعل بين الأفكار وتفاعل بين الأجهزة العاملة من أجلها.
وإذا كان الميثاق والتجربة التى يمثلها قد طرحت نفسها موضوعاً للفكر السياسى لعمل الاتحاد الاشتراكى، فإنه مازال أمامنا الكثير لتحقيق هذا التفاعل بين الأجهزة العاملة بهذه الأفكار ومن أجلها.
وهناك ثالثاً - على مرحلة الانطلاق مع التنمية والديمقراطية - هدف تحقيق الوحدة العربية الشاملة، وإذا كنا لا نستطيع من الآن أن نحدد لهذه الوحدة الحتمية شكلها النهائى، فإن النجاح فى هدف التنمية وفى هدف الديمقراطية داخل هذا الوطن الذى نعتبره قاعدة لأمته، وطليعة لها، سوف يقرب يوم الوحدة، ويحدد شكلها النهائى ويصوغه وفق إرادة الضمير القومى ومطلبه.
إن الثورة الاجتماعية والسياسية التى تجرى هنا فى القاعدة وبين الطليعة لا تحدث فى عزلة عن الأمة العربية، وإنما هى تجرى على مرئى منها وعلى صلة وثيقة بوجدانها، ولربما كانت من هنا كل المشاكل التى تعانيها هذه القاعدة مع القوى المعادية للوحدة العربية وللثورة العربية - طريق الوحدة وبابها - ومن المهم هنا أن يبقى الطريق والباب كلاهما مفتوحاً بغير عوائق مهما كان الاستفزاز أو المبادرة بالعداء. على أنه من المهم بنفس المقدار أن نعى أن الطريق والباب كلاهما ليس معبراً لتصدير الثورة، إن الثورة ليست بضاعة قابلة للتصدير؛ وإنما الثورة الحقيقية تنبع من أعماق كل وطن عربى ومن واقعه. وعندما يحدث ذلك فلسوف تنهار الحواجز والسدود وتلتقى الينابيع كلها لتحفر المجرى العريض والعميق للوحدة العربية.. ولقد كانت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا ذات أثر حاسم بقى وسيظل باقياً فوق كل انتكاسة مرحلية.
إن هذه التجربة أثبتت أن الوحدة ممكنة، وإذا كانت التجربة قد ضربت من الخارج فإن ضربها وما تلاه فى سوريا أثبت أن الانفصال مستحيل، وحين تحقق الأمة العربية ذاتها بالوحدة الثورية فلسوف تكون أقدر على مواجهة تحديات عصرها سلباً وإيجاباً.. سوف تكون فى الوضع الذى يسمح لها بتحطيم كل عدو لها، وسوف تكون فى الوضع الذى يسمح لها بأداء دورها العالمى ورسالتها فى خدمة التقدم والسلام.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة: بعد هذه الأهداف الثلاثة العظيمة - فى انتظارنا على مرحلة الانطلاق - تبقى أمامنا مجموعة من المشاكل لابد أن نجد بالتجربة المقبلة رداً صحيحاً على كل سؤال تطرحه.
أولاً: هناك مشكلة الزراعة، وضرورة تطويرها؛ لتفى بالتقدم الوطنى، وإذا كنا نعتمد الملكية الفردية للأرض أساساً للثورة الزراعية، فإنه لابد من تدعيم هذه الملكية بالتعاون الذى ينظم الجهد ويدعمه بالعلم الحديث.
ثانياً: أمامنا مشكلة الصناعة الثقيلة، ولسوف يكون بناء الصناعة الثقيلة أكبر المسئوليات فى المرحلة القريبة، التى تنتظرنا على الجزء الثانى من الخطة الخمسية الثانية، وإذا كنا الآن على وشك أن نضع 1000 مليون جنيه لتنفيذ الجزء الخاص بالصناعة من هذه الخطة الخمسية الثانية، التى تتجه إلى الصناعة الثقيلة أساساً، فليست تلك بالمهمة السهلة تمويلاً وبناء.
ثالثاً: أمامنا مشكلة ثلاثة ملايين من العمال الزراعيين فى الريف، ليس هناك ضمان للأجر المنظم المستقر يحمى يومهم، وليس هناك قدر من التأمين الاجتماعى يحمى مستقبلهم، ولا تصل إليهم حتى الآن إلا أقل من الخدمات، وفى بعض الأحيان فإن احتياجات المدينة تلفت الأنظار والأسماع وتطغى بمشاكلها على مشاكل أخرى أكثر تعقيداً لكنها تفتقد الصوت العالى والتنبيه المستمر إلى وجودها.
رابعاً: أمامنا مشكلة الإدارة الحكومية، وينبغى أن نعترف بأن كل ما وجهتنا إليه من جهود لم يطور حالها بحيث تستطيع أن تخدم المجتمع الجديد، ومازالت تظن نفسها فوق الجماهير تحكم، ولا تريد أن تدرى أن مكانها فى المجتمع الجديد أن تكون تحت الجماهير تخدم.
خامساً: أمامنا مشكلة الأسعار، وينبغى لنا أن نبذل أقصى الجهود؛ لكى نبقى دائماً بعيدين عن دوامة التضخم، وليس من شك أن حجم الإنفاق العام، وحجم العمالة المتسعة فى الوقت نفسه يمكن أن يؤثر على مستوى الأسعار، لكن هذه الاعتبارات كانت فى الحسبان عندما تقرر أن نبدأ بالصناعات الاستهلاكية فى بداية عملية التنمية؛ وذلك لكى نضمن دائماً وعلى امتدادها أن تكون هناك سلع يشتريها الإنفاق الضخم فى التنمية؛ لصالح قوة العمل التى تتسع باستمرار، والتى زادت خلال السنوات التى انقضت منذ بدء الخطة الشاملة فى سنة 60 بما مقداره 880 ألف مشتغل جديد فى كافة النواحى.
سادساً: أمامنا مشكلة تنظيم الأسرة، ومع أننا نريد أن نسبق بالإنتاج زيادة السكان، كما أننا نتصور أن تحول المجتمع من الزراعة التقليدية إلى الزراعة المتطورة وإلى الصناعة، سوف ينقل الوعى بالتخطيط إلى مستوى الأسرة الواحدة، فإنه من المحتم أن نساعد التطور الطبيعى بكل وسيلة يتيحها لنا العلم الحديث للسيطرة على المشكلة.
سابعاً: أمامنا مع ذلك كله مسألة أن نتعود جميعاً على النقد والنقد الذاتى الشجاع، وفى هذا الصدد فليس يكفينا أن نقول بأن الشعب يسيطر على وسائل الإعلام بما فيها الصحافة، وإنما لابد لهذه الوسائل أن تعبر عن الشعب فعلاً وعن حياته وعن قيمه وعن تطلعاته المشروعة.
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة:
لقد رأيتم فى الدستور - الذى صدر ليكون أساساً للنظام الاجتماعى والسياسى فى الجمهورية العربية المتحدة؛ حتى تتم رسالتكم بوضع الدستور الدائم لها وطرحه على الشعب للاستفتاء - عدة نقاط أحرص على تأكيد معانيها، وأستأذنكم أن تسمحوا لى فيها بحديث صريح.
المسألة الأولى: أننى حرصت على النص بأن يتم ترشيح أى رئيس للجمهورية بواسطة مجلس الأمة، وأن يعرض الترشيح بعد ذلك على الشعب بالاستفتاء العام، وإنى لأتمنى لو بقى النص كما هو فى الدستور الدائم للجمهورية العربية المتحدة.
إن الإرادة الشعبية هى التى تملك أن تصنع قيادتها، وأن تحدد لها مكانها وإنى لأرفع صوتى هنا أمامكم محذراً من الاعتماد على الفرد. إن الشعب يجب دائماً أن يبقى سيد كل فرد وقائده، إن الشعب أبقى وأخلد من كل قائد مهما بلغ إسهامه فى نضال أمته، أقول أمامكم هذا وأنا أدرك وأقدر أن هذا الشعب العظيم أعطانى من تأييده وتقديره ما لم أكن أتصوره يوماً أو أحلم به.
لقد قدمت له عمرى ولكنه أعطانى ما هو أكثر من عمر أى إنسان، لقد أسلم إلى أمانة لم أكن أتصور أن يتحملها فرد، وأقول لكم الآن - ربما لأول مرة - إننى لم أكن أنام الليل أيام العدوان، وأؤكد لكم أن العدوان لم يكن مصدر أرقى، ولكن الأرق كان من إحساسى بالأمانة التى وضعتها فى يدى ثقة الشعب العظيم بى، ولإن كانت مرحلة التحول العظيم قد حتمت تركيز مثل ما كان فى يدى من السلطات لمواجهة القرارات الحاسمة، فإنى أقول لكم إننى اليوم أشعر بسعادة غامرة وأنا أرى هذا المجلس الموقر بجانبى يحمل نصيبه التاريخى من المسئولية، ويواجه التبعات المتزايدة والمتسعة لمرحلة الانطلاق العظيم.
والمسألة الثانية: أننى حرصت على أن يكون هناك نص صريح يواجه احتمالات أى طارئ يقع لرئيس الجمهورية، ولقد كان غياب مثل هذا النص الصريح يشغل بالى طوال التجربة الماضية. إن حياة أى إنسان وديعة لخالقه يستردها حين تشاء إرادته، ومن ناحية أخرى فقد كنت أدرك أننى أتعرض لمفاجآت لا حصر لها طوال مرحلة التحول العظيم، ولم تكن بى خشية على نفسى فإنى أقدر مسئولية ما فعلت منذ اليوم الذى بدأ فيه العمل لتنظيم الثورة، لكن الخشية كانت على وطنى؛ إن آمال هذا الوطن والنتائج العظيمة التى حققها بعمله لابد أن تصان فوق كل المفاجآت، ولقد كان لابد من نظام يرسم الطريق الذى يتبع لكى تبقى الأمور دائماً فى يد الشعب يقرر فيها رأيه ويعمل إرادته. وإنى لأشعر بالراحة والرضا أن مثل هذه الفجوة الخطيرة التى كنت أشعر بها وراء ظهرى قد وجدت حلاً لها.
تبقى مسألة ثالثة: وهى النص فى المادة الانتقالية الأولى من الدستور الذى أعلن على انتهاء مدة رئاسة الجمهورية الحالية فى 26 مارس سنة 1965، أى بعد عام - بمشيئة الله - من اليوم، ولقد كنت أريد أن يعود الأمر إلى الشعب قبل هذا الموعد بكثير يستفتى فيه ويبدى مشيئته، لكن الفترة القادمة حافلة بارتباطات دولية لا تتعلق بشخصى، ولكنها تتعلق بهذا الشعب وبدوره الإنسانى الكبير.
هناك مؤتمر لرؤساء الدول الإفريقية، وهناك مؤتمر لرؤساء الدول العربية، وهناك مؤتمر لرؤساء الدول غير المنحازة، وبعض هذه المؤتمرات، وربما كلها سوف تعقد فى مصر. على أن شعورى بثقة الشعب فى يملؤنى اطمئناناً إلى أننى لم أتجاوز فى المهلة التى قدرتها قبل العودة إلى استفتاء الشعب بشان رئاسة الجمهورية.
إن أقصى أملى أن أصل بالأمانة إلى حيث تلاقى آمال هذا الشعب الخالد، وليس لى من مطلب إلا أن تتاح لى الفرصة للخدمة العامة فى أى موقع يرى الشعب القائد أن أقف فيه.
أيها المواطنون:
لتخرج الإشارة من هنا، ولتحمل رسالتها إلى كل أرض، وكل عصر. إن الشعب المصرى فى هذا اليوم قد حقق بنضاله الإنسانى والبطولى مرحلة التحول العظيم، وهو الآن على طريقه إلى مرحلة الانطلاق العظيم فوق أرض ثابتة تحت شمس كالحقيقة مشرقة لا يحجبها ضباب.
والسلام عليكم ورحمة الله.








__________________
رد مع اقتباس
 

العلامات المرجعية


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 08:06 PM.